القطار
الدقائق تمر بطيئة متثاقله ,بدا على عقارب الساعة أنها لا تتحرك ,كأنما أصاب الزمن هزال البشر وطالته منهم عدوى الغفلة والكسل.
ملل ,ملل ,زاد من وطأته جلوسى وحدى تحت مظلة محطة القطار , لا جليس يؤنس وحدتى ولا رفيق يقاسمنى معاناة الإنتظار
لم يكن فى هذا المكان الموحش إلا بائعة بائسة تفترش جانبا من الرصيف , جلست متربعة خلف صندوق خشبى متهالك ليس أقل منها بؤسا ,من فوقه لفافات متناثرة من النعنناع والبسكويت والعسليه غطاها التراب والسواد , وفى الركن المقابل وقف بائع أمامه جردل بداخله بعض زجاجات للمياه الغازيه مبللة برشات من الماء ينثرها عليها من كوز صدئ فى يده ,
توجهت إليه وسألته .......... تعرف إمتى يوصل القطر ؟
رفع رأسه ناظرا إلى فى بلادة ..... أفتح لك بيبسى والا تيم ...
إستدرت إلى حيث تجلس البائعة العجوز ..... "ماتعرفيش يا حاجه القطر اتأخر ليه ؟"
حركت شفتيها بامتعاض إلى أسفل وهى تشيح بيدها فى وجهى , عدت إلى مكانى واستسلمت للملل مرة ثانيه
"آدي السماء وادي الارض"
"السر في السكان مش في المكان"
لم يكسر صمت المكان إلا هذه العبارات يطلقها على طريقة المجاذيب بين الحين والآخر رجل غريب المظهر يرتدى أثمالا باليه ويلف رأسه بعمامة سوداء متحزما بصندوق زجاجى على بطنه يبيع فيه حبات اللب والفول السودانى
أشرت إليه , تقدم ناحيتى ودون أن أطلب منه وضع ورقة صغيرة بجانبى ومن فوقها حفنة من اللب والفول ,ناولته قطعة من النقدية وضعها فى جيبه وهو يقول بصوت مرتفع "اليوم اللي ما يجي معاك روح معاه"
حاك فى نفسى أن أعيد السؤال عليه ,لكنه فاجأنى بإشارة بطول يده ناحية القضبان لألمح قطارا قادما من بعيد ,تنفست الصعداء والتفت إليه لأشكره لكنه كان قد اختفى من أمامى تماما كأنما تبخر فى الهواء
على سلم باب العربة السابعة والأخيرة من القطار نزل شيخ فى عقده السابع يتوكأ على عصاه ,تريثت حتى حطت قدماه على رصيف المحطه ولما هممت بسؤاله "القطر ده رايح فين؟" فاجأنى باختفائه هو الآخر كأنما انشقت عنه الأرض وابتلعته , هززت رأسى وأنا أفرك عينى وقلت لنفسى "كل شئ جائز , طيب ,أسأل الشاب اللى نازل وراه"
كان مجندا متطوعا يرتدى البدله الكاكى , نزل حاملا بكلتى يديه حقيبة بدت ثقيله . قلت فى نفسى "من العيب أن أسأله وهو يلهث مثقلا بحقيبته ,أنتظر حتى يضع أحماله" مددت يدى محاولا مساعدته والتخفيف عنه ,لكنى فوجئت بيدى تمسك الهواء ولم أر أحدا .. لا هو ولا الحقيبه .....
تمالكت نفسى من نوبة دوار كادت تطيح بى أرضا "ما هذا الذى يحدث لى ,أهو ضعف فى البصر أصابنى , أم هو الجهد بلغ منى مبلغا جعلنى لا أعى ما حولى ,ربما ,على أية حال أسأل سائق القطار ,يقينا سأجد الجواب عنده"
تحاملت على نفسى وتقدمت حتى العربة الأولى التى تجر القطار , "ها هى كابينة السائق وهاهو يجلس فى مقعده" كانت رأسه تظهر من خلف زجاج النافذه , طرقت زجاجها بأصابعى فالتفت ناحيتى وما كادت عيناى تلتقى بعينيه حتى أخذتنى رعدة خوف وهيبة من حدة نظراته ومن ملامحه الجامده ,رجعت القهقرى أتعثر فى خطواتى إلى أول عربة صادفتنى أتلمس طريقى إلى أماكن الجلوس , وعلى أول مقعد رأيته هممت بالجلوس ,وقعت عينى فى المقعد المقابل على رجل وقور هادئ الملامح عليه سمات الحكماء ,كان منهمكا فى قراءة كتاب أمامه ,ألقيت عليه السلام ,نظر إلى مكتفيا بهز رأسه , وقبل أن ألقى بجسدى على المقعد سألته "من فضلك القطر ده رايح فين؟"
فوجئت به يسألنى "وانت رايح فين" هممت أن أجيبه لكنى اكتشفت أنه لا إجابة عندى , إبتسم الرجل الوقور وقال لى ... "لا عليك , إجلس ,بعد أن يتحرك القطار ,ستعرف كل شئ" ......
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها