عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 04/04/2009, 11h06
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,311
افتراضي

مـن بغـداد إلـى الـرقه

@ أخذت النجائب تشق أديم الصحراء , تطوى البيد طيا بعد أن عبرت شاطئ نهر دجله إلى ضفاف الفرات شمالا , تحمل على أقتابها حوالى خمسين رجلا وشابا من دعاة الفتنة والتمرد . كان فى مقدمة الركبان القاضى الشافعى بعد أن أدخلوه بينهم ظلما وافتراء بل جعلوه كبيرهم وزعيمهم زورا وبهتانا . أمر يدعو للدهشة والعجب وللحزن والأسى , أن يتهم الشافعى التقى الورع الطاهر أنه يقود جماعة من الضالين المضلين ويحرضهم على الفتنة والثوره . وهو الذى كان ينفر من مجرد ذكرهم , بل يرد شهادتهم مؤكدا أنهم فرقة ضالة مارقة خارجة عن الإسلام ..
مضى ركب السجناء الحزين فى طريقه مواصلا رحلته مرة أخرى من بغداد متجها إلى الرقه , والشافعى غارق فى همومه وما أكثرها , متدثر بأحزانه وما أثقلها . من ذلك فراق الأهل والأحباب وما لحق به من عسف وجور وهو يساق هذا السوق المهين رث الثياب حاسر الرأس إلى حيث لا يدرى أين ينتهى به المطاف , وهو الذى لم يلق من قبل إلا كل التوقير والحب والإحترام من شيوخه وأقرانه والمحيطين به . حتى سجانه أبا الصلح ذلك الرجل الجامد القسمات , كان لطيفا ودودا معه طوال أيام السجن حتى أنه بكى حرقة ولوعة لفراقه , وهو من قوم طبعوا على الشدة والغلظة فـى معاملاتهم . تذكره الشافعى وهو يحاول فى مرات كثيرة أن يضاحكه ويمد بساط الأنس معه ليخرجه من أسوار الكآبة وينتشله من سراديب الحزن . حتى زملاؤه لم يسلموا منه وهو يسلقهم بلسانه اللاذع ساخرا منهم لينتزع شبح ابتسامة من بين شفتى الشافعى . تذكره لما قال له ذات مره ........
ــ هل تعرف زميلى هذا , ذلك البائس المسكين الذى يجلس هناك فى آخر الممر , إبتلاه الله بولد أبله يسقيه المر كل يوم . بعثه يوما ليشترى له حبلا طوله ثلاثون ذراعا , سأله الولد ..... فى عرض كم ؟!. رد عليه وهو يكاد ينفجر من الغيظ ..... فى عرض مصيبتى فيك أيها الأبله المعتوه ..
أثناء ذلك لاحت نظرة من الشافعى إلى ثيابه الرثة الباليه التى أصابها ما أصابها من غبار الطريق وأدران السجن . رجع البصر إلى الأفق البعيد وأخذ يردد فى شجن بنبرة ملتاعة حزينه , إمتزجت فيها مرارة الحزن بلذعة ساخرة كأنه يواسى نفسه والأسى يغمر فؤاده .............
على ثيـاب لـو يبـاع جميعها .. بفلس لكان الفلـس منهن أكثرا ..
وفيهن نفـس لو تقـاس ببعضها .. نفوس الورى كانت أجل وأكبرا ..
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده .. إذا كان عضبا حيث وجهته فرى
فـإن تكـن الأيام أزرت ببزتـى .. فكم من حسام فى غلاف تكسرا ..
فى تلك الأثناء , بينما هو يكابد همومه ويجتر آلامه ماضيا مع أحزانه تحت لهيب شمس الصحراء القاسيه , كان "سالم" حامل رسالته يسأل حذرا بالقرب من ساحة الكعبة عن دكان على بن عبيد الله الأزدى , وهو دكان العطارة الذى ورثه عن أبيه . ولما وصل إليه سلمه رسالة ابن شقيقته بعد أن عرفه بمكانه وطمأنه على أحواله وأنه لا يزال على قيد الحياه . أخيرا عرف "على" مكان ابن شقيقته . كانت أسرته كلها حتى هذه اللحظة لا تعلم عنه شيئا ولا تعرف له مكانا , إلا ما علموه من امرأته حميده ومن كاتبه زيد لدى وصولهم للبلاد . من ناحيته أوصاه "على" أن يطمئن الشافعى على زوجته وولدها وابنتهما الرضيعة وأنهم قد وصلوا بسلام إلى أرض مكه , وأن يخبره أنه كان برفقتهم فى رحلة العودة كاتبه زيد بن عيسى وامرأته سعده وغلامه الذى يقوم على خدمته . وقبل أن يقوم من عنده راجعا إلى بغداد شد على يديه قائلا .............
