@ عاد الشافعى يحكى لمن حوله .............
ــ وفى اليوم التالى أخذونى مرة ثانية للقاء الرشيد ليستكمل المحاكمه ..
سأله سليم .........
ــ ماذا حدث فى ذلك اليوم ؟.
ــ لما قلت للرشيد أنى قد نلت حظا من العلم وأن القاضى يعرفنى , ورد عليه مؤيدا كلامى كما سمعتم , هز رأسه وأخذ ينظر إلى طويلا مدققا متفرسا , ثم أشار إلى أن أقترب منه , وأمرنى بالقعود وانبرى يسأل : ………………
ــ قل لنا يا ابن إدريس , كيف بصرك بكتاب الله عز وجل , فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ الكلام به ؟.
ــ عن أى كتاب تسألنى ؟. فإن الله أنزل ثلاثا وسبعين كتابا على خمسة أنبياء , وأنزل كتابا موعظة لنبى وحده وكان سادسا ..
ــ وما هذه الكتب , هل تعلمها ؟.
ــ أولهم آدم عليه السلام وعليه أنزل ثلاثين صحيفة كلها أمثال , وأنزل على إدريس عليه السلام ست عشرة صحيفة كلها حكم وفيها علم الملكوت الأعلى . وأنزل على إبراهيم عليه السلام ثمانية صحف كلها حكم مفصله وفيها فرائض ونذر . وأنزل على موسى عليه السلام التوراة كلها تخويف وموعظه . وأنزل على عيسى عليه السلام الإنجيل ليبين لبنى إسرائيل ما اختلفوا فيه من التوراة . وأنزل على داود عليه السلام كتابا كله دعاء وموعظة لنفسه وحكم فيه لنا واتعاظ لداود وأقاربه من بعده . وأنزل على محمد "صلى الله عليه وسلم" الفرقان وجمع فيه سائر الكتب , فقال عز وجل "تبيانا لكل شئ وهدى وموعظة" وقـال تعالـى "أحكمت آياته ثم فصلت" ..
ــ قد أحسنت فى تفصيلك . كل هذا علمته ؟.
ــ أجل يا أمير المؤمنين , عن أى كتاب تسألنى ؟.
ــ قصدى كتاب الله الذى أنزله على إبن عمومتنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الذى دعانا إلى قبوله وأمرنا بالعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه ؟.
ــ جمعه الله تعالى فى صدرى وجعل روعى دفتيه ..
ــ كيف علمك به ؟.
ــ عن أى علم تسأل يا أمير المؤمنين ؟. أعلم تنزيله أم علم تأويله أم علم محكمه أم علم متشابهه أم ناسخه أم منسوخه أم أخباره أم أحكامه أم مكيه أم مدنيه . أم ليليه أم نهاريه أم سفريه أم حضريه . أم وجوه قراءته أم حروفه أم معانى لغاته أم حدوده . أم عدد آياته أم نظائره أم إعرابه ؟.
ــ أتعرف أحكام القرآن هذه كلها ؟.
ــ أستطيع بإذن الله تعالى أن أتكلم الآن حول ثلاثة وسبعين حكما فى القرآن تفصيلا ..
ــ كيف ذلك ؟.
ــ مثلا فى القرآن ما ثبتت تلاوته وارتفع حكمه , وفيه ما ضربه الله مثلا وفيه ما ضربه الله اعتبارا . وفيه ما أحصى الله فعال الأمم السابقه , وفيه ما قصدنا الله من فعله تحذيرا وفيه ......
قاطعه الرشيد مدهوشا .............
ــ ويحك أيهاالشافعى , عجيب ما أسمع والله منك . لقد ادعيت من القرآن علما عظيما . كل هذا يحيط به علمك وفهمك ؟.
ــ المحنة يا أمير المؤمنين تنبئ عن صدق دعواى . والمحنة على القائل كالنار على الفضة تخرج جودتها من رداءتها . هأنذا أقف أمامك فامتحن إن شئت ؟.
ــ فى الغد إن شاء الله أسألك عن تفصيله . لكن أخبرنى كيف علمك بالأحكام ؟.
ــ فى العتاق أم فى المناكحات أم فى السير والمحاربات أم فى الحدود والديات أم فى الأشربة والأطعمة والبياعات . وحلال ذلك من حرامه والحكم فيه ؟.
ــ وكيف بصرك بسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ إنى لأعرف منها ما يخرج على وجه الإيجاب ولا يجوز تركه تماما . كما لا يجوز ترك ما أوجبه الله تعالى فى القرآن . وما خرج على وجه التأديب وما خرج على وجه الخاص لا يشرك فيه العام , وما خرج على وجه العموم يدخل فيه الخصوص . وما خرج جوابا عن سؤال سائل ليس لغيره استعماله , وما خرج منه ابتداء لازدحام العلوم فى صدره . وما فعله فى خاصة نفسه واقتدى به الخاصة والعامه , وما خص به نفسه دون الناس كلهم , مع ما لا ينبغى ذكره لأنه أسقطه عليه السلام عن الناس وسنه ذكرا ..
ــ أخذت الترتيب يا شافعى لسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فأحسنت موضعها لوصفها . فما حاجتنا إلى التكرار عليك ونحن نعلم ومن حضرنا من أهل العلم أنك حامل نصابها ..
ــ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ..
ــ وكيف بصرك بالعربيه ؟.
ــ هى مبدأنا وبها قومت طباعنا وجرت ألسنتنا فصارت كالحياة لا تتم إلا بالسلامه وكذلك العربية لا تسلم إلا لأهلها . لقد ولدت وما أعرف اللحن فكنت كمن سلم من الداء ما سلم له الدواء وعاش بكامل الهناء وبذلك شهد لى القرآن ..
ــ تقول شهد لك القرآن ؟. كيف ؟.
ــ قال تعالى "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" يعنى قريشا وأنت وأنا منهم يا أمير المؤمنين . العنصر نظيف والدوحة منيعة شامخه وأنت أصل ونحن فرع وهو "صلى الله عليه وسلم" مفسر ومبين به اجتمعت أحسابنا . فنحن بنو الإسلام وبذلك ندعى وننسب ..
ــ صدقت بارك الله فيك . هيه كيف علمك بالنجوم ؟.
ــ أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائى والنارى وما كانت العرب تسميه الأنواء . ومنازل النيرين الشمس والقمر والإستقامه والرجوع والنحوس والسعود وهيئاتها وطبائعها . وما أهتدى به فى برى وبحرى وما أستدل به على أوقات صلواتى وأعرف ما مضى من الأوقات فى كل ممسى ومصبح وظعنى فى أسفارى ..
ــ فكيف علمك بالطب ؟.
ــ أعرف ما قالت الروم بلغاتها مثل أرسطاطاليس وجالينوس وبقراط وأبوقيليس وأعرف ما نقله أطباء العرب وما قننه فلاسفة الهند ونمقه علماء الفرس مثل شاهم دويهم وبزرجمهر وغيرهم ..
ــ حسن حسن وكيف معرفتك بالشعر ؟.
ــ أعرف منه الجاهلى والمخضرم والمحدث وأعرف معاريضه وبحوره وأوزانه وأعرف طويله وكامله وسريعه ومجتثه وهزجه ورجزه وحكمه وغزله ..
ــ كيف حفظك له ؟.
ــ أروى الشاهد والشاذ ومانبه للمكارم وشحذ بصيرة الصارم . وما قيل فيه على الأمثال تبيانا للأخبار وما قصد به العشاق رجاء التلاق وما رثى به الأوائل ليتأدب به الأواخر وما امتدح به المكثرون لإمرائهم زورا وبهتانا . وما تكلم به الشاعر فصار حكمة لمستمعه ..
ــ ما ظننت أحدا يعرف هذا ويزيد على الخليل حرفا ولقد زدت وأفضلت فكيف علمك بالعرب والأنساب ؟.
ــ يا أمير المؤمنين ذلك علم لم يسعنا جهله فى الجاهلية مع ظهور الكفر وجحود الحق ليكون عونا على التعارف وبصيرة بالأكفاء . فألفيت أوائلنا أفخاذا وعمائر وفصائل وجملته قبائل وعشائر حتى ورثه الأصاغر عن الأكابر وعمل به الخلف إقتداء بالسلف . وإنى لأعرف جماهير الأقوام ونسب الكرام ومآثر الأيام وفيها نسبة أمير المؤمنين ونسبتى ومآثر أمير المؤمنين ومآثر آبائه وآبائى ..
ــ لولا أنك قرشى لقلت إنك ممن لين له الحديد . فما تقول فى الخلافة والإمامه ؟.
ــ كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفه ويجتمع الناس عليه , فهو خليفه ..
ــ ومن أولى الناس بها ..
ــ أولى الناس بها قريشا ..
ــ ما هو دليلك ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لقتاده بن النعمان لما وقع فى قريش ونال منهم [ مهلا يا قتاده لا تشتم قريشا فإنك لعلك ترى منها رجالا أو يأتى منها رجال تحتقر عملك مع أعمالهم وفعلك مع أفعالهم وتغبطهم إذا رأيتهم . ولولا أن تطغى قريشا لأخبرتها بالذى لها عند الله ] ..
ــ فما تقول فى خلافة الراشدين ؟.
ــ أراهم على الترتيب كما جاءوا . أبا بكر فعمر فعثمان فعلى . وعمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ..
ــ عجيب والله يا ابن إدريس ما أسمعه منك ..
ــ ما وجه العجب يا أمير المؤمنين ؟.
ــ ما رأيت هاشميا يقدم أبا بكر وعمر وعثمان على على غيرك ..
ــ شهـدت بأن الله لا شئ غيره .. وأشهد أن البعث حق وأخلـص ..
وأن عرى الإيمان قول محسن .. وفعل زكى قد يزيـد وينقـص ..
وأن أبا بكـر خليفة أحمد .. وكان أبو حفص على الخير يحرص ..
وأشهد ربى أن عثمان فاضل .. وأن عليـا فضله متخصـص ..
أئمة قـوم يقتـدى بفعالهم .. لحا الله مـن إياهـم يتنقـص ..
فما لغـواة يشتمـون سفاهة .. وما لسفيه لا يجـاب فيحرص ..
ــ زدنى أيها المطلبى ..
ــ أتت إمرأة يا أمير المؤمنين إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" تسأله عن مسألة فأمرها أن ترجع . قالت : يا رسول الله إن رجعت فلم أجدك فمن أسأل . كأنها تعنى الموت فقال لها النبى "صلى الله عليه وسلم" : [ فأتى أبا بكر ] فتلك إشارة منه "صلى الله عليه وسلم" إلى أن القائم بعده أبا بكر ………………
------------------------------------------
ــ الله الله . كل هذه العلوم يا ابن إدريس .
هكذا عقب عبد العزيز أكبر أخواله وهو يستمع مأخوذا مع الآخرين إلى الشافعى وهو يواصل حديثه عن محنته ..
رد شقيقه على معقبا ............
ــ أنسيت أنه جمع علوم مكة والمدينة واليمن قبل أن يجمع علوم العراق ؟.
أضاف سليم ...........
ــ ورحلته صبيا إلى الباديه أنسيتها هى الأخرى ؟.
أجاب عبد العزيز قائلا ...............
ــ على رسلكم إخوتى لم أنس شيئا من هذا غير أنى فى عجب أن يجمع كل هذه العلوم فى رأسه . ليس هذا فحسب بل ويعلن عنها وهو فى هذا الموقف العصيب بين السيف والنطع ..
رد الشافعى مبتسما فى تواضع بينما امرأته حميده تختلس النظر إليه فى إعجاب وحياء بعد أن هدأت واطمأنت وعادت البسمة تزين شفتيها ............
ــ ليس هذا بالأمر العجيب يا خال ..
ــ وهل هناك ما هو أعجب من هذا ؟.
ــ الأعجب من هذا يا خالى العزيز ما حدث بعد ذلك من أمير المؤمنين ..
بادرت أم حبيبه متسائلة فى لهفة وفضول ................
ــ خيرا يا ولدى ؟.
ــ ما كدت أنتهى من كلامى هذا والرشيد يستمع لى متكأ على مرفقه الأيمن حتى اعتدل ثم استوى جالسا وقال : ………………
ــ يا ابن إدريس لقد ملأت صدرى وعظمت فى عينى فعظنى موعظة أعرف فيها مقدار علمك وكنه فهمك ..
ــ على شريطة يا أمير المؤمنين ؟.
ــ هى لك فما هى ؟.
ــ طرح الحشمه ورفع الهيبه وإلقاء رداء الكبر عن منكبيك , وقبول النصيحه وإعظام حق الموعظة والإصاخة لها ..
ــ لك هذا , تكلم يا ابن إدريس , هات ما عندك من موعظه ..
كان الفضل بن الربيع يرقب صديقه الشافعى من ركن قريب وقد تنفس الصعداء وانبسطت أساريره بعد أن زال عنه الخوف والإشفاق . سرت الطمأنينة إلى قلبه على مصير صاحبه وتأكده من نجاته ورضا أمير المؤمنين عليه . أخذ يتابع صاحبه بعينيه وهو يجثو على ركبتيه ويمد يده غير مكترث ولا هياب ولا محتشم مشيرا إلى الرشيد قائلا فى حدة وثبات ...............
ــ يا ذا الرجل , إعلم أنه من أطال عنان الأمن فى الغره طوى عذار الحذر فى المهله . ومن لم يعول على طرق النجاة كان بمنزلة قلة الإكتراث من الله مقيما , وصار فى أمنه المحذور مثل نسج العنكبوت لا يأمن عليها نفسه ولا يضئ له ما أظلم عليه من نسبه ..
سأل الرشيد واجفا .................
ــ وكيف الخلاص من ذلك يوم القيامه ؟.
ــ لو اعتبرت بما سلف ونظرت ليومك وقدمت لغدك وقصرت أملك وصورت بين عينيك إقتراب أجلك واستقصرت مدة الدنيا ولم تغتر بالمهله . لو فعلت ذلك لما امتدت إليك يد الندامه ولابتدرتك الحسرات غدا فى القيامه ولكن ضرب عليك الهوى رواق الحيرة فتركك وإذا بدت لك يد موعظة لم تكد تراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له مـن نور ..
أصابت كلمات الشيخ هدفها تماما ونزلت عند الرشيد بمكان فأخذه البكاء والنحيب وهو يجفف دمعه بمنديل فى يده وعلا شهيقه وانتحابه . عندئذ انبرى أحد الواقفين من خلفه من رجاله المقربين القائمين على خدمته صارخا فى وجه الشافعى ...........
ــ على رسلك يا هذا . أبكيت عينى أمير المؤمنين ..
مواقف دائما نراها فى مجالس الملوك والأمراء يظن أصحابها أنهم أكثر شفقة عليهم من ناصحيهم يحاولون بها إظهار محبتهم واهتمامهم والتقرب بها والزلفى من ملوكهم . كان درسا قاسيا تلقاه قائل هذه الكلمات من فم الشافعى , الذى نظر إليه غاضبا , وزجر أشباهه كلهم فى شخصه قائلا له , وهو يزأر كالأسد الهصور فى وجهه ..........
ــ يا عبيد الرفعة وأعوان الظلمه وعدة الأئمه الذين باعوا أنفسهم بمحبوب الدنيا الفانيه واشتروا عذاب الآخرة الباقيه . أما رأيتم من كان قبلكم كيف استدرجوا بالإملاء ورفهوا بتواتر النعماء ثم أخذوا أخذ عزيز مقتدر ؟. أما رأيتم الله كيف فضح مستورهم وأمطر بواكر الهوان عليهم فأصبحوا بعد سكنى القصور والنعمة والحبور بين الجنادل والصخور والقبور ؟. ومن وراء ذلك وقوف بين يدى الله عز وجل ومساءلته عن الخطره وماهو أخف من الذره وهم فى ذلك نهبة للخوف والروع ..
قال هارون الرشيد .............
ــ يا ابن إدريس قد سللت علينا لسانك وهو أمضى من سيفك ..
ــ هو لك يا أمير المؤمنين إن قبلت ولا عليك ..
ــ فكيف السبيل إلى الخلاص من ذلك ؟.
ــ أما الثانيه أن ......
قاطعه الرشيد ......
ــ أين الأولى يا رجل ؟.
ــ لا أستطيع قولها ..
ــ هيه .... فهمت .. أكمل يرحمك الله ..
ــ أما الثانيه أن تتفقد بالعمارة حرم الله تعالى وحرم رسوله "صلى الله عليه وسلم" وتؤمن السبل وتنظر فى أمر الأمه ..
ــ وكيف ذاك أفصح ؟.
ــ أن تعطى أولاد المهاجرين والأنصار حقهم من الفئ لئلا تزعجهم الحاجة عن أوطانهم . وتنظر فى أمور العامة والثغور وتبذل العدل والنصفه وأن لا تجعل دونها سترا . وتتخذ أهل العلم والورع شعارا وتشاورهم فيما ينوب . وتعصى أهل الريب ومن يزين لك أن تقطع ما أمر الله به أن يوصل ..
ــ ومن يطيق ذلك ؟.
ــ من تسمى بإسمك وقعد مثل مقعدك ..
ــ يا شافعى ألك من حاجة خاصة بعد العامة فتقضى أو مسألـة فتمضى ؟.
ــ أتأمرنى بعد بذل مكنون النصيحة وتقديم الموعظه أن أسود وجهى بالمسألة وأذل للحاجه ؟.
أطرق الرشيد ثم رفع رأسه ونظر للقاضى قائلا ............
ــ يا محمد بن الحسن سله عن مسأله ؟.
تنحنح القاضى هامسا للرشيد .............
يتبع.. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها