رأي اخر في ظاهرة شعبان عبد الرحيم
نزار عابدين- كاتب سوري
لا تستسلموا .. لشعبان عبد الرحيم !

قد تكون هناك ظواهر كونية تحدث من حولنا، تبدأ فجأة فتجذب الأنظار، وتكون مثار حديث الناس، ولكنها سرعان ما تختفي فتتجه الأنظار بعيدا عنها ويخفت الكلام عنها شيئا فشيئا.. وفي عالم الفن قد نصادف ظواهر من هذا النوع، ولكنها تختلف عن سابقتها في أن الأخيرة تساعدك على قراءة المجتمع والتغيرات التي تحدث به.
"شعبان عبد الرحيم" ظاهرة قد تكون من هذا النوع الذي ظهر فجأة وبدون مقدمات، شأنه شأن "أحمد عدوية"، الذي اكتسح قبل سنوات سوق الغناء في مصر، وهدد بإزاحة كبار المطربين والمطربات عن عروشهم.
وشعبان عبد الرحيم الظاهرة في الأساس رجل أمي أمية كاملة، فهو كما يؤكد في مقابلات صحفية أنه يوقع "بالعافية" من أجل المعجبين ويعترف أنه يعمل في كي الملابس.
كان يغني لنفسه وأهله وأصدقائه وأحبائه في الأفراح والأعياد والمناسبات، وفي مثل هذه المواقف يصير كل صوت مطربًا، ويصير كل غناء مقبولا. ثم سمعه أحد محلات بيع الكاسيت فأنتج له شريطا وأعطاه مائة جنيه، فكاد شعبان يطير فرحا (شعبان فوق السحاب.. ربما يصبح هذا العنوان فيلما ذات يوم) ولم يدرك شعبان أنهم يستغلونه، وأنهم يبيعون أشرطته بالآلاف وعشرات الآلاف حتى بعد أن اشتهر شريطه: "أحمد حلمي اتجوز عايدة.. كتب الكتاب الشيخ رمضان". وهي أسماء لمواقف حافلات (باصات) في القاهرة. وظل "المكوجي" بسيطا بساطة مدهشة حتى بعد أن رفعوا أجره إلى خمسمائة جنيه ثم إلى ألف، ولعله حين رأى ألف جنيه في يده أول مرة كاد يغمى عليه.
ولا أريد أن أطيل، فمعظم هذه المعلومات منشور في مجلات متفرقة مثل "روزاليوسف" و"زهرة الخليج"، ولكنني أذكر أن وفدا من الفنانين المصريين قابل الرئيس حسني مبارك، وكان من أعضائه الملحن والموسيقي "عمار الشريعي"، وهو قيمة فنية كبيرة وسأله الرئيس عن آخر الألحان، فذكر له "أحمد حلمي"، واستغرب الرئيس وضحك، ولكن الشريعي أكد له أن هذه أحدث أغنية يسمعها الناس.
لكن المؤسف أن عمار الشريعي قال قبل مدة وجيزة: إنه يحب شعبان، فما الذي تغير؟ ألا يذكرنا هذا بالمطربين والملحنين الذين رفضوا ظاهرة أحمد عدوية وهاجموه وهاجموا ما يقدم ورفضوا قبوله فنانا، أو قبول غنائه "فنا"، ثم عادوا يبدون إعجابهم ويكيلون له المديح؟ هل نسمع أغنيات يؤديها شعبان عبد الرحيم من تأليف كبار كتاب الأغاني وتلحين عمار الشريعي أو غيره؟.
سفير فوق العادة
ما سر ظاهرة شعبان عبد الرحيم منذ أغنيته الأولى "أحمد حلمي اتجوز عايدة" حتى أغنيته عن الشهيد محمد الدرة "قتلوني يابا وأنا بين إيديك"، لماذا انتشر هذا الانتشار السريع في الأوساط الشعبية، ولماذا اشتهر كل هذه الشهرة واشتهر قبله أحمد عدوية؟
لسبب بسيط جدا هو أن الساحة خالية والميدان بلا فرسان.
