سكت برهة ثم أشار لامرأته قائلا ..............
ــ أتذكرين حكاية أم شريك الثقفيه ؟.
ردت سعده قائلة .............
ــ أم شريك . آه .. أليست هى أرملة خليد بن مطرف ؟.
ــ بلى إنها هذه المسكينه , ألا زلت تذكرين حكايتها ؟.
ــ كيف لأحد أن ينساها هل مثلها تنسى حكايتها ؟. لقد ظلت مأساتها حديث نجران زمنا بعد أن مات زوجها وهى لا تزال حاملا فى شهرها الأخير فى ولدها الذى أنجبته بعد وفاته مباشرة . تركها تصارع قوى البغى وحدها فى بحر الحياة دون سند أو معين ..
ــ ولم يترك لها من متاع الدنيا إلا دارا صغيرة تأويها هى ووحيدها , يعيشان تحت سقفها فى دعة وسلام ..
ــ مع قطعة أرض تقوم على زراعتها ..
أكمل زيد قائلا .............
ــ إلى أن ظهر فى حياتها ذلك الرجل الظالم اللئيم , رأس الفتنة والفساد الوليد بن جبير المدانى . إستغل نفوذه وسطوته , وأنه سيد قومه , وضعف الأرملة ووحدتها , وحاول بأساليبه الدنيئة أن يستلبها أرضها التى تجاوره حتى يوسع داره ..
سألته بدر ...............
ــ سمعت يا أبت أنه عرض عليها أن يشتريها منها فى بادئ الأمر ؟.
ــ أجل يا ابنتى , إلا أنها أبت وبإصرار أن تبيعه إياها , مع أنه عرض عليها مبلغا كبيرا من المال هى فى أشد الحاجة إلى أقل القليل منه . لكنها أصرت على عدم البيع , والتفريط فى أرضها التى ورثتها عن زوجها ..
عادت تسأله .............
ــ لم لم تستجب له يا أبت , وتتقى بأسه ..
ــ منعها وفاؤها لذكرى زوجها , كانت حريصة على هذه الأرض التى يذكرها ترابها به , والتى ارتوت سنوات من قطرات عرقه , وبالأيام التى عاشتها معه فيها . كانت محبة له وفية لذكراه , حتى أن ذلك الظالم لما عرض عليها أن يعوضها أرضا غيرها , أبت ذلك أيضا ..
عقبت بدر قائلة ................
ــ بالطبع لما لم ينفع معها إغراء المال , لجأ لأساليبه الوضيعة التى يتقنها هو وأمثاله ..
أكملت سعده ...............
ــ أجل يا ابنتى رفع آنذاك دعوى ملكية لهذه الأرض , وقام بتزوير عقد من زوجها له مدعيا أنه باعها له قبل أن يموت . وجاء بشهود زور من أعوانه يشهدون لصالحه بصحة العقد وسلامة البيع ..
ــ هذه هو ما حدث تماما , وحكم القاضى وقتها بهذه البينة القاطعة بتمكين هذا الظالم من أرض الأرملة المسكينه . لم تفلح صرخاتها أو توسلاتها فى ردها إليها . وقتها لم يجرؤ أحد من أهل المدينة أن يتقدم للشهادة معها ..
قالت سعده ................
ــ من ذا الذى يجرؤ على مواجهة هذا الظالم ومناصبته العداء ..
ــ لكن ربك يمهل ولا يهمل , فما كان مستحيلا بالأمس حدث اليوم يا سعده ..
ــ كيف يا زيد ؟. إحكى لنا بالله عليك ..
ــ بعد أن طردت من أرضها لجأت للشكوى إلى الولاة والأمراء وطرقت جميع الأبواب دون جدوى . الرجل نفوذه كبير والكل يحسب حسابه , أخيرا فوضت أمرها إلى الله واستسلمت لقضائه . إلى أن سمعت بالقاضى محمد بن إدريس وأحكامه العادله وأنه لا يجامل ولا يصانع ولا يخشى من أحد ..
تساءلت بدر فى سعاده ..............
ــ هل تعنى أنها تقدمت بشكوى يا أبت ؟.
ــ أجل يا بدر , قامت بتجديد دعواها وتقدمت بها إلى ديوان القضاء منذ أيام , وفى التو أمر القاضى الشافعى قائد شرطة القضاء بإحضار المدعى عليه للمثول أمامه . واسمعوا ما حدث فى هذه الجلسة التى جرت صبيحة اليوم علانية على الملأ بعد أن طلب القاضى الشافعى مثولهما أمامه سألها ..................
………………
ــ أنت أم شريك الثقفيه ؟.
ــ أجل سيدى القاضى ..
ــ وأنت .. ألست الوليد بن جبير ؟.
ــ بلى أنا الوليد بن جبير المدانى سيد قومى بنو عبد المدان وكبيرهم ..
ــ هيه .. إرفعى إلينا دعواك يا أم شريك , أخبرينا بكل ما عندك ؟.
