الأخت مي..
قصيدة "براءة" للشاعر أمل دنقل من ديوانه الأول "مقتل القمر"
ما أجمل اختياراتك.. وما أروع شاعرك
فلا يمكن أن يذكر اسم أمل دنقل دون أن نتوقف أمامه خاشعين مطرقين.. إنه شاعر بجينات نبي، استطاع – وحده – أن يصيغ من طين الواقع أيقونات شعرية ترقى إلى جوهر النبوءة، توقف عندها زمن الشعر، كما توقف عند امرؤ القيس وجرير وأبي تمام والمتنبي وأحمد شوقي، فقد أتى أيضا بما لم يستطعه الأوائل.. فروحه أبدية الألم، لم تترك حرفا مما خطت يداه إلا ونفخت فيه سحرها الخاص، فكما كان فريدا متفردا حين ظهر، وضع كل الشعراء اللاحقين في مأزق، فلا أحد يمكنه تقليده لأنه معجز، ولا أحد يمكنه أن يتجاوز أغراضه لأنه جامع مانع، فلم يعد أمام لاحقيه من الشعراء إلا أن يأتوا بجديد يتجاوزه، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
فأمل دنقل صنع من مفردات الحياة وتفاصيلها الصغيرة شعرا، واعتصر وجدانه فأصبح أنين المهمشين وصوت البائسين، وتسامت روحه فانكشف عليه الماضي واستشرف المستقبل.
رحم الله أمل دنقل، فأراه بين الشعراء كمثل أبي ذر الغفاري بين الصحابة.. يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث يوم القيامة وحده.
وإليك من الشاعر هذه الشجوية
لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ?
أسافرُ في القَاطراتِ العتيقه,
(كي أتحدَّث للغُرباء المُسِنِّينَ)
أرفعُ صوتي ليطغي على ضجَّةِ العَجلاتِ
وأغفو على نَبَضاتِ القِطارِ الحديديَّةِ القلبِ
(تهدُرُ مثل الطَّواحين)
لكنَّها بغتةً..
تَتباعدُ شيئاً فشيئا..
ويصحو نِداءُ الكَمان!
***
أسيرُ مع الناسِ, في المَهرجانات:
أُُصغى لبوقِ الجُنودِ النُّحاسيّ..
يملأُُ حَلقي غُبارُ النَّشيدِ الحماسيّ..
لكنّني فَجأةً.. لا أرى!
تَتَلاشى الصُفوفُ أمامي!
وينسرِبُ الصَّوتُ مُبْتعِدا..
ورويداً..
رويداً يعودُ الى القلبِ صوتُ الكَمانْ!
***
لماذا إذا ما تهيَّأت للنوم.. يأتي الكَمان?..
فأصغي له.. آتياً من مَكانٍ بعيد..
فتصمتُ: هَمْهمةُ الريحُ خلفَ الشَّبابيكِ,
نبضُ الوِسادةِ في أُذنُي,
تَتراجعُ دقاتُ قَلْبي,..
وأرحلُ.. في مُدنٍ لم أزُرها!
شوارعُها: فِضّةٌ!
وبناياتُها: من خُيوطِ الأَشعَّةِ..
ألْقى التي واعَدَتْني على ضَفَّةِ النهرِ.. واقفةً!
وعلى كَتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنانْ!
أُحبُّكِ,
صارَ الكمانُ.. كعوبَ بنادقْ!
وصارَ يمامُ الحدائقْ
قنابلَ تَسقطُ في كلِّ آنْ
وغَابَ الكَمانْ!
__________________
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
رفرفْ..
فليسَ أمامَك
- والبشرُ المستبيحونَ والمستباحونَ: صاحون-
ليس أمامك غيرُ الفرارْ..
الفرارُ الذي يتجدّد كُلَّ صباح