عندما سطع نجم "عبد الحليم حافظ" في الخمسينيات قيل: إن من أسباب شهرته أنه مطرب الطبقة الوسطى، وإنه يغني لهذه الطبقة، وعلى الرغم من أنها كانت في تلك الفترة الطبقة الكبرى بين طبقات المجتمع، فإن هذا لا يعني أن الطبقات الأخرى لم يكن لها فنانوها، وكان هناك "محمد رشدي"، وهو الأبرز بين الذين غنوا الأغنية الشعبية، و"محمد قنديل" و"شفيق جلال" وغيرهم؛ حتى أن عبد الحليم نفسه وهو مطرب الرومانسية الحالمة اضطر مسايرة للموجه أن يغني أغنيات ذات أصول فلكورية "التوبة" "سواح"، و"على حسب وداد قلبي" وغيرها.
في السنوات العشرين الأخيرة انفصل الغناء تمامًا عن الشعب فبرز مغنون ومغنيات يغنون أغنيات حديثه قيل إنها موجهة إلى الشباب، وتبين أنهم الشباب الأنيق والصبايا الأنيقات، وأنهم طلاب وطالبات الجامعات من أبناء الأغنياء سواء كان هؤلاء الأغنياء من التجار أو السياسيين أو حتى من أثرياء المرحلة الجديدة (هل تذكرون فيلم انتبهوا أيها السادة)؟
وجاء بعد ذلك "الفيديو كليب" ليزيد الطين بلة، كان هناك انفصال بين الغناء وأبناء الطبقات الشعبية ومن حيث الكلمات والألحان، وكان يتم التغلب على هذا الأمر بصعوبة، وجاء الفيديو كليب فقطع الشعرة التي تربط هذا الغناء بالناس البسطاء.. مطربون ومطربات في غاية النعومة والأناقة والرفاهية.. تحيط بهم وبهن فتيات جميلات أنيقات (أوربيات أحيانا)، يتحركن ويتكلمن ويتمايلن بما لا يربطهن بالشعب المصري أو اللبناني أو السوري أو غيره أي رابطة. والجو العام كله لا علاقة له بهؤلاء الناس "الشعبيين"، وهم الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب حتى الذين يملكون المال لا يستطيعون الانسجام مع هذا الغناء ، إنه شيء غريب عن مجتمعهم وثقافتهم ولغتهم وتفكيرهم، ربما ينسجم معه فقط أبناؤهم.
لقد فجرت إجابة لشعبان عبد الرحيم عن سؤال وجهه إليه أحد الصحفيين قضية الطبقات الشعبية التي ظلت بعيدة عن مستهدفات الكبار، وكان السؤال: أصبحت مغنيًا للميكروباصات؟ فأجاب شعبان : "ما لهم بتوع الميكروباصات"
هذا هو السر، سائقو الميكروباصات والسيارات التي تعمل على الطرق الريفية والعمال البسطاء لم يهتم أحد بهم، ولم يكتب أحد ولم يلحن أحد ولم يغن أحد لهم، هؤلاء الناس لا علاقة لهم بأغنيات: "حبيبي يا نور العين"، ، و"تيجي نقسم القمر"، و"ما أندم عليك" وغيرها، ولا يجدون أنفسهم في "عمرو دياب" أو "راغب علامة" أو "كاظم الساهر" و غيرهم ، ولا يشعرون بأن أحدًا من هؤلاء يمثلهم، وقد تشدهم أصالة أو أنغام أو نوال الزغبى و غيرهن، ولكنهم لا يرونهن إلا دمية جميلة، لا تنتمي إليهم، إنها تشبه ليلى مراد وشادية في الأربعينيات من القرن العشرين، يتفرجون عليها كشيء جميل، كما كنا نتفرج على ريتا هيوارث وصوفيا لورين نساء جميلات ولكنهن لسن منا.
