177 هجريه الرشيد فى الحجاز @ بدا الرشيد مسرورا فى أوج سعادته , بعد أن أنهى وزيره الفضل بن يحى البرمكى الفتنة بسلام دون إراقة دماء من هنا أو هناك , ورجع من بلاد الديلم بصحبته غريمه يحي بن عبد الله الطالبى , بعد تمكنه من إقناعه بالرجوع عن عصيانه , وأن يحل فى البلاد ضيفا كريما ومواطنا صالحا , إستطاع مد بساط الأمل له ووعد بحياة هادئة رغيده , ينعم فيها بكل سبل المتعة والراحه والهناء .. إنهما أبناء عمومة جدهما عبد المطلب بن هاشم ..
ولدى عودته من مهمته توجه فى التو حيث الرشيد وأخبره بما كان ......
ــ خرجت يا مولاى فى خمسين ألف رجل بالخيل والعتاد يتقدمهم صناديد القاده , ولما وصلنا إلى طالقان الرى فى مكان شديد البرودة كثير الثلوج يقال له "أشب" , مكثنا فيه أياما أرسلت خلالها مبعوثا بكتاب منى إلى صاحب الديلم وأجزلت له العطايا كما أمرتنى , حتى يسهل لنا خروج الطالبى والسعى لإقناعه بقبول الصلح , فلما أتانى أعطيته كتاب الأمان والحمد لله أن وفقنا إلى إخماد الفتنة فى سلام دون الحاجة إلى قتال وإراقة دماء ..
ــ أحسنت صنعا .. الحمد لله الذى طهر يدى من دمه , ما أكثر الدماء التى ارتوت بها رمال الصحراء طيلة العقود الماضيه فى حروب جرت بين أبناء العمومه .. الحمد لله .. المهم أين هو الآن ؟.
ــ أكرمت وفادته و،زلته فى دارى ضيفا عزيزا كريما , ريثما أدبر له ولمن معه فى القريب العاجل إن شاء الله دارا خاصة تكون لائقة بهم ..
ــ شرحت صدرى أيها الوزير .. فى الغد إن شاء الله نلقاه هنا ..
صمت برهة نظر بعدها للفضل قائلا وهو يشير بسبابته ......
ــ أظننى لست فى حاجة لأحذرك , ضعه تحت المراقبة الدائمه , لا تدعه يغيب عن ناظريك لحظة واحده .. أنا أعرف الناس بأبناء العم , ليس هينا عليهم الرجوع عن عنادهم , أو نسيان حلم الخلافة والحكم ..
كان يحلو للرشيد بعد تلك الحادثة أن يردد أبيات من قصيدة نظمها أحد الشعراء المداحين فى حق الفضل بن يحى البرمكى ....
ظفرت فلا شلت يد برمكية .. رتقت بها الفتق الذى بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التآمه .. فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم ..
واستمر الوزير الفضل بن يحى يخدمه بنفسه ويرعاه طيلة ضيافته فى قصره , قائما على شئونه ومصالحه مدة من الزمن , أبى خلالها أن يدع أحدا سواه يقوم على خدمته , إلى أن صار يحيا آمنا لا يعكر صفو حياته كدر فى دار كبيرة تليق بقدره ومنزلته تقع على ضفاف دجله , يعيش فيها مع أهله وبعض أنصاره المقربين الذين أتوا معه من الديلم ..........
@ إستتب الأمر للرشيد واطمأنت نفسه بعد خمود الفتن والقلاقل حول النزاع على خلافة المسلمين , لذلك قرر أن يذهب للحج هذا العام , كان الرشيد يحج عاما ويغزو عاما , ظل على ذلك النهج مدة خلافته إلى أن لقى ربه , وحج مرة ماشيا على قدميه , قال فيه أحد المادحين :
فمن يطلب لقاءك أو يرده .. ففى الحرمين أو أقصى الثغور
وما حاز الثغور سواك خلق .. من المتخلفين على الأمور ..
ولم يكن حج البيت وحده دأب الرشيد , بل كان محافظا على كل التكاليف فريضة كانت أم نافله , وله كل يوم مائة ركعه يصليها فى جوف الليل ..
وفى هذه الرحله وهى الخامسه إلى أرض الحجاز خرج ومعه كعادته جمع من الفقهاء والقضاه وأبنائهم , من بينهم هذه المره قاضى القضاه أبو يوسف بن يعقوب الأنصارى , ومن رجاله المقربين إختار أن يكون معه الفضل بن الربيع ..
وبينما ترابط قافلة الحجيج فى مكه , وقد انتهوا من آداء مناسكهم وبدأوا فى الإستعداد لرحلة المدينة المنوره , إذ فوجئ الفضل بن الربيع بالرشيد يدخل عليه خيمته , هب واقفا وقد أخذته الدهشه .......
ــ مولاى أمير المؤمنين , مرحبا بك , تأتى بنفسك إلى خيمتى !. , لو أرسلت إلى فآتيك !..
رد الرشيد وقد بدا شاردا مهموما ......
ــ قد حاك فى نفسى يا أبا العباس شئ , فانظر رجلا صالحا فى مكة نذهب إليه , نسأله النصيحة والموعظه قبل أن نشد الرحال إلى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ كما تحب يا مولاى , هنا فى مكه كثير من الصالحين أهل الورع , لكنى أعرف منهم رجلا تقيا ورعا صالحا , لا مثل له فى البلاد كلها ..
ــ من يكون ؟.
ــ الفضيل بن عياض , شيخ الزاهدين وإمام أهل التقوى ..
ــ أوتعرف داره ؟.
ــ أجل يا مولاى .. ذهبت مرات إليه ..
ــ هيا بنا إليه .. الآن ..
@ أخذا يقطعان الطريق سيرا على الأقدام وهما متخفيان عن العيون كى لا يتعرف عليهما أحد من أهل مكه , حتى أتيا أخيرا على دار عتيقة , وهى الدار التى أتاها الشافعى قبل اثنى عشر عاما مع خاله , وقبل أن يهم الفضل بقرع الباب , تناهى إلى أسماعهما صوته وهو يقرأ القرآن فى صلاه , كان الصوت آتيا من حجرة أعلى الدار , إستوقفه الرشيد بإشارة منه وانتظرا حتى يفرغ من صلاته , وبعد طرقة خفيفة جاءهما صوته من داخل الدار ........
ــ من بالباب ؟.
أجابه الفضل ........
ــ أمير المؤمنين هارون الرشيد ..
رد وهو لا يزال داخل الدار ...........
ــ مالى ولأمير المؤمنين .. ليس لى به حاجه ..
أجابه الفضل مستنكرا ............
ــ سبحان الله .. له عليك حق الطاعة يا شيخ .. أليس له طاعة عليك ؟.
جاءهما صوت أقدام الشيخ نازلا على مهل من على سلم خشبى , فتح الباب ثم استدار صاعدا درج البيت دون أن يسلم عليهما , وفى ركن من أركان خلوته جلس صامتا بعد أن أطفأ السراج وعم المكان ظلام دامس .. أخذ الرشيد ووزيره يبحثان فى الظلام عن كفه ليسلما عليه , سبقت كف الرشيد إلى يد الفضيل الذى عاجله بقوله وهو يتناول راحة يده مسلما عليه ........
ــ يا لها من كف .. ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله ..
تمتم الفضيل وهو يتأوه فى سره ...... آه .. البداية هكذا إذن , والله ليكلمنه الشيخ الليلة بكلام نقى من قلب تقى ..
قال الرشيد .....
ــ هيا لما جئناك له يرحمك الله ..
ــ لأى شئ جئتما ؟.
ــ الموعظة والنصيحه ..
ــ إسمع يا خليفة المسلمين .. لما ولى الخلافة عمر بن عبد العزيز دعا سالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوه وقال لهم ..... إنى قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا على .. فعد الخلافة بلاء وعددتها انت وأصحابك نعمه ..
سرت رعدة شديدة فى جسد الرشيد رغما عنه وهو يسأله بصوت خافت .......
ــ صدقت والله .. وبماذا أجابوه يا شيخنا ؟.
ــ قال له سالم .... إن أردت النجاة من عذاب الله , صم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت .. وقال له محمد بن كعب .... ليكن كبير المؤمنين عندك أبا وأوسطهم اخا وأصغرهم ولدا ..
ــ ورجاء بن حيوه ؟.
ــ قال له .... أحب للمسلمين ما تحب لنفسك , واكره لهم ما تكره لنفسك ..
ــ وأنت يا شيخنا الزاهد , ما تقول لى ؟.
ــ أقول لك .. هل معك مثل هذا , أو من يشير عليك بمثل هذا ..
غلب الرشيد البكاء والشيخ يكلمه , وأخذ بكاؤه يشتد وصوت نحيبه يعلو , حتى ان وزيره الفضل شرع برأسه مستاء وهو يقول للشيخ مع تقديره لمنزلته وعلو شأنه .........
ــ مهلا يا شيخنا , رفقا بأمير المؤمنين ..
ــ تقتله أنت وأصحابك يا ابن الربيع وأرفق به أنا !. يا خليفة المسلمين جدك العباس جاء رسول الله "صلى الله عليه وسلم" طالبا منه أن يوليه الإماره فقال له "صلى الله عليه وسلم" ... "إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامه , فإن استطعت ألا تكون أميرا فافعل" ..
إشتد بكاء الرشيد ونحيبه وهو يقول له راجيا ........
ــ زدنى يرحمك الله , زدنى ..
ــ يا حسن الوجه , أرأيت الناس وهم يطوفون بالبيت العتيق , وهم يسعون بين الصفا والمروه ؟.
ــ أجل , أجل رأيتهم ..
ــ كل واحد منهم سوف يسأل عن نفسه يوم القيامه , أما أنت ستسأل عنهم جميعا , فإن استطعت ان تقى هذا الوجه نار جهنم , فافعل .. وإياك أن تمسى أو تصبح وفى قلبك غش لأحد من رعيتك ..
سأله باكيا ......
ــ أعليك دين أيها الشيخ ؟.
ــ أجل ..
ــ لمن ؟.
ــ دين لربى لم يحاسبنى بعد عليه , الويل لى إن سألنى أو ناقشنى , والويل إن لم ألهم حجتى ..
ــ ليس هذا ما أسأل عنه , بل أسأل عن ديون العباد ..
ــ لم يأمرنى ربى بهذا .
ــ على أية حال , هذه ألف دينار , خذها وأنفق منها على عيالك وتقو بها على عبادتك ..
ــ سبحان الله .. أدلك على طريق النجاه , تكافئنى بعرض زائل , إيه , سلمك الله وهداك ..
قام الرشيد ووزيره الفضل وبينما هما على عتبة باب الدار سمعا صوت امرأة وكانت زوجة الشيخ تقول له فى غيظ وحنق ملوحة بكلتا يديه فى وجهه .......
ــ يا رجل , هل جننت , ألم يكفك ما نحن عليه من مسغبة وضيق فى العيش حتى ترد مالا بعثه الله لك , ألف دينار يا رجل , ترد ألف دينار ودارك ليس فيه بر ولا دقيق , إننا لم نر درهما ولا دانقا ولم توقد فى دارنا نار منذ أيام , وأنت ترد ألف دينار , أليست تلك حماقة وقلة عقل , يبدو أنك كبرت وخف عقلك ..
تبادلا نظرات ذات معنى , قال الرشيد بعدها للفضل هامسا .......
ــ ما قولك , نعيد الكرة ربما يقبل المال ؟.
ــ أجل يا مولاى ..
أدرك الشيخ ما نواه الرشيد فغادر القاعة مسرعا وولى مغاضبا متخذا مكانه على سطح الدار , حاول الرشيد بعد أن لحق به أن يكلمه أو يسترضيه قبل أن يغادر الدار , لكنه أطبق فمه وقد أعطاه ظهره , إلى أن خرجت عليه جارية سوداء عابسة الوجه قالت للرشيد فى جفاء وغلظه لا يليقان بمثله .........
ــ يا هذا , قد آذيت الشيخ فانصرف يرحمك الله ..
وفى طريقهما خارج الدار همس الرشيد لوزيره فى لهجة حازمه .....
ــ إذا دللتنى على رجل , فدلنى على مثل هذا الشيخ الزاهد , إنه سيد المسلمين , غدا نتحرك بالحجيج صوب مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .........