ـ سيدى القاضى , لى قطعة أرض ورثتها عن زوجى الراحل , كنت أزرعها وأعيش أنا وصغيرى هذا على ما أجنيه من محصولها القليل من قمح أو شعير أو بقل . أبيعه وأشترى بثمنه ما نحتاجه من طعام أو كساء , وندفع ما علينا من خراج أو غير ذلك , إلى أن أتى هذا الرجل , الظالم , الكذاب , الذى لا يخاف الله , الذى .......
قاطعها الشافعى ..............
ــ على رسلك يا امرأه , تكلمى فى دعواك فحسب , لا تعرضى بخصمك فإن هذا مما لا يجوز فعله فى مجالس القضاء , إياك أن تعودى لمثل ذلك , أفهمت ؟.
ــ عفوا سيدى القاضى , لا تؤاخذنى , إنما دفعنى لما قلت ما لاقيته من عنت وهوان . إن هذا الرجل دأب على تهديدى والتحرش بى , يريدنى أن أبيعه رغما عنى أرضى التى ورثتها عن زوجى وأعيش على خراجها . فلما أبيت وأصررت على عدم بيعها له , لجأ إلى الحيلة والكذب وادعى ظلما أن زوجى باعها له قبل موته , وجاء بمن يشهدون معه زورا وبهتانا , حتى أمكنه أن يحصل على حكم باطل ظالم بأحقيته فى الأرض ..
قاطعها بحزم للمرة الثانية ................
ــ حسبك أيتها المرأه , لتعلموا جميعا أيها الناس أن قضاء الإمام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا . قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" [ إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه . فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من نار ] صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" هل أدركتم ما يعنيه رسولنا العظيم أيها القوم ؟.
همهم الحاضرون فعقب فى الحال ..............
ــ هذا الحديث , يدل على أن الأئمه إنما كلفوا القضاء على الظاهر , والحكم على الناس يجئ على نحو ما يسمع منهم مما لفظوا به , لا بما غاب عنه منهم , فأمر هذا موكول لأنفسهم . ولو كان الأمر على غير ذلك لكان أولى الناس به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أفهمت يا امرأه . أسمعتم أيها الناس ؟.
إنتهى من كلامه الذى وقع فى نفوس الحاضرين موقعا عظيما ثم التفت للمدعى عليه وسأله .............
ــ ما قولك أيها الرجل , فى هذه الدعوى ؟.
أجاب فى نعومة وخبث محاولا التطف والتجمل فى منطقه .............
ــ سيدى القاضى كل ما تقوله هذه الأرملة محض اختلاق وكذب من أوله إلى آخره . والأرض التى تدعى كذبا أنها ورثتها عن زوجها إنما هى أرضى أنا , وصارت ملكا لى بعد أن اشتريتها من زوجها خليد بن مطرف رحمه الله ودفعت له ثمنها كاملا ..
قاطعه الشافعى متسائلا ..............
ــ وهل تسلمت الأرض منه ؟.
ــ سيدى القاضى , لقد أدرك الموت زوجها قبل أن يسلمها لى . ما ذنبى أنا فى أنه مات قبل أن أتسلمها منه ..
ــ هيه , ثم ماذا ؟.
ــ لما ذهبت إليها أطالب بما هو حق لى , إدعت عدم معرفتها بأمر هذا البيع وأبت كل محاولة منى ومن غيرى أن تمكننى من العين موضع النزاع , إضطررت لمقاضاتها وجاء الحكم لصالحى واستلمت الأرض فعلا وأقمت عليها بناء . غير أنها عادت لمزاعمها مرة ثانية وأخذت تردد من جديد أوهامها الباطلة وتطعن فى صحة البيع ..
ــ كم أعطيت زوجها ثمنا للأرض ؟.
ــ مائتى دينار كامله , سلمتها له فى يده أمام الشهود , عدا ونقدا ..
ــ تحلف اليمين على صحة روايتك وصدق قولك ؟.
ــ لم أحلف , ومعى البينة والدليل على صدق ما أقول ..
ــ أين هى هذه البينه ؟.
ــ إليك يا سيدى القاضى العقد الذى اشتريت بموجبه أرض خليد بن مطرف وعليه توقيعه وأسماء الشهود . والبيع متحقق فى هذا العقد بالإيجاب والقبول ..
ــ ما تقولين فى هذه البينة يا أم شريك ؟.
ــ حسبى الله ونعم الوكيل , العقد مزور . كم من مرات صرخت حتى بح صوتى أن العقد مزور ..
ــ هل لديك بينة أو شهود على ما تقولين ؟.
ــ سيدى القاضى , كل الناس يعلمون أنى صادقة فيما أقول وأن هذا العقد باطل وأن زوجى مات ولم يبع أرضه لأى أحد ..
ــ وهؤلاء الشهود الذين شهدوا على العقد ؟.
ــ سيدى القاضى , إنهم من أعوانه وأتباعه . إنهم شهود زور وشهادتهم باطله والناس كلهم يعلمون ذلك ..
ــ ما الذى منع الناس إذن عن شهادتهم معك ؟.
