عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 03/12/2008, 09h29
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي


دار الخلافه


........ فى الوقت الذى كان الشافعى يكابد فى مكة أحداثا وتقلبات .. تدفعه شيئا فشيئا إلى الطريق الذى رسمته الأقدار له .. ليكون أحد الأئمة العظام وعالم قريش المنتظر .. كانت أحداثا أخرى تجرى فى دار الخلافة فى بغداد .. مرت فيها سبع سنوات على أمير المؤمنين محمد المهدى خليفة للمسلمين .. ومذ تولى الخلافة وهو يتخذ نهجا مغايرا لوالده الخليفة الراحل .. فبينما كان المنصور مهموما بتثبيت الدعائم القوية لحكمه ولولده من بعده .. غارقا فى شئون الداخل وما فيه من صراعات داخل بلاط الحكم .. يواجه فى حزم شديد كافة الحركات المناهضة لحكمه .. باحثا عن منابع الفتن والقلاقل سواء فى بلاد العرب أو العجم .. كان أكبر همه وحرصه ألا تخرج الخلافة من أسرة أجداده بنى العباس ..
لكن الخليفة المهدى كان بخلاف أبيه .. يضع فى أولويات حكمه التعرف على الحضارات المختلفه والتواصل معها .. وتوطيد علاقاته مع حكامها .. وتأمين حدود الدولة الإسلاميه على اتساعها .. تميز عهده بنشاط عسكرى كبير .. بعد أن تسلم حكما مستقرا قوى الدعائم شديد الأركان .. إستطاع أن يدير معارك ناجحة خارج البلاد .. متخذا مواقف أكثر حدة وصلابه ضد الفرس وبيزنطه ..
وذات يوم .. بينما هو مستلق على فراشه .. ومن أمامه صحافا فضية ملئت بما اختلف لونه وشكله من ثمرات الفاكهه والحلوى .. إذ دخلت عليه زوجته "الخيزران" ومن ورائها جاريتها تحمل على يديه صينية مستديرة من الفضة الموشاة بالذهب .. فوقها دورق كبير للشراب وعددا من الأكواب والقوارير .. ألقت عليه نظرة عابرة وهى لا تزال لدى الباب .. رأته متكأ على جانبه الأيمن مسندا كتفه وذراعه فوق حاشيتين .. أدركت على الفور من قسمات وجهه العابسة وجمود ملامحه وهيئته .. أن ثم أمورا هامة تشغل باله وتملك عليه فكره .. توقفت مكانها قليلا قبل أن ينتبه لوجودها .. وهى لا تزال ترمقه بعينها الفاحصه تحاول أن تسبر أغواره .. أو تقرأ غوامض مكنونات سطور قلبه .. صرفت جاريتها فى صمت وهى لدى الباب وتناولت منها صينية الشراب ..
عادت خطواتها تدب فى رشاقة مرة .. وصل وقعها إلى مسامع الخليفه .. رفع رأسه قليلا ليراها تخطو نحوه بخطى وئيدة فى خفة ودلال .. حاول اختلاس ابتسامة من بين شفتيه لعلها تستر باطنه المهموم .. إلا أن شفتاه خانتاه لتأتى الإبتسامة باهة فاترة رغما عنه .. بدت كأنها مرآة ظهرت عليها صورة قلبه بكل ملامح الحزن والهم .. رأت الخيزران بما حباها الله من ذكاء وفطنه تلك الصورة القاتمه .. إبتدرته بابتسامة كلها أنوثة ودلال قائلة ....
ــ جئتك بشراب الورد يا أمير المؤمنين .. علمت من إحدى جواريك أنك أمرت به ..
حاول أن يصلح جلسته قائلا وهو يتنحنح قليلا ....
ــ تحضرين الشراب بنفسك يا أم موسى .. أين الجوارى .. أين الخدم .. ليس أكثر منهم فى قصرنا العامر ..
ردت بصوتها العذب .. والإبتسامة الرقيقة لم تغادر شفتيها ....
ــ عامر بك يا أمير المؤمنين .. أنسيت أنى كنت ضمن جواريك قبل أن تتزوجنى يا أبا موسى ..
سكتت برهة واستأنفت قائلة ....
ــ لكن .. مالى أراك على غير عاداتك .. تبدو قلقا .. مهموما ..
لم يأتها منه جوابا على سؤالها فقالت ....
ــ ليتك تقاسمنى همومك .... ثم استدركت وهى تنتقى كلماتها .....
ــ أعلم أنه لا يجوز لى أن أتدخل فى أمور البلاد وخصوصيات الحكم .. لكنى أسأل إن كان ما يشغلك شأنا يخصك أنت ؟..
أجابها وهو يتناول كوب الشراب من يدها .....
ــ لم يعد هناك ما أخفيه عنك يا أم موسى .. لكنه أمر شغلنى منذ زمن .. وصرت أشعر أن أيامى فى هذه الدنيا باتت قليله ..
أشار لها بيده يسكتها لما همت بمقاطعته .....
ــ أرجوك يا أم موسى .. لا تقولى شيئا .. منذ أيام كان عندى ذلك الرجل الداهيه قارئ النجوم .. نوبخت .. كنت أرسلت فى طلبه .. طلبت منه أن يقرأ طالعى .. واستحلفته بالله أن يصدقنى القول وألا يخفى عنى شيئا .. أخذ يعد الجداول ومكث ساعات يحسب حسابات طويله وأخيرا قال لى .... ما بقى لك من عمر فى هذه الدنيا بات قليلا .. لم يتبق لك إلا أياما معدودات .. سألته عما تبقى لى منها .. فأبى أن يخبرنى .. ولما ألححت عليه قال لى .........
ــ ماذا قال لك يا أمير المؤمنين ؟..
ــ أكد لى أنى أموت بالسم .. إيه .. ليتنى ما أرسلت فى طلبه .. ليتنى ما سألته ..
قاطعته وقد بدا عليها الإنزعاج والدهش .....
ــ ماذا دهاك يا أبا موسى .. هذا رجل دعى مخرف مأفون.. أى حديث هذا !. كذب المنجمون يا أمير المؤمنين .. أيزعم هذا المعتوه أنه يعلم الغيب . إن الآجال من أمور الغيب التى لا يعلمها إلا الله وحده ..
ــ ماذا دهاك أنت يا خيزران .. كل ذلك أعلمه .. لكن هذا اللعين حاذق فى صنعته بارع فى تلك العلوم .. إن له مواقف كثيرة مع أبى .. لم تكذب له فيها نبوءة أبدا .. ما علينا .. كلامه هذا حرك عندى ما كان يشغلنى .. وزادنى حيرة على حيره .. وهما على هم ..
ــ ماذا تعنى يا أبا موسى .. أثرت مخاوفى ؟!.
ــ إييييييه .. ماذا أقول لك .. إنها مشكلة المشاكل ..
سألت ونظرة إلحاح وقلق تقفز من عينيها .....
ــ بالله عليك .. أخبرنى ..
ــ أعنى ولاية العهد ..
ــ ولاية العهد !. ماذا جد فيها .. ألم تأخذ البيعة منذ سنوات لولدنا موسى وليا للعهد ؟!. ومن بعده لأخيه الأصغر هارون ؟!.
ــ بلى .. وتلك هى القضية التى أقضت مضجعى .. واستولت على خاطرى وفكرى زمنا .. لا أدرى كيف أعالجها الآن بعد أن قررناه فيما مضى .. إستجابة لوصية والدى الخليفة الراحل أبى جعفر المنصور .. أيامها كانا فى سن الصبا .. لم تتفتح مواهبهما بعد .. ولم تظهر قدرات كل منهما .. لكن الآن .. بعد أن اشتد عودهما وأصبحا شابين فتيين .. بان الفرق واضحا بينهما .. عقلا .. وقوة .. وصلابه .. وكما تعلمين أن ما يهمنا فى المقام الأول .. أن تظل الخلافة بأيدينا .. بنو العباس .. ولا يخفى عليك ما يفعله بنو عمنا الطالبيون .. وكيق ينازعونا فى هذا الأمر .. ويتربصون فرصة مواتية ينقضون فيها ويستولون على دار الخلافه ..
ــ فهمت .. تريد إذن أن تعيد أخذ البيعة لهارون وليا للعهد .. وتقدمه على أخيه موسى ..
ــ تماما .. تماما ذلك ما أبغيه ..
ــ لكن يا أمير ال.....
قاطعها بإشارة من يده وقال .....
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأبين لك الأمر .. إن هارون ولدى تربى على يدى يحي بن خالد البرمكى .. ولزمه زمنا تعلم منه الكثير من فنون الحرب والسياسة .. حتى أنه صار لا يناديه إلا بيا .... أبت .. ولن أنس له أنه أثبت بعد المعارك التى قادها والبطولات التى حققها .. أنه هو الأجدر والأحق بولاية العهد .. لقد قاد جيوشنا إلى بلاد الروم وهو دون السابعة عشر من عمره .. وفتح أعتى الحصون فى سمالو وطرسوس .. وفى الشهر الماضى رجع بعد أن أحرز انتصارات رائعه على جيوش الإمبراطوره إيرينى .. بعد اجترائهم وتطاولهم علينا .. تمكن فى أن يتوغل ببسالة داخل أراضيها .. حتى وصل إلى البسفور .. هذه الإنتصارات المتوالية يا أم موسى .. كان لها أكبر الأثر فى تثبيت دعائم دولتنا .. ودعم حدودنا ورجوع هيبتنا من جديد لدى الفرنجه ..
ــ هل تصدقنى إذا قلت لك .. إن هذا الأمر جال بخاطرى أنا الأخرى منذ زمن .. كم وددت لو فاتحتك فى شأنه .. غير أنى تهيبت منك .. وخشيت أن تتصور أنى أنحاز لولدى الأصغر ..
ــ وضعت يدك على لب المسأله .. تلك هى القضية التى شغلت بالى وأهمتنى .. كيف السبيل إلى وسيلة لا تحدث فتنة .. أو تنتهى إلى شقاق وخصومة بين الأخوين .. ما أكثر أعداء المتربصين بنا شرقا وغربا .. فتنة كهذه يمكن أن تجعلهما فريسة سهلة ولقمة سائغة لأعدائنا ..
ــ وعلى أى شئ نويت يا أمير المؤمنين ؟..
ــ ولدى موسى الآن فى جرجان .. وليس أمامى إلا أن أبعث رسالة إليه مع حاجبنا الفضل بن الربيع .. أشرح له فيها ما نويت عليه .. وآمره أن يحضر على الفور إلينا لأخلعه من ولاية العهد أمام القوم .. وأولى مكانه أخاه هارون ..
ــ أوتظنه يفعل ؟!..
ــ ليته لا يخيب فيه ظنى .. أتمنى أن ينصاع لأمرنا .. حتى لا يضطرنى إلى إرغامه على القبول به ..
ــ وإن أبى .. ماذا أنت فاعل ؟..
ــ سأسافر بنفسى إلى جرجان .. ولن أرجع إلا وهو معى .. أو .. أو يقضى الله أمرا كان مفعولا .......

فى دروب مكة وشعابها الضيقه .. كان على الأزدى يرافقه إبن شقيقته الشافعى .. يسيران فى همة بخطى متسارعه .. بينما الأخير يضرب كفا بكف وهو لا يدرى إلى أين ينتهى بهما المسير .. حاول أن يستعلم من خاله عن وجهتهما .. أو يخرجه عن صمته دون جدوى .. لم يظفر منه بكلمة تشفى غليله .. غير قوله له لما زاد إلحاحه عليه .....
ــ إصبر يا فتى .. بعد قليل سترى بنفسك .. وستعرف كل شئ ..
سلم أمره لله .. وكف لسانه عن السؤال .. إلى أن وجد خاله يتوقف عن سيره فى نهاية طريق ضيق .. نظر إليه ثم نظر أمامه فلم ير غير بناية وحيدة متهالكة من الطوب اللبن .. قبل أن يمد يده ليطرق الباب .. إستوقفه الشافعى معترضا طريقه .. يرجوه متوسلا ..........
ــ أستحلفك بالله للمرة الأخيرة يا خال قبل أن تطرق الباب .. أن تخبرنى لماذا أتيت بى إلى هنا .. ومن صاحب هذه الدار التى وقفت بنا أمامها .. إنها أول مرة تقع عينى عليها ؟!..
إبتسم قائلا ....
ــ لم العجله .. لحظات قليله وسترى بنفسك .. لكن على أية حال سأخبرك بإسم صاحب الدار .. كى تهدأ نقسك ويطمئن قلبك .. هذه دار العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. ألم تسمع به ؟.
ــ بلى .. سمعت به .. وأعلم أنه من أهل الزهد والصلاح .. لكنى لم أره من قبل ..
إبتسم خاله إبتسامة ذات مغزى قائلا ....
ــ أواثق أنك لم تره من قبل .. بل أظنك رأيته ..
تعجب من سؤاله منكرا عليه قوله .....
ــ قلت لك أنى لم أره من قبل أبدا .. كل ما أرجوه أن تعرفنى عن سبب مجيئنا إليه ..
ــ لا تعجل يا ابن إدريس .. لا تعجل .. عندما تراه ستفهم كل شئ ..
مط الفتى شفتيه وهو ينتحى جانبا وإن لم تفارقه الدهشة والعجب من مسلك خاله .. متمتما فى سره .... أقول له لم أره قبلا .. يؤكد لى فى ثقة . بل رأيته .. كيف .. كيف ذلك ؟!.. لم يخرجه من شروده وظنونه .. إلا صوت صرير الباب وهو ينفتح على جارية سوداء عابسة الوجه جامدة القسمات تطل برأسها من ورائه .. قال لها على من فوره بعد أن ألقى إليها بالسلام ....
ــ هلا سمحت لنا بالدخول .. نريد الشيخ لأمر هام ..
كانت الجارية على معرفة به من قبل .. فكم من مرات أتى للشيخ برفقة والده عبد الله الأزدى .. أشارت لهما بالدخول دون رد أو تعقيب .. لم تمض غير لحظات حتى خرج عليهما الشيخ من خلوته يتوكأ على عصاه .. وما كادت عين الفتى الشافعى تقع عليه .. حتى خرجت منه شهقة كادت تزهق منها روحه .. حاول أن يكتمها مستجمعا شتات نفسه مرددا بصوت خافت ..... يا إلهى .. لا أكاد أصدق ما تراه عيناى .. أحقيقة ما أرى .. غير معقول .. أيمكن أن يكون هو ؟!. أجل .. والله إنه هو .. هو بشحمه ولحمه وثوبه .. حتى الشامة التى رأيتها على خده !...
فى تلك الأثناء كان خاله "على" يرقبه باسما .. لقد صدق حدسه .. هو إذن الشيخ الذى رآه فى منامه .. كان "على" يعلم الكثير عن كرامات الفضيل بن عياض وعلو منزلته .. كم حدثه أبيه الأزدى فى ذلك الشأن .. وروى له بعضا منها ..
بعد أن سلما .. أشار لهما الشيخ بالجلوس .. وبعد لحظات صمت نظر إلى الشافعى وقال له وهو يهز رأسه باسما .....
ــ أهلا بك يا ابن إدريس .. أخيرا أتيت .. تود معرفة تأويل رؤياك .. أليس كذلك ؟!.
هز رأسه فاقدا قدرة النطق بكلمة واحدة بعدما عقدت الدهشة لسانه .. وازداد عجبه وهو لا يزال مصوبا بصره تجاه الشيخ كالمأخوذ .. لا يملك أن يحول وجهه عنه أو تطرف له عين ..
ــ إسمع أيها الفتى القرشى .. قبل أن أجيبك .. أود أن تعى ما سأقوله لك .. إجعل هذه الكلمات نصب عينيك .. أنت تحمل فى صدرك كتاب الله .. وحامل القرآن هو من حملة راية الإسلام .. لا ينبغى له أن يلهو مع اللاهين أو يسهو .. ولا يجوز له اللغو مع أهل اللغو والمراء .. ينبغى لحامل القرآن ألا يكون له إلى الخلق حاجة أبدا .. ولا إلى الخلفاء فمن دونهم .. بل إن حوائج الخلق ينبغى أن تكون إليه .. أفهمت .. يا فتى ؟..
ــ أجل .. فهمت ووعيت .. يا سيدى الشيخ ..
سكت الشيخ ناظرا إلى موضع قدميه .. ولما طال صمته إستحثه الشافعى متسائلا .....
ــ وماذا عن المنام ؟..
ــ سأخبرك .. إن ما شهدته اليوم وأنت نائم بين الحجر والمقام .. بشرى من الله لك .. سوف تبلغ أعلى الدرجات يوما أيها الفتى .. سوف تكون لك الإمامة فى العلم وأنت على السبيل والسنه ..
ــ والميزان ؟!.
ــ علمك حقيقة الشئ كما هو فى نفسه ..
ــ بم تنصحنى يا سيدى ؟..
ــ إشرع يا ولدى من الغد فى تلقى دروس الفقه والحديث .. إلزم حلقة أبا محمد سفيان بن عيينة الهلالى .. أعرف أنه من العلماء العاملين .. واغتنم الوقت فإنه رأس مال العبد .. إياك أن تضيع منك لحظة من عمرك فيما لا ينبغى .. العمر يا ولدى قصير مهما طال .. والزاد قليل مهما كثر .. الدنيا غمها لا يفنى .. وفرحها لا يدوم .. وفكرها لا ينقضى ..
ثم قام ومد يده مسح بها فى حنان على رأس الشافعى وهو يتمتم فى سره كلمات كأنه يدعو له .. قبل أن يستدير صاعدا فى صمت إلى حيث مكانه فى خلوته .....

@ خرج الشافعى من دار الشيخ إنسانا آخر .. كأنما كان سقيما طال به السقم حتى إذا آيس من الشفاء , صحا فجأة من نومة ليجد العافية ردت لبدنه وروحه مرة واحده .. لم يهدأ يوما واحدا بعد هذا اللقاء الروحى الرفيع .. لم يذق للراحة طعما فى نهاره .. ولا للفراش لذة فى ليله .. وهو يرتاد منهوما حلق العلم فى ساحة البيت العتيق .. يجنى من كل رحيق زهرها .. متنقلا بينها كالنحلة العاملة الدؤوب .. يسأل , يحاور , ينصت , وكله نهم وشغف للمعرفة وتحصيل ما فاته من العلوم , ووعاء علمه فى طلب المزيد على الدوام لا يمتلئ أبدا ..
فتارة تلقاه فى درس إمام الحرم ومفتيه الأول الفقيه العابد صوام الدهر مسلم بن خالد الزنجى , وتارة أخرى فى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه , كان يتخذ حلقته عند المقام , والفتى ملازم حلقته كما أوصاه الفضيل , يصغى إليه وهو يقول لمن حوله من طالبى العلم ................
ــ حدثنى إبن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى : "ورفعنا لك ذكرك" .. أى لا أذكر يا محمد إلا ذكرت معى كما فى الشهادتين , أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..
وفى أمثال هذه الدروس , بعد أن ينتهى الشيخ من رواية الحديث وتوثيق أسانيده , يتابع الشافعى ما يدور من أسئلة ونقاش , بين الحضور وبين الشيخ .......................
ــ شيخنا , هل يجوز السلام على المصلى , وإذا سلم , هل يرد عليه السلام ؟.
ومن نبع السنة النبوية الصافى والشيخ حديث عهد بها يجيب .....
