عرض مشاركة واحدة
  #48  
قديم 17/12/2008, 10h03
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

176 هجريه ــ على ضفاف دجله
@ على الشاطئ الغربى لنهر دجله , يقع قصر الخلد , المكان المحبب الأثير إلى قلب الرشيد .. فيه يجد راحته وتصفو نفسه عندما يكون متعب البدن أو مكدود النفس .. وإلى جواره من جهة الجنوب قصر يعرف بدار القرار لزوجته زبيده إبنة عمه جعفر إبن أبى جعفر المنصور الخليفة العباسى الراحل .. كانت زبيده تفاخر دوما على سائر نساء الرشيد بهذا النسب الهاشمى , وبه نالت درجة القرب والمنزلة الأولى عند الرشيد .. وبين هذين القصرين يقع قصر الأميرة العباسه , شقيقته وأحب أهله إلى قلبه ..
وعلى الجهة الشرقية المقابلة لضفاف دجله , إتخذ البرامكة قصورهم التى كانت آية فى الأبهة والفخامة والروعه , ولهم قصور فى اماكن أخرى غيرها لا تقل فخامة أو أبهة عن قصور الرشيد , يقيم فيها يحى بن خالد البرمكى وأولاده جعفر والفضل ومحمد وخالد , وهم الأربعة الذين كانت لهم اليد العليا فى شئون دولة الرشيد , بل كانوا هم الحكام الحقيقيين الذين يديرون أمور الخلافة , حتى أن محمد الأمين ولد الرشيد وولى العهد , إتخذ قصرا له خلف قصر جعفر البرمكى , وفيه كانا يقضيان سويا سهرات السكر واللهو وسماع المغنيات ورقص الجوارى ..
أما الفضل بن يحى البرمكى فإنه كان على النقيض من أخيه جعفر , لا يرى إلا مكتئبا عابسا , مقطب الجبين قليل التبسم . تغلب عليه الجهامة وملامح الكبر الشديد , غير أنه كان سخى اليد أكثر كرما وبذلا للمال من جعفر , ولهذه الخصلة وحدها أحبه الناس ومالوا إليه رغم جهامته وتكبره , بينما كانوا يحبون فى الوزير جعفر مرحه وتواضعه وميله للفكاهة والدعابة , وحضور مجالس الشراب والسماع والأنس .........

@ وفى إحدى القاعات المنعزلة فى إحدى هذه القصور , إتخذها الفضل البرمكى خصيصا ليختلى فيها عندما تكون لديه بعض الأمور المهمة فى إدارة الحكم .. جلس وحيدا على إحدى الوسائد مستغرقا فى كتابة بعض أوراق أمامه على طاولة خشبية لم يضع عليها سوى المحبرة والريشة وبعض الرسائل .. وبينما هو مستغرق فى عمله ما بين قراءة وكتابه , لا يشعر بشئ حوله , إذا بالباب ينفتح فى رفق ليدلف منه أحد غلمانه على مهل .. تقدم بضع خطوات وهو يمشى وجلا على استحياء ثم توقف مكانه يضع قدما ويرفعها , مترددا فى السير خطوة أخرى , إنه يعرف طبائع مولاه وأنه لا يحب أن يقطع عليه أحد خلوته فى تلك القاعه , إلا فى أهم وأحرج الأمور التى لا تحتمل الإنتظار , بل لا يحسن فيها ..

وقف الغلام ساكنا لئلا يقطع عليه استغراقه , منتظرا أن يتحول سيده بوجهه ناحيته أو يستشعر وجوده .. طال انتظاره أن يلتفت إليه فاضطر إلى أن يتنحنح قليلا كى ينتبه له فالأمر لا يحتمل .. شرع الفضل برأسه مستفسرا بعينين غاضبتين , بادره الغلام قائلا قبل أن يصب عليه جام غضبه ......

ــ بالباب رسول معه رسالة من قبل مولاى أمير المؤمنين ..

أخذ يتمتم فى سره متأففا وقد زاد ضيقه وضجره .....

ــ أية رسالة تلك فى جوف الليل , وفى ذلك الجو المطير العاصف .. ما الأمر يا ترى ؟.

قالها وهو يومئ إليه برأسه أن يدخله , ولم تمض غير لحظات إلا والرسالة بين يديه , نظر إلى غلافها فوجد عليها الخاتم السرى الخاص , ما إن فضه وفتحها وقرأ ما فيها حتى هب واقفا كاللديغ وهو يطوى أوراقه على عجل ويضعها فى خزانة خاصه ثم نظر إلى غلامه نظرة فهم منها ما يريده , سبقه مسرعا إلى خارج القصر ليعد له قاربا من قواربه يعبر به إلى الشاطئ الآخر من دجله للقاء أمير المؤمنين ..

@ أخذ يحث النوتى بإشارات من عينيه الحادتين أن يسرع من حركة مجدافه .. أمير المؤمنين يطلبه فى هذه الساعة على عجل , الخطب جلل ولابد والأمر هام وخطير .. مكث يضرب أخماسا فى أسداس محدثا نفسه بينما يقلب فى رأسه كلمات الرساله .... أجل , أمير المؤمنين لا يخط رسالة غامضة بتلك الكلمات الحاده , ولا يدعونى للقائه فى هذا الوقت المتأخر إلا لأمر خطير .. أجل , لابد أن مصيبة وقعت .. ما الأمر يا ترى ؟!.
كانت ضربات المجداف مع قطرات المطر فى تتابعها وتلاحقها كأنها مطارق من حديد تنزل على رأسه الذى يموج بالخواطر والهواجس كباطن هذا النهر الذى تبدو صفحته هادئة وادعه , بينما القارب يشق عباب ماء دجلة فى نعومة وانسياب ..
وبعد دقائق مضت كأنها دهر كانت حافة القارب تلامس الشاطئ فى مكان ترسو فيه أمام حديقة القصر التى بانت أشجارها الوارفة , وزهورها تنشر عبقها فى الأفق أريجا عطرا , مختلطا برائحة البخور المتصاعد فى تموجاته من نوافذ القصر , وقد أضئ بالمصابيح والشموع , فأضفى عليه ألوانا من السحر والغموض مع انتصاف ساعات الليل ..
نزل مهرولا على عجل بعد أن مد له حارسه خشبة يعبر عليها , لم تكد قدماه تطأ الشاطئ حتى أخذ يشق طريقه على عجل فى خطوات متلاحقة مجتازا أسوار القصر الأربعة وأبوابه العالية الضخمة , وقف الحراس أمامها فى ثبات كأن على رؤوسهم الطير .. أخذ يمر من قاعة لأخرى ومن باب إلى غيره , حتى انتهت به قدماه إلى حيث يجلس الرشيد فى قاعته .. كان جالسا وحده ممسكا بيده قضيبا من الأبنوس المرصع بالذهب , ومن تحته الزرابى الثمينة التى تناثرت من فوقها جلود النمور تلمع فى كل ناحيه , تعلوه قبة عظيمة تزينت بزخارف من النقوش العربيه , بينما أرخيت على مجلسه ستارة من المخمل والحرير الدمشقى , وأمامها وقف حارس خاص يدعى صاحب الستاره , ومن حول الرشيد انتشر حراسه ورجاله وخاصته فى مشهد مهيب جليل ..
لمحه صاحب الستارة قادما من بعيد فسبقه للداخل ليخبر الرشيد الذى أمره أن يدخله فى الحال , بعد أن أشار لمن حوله من رجاله وحراسه أن يغادروا القاعة ويتركوهما وحدهما .. وقبل أن يتقدم الفضل صوب الرشيد ألقى عليه نظرة سريعة فاحصة , سبر خلالها أغواره وقرأ سطور مكنون فؤاده وأدرك أنه يخفى فى باطنه كآبة وهما ثقيلا , من وراء قناع زائف من السرور والبهجة , تلك كانت سمته وطبيعته أمام زواره وحراسه مفضلا أن يدارى همومه وأحزانه أمام الناس , كارها أن يراه أحد كذلك إلا نفر قليل من خاصة رجاله وخلصائه .. والفضل شأنه ككل البرامكه , يتفرد بذكاء حاد وبصيرة نافذة , خاصة مع الرشيد وهو الذى تربى معهم ورضع لبانهم ..