ــ ليتك تسألهم بنفسك , ربما تنحل عقدة ألسنتهم وينزاح الخوف الذى خيم على نفوسهم وعشش فى قلوبهم وباض وفرخ . ألم تقم باختيار هؤلاء السبعه الذين يجلسون من حولك ليكونوا أعوانا لك . أليسوا هم أهل الرأى والصلاح فى الجماعه وعليهم تقع مهمة النظر فى أحوال الشهود . سلهم عن هؤلاء الشهود , وأنا راضية بما يحكمون به حتى لو جاء لغير صالحى ..
ــ بما أنك تنكرين البيع , عليك حلف اليمين على صدق دعواك ..
ــ أحلف يا سيدى , أحلف ..
ران على القاعة صمت عميق , حبس القوم أنفاسهم بينما عيونهم على الشافعى فى انتظار ما سيقوله . أخيرا أمر بإحضار الشهود الذين شهدوا على عقد البيع وكانوا ثلاثة . فلما مثلوا بين يديه التفت إلى الرجال الموكلين بمعرفة أحوال الشهود وسألهم .....
ــ أتعرفون هـؤلاء ؟.
إنبرى أوسطهم المتحدث باسمهم .........
ــ أجل نعرفهم ..
ــ ما تقولون فيهم ؟.
أخذوا يتشاورون فيما بينهم لحظات ثم قام أوسطهم واقفا وقال .............
ــ إنهم ليسوا عدولا ولا نطمئن لشهادتهم ..
حبس الجالسون أنفاسهم حتى جاءهم صوت الشافعى موجـها سؤاله للمدعى عليه ....
ــ ألديك شهودا آخرين ؟.
أجاب متململا متبرما ..........
ــ لا . هؤلاء هم شهودى ..
سرت همهمة فى القاعة لم يقطعها إلا صوت الشافعى الذى قال آمرا ............
ــ تخلى القاعه ولا يبقى فيها أحد إلا كاتب القضاء , ويفرق بين الشهود , ثم يدخلون على فرادى , كل فى دوره ………………
واصل زيد روايته لامرأته وابنته قائلا ...........................
ــ أخليت القاعة من الحاضرين , وتم التفريق بين الشهود , حيث جلس كل واحد منهم فى مكان وحده بعيدا عن الآخر ..
سألت سعده ..............
ــ ما الذى دعاه لأن يفعل ذلك بعدما شهد أهل الصلاح والمشوره وأخبروا برأيهم فى الشهود مبطلين شهادتهم ؟.
ــ لم يغب عنى بالطبع أن أسأله عن هذا الأمر ..
ــ كيف ؟.
ــ فى نهاية الجلسة سألته فى ذلك فأجابنى ………………
ــ فعلت ذلك يا زيد حتى أستيقن بنفسى من كونهم ليسوا عدولا , وأن شهادتهم كانت ملفقة . وما كنت لأفعل ما فعلت من التفريق بين الشهود وسؤالهم كل على حده , لو أن أهل الصلاح والمشورة أقروا بصحة شهادتهم وأنهم شهود عدول . وعلى أى قاض أن يفعل ذلك إذا ثبت أن الشهود مجرحين ودفع ببطلان شهادتهم ………………
عادت سعده تتساءل ............
ــ وكيف أمكنه أن يتحقق من بطلان شهادتهم بعد أن فرق بينهم . هل عرفت منه ذلك ؟.
ــ أجل عرفت , كان يسأل كل واحد منهم وحده عن شهادته واليوم الذى شهد فيه الواقعه والموضع الذى شهد فيه ومن حضره وهل جرى ثم كلام وأسئلة أخرى . فعل كل ذلك وهو يحاور كل واحد منهم ويناوره فى براعة كى يستدل إن كانت فى شهادته عورة أو أن هناك اختلافا بين أقواله وأقوال غيره من الشهود ..
ــ وما الذى انتهى إليه ؟.
ــ بعد أن ناقش الشهود فى براعة وذكاء كشف تضارب أقوالهم وفساد شهادتهم التى شهدوا بها من قبل وتأكد لديه صدق دعوى أم شريك ..
ــ وكيف جاء حكمه بعد كل هذا ؟.
ــ حكم بتعزير الشهود ورد الأرض إلى صاحبتها . لم يكتف بذلك بل أمر قائد شرطة القضاء بتنفيذ الأحكام فى الحال وتمكين الأرملة المسكينة من أرضها المغصوبه كما كانت بعد إزالة ما أقامه عليها من بنيان ..
ــ ياه .. بعد كل هذه السنين تعود أرضها إليها .. حقا ما ضاع حق وراءه مطالب . دولة الظلم ساعه ودولة الحق إلى قيام الساعه ..
إنبرت بدر للسؤال ............
ــ وما الذى فعله يا أبت , هذا الظالم الغاصب الوليد بن جبير ؟.
ضحك زيد قائلا ..............
ــ لم يجد أمامه يا ابنتى بدا من الإمتثال والرضوخ لحكم القاضى الشافعى . لكنه خرج من قاعة القضاء وهو يرغى ويزبد , ويهرف بكلام فارغ يحمل فى طياته معانى التهديد والوعيد ..
يتبع.. إن شاء الله ............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها