رد: محمد عبد المطلب 1910-1980
ليلة الحنة،وليلة الدُخلة
بقلم عناية جابر
القدس العربي - لندن 11 سبتمبر 2009
'بتسأليني بحبك ليه، سؤال غريب ما جاوبش عليه' مطلع أغنية يكفي جواباً على لغز الحب المُحير، لولا أن المغني 'نزعها' أخيراً بأن اعترف للسائلة الحبيبة بسر حبه لها: أحب تيهك ودلالك. سواء كان التيه والدلال كافيين للحب، أو يقصران عنه فموضوعنا هنا المغني نفسه، أما الأغنية، وكان سجلها محمد عبد المطلب لدى شركة (بيضافون)، فهي صانعة شهرته ووجوده المُدوي في عالم الغناء.
في كتاب الياس سحاب 'الموسيقى العربية في القرن العشرين' مشاهد ومحطات ووجوه، عثرت على مقابلة، بالأحرى سيرة شخصية وفنية رواها محمد عبد المطلب نفسه لإذاعة 'صوت العرب' سنة 1975 في برنامج 'مع الذكريات' الذي كان لمُعديه سبق اقتطاف قـــصة حياة 'طلب' (على ما كانت تدعوه أم كلثـــــوم، وجمهوره العربي) بأغلب تفاصيلها المؤثــــرة، وكان لسحاب أن سجلها عند إعادة إذاعتها بمناسبة رحيل المطرب الكبير (1980) مع تحوير في النص المُرسل، من العامية المصرية الى العربية الفصحى من غير أي تعديل في المعنى أو المعلومات.
لأنني أحب محمد عبد المطلب، أحب اغانيه ومزاجه الأدائي، وأشفق عليه من حظه العاثر، هو الفنان الكبير الذي مات وحيداً في بنسيون حقير، إثر اعتكاف وإحباط داما طويلاً بتأثير من فقده إبنته الشابة، فقد قرأت سيرته بلهفة (وهي نادرة على كل حال) مبهورة بصبر رجال أهل الفن على بداياتهم الصعبة وجوعهم، وكفاحهم من أجل فنهم، شغف عمرهم الوحيد. الحقيقة أن 'الشغف' كلمة تكاد تكون غائبة الآن، عن جوارح ودواخل معظم الفنانين، فالمسألة برمتها راهناً لا تتعدى العلاقات والماركتينغ والبروباغندا والعصابات والمحسوبيات، و.. الحظوظ فحسب. لا شغف ولا بلوط.
يقول عبد المطلب في موضع مونولوغي من سيرته الشخصية: ثلاثة لهم الفضل علي، هم أبي واخي الكبير وداوود حسني، معلمي الغناء الذي أغنيه الآن. كان داوود حسني يضربني إن أخطات، مع ذلك كنت سعيداً، لأنني أريد من قلبي تعلم الغناء. كان يعلمني اداء الجملة، الوحدة (الإيقاع)، تمرين الصوت، كما نصحني بتلاوة آذان الفجر بصوت عال، وبقيت أفعل ذلك كل يوم طيلة سنة كاملة في جامع 'البلديني' في الداودية. أما سبب إختيار آذان الفجر فلأن الصوت يكون مُجلياً في الصباح.
داوود حسني أستاذ عبد المطلب كان يضربه كلما تعثر في الغناء، من دون أن يستاء الأخير، ليس من مازوشية متأصلة تنشد الضرب للمتعة، بل في الشغف الخالص الذي ذكرنا لتعلم الغناء. الأن يسلخون جلودنا بأصوات يعلم الله من سلطها علينا.
بعد أن ذاع صيته (يكتب سحاب في سيرة عبد المطلب المروية بصوته) كان 'طلب' يُغني في الأربعاء الأول من كل شهر، والسيدة أم كلثوم تُغني في الخميس الأول من كل شهر، وكانت الناس (يقول طلب) تنتظر هذين اليومين، فيسمون ليلة الأربعاء 'ليلة الحنة' وليلة الخميس 'ليلة الدُخلة'. ويقول عبد المطلب في موضع آخر من اعترافاته: 'أعتز بفلسطين لأني عشت فيها فترات طويلة، كنت أتنقل في إقامتي بينها وبين مصر. غنيت في إذاعة الشرق الأدنى بيافا: ودّع هواك، ويابو العيون السود، وانا مالي، وما بين الليل والكاس. لم أندم على الماضي، يعني كنت واخد الدنيا بالعرض.
لم أحقد على أحد، كان عبد الغني السيد وابراهيم حمودة وزكي مراد أصدقائي. كنت مستهتراً أيام شبابي لكني غير نادم. كنت أوزع ما أكسبه على الفنانات لأني أحس بهن. انهن أطيب الناس على وجه الأرض رغم أن الناس يسيئون فهمهن. لكن عندما كبر أولادي، تغير مسار حياتي وقلت: عيب يا عبد المطلب'.
صاحب 'إسأل مرة علي' غوى الفن من منيرة المهدية ومن عبد اللطيف البنا، غنى رائعته الأشهر 'بصعب على روحي لما بشوف حالي'، ولعلها (برأيي) الأجمل على الإطلاق، بعد 'شفت حبيبي وفرحت معاه'.
مقابلة مؤثرة ودالة يســـرها لنا الــياس سحاب في كتابه، يختمها طلب أخيراً: اضطررت مرة أن ألقي بثيابي من شباك الفندق (في الإسكندرية، في ميدان المنشية) وهربت، لأني لا املك ما أسدد به الحساب. وبصراحة: لا جديد بعد جيلنا إلا عبد الحليم حافظ، أما الباقون فنُسخ عن عبد الحليم.
__________________
د. هشام سعيدي
|