@ لم يشعر بالسعادة تغمره كما شعر بها وهو متخذ طريقه ميمما صوب خيمة الرشيد مستغرق فى حديث نفس ............ سبحان الله .. والله إنه لأمر عجيب .. حقا صغيرة تلك الدنيا .. لكنى كنت واثقا ساعة ما افترقنا , أنى سوف ألقاه يوما .. مصادفة عجيبه جمعتنى بزميل الصبا بعد كل هذه السنين .. حقا تغيرت ملامحه كثيرا إلا أن نبرات صوته كما هى , إنها لم تفارق أذناى بعد , وها أنا أستمع إلى صوته الدافئ الذى تداعب كلماته الآذان كنسمات صبا عطرتها أزهار الياسمين وأوراق الريحان .. صدق من قال .. وقد يجمع الله الشتيتين بعدما .. يظنان كل الظن ألا تلاقيا .. تا الله لأحدثن أمير المؤمنين وأشرح صدره بذكر ما رأيت وسمعت اليوم , فلا أحب إليه من معرفة أخبار أهل العلم وسماع حكاياتهم ..
ولما دخل الخيمة وألقى السلام ابتدره الرشيد ............
ــ من !. الفضل بن الربيع حاجبنا وابن حاجبنا , وعليك السلام يا أبا العباس , أرى البشر والسرور فى صفحة وجهك , ماذا وراءك , أية ريح طيبة أتت بك ؟.
ــ أعز الله أمير المؤمنين وأعلى ذكره فى العالمين , جئت إليك بما يسرك ويشرح صدرك , وتقر به عينك ..
ــ تكلم يا ابن الربيع , لقد أثقلتنا الهموم وزادت علينا المواجع , هات ما عندك ..
ــ رأيت اليوم يا مولاى رجلا قرشيا مطلبيا من ولد شافع , لم أره منذ زمن ..
ــ ما شأنه ؟.
ــ إن له قدما راسخة فى العلم ..
ــ قلت إنك لم تره منذ أعوام , أوتعرفه ؟.
ــ أجل يا مولاى , كنا نحفظ القرآن سويا , سنوات جمعتنى به فى رحاب بيت الله الحرام فى كتاب شيخ مكة ومقرئها الكبير إسماعيل بن قسطنطين رحمه الله ..
ــ هيه , قص علينا كيف رأيته وتعرفت عليه بعد كل هذه السنين ..
ــ كنت خارجا من مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فرأيت جمعا من الناس يتحلقون حول رجلين , دفعنى الفضول أن أذهب إلى هناك لأنظر ما يجرى بينهما , ولما صرت قريبا منهما رأيت مناظرة حامية ونقاشا دائرا , فلما اقتربت أكثر أخذت أدقق النظر وأرهف السمع لما يدور , لم أكن أعلم حتى اللحظه أن أحدهما هو بعينه صديق الصبا محمد بن إدريس الذى فارقته منذ أعوام طويله ..
ــ وهل عرفت الرجل الآخر ؟.
ــ نعم , رجل من الكوفه عرفت فيما بعد أن اسمه الحسن بن زياد .. لكن شتان ما بينهما يا مولاى ..
ــ إيه يا ابن الربيع , صدقت , لم لا يكون صديقك القرشى كما تقول , ألم تسمع قول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .... "إن عقل الرجل من قريش عقل رجلين" ..
سكت قليلا ثم أردف ............
ــ هل تذكر ما سمعته مما دار بينهما ؟.
ــ أجل , كلمة كلمه , سأحكى لك يا مولاى ما أدركته مما جرى بينهما , سمعت صديقى الشافعى يسأله ...........................
ــ ما تقول فى رجل قذف محصنة وهو فى صلاه ؟.
ــ تكون صلاته فاسده ..
ــ فما حال طهارته ..
ــ كما هى , بحالها ..
ــ وقذفه المحصنه ؟.
ــ لا ينقض طهارته ..
ــ فما تقول إن ضحك فى صلاته ؟.
ــ بطلت صلاته ..
ــ وطهارته ؟.
ــ تبطل كذلك ..
ــ معنى كلامك أن قذف المحصنات أيسر من الضحك فى صلاه ؟.
صمت قليلا ثم عاد يسأل محاوره الذى بدا حانقا ..............
ــ ما تقول أيها الرجل فى صلاة الخوف , كيف يصليها الرجل ؟.
ــ صلاة الخوف منسوخة , لم تعد واجبة على المسلمين ..
ــ كيف ذلك ؟.
ــ لقول الله عز وجل فى سورة النساء .... "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاه ... الآيه" ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" لم يعد فيهم , خرج من بين أظهرهم , فلم تعد الصلاة واجبه ..
ــ يا رجل , أما سمعت قول الله تعالى فى سورة التوبه .... "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ... الآيه" هل يا ترى نسخ حكم الزكاة أيضا لأن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لبى النداء ورحل إلى جوار مولاه !.................