ــ عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن عبد الله قال : كنا نسلم على رسول الله "ص" وهو فى الصلاه قبل أن نأتى أرض الحبشه , فكان يرد علينا , فلما رجعنا منها أتيته لأسلم عليه فوجدته يصلى فسلمت عليه فلم يرد , جلست , حتى إذا قضي صلاته أتيته فقال "صلى الله عليه وسلم " : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء , وإن مما أحدث الله عز وجل ألا تتكلموا فى الصلاه" ......
وينصت له وهو يلقى على أسماع تلاميذه حكمه ومأثوراته .............
ــ إعلموا أيها الناس أنه ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من معرفتهم لا إله إلا الله , وأنها فى الآخرة بمنزلة الماء فى الدنيا , قال تعالى " "وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون" , فكما أنه لا حياة لشئ فى الدنيا إلا بالماء , كذلك لا إله إلا الله بمنزلة الماء فى الدنيا , من لم تكن معه لا إله إلا الله فى الدنيا فهو ميت , ومن كانت معه فهو حى .....
ويستمع لمن يسأله ......
ــ يا أبا محمد أخبرنى عن قول أحدهم : لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر , وقول الآخر : اللهم رضيت لنفسى ما رضيت لى . ما تقول فيهما ؟..
ــ القول الأول أحب إلى ..
عقب السائل مستغربا إجابة الشيخ ....
ــ كيف .. وقد رضى الأخير لنفسه , ما رضيه الله له ؟!..
ــ لا تعجب .. إنى قرأت القرآن فوجدت صفة نبى الله سليمان عليه السلام مع العافية التى كان فيها : "نعم العبد إنه أواب" .. ووجدت صفة أيوب عليه السلام مع البلاء الذى كان فيه : "نعم العبد إنه أواب" .. فاستوت الصفتان حال العافيه وحال البلاء , ولما وجدت الشكر قام مقام الصبر واعتدلا , كانت العافية مع الشكر أحب إلى من من البلاء مع الصبر ..
كم من مرة استمع له الشافعى وهو ينصح تلاميذه ......
ــ أيها الأبناء , إذا كان نهارى نهار سفيه وليلى ليل جاهل , فما أصنع بالعلم الذى كتبت !. ومن رأى أنه خير من غيره فقد استكبر .. كونوا أيها الأبناء كما قال عيسى عليه السلام : "أوعية الكتاب وينابيع العلم" .. واسألوا الله رزق يوم بيوم , واعلموا أن أول العلم الإستماع ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر ..
كل هذا الفيض من العلوم والنصائح والمعارف , والشافعى متربع فى الحلقة لا ينبس ببنت شفه , منتبها منصتا لكل كلمة فيها , لا يفارقها إلا إذا شق عنان الفضاء صوت مؤذن الحرم مناديا للصلاه ..
إستقر الشافعى فى ساحة البيت الحرام لا يكاد يبرح مكانه فيها إلا فى المساء عائدا إلى داره .. عرف بين الناس بذلك فكانوا فكانوا يشيرون عليه قائلين ... ما أعجب حال هذا الفتى , أقرانه فى اللهو واللعب , وهو كما ترون لا يفارق حلق العلم والدرس , لا يكاد يغادر إحداها إلا ليلحق بغيرها .. وانتشرت سيرته بين الناس حتى أن أحدهم لقبه "عاشق المعرفه" , وعرف بين الناس بذلك اللقب , واستمروا ينادون به عليه .. كان هذا اللقب يسبق إسمه إذا ناداه أحد , أو إذا مر بقوم فى طريقه , أو حتى فى السوق وهو يشترى حاجياته ..
لكن واجهته مشكلة تدوين وحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث والمسائل والفتاوى التى يتلقاها بسمعه , من أين له بالدنانير والدراهم التى يشترى بها القراطيس التى يكتب عليها , وهو لا يزال يعانى من ضيق ذات اليد وقلة المال .. لكنه رغم ذلك لم يعدم الحيله , كان يجمع وهو فى طريقه إلى داره بشعب الخيف , ما يعثر عليه من سعف النخيل وينتقى منها ما يصلح للكتابة عليها .. وعندما يصل إلى داره يظل عاكفا عليها طرفا من الليل , على ضوء المصباح الخافت , يدون فى صبر وأناة ودأب ما اختزنه فى ذاكرته مما سمعه فى يومه من أحاديث وفتاوى ..
وذات ليلة وهو راجع إلى الدار , فتحت أمه الباب لتجده ممسكا فى يمناه بعض اللفافات , وفى الأخرى أشياء بدت لغرابتها مثيرة للدهشه .. لم تتمكن من التعرف عليها للوهلة الأولى .. وهى تتفحصها بعينيها متعجبة ونظرة استنكار فى عينيها .. لم تجد مناصا من سؤاله وهى لا تزال على حالها من الدهشة والتعجب .....
ــ ما هذه الأشياء الغريبة التى أراها معك يا ولدى ؟!..
إبتسم قائلا وهو يضعها بحرص جانبا ....