بعد أن خلت القاعة إلا منهما , نظر إليه الرشيد شاردا ثم بادره قائلا بعد أن مرت لحظات من الصمت , لم يكن يسمع خلالها إلا صوت القضيب يدق به على الأرض وهو يقبض عليه بيمناه دقات رتيبة متتالية تبعث على الملل وتثير الخوف .........
ــ إقترب منى يا أخى الفضل .. تعال هنا , إجلس بجانبى ..
ــ لبيك أمير المؤمنين ..
ــ أعلم أن الوقت متأخر .. لكنى أرسلت إليك فى شأن هام ..
ــ طوع أمرك يا مولاى ..
ــ هل تذكر ذلك الطالبى الذى خرج عن طوعنا , معلنا تمرده علينا ..
ــ أيهم تعنى يا أمير المؤمنين ؟.
ــ يحى بن عبد الله بن الحسن ..
أطرق برهة ثم رفع رأسه قائلا ............
ــ أليس هو شقيق محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن , اللذان قتلا بعد أن أعلنا تمردهما على جدك الخليفة المنصور ؟.
ــ بلى , هو بعينه , غير أنه تمكن أيامها من الفرار مع أخيه إدريس وهما صبيان صغيران .. ومنذ سبعة أعوام ظهرا فى موقعة "فخ" التى هزم فيها ابن عمهما الحسين بن على بن الحسن (المثلث) , ثم نجحا فى الفرار للمرة الثانيه , وتوجه إدريس ناحية بلاد المغرب , وفيها جمع البربر من حوله وأسس دولته كما تعلم .. لكن أمر هذا الفتى لا يشغلنى الآن , سوف يكون لى معه شأن آخر بعد أن أفرغ له , فلا قبل لى بمحاربته لبعد المسافة من ناحيه , ومن ناحية أخرى لشدة مراس أولئك البربر فى القتال ..
ــ ما الذى يشغل بال أمير المؤمنين إذن ؟.
ــ الذى يشغلنى يا أخى الفضل , أمر يحي بن عبد الله ..
ــ هل بلغك عنه شئ يا مولاى؟.
ــ أجل .. منذ قليل علمت من بعض عيوننا أنه ظهر فى بلاد الديلم الجبلية جنوب بحر الخزر , وأن له زمنا يدعو لنفسه سرا فى مبتدأ الأمر , وعلمت انه تمكن هناك وقويت شوكته , وبايعته جموع كثيرة من سائر الأمصار من البلدان المجاوره .. ولا يخفى عليك ما يشكله ذلك من خطر جسيم على دولتنا وتهديد لهيبتها ..
ــ تماما يا مولاى .. وماذا قررت ؟.
ــ أسمع منك أولا ..
ــ إن رأيت أن نحاربه فنحن جاهزون للحرب تماما , ومستعدون لملاقاته بجند وعتاد لا قبل له ولا لغيره بها .. وإن رأيت خلاف ذلك فالأمر إليك ..
ــ أعطنى رأيك أيها الوزير .. نفاوضه أم نأخذه بالقوه ؟.
ــ أرى يا مولاى , أنا لو بدأنا حوارا معه وسمع منا وسمعنا منه , فلربما يظن بنا ضعفا وربما يتشدد أو يبالغ فى شروطه ومطالبه ..
ــ ترى إذن أن نأخذه بالقوه ؟.
ــ لا يا مولاى .. لم أقل ذلك .. بل على العكس أرى أن نبدأ بمحاورته أولا ..
ــ ماذا تعنى بالله عليك , أفصح يا أبا محمد , فإنى لم أعد أفهمك ..
ــ ما أعنيه يا مولاى , أن نفاوضه وفى الوقت نفسه نلوح أمامه بالقوة والبأس ..
أطرق قليلا دون تعقيب ثم رفع رأسه قائلا ...........
ــ آه .. فهمت .. نعم الرأى والمشوره ..
مرت لحظات صمت قال بعدها فى حده ...........
ــ إبدأ من غد إن شاء الله فى إعداد جيش كبير قوامه خمسون ألفا أو يزيد , القتال فى تلك البلاد البعيدة ليس بالأمر الهين , وخذ معك ماتشاء من أموال وهدايا وتحف إلى أصحاب الرى وجرجان وطبرستان وقومس وغيرها , وسأعطيك كتابا ومائة ألف درهم تعطيها لصاحب الديلم حتى يأتى لك بهذا الطالبى كى تفاوضه ..
ــ يتبقى أمر واحد يا مولاى ..
أومأ برأسه مستسفسر فقال ............
ــ ليتك تكتب له كتابا بالأمان , ربما أحتاجه وأنا أفاوضه , أبذل قصارى جهدى معه لإقناعه بالتخلى عن طموحاته وأطماعه فى الحكم , وأن يعود معى ليعيش بيننا معززا مكرما ..
ــ لا بأس نعم المشوره .. رأى سديد يا أبا محمد , سأكتب فى التو كتابا بالأمان أشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بنى هاشم .. وطمئنه حالة تخليه عن تمرده وعصيانه أنى سوف أستقبله هنا ضيفا عزيزا مكرما ..
أطرق برهة وقال ..........
ــ ليته يفعل .. أما إن عاند كأسلافه .......
عاجله الفضل قائلا ..............
ــ إن ركبه العناد يا مولاى , فسنعرف كيف نؤدبه , سيرى رجاله وأنصاره منا ما لا يتصورنه من هول وجحيم , سوف أرميهم بنيران من جهنم وأدك بلادهم على من فيها وما فيها حتى تصبح قاعا صفصفا , وأعدك ألا أرجع إلا ورأسه تسبقنى إليك يا مولاى ..
نظر الرشيد إليه نظرة فخار ورضا , ثم أمسك الريشة بينما بدأت أساريره تنفرج قليلا , أخذ يخط على منضدة أمامه رسالة الأمان ثم طواها وهو ينظر لأحد حراسه آمرا .........
ــ حاجبنا الفضل بن الربيع ..
لم تمض سوى لحظات حتى كان بين يديه فى انتظار أوامره , وهو يحاول إخفاء ما اعتراه من وجوم وضيق وغل دفين لدى رؤيته لغريمه وعدوه اللدود الفضل بن يحي البرمكى .. كان يكن له ولسائر البرامكة كراهية شديده .. وفى أقل من طرفة عين أخفى كل ذلك خلف ابتسامة مصطنعة رسمها بمهارة على شفتيه , لقد تعلم الكثير من طرق الخداع واستعمال الحيلة من أبيه الوزير الداهيه الربيع بن يونس الذى عمل فى بلاط المنصور والمهدى والهادى وظل مع الرشيد بضع سنوات قبل أن يفارق الدنيا ..
عاجله الرشيد .........
ــ أدن منى يا ابن الربيع , خذ هذا الكتاب واذهب به إلى كل الأمراء والفقهاء ومشايخ بنى هاشم كى يوقعون عليه , وبعد أن تنتهى سلمه للفضل بن يحي , وافعل كل ما يأمرك به وكن رهن إشارته , داوم الإتصال به وبلغنى بكل ما يجرى أولا بأول إلى ينتهى من مهمته , أفهمت ؟.
ــ أية مهمة يا مولاى ؟.
ــ وزيرنا البرمكى سيعلمك بكل شئ ..
ــ أمر مولاى ..
قالها وهو ينحنى متقهقرا خطوات قبل أن يستدير خارجا , وقد ارتسمت على شفتيه نفس الإبتسامة العريضة الزائفه , تلك الإبتسامة التى تخفى فى باطنها بركانا يفور بالغضب والحنق ولسان حاله يقول ..... أنا الفضل بن الربيع , إبن الحاجب الأول , أكون تحت إمرة هذا الفارسى سليل المجوس عبدة النار , ألم تكفهم المكانة والمنزلة التى وصلوا إليها بالحيلة والدهاء .. والله لن يغمض لى جفن أو يهدأ خاطرى حتى أضع بيدى نهايتهم ..

يتبع إن شاء الله ................................

@ تعلق الشافعى بأستاذه مالك تعلق الولد بأبيه , وهو يلازمه كظله لا يفارقه إلا بعد ان ينتهى من درسه , أول من يجئ إلى حلقته متخذا مكانه إلى جوار شيخه , وآخر من يغادرها ..
وحلقة الإمام كانت تنعقد إما فى روضة مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وإما فى داره وهو الأكثر التى لم تكن تبعد كثيرا عن مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , حلقة عامرة بحق تعج بالمريدين وطلاب العلم الوافدين إليه من شتى بقاع المعموره على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم , حتى أن البعض منهم من كثرة الزحام لا يجد مكانا يجلس فيه إلا حيث دخل على بب الدار , بينما أحد مريديه وهو معن بن عيسى , يتخذ مجلسه كل يوم على عتبة الدار , يدون فى أوراق معه كل كلمة يسمعها من الشيخ ..
شاهد الشافعى فى تلك الأيام الأمين والمأمون , ولدى الرشيد وهما صبيان صغيران يجلسان فى أدب وحياء أمام الشيخ , ينصتان إلى حديثه وقد عق كل منهما ذراعيه على صدره , وبرفقتهما مؤدبهما المرافق لهما فى رحلة العلم , كان الرشيد قبل أن يرسل ولديه إلى المدينه أوصى مؤدبهما قائلا .......
ــ إنى دفعت إليك مهجة نفسى وثمرة قلبى , فاجعل يدك عليهما مبسوطة وطاعتهما لك واجبه , كن لهما بحيث وضعك أمير المؤمنين , أقرئهما القرآن وعرفهما الأخبار والأشعار , وعلمهما السنن وبصرهما بمواقع الكلام , وامنعهما من الضحك إلا فى أوقاته , وخذهما بتعظيم بنى هاشم إذا دخلوا عليهما , وقومهما ما استطعت بالقرب والملاينه , وإلا فالشدة والغلظه ..
ومن خلال تلك الحلقة المالكيه توطدت علاقة الشافعى ببعض روادها وصارت له معهم صداقة وألفه , منهم شاب مصرى رزين حليم , يصغر الشافعى ببضع سنين إسمه عبد الله بن عبد الحكم , ينتمى لواحدة من العائلات المصرية العريقة ذات الجاه والمنزلة الكبيرة فى أرض الكنانه , قدم من مصر بعد أن نال قسطا من العلوم على يد فقيهها الكبير الليث بن سعد .. توطدت علاقة الشافعى به وصارت تربطهما مع الأيام صداقة متينة تزداد يوما عن يوم , لهذا كثيرا ما كانا يشاهدان وهما معا حلقة الدرس , حيث يجلسان متجاورين فى مكان واحد , حتى إذا انتهى الشيخ من درسه يقومان معا ولا يفترقان إلا فى المساء على باب دار أحدهما ..
ومع تعاقب الأيام صارت للشافعى منزلة خاصة فى وجدان شيخه , يؤثره بها على بقية أقرانه , بل كثيرا ما كان يدنيه منه ويقربه من مجلسه , مغتنما كل مناسبة ليثنى عليه وعلى نباهته وقدراته الفذة فى حفظ النصوص وفهمها , وتمكنه من استنباط الأحكام والفتاوى منها بأسلوب فريد وفهم , جعله يتفوق به على سائر أقرانه ويسبقهم ..
هذا الأمر لقى قبولا وارتيحا فى نفوس أصحاب الشافعى ومحبيه وأولهم صديقه المصرى , وفى المقابل أثار حفيظة وغيرة آخرين من ذوى النفوس المريضه , حتى أن أحدهم وصل به الغل إلى أن يتدنى من الغيرة التى تفرضها المنافسة بين الزملاء إلى الحقد البغيض المدمر , كان شابا ثريا من العاملين فى بلاط الرشيد بالعراق إسمه حماد البربرى , أرسله الخليفة الراحل موسى الهادى قبل أشهر من وفاته مع جماعة آخرين ليأخذوا الفقه عن مالك , وبعد تولى الرشيد طلب منهم أن يستمروا فى تحصيل علومهم والتزود من علوم الدين , حتى يكونوا مؤهلين بعد ذلك لتولى مناصا فى القضاء والإماره ..
كان حماد البربرى هذا أكثرهم غيرة من الشافعى وحسدا له لدرجة تمنى الضرر له , لنبوغه وتفوقه ولمنزلته عند شيوخ المدينة جميعا وعند مالك على الأخص , تصور أن ثراءه وقربه من رجال الحكم والبلاط سوف يعطيه تميزا ومنزلة لدى الشيخ على حساب أقرانه , أما أن يأتى هذا الشاب المغمور الفقير وتكون له كل تلك المنزله والقرب من شيوخه , فهذا مما لم تقدر نفسه الضعيفة على تحمله , وامتلئ قلبه بالحقد عليه حتى أنه كان يتحين فرصة تواتيه ليوقع بينه وبين الشيخ أو بين زملائه , شفاء لغليله وإخمادا لنيران الحقد والكراهية المتأججة فى صدره .. حتى جاء يوم وقعت حادثة عابره , إلا أنها رغم طرافتها , كان لها أثر كبير بعد سنوات فى تغيير مجريات الأمور فى حياة الشافعى , وتعيين مسار حياته بقية سنوات عمره ....................

@ كان لحماد البربرى زميل فى الحلقه ورفيق يأنس به هو محمد بن الحسن الشيبانى الذى كان يغار هو الآخر من الشافعى ولا يبادله الود , لكن غيرته لم تمنعه من أن يقدر له علمه وفهمه لقضايا الفقه ومسائله واستنباط الفتاوى والأحكام .. ومحمد بن الحسن يكبر صديقه حماد قليلا فى السن وفيه بدانة ظاهره وهو عراقى أيضا ولد بالكوفه ونشأ بها غير أنه ينتمى لأصول شاميه , تأثر بمدرسة أبى حنيفه ومنهجه فى استنباط أحكام الشرع وإن لم يجالسه كثيرا , فقد توفى الإمام وهو لا يزال حدثا فى الثانية عشرة من عمره , لكنه تلقى العلم على يدى أبى يوسف أكبر تلاميذ أبى حنيفه وأفضل معين لمذهبه الكبير ..
وبينما الصاحبان يتجاذبان أطراف الحديث , وهما يتناولان عشاءهما فى الدار التى يقيمان فيها معا , منذ قدومهما من العراق إلى المدينه , إذ قال لصاحبه ...........
ــ أعلمت بما حدث اليوم للرجل الحضرمى ؟.
ــ أى حضرمى تعنى يا حماد ؟.
ــ الذى أتى الشيخ فى الصباح يسأله عن يمين الطلاق الذى وقع منه ..
ــ آه .. تقصد تاجر الطيور صاحب حكاية القمرى ؟. ماذا جد فى أمره , ألم تره يمضى لحاله بعد أن أجابه الشيخ ؟.
ــ بلى رأيته , لكن اسمع واعجب معى , بعد أن أفتاه الشيخ بصحة وقوع اليمين وأن امرأته طالق , خرج الرجل مهموما كسيف البال , كما رأيناه جميعا ..
قاطعه صاحبه محتدا وقد انفتحت شهيته لمعرفة الحكايه ........
ــ لم تأت بجديد , كل ما قلته أعلمه , هل جد فى الأمر شئ ؟.
ــ صبرا , صبرا , سأخبرك بكل شئ ..
ــ وأنا كلى آذان مصغيه ..
ــ الفتى المكى , المغرور , الذى يزعم أنه مطلبى قرشى وأن جده شافع من ولد عبد مناف , وهم فى الحقيقة من موالى أبى لهب !.
ــ من تقصد يا رجل الذى لم يسلم من لسانك اللاذع ؟.
أردف ضاحكا بعد أن اتسعت ابتسامته ................
ــ آه , تقصد محمد بن إدريس ؟. يا صديقى , هلا كففت عنه شر لسانك !.
ــ نعم إنه ذلك المكى المخادع الذى تمكن بدهاء ولؤم أن يكون الأقرب منا جميعا فى حلقة العلم إلى قلب الشيخ الإمام , حتى أنه صار يؤثره علينا جميعا ويدنيه من مجلسه ..
ــ دعك من كل هذا الآن , أكل حكايتك , ما خطبه ؟.
ــ لمحته بركن عينى وهو يتسلل خارجا من الحلقة وراء ذلك الحضرمى , فأدركت أن فى الأمر شئ , لم أنتظر لحظة واحده , قمت أنا الآخر دون أن يشعر بى أحد حتى أنت , وسرت من خلفهما وظللت أتبعهما حتى رأيته يستوقف الرجل بعد أن صارا بعيدين عن دار الشيخ , إختبأت خلف جدار لما سمعته ينادى عليه قائلا ......................
ــ أخا الإسلام .. يا أخا الإسلام ..

