عرض مشاركة واحدة
  #102  
قديم 12/04/2009, 12h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي رد: عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن

الفصــــل
الرابـــع
الشافعـى فـى مكـه
@ أخيرا دخل الشافعى مكة مرة ثانيه طاويا جوانحه على تجربة مريرة قاسيه كشفت له عن مكانته وقدره بعد طواف طال واستطال , جمع من خلاله علوم الحجاز والعراق واليمن . وشرب من مناهل قطبى الشام ومصر الأوزاعى والليث بن سعد عن طريق تلاميذهم وحملة علومهم . عاد يغذ الخطى إليها وهى فاتحة له ذراعيها , مشتاقة إلى ولدها اللبيب مزهوة به زينة شبابها وفخرهم . سبقته إليها أخباره وعلومه التى أشرقت فى سماء بغداد أرض الخلافة والسلطه وموطن ثقافات فارس والروم التى قطعت شوطا بعيدا من الحضارة والرقى حتى بلغت أوجها فى عهد هارون الرشيد ..
وهو مع كل هذا لا يزال معتبرا نفسه طالبا من طلاب العلم , وعاء منهوم وجراب لم يأن له أن يمتلئ بعد . أفادته هذه المحنة إدراكا لواقع الحياة وقربا من رجال الحكم وأصحاب السلطان وهى أمور لازمة لمن يتصدى للتشريع والفتوى للناس . فارق مكة فقيرا لا يملك من متاع الدنيا درهما واحدا وها هو يرجع إليها بعد سنوات الغربة الطوال , حاملا فى صدره علوما جمه , وعشرة آلاف دينار أعطاها له الرشيد قبل رحيله مباشرة تقديرا منه لعلمه وتعويضا له عما لحق به من أذى . أبت نفسه السخية إلا أن تفرقها عن آخرها على فقراء مكه فى خباء نصبه على مشارفها . جلس فيه وحده يوزع الدراهم والدنانير . وقبل أن تطأ قدماه أرضها الطاهره لم يكن فى حوزته منها درهم واحد . وكان الرشيد قد أعطاه مثلها عقيب محاكمته غير أنه علم من قائده هرثمة بن أعين أنه قام بتفريقها عن آخرها على الفقراء والمساكين قبل أن يغادر القصر ..
والذى حدث أن الشافعى وهو فى طريقه إلى باب القصر الخارجى يرافقه محمد بن الحسن بعد انتهاء المحاكمه , سمع صوتا ينادى عليه من وراءه فى لهفة .........
ــ أيها الشيخ المكى . مهلا أيها الشيخ ؟!.
إلتفت ليرى القائد الكبير هرثمة بن أعين ومعه غلام من غلمان الرشيد وهما يغذان الخطى . حتى إذا صارا أمامه مد القائد يده وأخذ لفافة من يد الغلام , ناولها للشافعى قائلا ..............
ــ إمسك أيها الشيخ الحجازى ..
سأله الشافعى متعجبا .............
ــ ما هذه ؟!.
ــ عشرة أكياس فى كل كيس ألف دينار ..
وقبل أن يمد يده ليأخذها سأله ...........
ــ ممن هذه الدنانير ؟!.
ــ من أمير المؤمنين هارون الرشيد ..
ثم ضرب يده فى جيب سترته وأخرج منها لفافة أخرى ناولها له قائلا ............
ــ أما هذه ففيها خمسة آلاف دينار , هدية خاصة منى لك . لولا أنه لا يليق أن يعطى أحدا مثل عطية أمير المؤمنين لأعطيتك والله مثـل ما أعطـى ..
رفع الشافعى يده رافضا وهو يقول ..............
ــ أيها القائد الكبير هرثمة بن أعين , أما هدية أمير المؤمنين فلا يسعنى إلا قبولها فهو الخليفة المؤتمن على أموال المسلمين يوزعها كيف شاء , وتلك عطيته لا أستطيع ردها ولا يجوز لى أن أفعل . أما هديتك فمعذرة لن أستطيع قبولها منك ..
سأله فى دهشة لا تخلو من العجب ..............
ــ ولم أيها الشيخ الجليل , أنا والله ما قصدت من ورائها إلا أن أعبر لك عن بعض إعجابى وتقديرى لعلمك وفصاحتك ؟!.
ــ لا تؤاخذنى أيها القائد فإنى لا آخذ الهدية ممن هو دون أمير المؤمنين ..
وقبل أن يبتعد عن قصر الرشيد كانت هذه الدنانير قد فاضت من بين راحتيه عطايا للفقراء والمساكين والقائد يتابعه بعينيه من بعيد وهو فى عجب من أمره . رآه وهو يوزعها عن آخرها ولم يبق معه منها إلا خمسين دينارا أمسكها لغرض فى نفسه . ما فعل ذلك الشافعى إلا بجمعه بين نسبه الشريف الرفيع ونشأته الفقيره , واجتماع هذين الأمرين فى شخص واحد يجعلانه ينشأ على خلق قويم ومسلك كريم . علو النسب وشرفه يجعل صاحبه منذ نعومة أظفاره ناظرا إلى معالى الأمور مترفعا عن الدنايا ساعيا إلى المجد فى همة وجلد . ونشأته فقيرا مع ذلك الطموح بنسبه يجعله أقرب للإحساس بمعاناة الناس ومعرفة بخبيئة نفوسهم . فهو بهذا لا يتسامى فى معاملاته عن العامة فيبعد عنهم ولا يهوى فى مباذلهم فيتصاغر فى عيونهم . كان لنسبه عزته ولفقره طيبته , وظهر أثر جماعهما فى مواطن كثيرة استدعاها الحال . فها هو القائد الكبير يعطيه فيأبى فى إصرار أن يأخذ عطيته وحجته أنها ممن هو دونه . ويعطيه الخليفة العطية فيقبلها راضيا , بل يوزعها قبل أن يغادر الطريق , ويهبه غيرها فيوزعها على الفقراء ممن لهم به رحم فى مكه ..