ــ عندما أعود إلى البلاد إن شاء الله سأخبر أخى صلاح الدين بهذه الأخبار الساره . سيتولى هو إبلاغ ابن شقيقتك محمد بن إدريس كى يطمئن على امرأته وولده وابنته وغلامه . علمت من أخى صلاح الدين أنه كان قلقا عليهم جميعا ..
ودعه على شاكرا له حسن صنيعه وهو يتمتم فى نفسه قائلا .............
ــ وهل أصبر بعد أن عرفت مكانه إلى أن يبلغه أخوك صلاح الدين !. قال ذلك ثم أغلق دكانه وقفل راجعا إلى الدار وقد نوى فى نفسه أمرا ..

@ بعد أن قطع الركب رحلة طويلة مضنيه وصل السجناء إلى مدينة الرقه , فى يوم رق أديمه واعتل نسيمه كأنما الطبيعة الواجمة تعبر بهذه الكآبة عن استيائها واستنكارها لما يحدث للشافعى . لدى وصولهم أودعوا فى السجن مرة ثانيه حيث قضوا ليلتهم فى انتظار مصيرهم المحتوم ونهايتهم التى كانوا على يقين منها . وكما حدث فى سجن بغداد أعادوا الكرة مرة أخرى فى الليلة اليتيمة التى لبثها الشافعى فى سجن الرقه , أفردوا له زنزانة وحده لا يشاركه فيها أحد من السجناء . بذلك أمرهم قائد الحراس المرافق لهم من بغداد , هم يعاملونه على أنه المتهم الأول وأنه أخطر واحد فى جماعة السجناء ..
وفى تلك الليلة التى قضاها الشافعى وحيدا فى محبسه حدث ما لم يكن يتوقعه ولم يخطر له على بال أبدا , كأنما هى هدية السماء إليه فى هذا المكان الكئيب الموحش . فبينا هو متربع فى ركن الزنزانة رافعا يديه إلى السماء يدعو ربه ويناجيه والظلام يلف المكان من كل ناحية بغلائله السوداء الداكنه , إلا من شعاع خافت يسير من ضوء ينبعث من أحد المشاعل القريبة من زنزانته فى طرقة السجن لا يسمح له برؤية شئ أو تمييز أحد . إذا به يسمع على البعد وقع أقدام تدب على الأرض فى أناة وعلى مهل . أخذت تلك الأصوات تقترب شيئا فشيئا منه حتى توقفت أخيرا أمام باب زنزانته . إستمر الشافعى فى مناجاته غير عابئ بما يدور خارج محبسه , بعد أن أسلم أمره ووجهه لله وحده وهو يقول فى ضراعة وتبتل .......
...... اللهم إنى أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير . اللهم أنت غياثى بك أستغيث وأنت ملاذى بك ألوذ وأنت عياذى بك أعوذ , يا من ذلت له رقاب الجبابره وخضعت له أعناق الفراعنه . أعوذ بك من خزيك ومن كشف سترك ومن نسيان ذكرك والإنصراف عن شكرك . أنا فى كنفك وكلاءتك فى ليلى ونهارى وفى نومى وقرارى وفى ظعنى وأسفارى وفى حياتى ومماتى . ذكرك شعارى وثناؤك دثارى لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك . تشريفا لعظمتك وتكريما لسبحات وجهك أجرنى من خزيك ومن شر عبادك . واضرب على سرادقات حفظك وأدخلنى فى حفظ عنايتك وجد على منك بخير يا أرحم الراحمين , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم والصلاة على محمد النبى المرتضى وآله وسلم تسليما كثيرا ..
إنتهى من مناجاته وإذا به يسمع صوتا يقول من وراء الباب ..... آمين اللهم تقبل ..
ثم أردف صاحب الصوت قائلا فى لهجة مرحه ............
ــ إيه ... كم اشتقت كثيرا إلى سماع هذا الصوت الحبيب إلى نفسى ورؤية وجه صاحبه ..
لم تكن نبرات ذلك الصوت غريبة على أذن الشافعى . أنهى دعاءه ثم أطرق قليلا يحاول أن يجمع شتات فكره على عجل . إنه يقينا يعرف صاحب هذا الصوت , أجل نبراته ليست غريبة على مسامعه , وإن كانت آخر مرة إلتقى به منذ سنوات فى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . أخيرا تهلل وجهه بعد أن تذكره ........
ــ من !. صديق الصبا , الفضل بن الربيع ؟!.
قالها الشافعى وهو يكاد يطير من الفرحة بعد أن هم واقفا ليرى صاحبه واقفا أمامه , بعد أن سمح لحارس الباب أن يفتحه وكان قد منعه عند قدومه بحركة من يده إنتظارا لفراغ صاحبه من مناجاته لربه ..
تبادلا نظرات خاطفة بعد أن تبددت ظلمة المكان قليلا على ضوء مشعل يحمله الحارس فى يسراه . بعدها ضمهما عناق طويل سالت فيه عبراتهما معا فى شموخ وكبرياء والفضل يربت على كتفى صاحبه يطيب خاطره ويواسيه فى محنته . جلس إلى جواره على حصير السجن قائلا له بعد أن صرف الحارس بحركة جانبية من رأسه .......
ــ لا تحزن يا صاحبى ولا تبتئس إنه إبتلاء من الله ومحنة عارضة لا تلبث أن تزول بإذن الله ..
رد الشافعى فى أسى ...........
ــ وكفى بالله وكيلا . يعلم الله أنى برئ من تلك التهمة الشنعاء , إنها فرية دنيئة لفقت لى زورا وبهتانا . لقد أدخلونى فى قوم أعوذ بالله أن أكون منهم ..
ــ إنى على ثقة أنك تقول الحق يا صاحبى , لكنى فى عجب من شدة تحامل هذا الرجل عليك وكراهيته الشديدة لك , كأنه ينتقم لثأر قديم بينكما ..
ــ أى رجل تعنى ؟!.
ــ حماد البربرى أمير اليمن ..
ــ أين رأيته ؟!.
ــ كنت حاضرا مجلس أمير المؤمنين وسمعته بنفسى وهو يشكوك إليه . لاحظت من طريقة كلامه ولهجته أنه يحمل عليك كثيرا وأنه يكن كراهية شديدة لك ..
ــ أجل أجل هو ذاك تماما أيها الصديق الحميم تلك حكاية قديمة . سأعرف كيف أرد كيده إلى نحره وأفند كل ادعاءاته التى ينسبها بالباطل إلى دوما ..
ــ لا أكتمك سرا أنى تحدثت فى أمرك بالأمس مع أمير المؤمنين الرشيد لما علمت بمقدمك إلى هنا وأنك فى الطريق مع باقى جماعة اليمن ..
ــ هل لى أن أعرف منك ما قاله لك أمير المؤمنين ؟!.
ــ لا أخفى عليك أنه كان غاضبا غضبا شديدا مع حرصى على اختيار الوقت المناسب الذى أفاتحه فيه فى هذا الأمر وهو صافى الذهن ناعم البال . كما تعلم قضية الخلافة هى قضية القضايا عند بنى العباس ..
ــ أجل أجل أعرف أنهم لا يتصورون أن ينازعهم أحدا فى أمرهم هذا . على الأخص خصومهم الألداء أبناء عمومتهم الطالبيين , المهم هل استمع إليك ؟!.
ــ كلمته عنك وذكرته بما سبق أن قلته له فى شأنك وما كان من أمرك فى المدينة قبل سنوات أثناء رحلة الحج . ولما ألححت عليه فى الرجاء وعدنى أن يستمع إلى دفاعك فى نهاية المحاكمة عقيب فراغه من محاكمة سائر السجناء ..
فى تلك الأثناء كان على الأزدى أصغر أخوال الشافعى وأقربهم إلى قلبه ينهب الطريق من مكة إلى العراق للبحث عن ابن شقيقته الشافعى بعد أن أجمع أهله أن يوكلوه عنهم فى هذه المهمه . لدى وصوله إلى بغداد أخذ يتحسس أخباره حتى علم أنه رحل مع باقى السجناء إلى الرقة منذ يومين . لم ينتظر , عزم على مواصلة رحلته شمالا لايلوى على شئ ..

يتبع.. إن شاء الله............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 19/05/2011 الساعة 17h57
رد مع اقتباس