إلتفت الرجل خلفه ونظر إليه نظرة ضيق واستياء فقال له الشافعى ....
ــ أجل , أنادى عليك , هلا أعدت على مسألتك يرحمك الله ؟.
ــ ماذا تعنى , لا أفهمك ؟.
ــ التى كنت تسأل الشيخ فيها قبل الآن , منذ لحظات ؟.
ــ ولم أعيدها عليك , لقد سألت شيخك وأستاذك عنها وأجابنى بما سمعت . ألم تكن حاضرا , ألم تسمع ما قلت وما قال ؟.
ــ بلى سمعت .. لكنى أود سماع مسألتك بنصها منك كما حدثت , وأعدك أنك لن تأسف على ما أضعته من وقتك ..
قال وقد بدا ضجرا نافذ الصبر ...............
ــ حكايتى كما حدثت وكما رويتها للشيخ أنى أعمل بائعا للطيور النادره , وبالأمس بعت قمريا لواحد من زبائنى , فلما كان العشية عاد ورده على قائلا ........ قمريك هذا لا يصلح .. فلما سألته عن السبب , قال إنه لا يصيح , حلفت له يمين طلاق أنه لا يهدأ من الصياح , ثم عدت فندمت على هذا اليمين , ولما أتيت الشيخ فى حلقة العلم وسألته أجابنى بما سمعت ..
ــ أجل سمعته لما قال لك إن يمينك قد وقع وامرأتك طالق , ولا سبيل لك عليها بعد اليوم ..
ــ ما دمت قد سمعت الحديث كله , فدعنى وشأنى ولا تزد على همى ..
ــ سؤال أخير لن أسألك شيئا بعده ..
ــ أنت سألتنى من قبل وأجبتك , فدعنى لشأنى واذهب لحالك عافاك الله ..
ــ يا رجل , سؤال واحد فحسب ..
لم ينتظر جوابه فعاجله على الفور .....
ــ قل بالله عليك , أيهما أكثر , سكوت القمرى أم صياحه ؟.
نظر إليه وقد تبدل سخطه وضجره دهشة واستغرابا وقال ....
ــ سكوته أم صياحه ؟. ما الذى يعنيك فى أيهما أكثر أو أقل ؟. ما دخل ذلك الأمر فى يمين الطلاق والمصيبة التى جلبتها لنفسى . عجيب أمرك أيها المكى ؟!.
ــ أرجوك تكلم ..
ــ مع أنى فى عجب من سؤالك ولا أجد له محلا , إلا أن صياحه أكثر من سكوته ..
إبتسم الشافعى وربت على كتف الرجل قائلا .........
ــ إرجع إلى بيتك وامرأتك , يمينك لم يقع وامرأتك غير طالق ..
ــ ماذا تقول !. يمينى .. إمرأتى ..
ــ قلت لك يمينك لم يقع وامرأتك غير طالق ....................
عاد حماد البربرى يقول لصاحبه .............
ــ ما كاد هذا الدعى ينتهى من قوله وفتواه ويستدير عائد إلى حلقة العلم كأن لم يفعل شيئا , إلا وأبرصت الحضرمى وقد تسمر فى مكانه فاغرا فاه فى ذهول وهو يضرب كفا بكف وقد ملكه الدهش .. والله لا أدرى كيف طوعت له نفسه أن يجترئ على الفتوى , بل وأكثر من ذلك يتطاول على مقام شيخه ومعلمه ويخطئ فتواه للحضرمى ويهدمها من أساسها .. أسمعت يا ابن الحسن بشئ كهذا من قبل , والله إن هذا لشئ عجاب ..
ــ أجل .. شئ عجيب حقا .. لكن أرى يا صاحبى أن نحسن الظن به إلى أن نلقاه , من يدرى ربما يملك دليلا على صحة فتواه ..
رد ساخرا
ــ نحسن الظن .. دليل !. أى دليل هذا الذى تنتظره منه .. أخبرنى أنت , علمنى ربما أكون غافلا عنه , ما علاقة سكوت القمرى أم صياحه بيمين طلاق وقع من الرجل , أخبرنى ..
ــ والله لا علم لدى ..
ــ أرأيت .. ألم أقل لك .. لقد تعدى هذا الفتى كل الحدود , لكنى سأضع اليوم حدا لاجتراءاته وغروره ..
ــ أرجوك يا صديقى أن تتمهل , ولا تتعجل الحكم على صاحبنا ..
ــ دعنى يا ابن الحسن .. سأبلغ الشيخ الآن بكل ما جرى , إنها ليست المرة الأولى ..
ــ أوقد فعل مثلها من قبل ؟.
ــ كثير , كم من مرة سمعته بأذنى وهو يفتى لبعض الناس بخلاف ما يقول الشيخ .. بل فعل ما هو أدهى وأمر .. لقد بلغ من صلفه وغروره أن جرؤ على استنكار وهدم كثير من آراء أستاذنا وشيخنا أبى حنيفه .. ومع كل أفعاله تلك , يقدمه الشيخ علينا ويقربه منه !..
ــ وماذا أنت فاعل الآن ؟.
ــ كما قلت لك , سنذهب سويا لملاقاة الشيخ , وسأخبره بكل ما رأيت وسمعت .........................

@ وفى الحال اتخذا طريقهما إلى دار مالك , وهناك انبرى حماد يخوض فى حديثه للشيخ ويحكى له ما رآه وما سمعه , بل وزاد من عنده زورا وبهتانا ما لم يقله الشافعى أو يفعله , ظنا منه أنه بذلك يثير حمية الشيخ وغضبه على تلميذه الأحب إلى قلبه , وختم افتراءاته بقوله ...............
ــ ليس هذا فحسب يا سيدى , بل سمعته بأذنى هاتين وهو يقدح فى فتواك ويسفه للحضرمى كلامك . و .........
قاطعه فى حزم ويده تسبق بالإشارة إليه .........
ــ حسبك ما قلت .. لا تزد كلمة واحده .. إياك ..
ثم التفت إلى عبد الله بن الحكم المصرى طالبا منه أن يبحث عن صديقه ويأتيه به فى التو .. كان يعلم أنهما صديقان حميمان وأنه أعرف الناس بمكان الشافعى .. إنطلق من فوره وهو مملوء بمشاعر متشابكه من الأسى والخوف على صاحبه , وقبل أن يغادر القاعة كاد أن يفقد حلمه المعروف عنه وهو يلتفت إلى الخلف محدجا حماد بنظرة نارية غاضبة , كم كان يتمنى لو ينقض عليه ويوسعه ضربا قصاصا لصاحبه منه بما اغتابه بل بهته به ..
لم يكد يبتعد خطوات عن دار الشيخ حتى لقى الشافعى وهو قادم ناحيته من الجهة المقابله , أقبل عليه ملهوفا وأخبره بالأمر وهو مشفق عليه مما سمعه , محاولا أن يستعلم منه عن حقيقة المسئله ودليله على صحة فتواه , ومدى يقينه من صحة استنباطه للحكم واستناده لقاعدة أصوليه , أو هو حض اجتهاد منه بغير سند قوى , بدت لهفته فى سؤال صاحبه رغم يقينه من رجاحة عقله , مبديا خوفه عليه مما ينتظره , غير أنه فوجئ بصاحبه يقول له بابتسامة حانيه وفى لهجة الواثق ...........
ــ هون عليك يا صاحبى , لا تخف على أخيك , إن هى إلا لحظات وندرك شيخنا , وسترى وتسمع كل شئ , كن مطمئنا .......................

يتبع إن شاء الله ................................