@ إستمر الفضل يحكى ...........
ــ هذا يا أمير المؤمنين ما حضرته من تلك المناظره وسمعته من كلامهما ..
ضحك الرشيد وهو يسأل وزيره .......
ــ ماذا فعل الكوفى بعد أن أفحمه صاحبك وأقام الحجة عليه ؟.
بادله الفضل الضحك قائلا ........
ــ وثب من مكانه كاللديغ وولى مغاضبا وهو يتمتم بكلمات لم أتبينها ..
ــ هيه , لم تحدثنى بما فعلت مع صديق الصبا ..
ــ أسرعت نحوه فى الحال بعد انصراف القوم , كان لقاء حارا , تعانقنا وسالت فيما بيننا العبرات وظللنا نتجاذب أطراف الحديث لساعات طويله مرت كأنها لحظات , ما أحلى لقاء الأحبة بعد طول غياب ..
ــ وهل يا ترى تذكرك عندما رآك مقبلا عليه ؟.
ــ فى البداية لم يعرفنى , لقد مضى على فراقنا نحو عشرين عاما , كنا صبية أيامها .. لكنى لم أتركه هذه المره إلا على وعد منه أن نلتقى فى بغداد ..
ــ والله يا أبا العباس لولا أننا أعددنا عدة الرحيل اليوم بعد صلاة العصر لأرسلت فى طلبه لأسمع منه , صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .... "قدموا قريشا ولا تقدموها فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض" .. أكثر الله فى أهلى مثله ..
يتبع .. إن شاء الله ............................
179 هجريه ..... رحلة الجنوب @ كان وداعا حارا , ما أقساها لحظات الفراق والوداع , كأنها دهر وما أشقها على النفس حين تودع الأحباب والأهل , سالت من المآقى العبرات وامتزجت وهما يغيبان فى عناق طويل قبل أن تفارق أم حبيبه ولدها وفلذة كبدها واملها فى الحياه , عائدة إلى وديان مكه تعيش هناك بين أهلها , وقد اطمأنت عليه فى دار الزوجيه , وعدها ان يزورها كل عام فى دارهم الجديده التى سكن فيها أخواله بذى طوى , لم تنس قبل أن تودعه أن تجدد له الوصية بامرأته حميده وأن يضعها فى عينيه مذكرة إياه بنسبها الشريف الطيب ..
وأخيرا امتطت راحلتها وهى تردد فى نفسها باكية ملتاعه :
ولست أدرى إذا شط المزار غدا .. هل تجمع الدار أم لا نلتقى أبدا ..
تلك هى المرة الثانية التى يفترقان فيها , فى الأولى تركته غلاما صغيرا يحيا سنوات فى ربوع البادية وفى أحضانها وسط قبائل هذيل وشعراءهم العظام , لكنها لا تدرى إن كانت هذه المره سوف تلتقى به ثانية أم ذاك هو الوداع الأخير ..
واستقر الشافعى بعد أن تزوج حميده إبنة خال صديقه المصرى عبد الله بن عبد الحكم , فى دار صغيرة اكتراها له عمه يعقوب , بالقرب من داره فى إحدى حارات المدينه , وظل مداوما على حضور مجالس العلم , طوافا على حلق الدرس لعلماء المدينة وشيوخها , ينطلق من حلقة إبراهيم بن سعد حفيد الصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف , إلى حلقة عبد العزيز الدراوردى , إلى دروس محمد بن أبى فديك , إلى فتاوى سليمان بن عمرو وعبد الله بن الصائغ وغيرهم , لكنه رغم ذلك لم يفارق أبدا شيخ المدينة الأكبر مالك بن أنس , كان له النصيب الأكبر من وقته , غير أن تقدم السن والشيخوخة وما يتبعها من علل بدأت تزحف على جسده الواهن شيئا فشيئا لتزيده وهنا على وهن , وأصبحت لقاءات الشيخ مع تلاميذه تتباعد يوما عن يوم , حتى بلغ الضعف منه فى أخريات أيامه مبلغا جعله لا يقدر على الذهاب إلى المسجد للصلاه أو الدرس .. لم يكن افمام يحب أن يحدث أحدا عن مرضه , غير أنه قال مرة لأحد تلاميذه المقربين لما سأله عن سبب انقطاعه عن دروس المسجد .........