أبناء الشعب البسطاء لا يشعرون بأن هؤلاء المغنين والمغنيات يعبرون عنهم.. الكلام ليس كلامهم، والألحان معقدة، والفيديو كليب يصور واقعا لا علاقة لهم به، ولا علاقة له بهم؛ فلماذا لا يتجهون صوب شعبان عبد الرحيم الذي يغني لهم ألحانا بسيطة أو دون لحن أحيانا كلاما يفهمونه لأنهم يرددنه يوميا.
السياسة و الأغنية
لقد افتقد رجل الشارع البسيط من بين ما افتقد أغنية سياسية تعبر عنه ، فهو يتعاطف مع الانتفاضة الفلسطينية ويشعر بالغضب؛ لأن إسرائيل تعربد على هواها دون أن يردعها أحد.. ويعشق القدس والأقصى ؛ ولكن ماذا قدم له صناع الأغنية؟ إن ما قدموه لا يخرج عن نطاق الرومانسية وهو مليء بالحزن والبكاء والنواح، والإنسان الشعبي البسيط لا يريد هذا، يريد شيئا يعبر ببساطه عن غضبه حتى لو كان بلا قيمة شعرية أوفنية.
المشكلة أن الجميع تناسوا المواطن البسيط.. رجل الشارع الذي قد يكون أميا أو شبه أمي، فبدا أنهم حتى في الغناء السياسي يغنون لنوعية خاصة من المستمعين.
والسؤال :إلى أين يقودنا هذا كله؟ هل نسلم بالأمر الواقع ونقول: إن شعبان عبد الرحيم ومن معه وحدهم قادرون على التعبير عن نبض الشارع، إن هذا أبشع هروب من المسؤولية يمكن أن يمارسه المبدعون، وما هكذا يجب أن يتصرف المبدع الذي يشعر فعلا بالالتصاق بقضايا شعبة، ولا يمارس مزايدات فنية سياسية ولا يركب الموجة ربما لأغراض شخصية.
سيد درويش لم يفعل هذا وهو خير مثال، وسيد درويش ليس شعبان عبد الرحيم؛ فقد كان نبعا من العطاء الفني والموسيقى، وما زال دور "أنا هويت" يتحدى كبار الملحنين والمغنيين، وما زال المسرح الغنائي مقصرا كثيرا عن مسرح سيد درويش، لكنه في الوقت نفسه غنى لهؤلاء البسطاء ألحانا بسيطة بكلمات يعرفونها ويحسونها، مثل: "طلعت يا محلا نورها"، "الحلوة دي قامت"، وأغنيات كثيرة عن الحمالين والعمال وغيرهم من البسطاء.
مارسيل خليفة وهو الامتداد الوحيد الحقيقي لسيد درويش لم يفعل هذا، إن مارسيل خليفة جبل من الموسيقي والتأليف والإبداع والتجديد لكنه تفاعل مع الشعب ولم ينفصل عنه؛ فلحن "شدوا الهمة.. الهمة قوية"، ولحن "وقفوني على الحدود"، ولحن "منتصب القامة"، ولحن "عصفور طل من الشباك". بل إنه لحن، وغنى للعمال وبائعي الخضار الذين تطاردهم الشرطة، والشاب الذي ينتظر الموسم ليتزوج، والشاب الذي لا يجد عملا؛ ولذا سيهاجر، وحتى في أغنياته النضالية كان بسيطا في ألحانه؛ فأحبها الجمهور العريض.
الهروب لا يجوز ونحن بحاجة إلى شعراء يكتبون لرجل الشارع كلاما يفهمه، وملحنين يصنعون ألحانا يتفاعل معها البسطاء.. نحن بحاجة لمبدعين يقدمون عملة جيدة لتكون قادرة على طرد العملة الرديئة.
http://www.islamonline.net/arabic/ar...article9.shtml