إبتدره الشيخ بعد أن أذن له بالجلوس مكانه ........
ــ بلغنى عنك اليوم حديث , لعل صاحبك أبلغك به ..
رد الشافعى فى ثقة وقد بدا هادئا ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ..
ــ صدق الله العظيم .. لذلك أرسلت فى طلبك لأسمع منك ..
ــ طوع أمرك ..
ــ ماذا قلت بالأمس لصاحب مسئلة القمارى ؟.
ــ أفتيته أن لاشئ عليه ..
ــ ويمين الطلاق ؟.
ــ لم يقع ..
ــ ألم تك حاضرا بالأمس , وسمعتنى وأنا أجيبه بخلاف ذلك ؟.
ــ بلى .. سمعت ..
ــ كيف إذن أجبته بما تقول ؟.
ــ لقد سألته سؤالا واحدا .. أيهما أكثر صياح القمرى أم سكوته ..
ــ وماذا قال لك ؟.
ــ أجابنى أن صياحه أكثر ..
ــ وهذا أعظم , أى شئ فى صياح القمرى وسكوته ؟.
صرخ البربرى ساخرا متشفيا وقد انفرجت أساريره , ظنا منه أنه نال من غريمه .....................
ــ أرأيت .. ألم أقل لك أنه تجرأ عليك , وأفتى بغير علم ولا هدى ..
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة آمرا إياه ألا يتدخل فى النقاش وألا يقاطع الشافعى , ثم أشار للأخير أن يستمر فى حديثه .........
ــ أجبته بما قلت يا سيدى , لأنك حدثتنى عن عن عبد الله بن يزيد , عن أبى سلمه , عن فاطمه بنت قيس , أنها جاءت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقالت : يا رسول الله , إن أبا جهم ومعاويه خطبانى , فأيهما أتزوج ؟. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. [ أما معاويه فصعلوك لا مال له , وأما أبو جهم , فلا يضع عصاه ] ..
ومع تحذير الشيخ , نسى البربرى لشدة غيظه , وقال مقاطعا فى نبرة ساخره ...........
ــ أمرك عجيب , تراوغ ولا تعترف بأنك أخطأت , ما دخل حديث فاطمه بنت قيس بيمين الطلاق وما ............
أسكته الشيخ بنظرة نارية غاضبه , ثم التفت للشافعى قائلا وهو يهز رأسه إعجابا وسرورا , وبدأت ملامح البشر تهل على صفحة وجهه بعد أن أدرك مراده وفطن لإجابته وعلم القاعدة الأصولية التى استند إليها فى فتواه ......
ــ أكمل يا بنى .. أكمل ..
ــ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يعلم أن أبا جهم يأكل وينام ويستريح , فلما قال لها إنه ى يضع عصاه , كان ذلك على المجاز , والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته .. ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" يخاطب العرب بكلامهم وعلى قدر عقولهم , لذلك لما سألت بائع الطيور عن صياح القمرى وسكوته وقال إن صياحه أكثر , علمت أنه لما حلف بالطلاق للرجل أنه لا يكف عن الصياح , كان ذلك على المجاز ..
ــ لذلك أفتيته أن يمينه لم يقع وأن امرأته ليست طالق .. فتح الله عليك يا ولدى وزادك علما ومعرفه ..
ثم أعطى وجهه لتلاميذه الذين جلسوا كأن على رؤوسهم الطير , وهو يهز رأسه طربا ........
ــ أسمعتم .. كيف استنبط الحكم ؟. ألم أكن منصفا عندما قدمته عليكم وجعلته أقربكم مجلسا منى ؟. ألا يستحق أمثاله أكثر من ذلك ؟.
ثم استدار عن شماله إلى حماد البربرى الذى بدا عابسا مقطب الجبين ونظر إليه نظرة ذات مغزى وهو يشير بسبابته جهة الباب .........
ــ ألم يأن لك أن تكف عن أفعالك تلك ؟. وعن وشاياتك بغير حق , كف لسانك وإلا فلا مكان لك ولأمثالك عندى ..
مرت لحظات من صمت جليل هدأ فيها غضب الشيخ قال بعدها لمن حوله وهو يشير إلى الشافعى ........
ــ أيها الأبناء , هذا ولدى , وأنى أجيز له الفتيا من اليوم ..
ثم أردف وهو يملأ منه عينين حانيتين ........
ــ بارك الله فيك يا أبا عبد الله , الحمد لله الذى مد فى أجلى لأرى مثلك , أمثالك يا ولدى هم الذين يتوجب إسناد القضاء والفتيا إليهم ..
ثم أخذ يتمتم فى سره بصوت خفيض ......
ــ والله لم يأتنى قرشى أفهم منه , إنه أجدر الرجال بأن يكون عالم قريش , أجل عالم قريش الذى أخبر به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ثم علا صوته ........
ــ أيها الأبناء إحفظوا عنى ما أقول : من أحب أن يجيب عن مسئلة أو يفتى برأى منكم , فليعرض نفسه على الجنة والنار , ثم يجيب بعد ذلك ........


إنفض مجلس الإمام ومضى كل إلى سبيله إلا ذلك العراقى البدين محمد بن الحسن , تقدم تجاه الشافعى نادما حزينا وقد طوعت له نفسه مجاراة صديقه فى وشايته , وأخ يعتذر فى حياء ...........
ــ إن لم تصفح عنى , لن تسامحنى نفسى على سوء ظنى بك , وعدم تقديرى لعلمك وفهمك , ويشفع لى أنى كنت أنظر إليك بعين السخط لا بعين الرضا ..
إبتسم الشافعى وهو يقول مرتجلا بينما يدره تربت على كتفه ملاطفا وهدئا من روعه ...........
ــ وعين الرضا عن كل عيب كليلة .. ولكن عين السخط تبدى المساويا
فإن تدن منى تدن منك مودتى .. وإن تنأ عنى تلقنى عنك نائيا
كلانا غنى عن أخيه حياته .. ونحن إذا متنا أشد تفانيا
ــ أفهم أنك سامحتنى , وغفرت لى سوء ظنى ؟.
ــ عافاك الله يا ابن الحسن وغفر لى ولك , الله وحده يعلم أنى لا أحمل ضغينة لأحد , ولم تحدثنى نفسى أبدا بأى مساءة من أحد ولا تجاه أحد , حتى أخى حماد فإن يدى ممدودة إليه , ليته يقبل دعوتى ويساعدنى فى إزالة ما بنفسه مما يحمله على , وأن يتخذنى صديقا وأخا له , إن ما جمعنا إنما هو مجلس علم واحد , ليتك تأخذنى إلى داره ..
ــ الحمد لله , أزحت عن قلبى هما ثقيلا بصفحك عنى , أما عن صاحبى سأعمل إن شاء الله على أن أجمعكما معا فى القريب كى تصفو النفوس والضمائر ..
ــ ليتك تفعل فى التو ..
ــ إن شاء الله رب العالمين .. إسمع يا صديقى , لقد عزمت على العودة بعد أيام إلى العراق , فإن حملتك قدماك لبلادنا يوما , عاهدنى أن تزورنى , إن لى دارا فى بغداد وأخرى بالكوفه , سل من تلقاه عن دارى سيدلك على الفور ..
ــ عهد على إن شاء الله أن أزورك , إذا جئت بلادكم , ليتنى أتعرف على علمائكم وأتزود من علومهم ..
ــ بهذه المناسبه أحيطك علما بأنى سأشرع فور عودتى فى تصنيف أحاديث شيخنا مالك , لقد جمعت الكثير من علومه وفتاواه , وكذلك فعلت من قبل وأنا فى بغداد فيما وعيته من مسائل إمام أهل الرأى أبى حنيفة النعمان , شيخنا فى العراق ..
ــ هل أدركته ؟.
ــ أجل أدركته وأنا صبى دون العاشره , لا أزال أتذكر مجلسه العامر وما سمعته منه , حضرته مرات ورأيته وأنا بصحبة والدى ..
ــ فى مجلس علمه ؟.
ــ أحيانا فى مجلس علمه بالمسجد , وأخرى فى متجره بالكوفه , يرحمه الله رحل وأنا فى الثانية عشره ..
ــ إيه .. أبى حنيفة النعمان .. من أراد أن يتبحر فى العلم فهو عيال على أبى حنيفه .. لم يسعدنى زمانى بلقائه والجلوس بين يديه , لقد ولدت فى نفس العام بل فى نفس اليوم الذى رحل فيه إلى جوار مولاه , هكذا علمت من جدى الأزدى ..
ما كاد يستدير وهو يشد على يدى صاحبه مودعا , حتى وجد غريمه يسدد إليه نظرات نارية غاضبه ملؤها الحقد والكراهيه , بان فى أساريره أنه تأبط شرا ونوى أمرا ولسان حاله يقول ..... أنا , حماد البربرى , سليل أكبر عائلات الكوفه وأعرقها , أصبح أضحوكة أقرانى , الأيام بيننا أيها المكى , سأعرف كيف أؤدبك وأقتص منك , لن تفلت من يدى مهما طال الزمن ..
لم يأبه الشافعى لنظراته النارية , بل كان يرثى لحاله متمتما فى سره دعاء إلى الله له أن يصرف عنه وأن ينقى سريرته من الغل والحقد وأن يغفر له , ثم مضى فى طريقه يرافقه صاحبه وصديقه الحميم عبد الله بن عبد الحكم , الذى بدا مسرورا مستبشرا وهو يحيطه بنظرات الزهو والفخار ..