ــ كرهت يا ولدى أن أذهب إلى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بغير وضوء , ولا أحب ذكر علتى لأحد فأشكو ربى ..
@ وذات يوم بينما هو وحده فى داره يتصفح أوراقا أمامه , إذا به يسمع طرقا خفيفا على الباب , قام ليجد أمامه صديقه المصرى وعلى صفحة وجهه تعبيرات تحمل كثيرا من الغموض , لم يستطع أن يدرك منها حقيقة مشاعره وما انطوت عليه نفسه من فرح أو ترح أو مزيج منهما , أجلسه الشافعى إلى جواره بعد أن حياه , سأله عن حاله وما وراءه وهو على يقين أن وراءه ثم أمور غامضه , لم يطل انتظاره إذ فاجأه بما توقعه .....
ــ أحمل لك خبرين , ستسر لأحدهما ..
نظر إليه مستفسرا وقد توجس فى نفسه خيفة من الخبر الآخر .....
ــ أولا هئ نفسك للسفر من هنا بعد أيام معدوده ..
ــ إلى أين ؟.
ــ اليمن ..
ــ اليمن !. لم , ماذا أفعل فيها ؟.
ــ أنسيت يا صديقى ما سألتنى فيه , عملا تتكسب منه ؟.
ــ كيف لى أن أنسى .. أتذكره طبعا ..
ــ لهذا ستسافر إلى اليمن , ستعمل فيها بالقضاء ضمن جماعة موفدة إلى هناك وإلى سائر البلاد والأمصار من قبل الخليفة هارون الرشيد , وهذا كتاب التوصية بشأنك من أمير المدينة إلى أمير اليمن ..
ــ بارك الله فيك وأنعم بك من صديق .. لكن كيف أمكنك ؟.
أجابه وهو يهم بالوقوف مشيرا له ..........
ــ لم يكن بالأمر الصعب على كل حال .. ونحن فى الطريق سأحكى لك كل شئ , هيا بنا الآن فإنى فى عجلة من أمرى ..
سأله متعجبا ......
ــ نذهب الآن إلى أين ؟.
ــ هذا هو الأمر الآخر , سنذهب الآن إلى دار الشيخ ..
سأله متوجسا ........
ــ من , مالك , هل أصابه مكروه ؟.
ــ أجل , بلغنى منذ قليل أنه طريح الفراش فى ساعاته الأخيرة يعالج سكرات الموت , تذكرتك , أنا أعلم كم هو متعلق بك وأنت كذلك , وأحببت ألا يفوتك معى لقاءه وإلقاء نظرة الوداع عليه , ليتنا ندركه قبل أن يفارق الحياه ..
إستأذنه لحظات يبدل فيها ملابسه وبينما هو كذلك وقد بدا فى عجلة من أمره , سألته امرأته حميده وهى تعيد ترتيب ملابس أمامها وطيها .....
ــ مالك يا أبا محمد , إلى أين , أراك فى عجلة من أمرك ؟.
أخبرها بما قاله له قريبها فعادت تسأله .....
ــ وهل عزمت حقا على الرحيل إلى اليمن ؟.
ــ أجل , أجل , سنرحل سويا إن شاء الله ..
ــ متى عزمت على ذلك ؟.
ــ والله لا أدرى يا حميده , كل ما أستطيع قوله لك أنى لن أغادر المدينة إلا أن يأذن لى شيخى ..
ــ لم أفهم , ماذا تعنى ؟.
ــ لقد أوصانى مالك عندما قدمت عليه أول مره وقال لى ..... أذكرك ألا تبرح أبواب المدينة إلا أن آذن لك أو يدركنى الموت , إنك إبنى الذى رزقنى به ربى فى أخريات أيامى ..... تلك وصيته يا حميده .. لن أغيب عليك ........
@ بعد أن أذن لهما بالدخول , تقدما خطوات لدى الباب لتقع أعينهما على الإمام راقد فى فراشه يتحلقه نفر قليل من خلصائه وخاصته , بينما ولده يحي واقف إلى جواره يترقب أوامره وإشاراته , وإلى جواره أمير المدينه محمد بن إبراهيم حفيد الصحابى الجليل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما , يلفهم الصمت والسكون كأن على رؤوسهم الطير ..
رفع الشيخ رأسه قليلا وهو يرنو بعينين كليلتين تجاه الباب , لمح الشافعى وصاحبه , ثبت عينه عليه وهو ينظر إليه نظرة تزخر بالمعانى والكلمات , كأنه يودعه وصيته فيها , كانت لغة القلوب ولسان الحال أقوى ألف مرة من لغة الكلام ولسان المقال , وهما يتبادلان النظر فيما بينهما فى حوار صامت يليق برهبة الموقف وجلال المكان .. بعد حين حول الشيخ عينه إلى الجالسين من حوله قائلا فى صوت واه عليل .........
ــ لا أدرى ما أقوله لكم عما أراه وأعاينه الآن .. كل ما أستطيع قوله أنكم ستعاينون غدا من عفو الله ورحمته , ما لم يكن فى حساب أحدكم ..
صمت برهة يلتقط أنفاسه ثم قال ..........
ــ لله الأمر من قبل ومن بعد , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ..
كان هذا آخر ما تكلم به وهو يتفس فى صعوبة بالغه بين كل كلمة وأخرى , بعدها نطق الشهادتين , ثم فاضت روحه راضية مرضية إلى بارئها تستقبلها ملائكة الرحمن بالقبول والتوقير والإجلال لصاحبها ............................
@ لم تمض بضعة أيام على رحيل الإمام حتى كان الشافعى يعد العدة للرحيل إلى بلاد اليمن وبصحبته إمرأته حميده أو "العثمانيه" كما كان يحلو له أن يناديها مرارا بهذا اللقب الذى يذكره بنسبها للصحابى الجليل ذى النورين ثالث الراشدين عثمان بن عفان .. كانت حميده آنذاك فى شهر حملها الثالث .. وفى ليلة السفر حرص على أن يزور صاحبه عبد الله بن عبد الحكم أو "المصرى" كما كان يناديه , كان هو الآخر يتهيأ للسفر إلى مصر بعد أن تلقى من العلم ما رضيت به نفسه , لم يعد له هو الآخر ما يبقيه فى المدينة بعد رحيل الشيخ والمعلم وفراق صاحبه وحبيبه الشافعى , لم ينس وهو يودعه أن يعرف منه المكان الذى يقيم فيه بالفسطاط حاضرة مصر وقلبها النابض , على أمل أن يتلاقيا يوما .....
قال له ................
ــ دارنا فى الفسطاط , تقع فى خطة أهل الرايه على مقربة من المسجد العتيق ..
قاطعه الشافعى .......
ــ تعنى المسجد الذى أسسه عمرو بن العاص ؟.
ــ نعم هو , لنا بالقرب منه دارا كبيرة ورثها الآباء عن الأجداد الذين هاجروا إلى مصر فى مطلع هذا القرن , إيه من يدرى ربما تحملك قدماك إلى بلادنا , حتى يلتقى الأحباب مرة أخرى , تلك سنة الحياه لقاء وفراق وهلم جرا ..
ــ سنلتقى بإذن الله إن مد الله فى أجلنا , أتعلم أن نفرا من أخوالى الأزد يقيمون بالفسطاط منذ زمن ؟.
ــ أعرف أن قبيلة من الأزد تقيم فى "خطة بنى بحر" قريبا منا , لكنها المرة الأولى التى أعرف فيها أنهم أخوالك ..
ــ إنهم أخوالى تفرقوا ما بين مصر والشام واليمن , منهم يزيد بن أبى حبيب الأزدى مفتى مصر وشيخها فى عهد عمر بن عبد العزيز ..
ــ لله دره , أهو من أحوالك إذن !. كان رحمه الله فيما أعلم عالما محدثا ثقه , إنه أول من أظهر العلم فى مصر , وتكلم فى مسائل الحلال والحرام , وهو أحد ثلاثة عهد إليهم عمر بن عبد العزيز بالفتيا , وأخذ منه وحدث عنه فقيه مصر الليث بن سعد , وقال عنه إنه سيدنا وعالمنا وزاهدنا ....
ودع صاحبه متمتما فى سره بعد أن عانقه والدموع تتلجلج فى عينيه ......
ــ أجل , سوف نلتقى أيها الصديق الحبيب .. لن أنسى أبدا كلمات أمى لى والتى قالتها لى مرات .............. يا ولدى .. سينتهى المطاف بك فى مصر ........
يتبع .. إن شاء الله ............................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 17h15
|