@ وبين الأهل والأحباب الذين تحلقوا من حوله جلس الشافعى محتضنا فى صدره ولده محمد , يحكى لهم محنته الطاحنة والغاشية التى وقع فى براثنها واعتصرته وزلزلت أعماقه فى بداية الأشهر الماضيه . بينما أمه الصامدة جالسة أمامه ذاهلة كأنها غير مصدقة أن وحيدها قد عاد إليها مرة أخرى بعد نجاته من سيف الجلاد الذى لا يرحم . أخذت تملأ منه كله عينان كليلتان متعطشتان إلى رؤيته وقد أضناهما سهر الليالى وطول البكاء ..
إلى جوارها جلست زوجته حميده لا تحيد بعينيها عن وجهه ولا يكاد يطرف لها جفن . جلست وهى تمسح دموع الفرح التى أخذت تسيل من مقلتيها على خديها على خطي عبرة وضنى , صنعهما الوجد والبكاء وطول والسهر وهى تضم ابنتها الرضيعة إلى صدرها . لم تكن تصدق هى الأخرى أن عينيها سوف تكتحل برؤيته مرة أخرى . بينما أخواله عبد العزيز وسليم وعلى وزوجاتهم وأولادهم فى أماكنهم يرهفون أسماعهم إليه وهو يستطرد قائلا ..............
ــ وضربت أعناق الرجال جميعا , كانوا حوالى ستين شخصا ما بين شيوخ وشباب وكهول . شهدت مصارعهم جميعا وعاينت رؤوسهم وهى تتهاوى واحدة إثر أخرى , ولكل رأس تتطاير مشهد من مشاهد الهلع والهول , شاءت الأقدار أن أكون شاهدا عليه من بدايته إلى نهايته ..
سأله سليم مذهولا .............
ــ كلهم قتلوا !!. لم ينج منهم أحد ؟!.
ــ أجل يا خال , لم يتبق خارج قاعة الحكم إلا أنا وغلام يثربى ..
سأله خاله عبد العزيز .............
ــ يا لها من مأساة مروعه !. ومن أدخلوه منكما أولا على أمير المؤمنين ؟!.
ــ أدخلونا معا , إلا أنهم أوقفونى لدى الباب وقدموا الغلام . هو الوحيد الذى شهدت محاكمته عيانا من جماعة الرافضه . سمعت أمير المؤمنين وهو يسأله فى دهشة كأنه غير مصدق : ………………
ــ حتى أنت !. حتى أنت أيها الفتى الصغير !. تخرج علينا ... وتزعم أنى لا أصلح للخلافه ؟!.
ــ الرحمة يا أمير المؤمنين . لن أدعى ذلك بعد اليوم , ولن أقوله مرة أخرى ..
ــ إضربوا عنقه ..
ــ إن كنت مقتولا لا محالة يا مولاى , لى رجاء واحد قبل ان تسلم عنقى للجلاد ؟!.
ــ ماذا تريد ؟!.
رد قائلا وهو ينتفض هلعا وفرقا ............
ــ أنظرنى لحظات لا أطمع فى سواها , ثم اقتلنى بعدها ..
ــ لم ؟!.
ــ أكتب كتابا إلى أمى بالمدينه , هى عجوز لا تعرف بخبرى وليس لها من أحد سواى يعولها ………………
@ أسرع سليم الأزدى بالسؤال ...........
ــ وهل أجابه الرشيد إلى طلبه ؟!.
ــ لا لم يجبه . أشار للسياف الذى جذبه من رقبته فى غلظة كأن بينهما ثأر قديم . وقبل أن أساق إلى حيث الرشيد كان السيف قد سبق إلى رأس الفتى . آخر جماعة الرافضة والخوارج ..
إنبرى سليم قائلا فى حسرة وحزن ..................
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله , ما كل هذه القساوة والغلظه !. لم نكن نحسب أن الرحمة نزعت من قلب أمير المؤمنين هكذا . والله إنهم لقوم قدت قلوبهم من صخر !.
ــ مهلا يا خال , إنها ليست قساوه , لقد نال هؤلاء الضالين المضلين ما يستحقونه من جزاء حقا . إنهم فرقة ضالة مارقة خارجة عن جماعة المسلمين وعضو خبيث فى جسد الأمة يلزم استئصاله من جذوره ..
ــ وماذا فعلت أنت ؟!.
ــ ما إن تقدمت خطوات ومثلت بين يديه حتى أبصرته يحملق فى طويلا دون أن يتفوه بكلمة واحده . قام من مجلسه وأخذ يمشى خطوات وهو يفكر طويلا , ثم عاد إلى مكانه وظل يتفرس فى مرة ثانيه , والقوم يرمون إليه بأبصارهم مترقبون فى انتظار ما سيقول . رميت إليه بطرفى وقلت له ..............

يتبع.. إن شاء الله............................


__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
رد مع اقتباس