@ مكثا يقطعان طريقهما فى أحاديث شتى , آثرا إمضاء بعض الوقت معا قبل أن يعودا إلى الدار ليصيبا عشاءهما , أخذا يسيران معا فى طرقات المدينة وأزقتها , يمشيان خطوات إذا توافقا فى الرأى ويتوقفان لحظات إن اختلفا , يستأنفان السير بعدها , كأن خطواتهما إيقاعات تصور كلامهما وتحاكيه , مستأنسين بحديثهما الودود بعد يوم حافل بالمواقف , قال له صاحبه ........

ــ الحمد لله الذى نصرك على رؤوس الأشهاد , ونصرك على هذا الوغد وكشف سوء نيته , كاد يوقع العداوة بين الشيخ وبينك ويوغر أصحاب إخوانك عليك ..

ــ أسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل ..

ــ كنت موفقا فى جوابك على الشيخ وفى اسستنباطك للحكم , حتى ان الشيخ أجاز لك الإفتاء , هنيئا لك ..

ــ أما عن الفتوى , لم يحن أوانها بعد , لقد جمعت فقه مكه على يد فقهائها الخمسه يتقدمهم سفيان بن عيينه , كذلك فقه المدينة كله , لكن ما زال أمامى بلاد لا حد فيها للعلم ..

ــ أى بلد هذا يا أبا عبد الله ؟.

ــ العراق , عالم مترامى الأطراف , عالم زاخر يموج بالعلوم والمعارف , هناك وبعد أن أرتوى من علوم أهلها , وأتعرف على ما خلفه شيخهم الأكبر أبو حنيفه من علوم جمه , ربما أجلس يوما للدرس والفتيا , لن تغيب عنى أبدا كلمات شيخنا مالك .. "من أحب أن يجيب عن مسئلة أو يفتى برأى, فليعرض نفسه على الجنة والنار ثم يجيب بعد ذلك" .. وقال لى قبل ذلك , "لقد أدركت أقواما إذا سئل أحدهم مسئلة , تراه كأن الموت أصبح قاب قوسين أو أدنى منه" ......

ــ أفهم أنك عقدت العزم على الرحيل إلى العراق ؟.

ــ ليس بعد يا صاحبى , أمامى أمران ضروريان , أنتهى منهما قبل أن أخطو تلك الخطوة الكبيره ..

ــ أمران ضروريان , ماذا تعنى ؟.

ــ أنت صديقى الوفى الذى أهداه الله لى فى المدينه , سأقول لك , أولهما أن أستن بسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..

عاجله مبتسما ......

ــ أن تتزوج , صحيح ؟.

ــ أجل يا صديقى .. قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحه" .. أسأل الله تعالى أن ييسر لى الزوجة الصالحه , إنها خير متاع الدنيا ..

ــ والأمر الثانى ؟.

ــ أن أجد عملا أتكسب منه , سأحاول البحث عند أى من الولاة عن عمل يعيننى على أعباء المعيشه ..

أردف قائلا وهو يراه متعجبا من قوله كأنه يستنكر أن يبحث مثله عن مصدر رزق , وهو حامل لعلوم شريفة تغنيه عن التكسب ........

ــ لا تعجب يا صاحبى , صاحب العلم إن لم يكن فى بيته دقيق لا يصح أن يستشار فى شئ , وأنا لا أحب أن أعيش كلا على أحد أو عالة عليه ..

ــ معك حق , اما عن الزوجه الصالحه , فدع هذا الأمر لى , أنا أعرف لك زوجة فيها كل الصفات التى عينها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذا أمرتها أطاعتك وإذا نظرت إليها سرتك وإن أقسمت عليها أبرتك وإن غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك ..

ــ بارك الله فيك يا ابن عبد الحكم .. من تكون ؟.

ــ إبنة خالى , إسمها حميده وأبوها نافع بن عيينه بن عمرو , وهى عثمانية الأصل , جدها الأكبر عثمان بن عفان وهو جد أمى .. لن أجد لها خيرا منك ولن أجد لك خيرا منها ..

ــ على بركة الله , متى نلتقى بأبيها ؟.

ــ أبوها توفى منذ زمن بعيد , كان يسكن هنا بالمدينه وترك ابنته وهى لم تكمل الخامسة من عمرها وحيدة فى حجر أمها ..

تمتم فى نفسه .......

ــ وحيدة فى حجر أمها , يا لها من مصادفة عجيبه ..

عاد يسأل صاحبه .......

ــ ومن يكفلها إذن ؟.

ــ عمها , ليس لها قريب غيره , يسكن فى دار ملاصقة لدارهم , هنا فى المدينه , وهو من سنلتقى به إن شاء الله .. أما الأمر الثانى وهو العمل , فلا تحمل له هما دعنى أرتبه لك مع الوالى .. ها قد وصلنا إلى الدار , تفضل نكمل كلامنا بالداخل ..

شكره الشافعى وودعه على أن يلتقى به فى الغد فى حلقة مالك ..
يتب ....@ إستدار بعد أن ودع صاحبه راجعا إلى دار عمه , مضى فى طريقه يقطع طرقات المدينة وأزقتها الضيقه فى جنح الليل والظلام يلفه من كل جانب , وبينما هو ماض فى طريقه بخطى رتيبة متأنيه , تناهى إلى سمعه وقع أقدام من خلفه , لاحظ أنها تتعقبه حيث يسير , حاول أن يبطئ فى خطاه فلاحظ من خلفه يبطئون كذلك , أسرع فأسرعوا , أبطأ فعادوا لما كانوا عليه , حينئذ أدرك دون أن يلتفت وراءه أنه مطلوب وأن من خلفه ليس واحدا بل أكثر , وقف مكانه لحظة يفكر فيما يفعله , فوجئ بجماعة أخرى تقطع الطريق عليه من أمامه , حاول أن يدقق النظر بعد أن اعتادت عينه ظلمة الليل , لمح عيونا غادرة كئيبة تنطق بالشر , أدرك أنه قد أحيط به , حاول أن يستدير كى يعود أدراجه لكنه تسمر مكانه وهو يرى الثلاثة الذين كانوا يقتفون أثره يسدون عليه الطريق , أخذ يعمل فكره فى عجل يتدبر الأمر وعواقبه ..... ماذا أفعل , إنهم كثر وأنا وحدى , والمكان قفر موحش لا حس فيه لمخلوق إلا نباح متقطع لبعض كلاب ضالة آت من بعيد , زاد من وحشة المكان وكآبته ..*

فى تلك اللحظة وقبل أن يستقر على وسيلة يتخلص بها من براثنهم , هجم عليه واحد منهم تصورا منهم انه يكفيهم مؤنته , رأوه ضامر العود فظنوا به ضعفا واستكثروا أن يهجموا عليه جميعا أو ينقضوا عليه بجملتهم مرة واحده , فوجئت عصابة الشر بصاحبهم ينطرح أرضا بضربة واحدة من الشافعى , لم يكن لديهم دراية بما اكتسبه من فنون القتال والنزال لما رحل إلى البادية فى صباه , وتعلم مهارات كثيره فى الكر والفر , لكن منع ضمور بدنه ونحافة عوده من ظهور قوته المكنونة فى جسده ..*

تقدم آخر ظنا منه أنه أشد بأسا من صاحبه غير أنه لقى نفس المصير وانطرح أرضا , تبادلوا معا نظرات ذات مغزى , وفى الحال هجموا عليه جميعا هجمة واحده وهم يحكمون الدائرة من حوله, ويضيقون منها شيئا فشيئا حتى صارت كأنها قبضة يد , بعد أن أيقنوا أنهم لن ينالوا منه فرادى .. تكاثروا عليه وظلوا يكيلون له ضربات وركلات ولكمات متلاحقة فى كل مكان تطوله أيديهم وأرجلهم , حاول عبثا أن يتفلت منهم أو يقاومهم , لم يتركوه إلا بعد أن أوسعوه ضربا حتى غاب عن الوعى لا يستطيع حراكا , والدماء تنزف بغزارة من جرح غائر فى جبهته .. أفاق الشافعى وهو ملقى مكانه على يد حانية تمسح على رأسه , حاول وهو يتأوه بصوت خافت فتح عينيه فى الظلمة الحالكة ليستبين ملامحه , ظل يدقق النظر إليه حتى تمكن أخيرا أن يتعرف عليه , إنه صديقه المصرى الذى قفل راجعا به إلى داره حيث اغتسل وبدل ملابس بعد أن حاول تضميد جراحه , ولما أفاق تماما وأمكنه الكلام سأل صاحبه متعجبا من وجوده إلى جواره وقد افترقا عند داره . فقال ...........*

يتبع إن شاء الله ............*

الصفحه * * * * *92*

ــ أبدا يا صاحبى . كل ما فى الأمر أنه بعد أن تركتنى ومضيت وحدك , حاك فى نفسى وخطر لى أنه ربما يصيبك مكروه , لا أدرى كيف هجم على ذلك الخاطر وما الذى جعلنى أتوقع ذلك !. ربما نظرة الغل والغضب التى لمحتها فى عينى حماد , كان يحدجك بها وأنت خارج من دار الشيخ , إرتبت لحظتها فى أمره وخشيت أن يلحق بك أذى منه , وحدث ما توقعته , لهذا قفلت راجعا خلفك لأجدك على الحال التى كنت عليها والدماء تغطى وجهك وملابسك ..*

سأله بنبرات صوت حزين .........*

ــ أتظن أنه من دبر تلك المكيده ؟.*

ــ ومن يكون سواه !. ليس ظنا بل أنا على يقين من هذا , لقد قرأت الشر مسطورا فى عينيه فى نظرته النارية لك ..*

عقب مرتجلا فى نبرات صوته تلبست باللوعه وهو يبث أناته وآهاته ........*

ــ دع الأيام تفعل ما تشاء .. وطب نفسا إذا حكم القضاء*

ولا تجزع لحادثة الليالى .. فما لحوادث الدنيا بقاء*

وكن رجلا على الأهوال جلدا .. وشيمتك السماحة والوفاء ..

إنتهى من كلامه ثم نظر لصاحبه نظرة فهم منها أنه يريد الرجوع إلى داره ثانية*

ـــ هيا يا صاحبى خذ بيدى ..

ــ إلى أين فى تلك الساعه ؟.*

ــ إلى دار عمى يعقوب , إنهم فى قلق الآن من تأخرى على وبالأخص أمى , لم يسبق لى أن تأخرت خارج الدار إلى هذا الوقت المتأخر فى الليل ..*

ــ ماذا تقول يا رجل , أجننت , كيف أطاوعك على ذلك وأنت بهذه الحال , أرح جسدك الآن على الفراش فما أحوجه للراحه , وتناول هذا الشراب الدافئ ريثما أرجع إليك , سأذهب أنا الآن إلى داركم وأطمئنهم جميعا عليك ..*

رآه يحاول الكلام فبادره قائلا ..........*

ــ أعرف ما تريد قوله , كن مطمئنا لن أخبرهم بما حدث , إسترح أنت الآن ..*

هز رأسا متعبا ولم يعقب ..*

يتبع إن شاء الله ..........*

الصفحه * * * * *93*

@ لم تمض إلا أيام قليله وكانت المدينة كلها تناقل نبأ الإعتداء الآثم على الشاب المكى الذى أحبه أهلها , لقربه من شيخهم فى مجلسه وأحب تلاميذه إلى قلبه , عرفوا أن وراء تلك الفعلة الشنعاء حماد البربرى زميله العراقى فى حلقة الشيخ .. راح الخبر ينتشر ويشيع حنى وصل إلى مسامع مالك , لاحظ تغيب الشافعى أياما عن حلقته على غير عادته , نادى على صاحبه المصرى بن عبد الحكم ليستجلى منه حقيقة الأمر , فأخبره بالقصة كلها كما وقعت , ثارت ثائرة الشيخ واستولى عليه غضب عارم , أرسل فى طلب حماد الذى اختفى هو الآخر من الحلقة بعد تلك الحادثه , ولما مثل أمامه قال له محتدا غاضبا .........*

ــ أفى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وفى حرمه الآمن تفعل فعلتك الشنعاء تلك؟. كيف طوعت لك نفسك ذلك أيها الأحمق , هل أعمتك الغيرة وسود الحقد قلبك إلى أن تسلط من يتحرش بزميل لك فى العلم , ألم أحذرك مرات من قبل ألا تتعرض للشافعى بالقول وأن تكف عنه لسانك , فتفعل ما هو أدهى وأمر , أذى وضرب وإهانة ؟!. إسمع يا هذا , من الساعة لا مكان لك فى مجلسى , بل لا مكان لك فى المدينة كلها , هيا احزم متاعك وارحل إلى بلادك وإلا أرسلت إلى أمير المؤمنين فى شأنك وأعلمته بحقيقة أمرك , هيا اغرب عن وجهى وإياك أن تقع عينى عليك بعد اليوم ................*

يتبع إن شاء الله ......................................


__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 05/08/2012 الساعة 13h40
رد مع اقتباس