إلى المهاجر
الأديب الشاعر
المثقف عاشق الكلمه
وحارس حروفها
سيد أبو زهده
:::
:::
:::
... أرض الله الواسعه ...
مع نزول قرص الشمس فى طريقه إلى الغروب وانسحاب خيوط الدفئ هاربة معها , بدأت تتابع على شاطئ المحيط المتجمد أسراب الطيور على اختلاف أنواعها وأحجامها , وتنوع أشكالها وألوانها , وتباين خصالها وطبائعها , يحيط بها الجليد من كل مكان , إستعدادا للإنطلاق فى رحلة الهجرة من الشمال إلى الجنوب أو الشرق سعيا فى طلب الرزق وبحثا عما يناسبها من طعام البر أو البحر , لم تترك لها طبقات الجليد المتراكمة حبة بذر ولا نبتة زرع تقتات بها , حتى ديدان الأرض وأسماك البحر توارت تحت جبال الثلوج المتراكمه ....
وفى ركن بعيد جهة المشرق خلا واحد من طيور "الكراكى" بنفسه , بدا من سماته وهيئته أنه عمر زمنا , وتوشى ملامحه بخبرات السنين التى حفرت آثارها , وأنه يطوى بين جوانحه سجلا من الذكريات بطول أيام سنوات عمره التى عاشها .....
عرضت له وهو فى مكانه يرقب فى إشفاق جحافل الطيور المهاجره , ذكريات رحلاته السنوات الفائته مع أقرانه إلى الجنوب وأحيانا تجاه بحر الشمال , يمكث خلالها شهران قبل أن يرتد راجعا إذا كتبت له النجاه إلى أحضان وطنه وعشه , وغالبا ما يكون الراجع من تلك الرحلات أفرادا قليلون ممن كتبت لهم النجاة من أهوال ما يلقون فى رحلتهم .....
ذات مرة كان بصحبته فى رحلة العودة للشمال أحد طيور البطريق الجنوبيه ,
سأله ... "إلى أين ؟"
أجابه ... "إلى بلادكم فى الشمال , لا تعجب أنتم تفرون من الشمال إلى الجنوب هربا من مسغبة وجدب , ونحن نفر من الجنوب إلى الشمال هربا من جور وظلم وقهر" ..............
.... "أجل أجل , صدقت , أنتم تعيشون وسط وحوش كاسره , إن نجوت من أنياب حيوان وقعت فى شرك إنسان , رأيت كل ذلك يا رفيقى وأكثر منه" ......
كان فى كل رحلة يتعلم درسا ويأخذ عبره , دفعته تجارب الأيام والسنين إلى أن يختلى بنفسه ساعات طويلة من النهار بعيدا عن أقرانه , يتأمل فيها ويطرح الأسئلة تباعا على نفسه , يحادثها , ولا مجيب له إلا رجع الصدى فى تفسه ....
..... "أى أرض هذه التى تضيق بنا , فى الشمال جوع وإملاق , وفى الجنوب قهر وظلم , أهذه هى أرض الله الواسعه التى علينا أن نهاجر فيها !!" ........
يرد على نفسه ... "نعم هى أرض الله , لكنها يقينا ليست الأرض الواسعه التى لا تتبدل ولا تتغير , إنها على اتساعها وامتدادها تضيق بنا لا قرار لنا ولا سكينة فى أى مكان فيها" ....
"أين إذن أرض الله الواسعه , أين , أين"
لابد أن فى الأمر أسرارا لا يعلمها الا من يعلم الأمر على ما هو عليه فى نفسه .....
حمل همومه وشكوكه وتساؤلاته وتحامل على نفسه التى أضناها السهر والفكر , وذهب إلى عش صديقه "اللقلق", عندما تعوزه الحكمة والنصيحه وتنسد أبواب المعرفة والفهم أمامه لا يجد ملاذا إلا عند هذا الطير الناسك , إسترسل يحكى له هواجسه , ولما فرغ من حديثه تنحنح اللقلق وقال .....
...... "كل ما حاك فى صدرك صحيح , هذه أرض الله , وهى أرض واسعة رحيبه , لكنها ليست الواسعة مطلقا , أرض الله الواسعة أرض أخرى وهى أقرب لك مما تتصور" ........
"هلا دللتنى عليها ؟" .....
"كل ما أستطيع فعله لك أن أدلك على الطريق إليها , صدقنى لن يفيدك العلم المجرد بها , إلا أن تكابد حتى تقف على أبوابها وتدركها حقا لا علما , أفهمت؟" ..........
طأطأ رأسه برهة ثم قال ......
"نعم ,فهمت , دلنى على الطريق إليها" .....
.... "إسمعنى جيدا ... كن إن استطعت عبدا محضا لله , لا تجعل فيك ذرة من عبودية لغيره , كن شاهدا يشاهد الحق فى عين ذاته , تكن على أبواب الأرض الالهيه الواسعة التى تسع الحدوث والقدم" .....
"زدنى يرحمك الله" .....
"قال تعالى (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) ولم يقل منها ولا إليها ...فتدبر" .....
طوى جناحيه متوسلا .... "زدنى زادك الله معرفه" ........
"من كان حقا كله .. قد زال عنه كله" ...
قفز الكركى فى الهواء طائرا إلى عشه منتشيا يهتز طربا ويتمايل وجدا , إنتبهت أسراب الطيور واشرأبت بأعناقها على صوته يرتفع شيئا فشيئا وهو يترنم شاديا .............
صدور ضاق مسكنها
بنور العلم يشرحها
مبهمات السر مظلمة
وعلوم الكشف توضحها
:::
:::
.......... تمت ........