ــ كما ترين يا أماه .. قطعا من الخزف والجلود وبعضا من عظام أكتاف الإبل العريضه ..
عاودت سؤالها وقد ازدادت دهشتها ....
ــ أمرك عجيب .. خزف وجلود وعظام أكتاف الإبل ؟!. ماذا تصنع بها ؟!.
أجابها مداعبا وقد اتسعت ابتسامته ....
ــ وما تظنين أنى فاعل بها يا أم الشافعى ؟..
هزت كتفيها بامتعاض فأجابها ....
ــ أدون عليها ما أسمعه من أحاديث وفتاوى ..
ــ تدون عليها ؟!. على هذه الأشياء !. وهل أمثالها يصلح للكتابة عليها .. كيف ؟!.
ــ أجل يا أمى .. لا تعجبى .. كنت أكتب على سعف النخيل كما تعلمين .. غير أنى لا أجد أحيانا ما يناسبنى منها .. ظللت أبحث عن أشياء أخرى تصلح للكتابة عليها .. فلم أجد إلا عظام أكتاف الإبل العريضة .. وتلك القطع من الخزف والجلود .. تلك هى المسأله ..
ــ وأى مكان يسع هذه الأشياء لتحفظها فيه ؟!.
ــ سأضعها هناك .. فى تلك الجرار الفارغه ..
إسمع يا ولدى .. ما رأيك فيمن يدلك على وسيلة أيسر وأنفع .. ولن تكلفك شيئا ؟..
ــ دلينى عليه يا أمى .. من هذا الذى يعرف تلك الوسيله ..
ــ أنا يا ولدى ..
ــ أنت يا أماه ؟!.
ــ أجل .. ما عليك إلا أن تذهب إلى أحد دواويين الكتابة .. أو القضاء أو الحسبه .. وتطلب من الكتبة بها أن يعطوك بعضا من الظهور .. لن يبخلوا عليك ببعض منها ..
ــ تقصدين يا أماه تلك الأوراق المكتوب عليها من جهة واحده , لأستفيد من الجهة الأخرى , الخاليه من الكتابه .. الله الله , وسيلة لا بأس بها حقا .. ما أروعك يا أمى .. رأى سديد حقا , ولا أدرى لم تخطر لى هذه الفكرة من قبل .. لكن يا أماه سيطلبون ثمن تلك الأوراق .. وأنا كما تعلمين !!..
ــ لا عليك يا ولدى من هذا .. إذهب أنت إليهم .. سيعطونها لك هبة دون مقابل ..
ــ نعم الرأى يا أمى .. على كل حال أفرغ من الكتابة على هذه الأشياء , ثم أستوهب الظهور .......

@ مرت أياما صار خلالها للشافعى منزلة من شيوخ الحرم , مقربا منهم معروفا لهم جميعا , لما يرونه منه من إقبال ونهم على الدرس وتحصيل العلوم , ومقدرة فذة على استيعاب علومهم وفهمها .. وذات مره بينما هو جالس بجوار شيخه سفيان بن عيينه وهو متصدر حلقته بجوار المقام بفناء زمزم يقول ........
ــ عن الزهرى عن على بن الحسين أن صفية بنت حيى أم المؤمنين قالت له أن النبى "صلى الله عليه وسلم " كان معتكفا بالمسجد , قالت فأتيته فتحدثت عنده , فلما أمسيت انصرفت , فقام رسول الله "صلى الله عليه وسلم " يمشى معى , فمر به رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا , فناداهما وقال : "إنها صفيه بنت حيى" فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيرا , فقال رسول الله "ص" : "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم" ........ كيف تفهمون فقه هذا الحديث ؟. أيكم يخبرنى أيها الأبناء ..... قالها وهو يجول بعينيه عليهم ..... رفع أحدهم يده قائلا .....
ــ أراد رسول الله "صلى الله عليه وسلم " رد اتهام الرجلان له .. وأن ينفى ما وقع فى قلبيهما من سوء ظن به ..
أشاح الشيخ بوجهه عنه محركا رأسه يمنة ويسره , دلالة على عدم رضاه عن جوابه , ثم عاد ينظر لمن حوله وعاود سؤاله للمرة الثانيه .... لم يجبه أحد .. إتفت إلى الشافعى قائلا .....
ــ وأنت يا أبا عبد الله .. ألا تجيب ؟.
رد فى أناة الواثق ....
ــ بلى يا سيدى .. لدى جوابا ..
ــ تكلم إذن .. لم لا تجيب ؟!. تكلم ..
ــ إن كان القوم اتهموا النبى "صلى الله عليه وسلم " , أو حاك فى صدورهم منه شئ , لأصبحوا كفارا باتهامهم , لأن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " لا يتهم أبدا , إنه أمين الله فى أرضه , فهم بادئ ذى بدء لم يتهموه ..
عاد الشيخ يسأله ...........
ــ فلأى سبب إذن قال لهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم " ذلك ؟..
ــ كان هذا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " على الأدب والتعليم لأمته ..
ــ كيف ؟..
ــ أى إذا كنتم هكذا فافعلوا كذلك , أو إذا مر أحد على رجل منكم يكلم امرأة هى منه بنسب , فليقل له إنها فلانه وهى منى بنسب كذا , حتى لا يظن بكم ظن السوء , ولا تكونوا عونا للشيطان عليه ..
إبتسم الشيخ وظهرت البشاشة على وجهه ناظرا بإعجاب إلى الشافعى .. ثم قال لمن حوله ......
ــ أسمعتم .. هكذا يكون الفهم فى أمور الدين .. جزاك الله خيرا يا شافعى .. ما نسمع منك إلا كل ما نحبه ..... سكت برهة وأردف .....
ــ أيها الناس .. إعلموا أنه لم يعط أحد فى الدنيا شيئا أفضل من النبوه .. ولم يعط بعد النبوة أفضل من العلم والفقه .. ولم يعط فى الآخرة أفضل من الرحمه ........

@ حدث أخيرا ما كان أمير المؤمنين يتوقعه ويحسب حسابه .. أبى واستكبر ولده موسى الهادى أن يخلع نفسه من ولاية العهد طواعية .. رفض العودة مع الفضل بن الربيع إلى بغداد .. قرر الخليفة المهدى أن يخرج بنفسه إلى جرجان .. مستصحبا معه يحي بن خالد البرمكى .. ليأتى بولده رغم أنفه إلى قصر الخلد .. ليخلعه من ولاية العهد قسرا .. أمام الأمراء والقادة وكبار رجال البلاط ..
وأثناء رحلته التى دبرتها له الأقدار , بالقرب من بلدة اسمها ماسباذان , أدركه التعب من طول الرحلة واعتلال صحته .. أمر رجاله أن يحطوا رحالهم وينصبوا خيامهم بضعة أيام قبل أن يستأنفوا رحلتهم .. وبينما رجاله قائمون على حراسته خارج خيمته التى قرر أن يستريح بداخلها , إذ فزعوا على صوت استغاثة من داخل الخيمه .. هبوا مرة واحدة مهرولين داخل الخيمة ليجدوا الخليفة يصرخ من شدة الألم طالبا الغوث .. كان أول من أدركه يحي بن خالد البرمكى الذى ارتمى جزعا على فراشه .....
ــ مالك يا مولاى .. أى مكروه أصابك ؟..
أشار ناحية قدمه وهو يتلوى من الألم .....
ــ ثعبان لعين .. لدغنى هنا .. فى قدمى .. وفر من هذه الناحيه .. صدقت نبوءة المنجم نوبخت .. تماما كما أخبرنى .. سأموت بالسم .. أجل إنها النهايه ..
قاطعه يحى وقد خنق البكاء صوته .....
ــ على رسلك يا أمير المؤمنين .. فداؤك نفسى .. إنك بخير ..
ــ لا , لا.. إنها النهاية حتما .. أعدوا القافله .. سنعود إلى بغداد .. وأنت يا يحى أكمل الرحلة إلى جرجان , وأتمم ما قمنا من أجله .. أعلم ولدى موسى أنى قد خلعته من ولاية العهد , والخلافة من بعدى لولدى هارون الرشيد .. أفهمت ؟..
قال وصوته لا يزال باكيا تخنقه العبرات .....
ــ دعنا من هذا الآن يا مولاى .. ننزع السم من قدمك أولا .. وبعدها نفعل كل ما أمرت به ..
وقبل أن يتم كلامه ارتمى على قدمه محاولا امتصاص الدم , والخليفة يقول فى صوت واهن أخذ يخفت شيئا فشيئا , بينما العرق يتساقط غزيرا من جبهته ووجهه .........
ــ يا برمكى لا فائده , قلت لك لا فائده , إنى أشعر بالسم يسرى فى دمى .. قضى الأمر , هيا دعونى وحدنى , ولا تسمحوا لأى أحد يدخل على حتى آذن له ..
ولما صار وحده , وخلت الخيمة إلا منه , حاول أن يغمض عينيه , إلا أنه لم تمض لحظات حتى انتبه مذعورا , على صورة شبح انسان يقف أمامه , وهو لا يدرى من أى مكان دخل عليه خيمته .. إنه نفس الشبح الذى ظهر من قبل للخليفة المنصور .. وهو الذى أتى الشافعى فى منامه .. العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. نظر إلى المهدى نظرة ثاقبة ثم قال .....
ــ كأنى بهذا البيت قد باد أهله .. وقد درست أعلامه ومنازله ..
لم يشعر بنفسه إلا وهو يجيبه مرتجلا , بينما جسده يرتعد فرقا وخوفا ....
ــ كذاك أمور الناس يبلى جديدها .. وكل فتى يوما ستبلى فعائله ..
جاوبه الشيخ .....
ــ تزود من الدنيا فإنك ميت .. وأنك مسئول فما أنت قائله ..
رد المهدى .....
ــ أقول بأن الله حق شهدته .. وذلك قول ليس تحصى فضائله ..
حوار دار بينهما , إختفى بعده الشبح فجأة كما جاء , ولم تمض غير أيام قلائل إلا والخليفة المهدى فى ذمة مولاه , وتولى الخلافة من بعده ولده موسى الهادى قبل أن يخلعه أبوه من ولاية العهد , غير أن خلافته لم تدم أكثر من خمسة عشر شهرا , بعد أن وافته المنية وهو فى ريعان الشباب , وانعقدت الخلافة من بعده لأخيه هارون الرشيد أميرا للمؤمنين ..........

@ ظل الشافعى على هذا المنوال مثابرا , منقطعا لدروس العلم والفقه والحديث , يتعلم , يسأل , يدون ما يسمعه فى همة لا تعرف مللا أو كلل , نسى تماما أياما كان فيها ينشد الشعر ويحكى سير الشعوب وأيام العرب , على رواد مجلسه من أهل مكة وزوار الحرم , حتى أن بعضهم من رواد مجلسه القديم لما غلبهم الشوق إلى حكاياته , حاولوا استمالته مرة ثانيه لكن خاب سعيهم وذهبت جميع محاولاتهم أدراج الرياح .. كلما بحثوا عنه لا يجدوه إلا مرابطا فى حلق العلم لا يغادر إحداها إلا ليذهب لأخرى , وأخيرا يئسوا من بلوغ مرادهم , فتركوه مع شيوخه ينعم بما يلقاه عندهم .. ومع الأيام تكونت عنده ملكة ومقدرة على فهم النصوص ومراميها واستنباط الأحكام منها للفتوى , لكنه لم يفعل برغم أن شيخه سفيان بن عيينه حاول أن يدفعه للفتيا , قال له ذات مره .............

ــ شكى لى بعض الناس أنهم جاؤك لتفتيهم , فأبيت , لم يا ولدى ؟!.
ــ يا سيدى , ما يكون لمثلى فى تلك السن المبكرة أن يفتى فى أمور الدين ..
ــ لكنى أرى أنك أهل للفتيا , آن لك أن تفتى يا ولدى ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , لا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله , إلا من كان عارفا بكتاب الله , بناسخه ومنسوخه , ومحكمه ومتشابهه , وتأويله , وتنزيله , ومكيه ومدنيه , وما أريد به , ويكون بعد ذلك بصيرا بأحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " , والناسخ والمنسوخ منها , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة , بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن , ويستعمل هذا مع الإنصاف , ويكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار , وبعد هذا تكون له قريحة .. فإذا كان له هذا فله أن يفتى فى الحلال والحرام , وإلا سكت عن الفتيا .. وأنا يا سيدى ما حصلت بعد , ذلك كله ..
ــ أجل أجل .. صدقت يا بنى .. صدقت ..
ومع هذا البيان من الشافعى لشيخه , كان إذا سأل أحدهم شيخ مكه سفيان بن عيينه فى مسألة , يشير إلى الشافعى ويقول ..... عليكم بهذا الفتى المطلبى فاسألوه .. .. إنه أفضل فتيان أهل زمانه .. إنه فتى لم تعرف له صبوه ...
واستمر الشافعى يلح فى طلب المزيد من المعرفه , تأبى نفسه إلا أن تجلس فى صفوف التلاميذ وطلاب العلم , رغم إجازة الشيوخ له أن يفتى ويعلم .. قال مرة لواحد من أصحابه كان يحثه ويلح عليه أن يترأس حلقة من حلق العلم ..... إن على أن أتفقه أولا .. ولو ترأست حلقة .. فلا سبيل لى إلى التفقه ..
كان على يقين من أنه إن ترأس حلقة علم قبل أن يستوفيه , فلن تتاح له معرفة ما لم يعرف , لم يحاول قط الجلوس فى مقعد الأستاذ المعلم مفضلا الإبحار فى خضم محيط العلوم والغوص فى أعماقه البعيدة المتراميه , وهذا ما دفعه يوما لسؤال شيخه سفيان بن عيينه ..........
ــ عندى شئ يدفعنى دفعا للتزود من علوم أهل المدينه .. دار الهجره ..
ــ عظيم يا ولدى .. عليك إذن بإمامهم وشيخهم .. مالك بن أنس الأصبحى .. قبل سنوات سافرت إليه , وسمعت منه الكثير ..
ــ إذن لا أضيع وقتا .. أسافر إليه .. وأختلف إلى حلقته ومجلس علمه ..
إبتسم الشيخ قائلا .....
ــ على رسلك يا شافعى .. لا تعجل ..
ــ لم يا سيدى ؟!.
ــ قبل أن تشد الرحال إليه .. يلزم أن تقرأ كتابه أولا ..
ــ تعنى كتابه الموطأ ؟.
ــ أجل .. إنه صفوة علم مالك .. وجماع الحديث الصحيح ..
ــ وأين لى به ؟.
ــ لا تبال بهذا الأمر .. سأدلك على صديق لى يعيره لك بضعة أيام .. عليك خلالها أن تعى كل ما حواه .. وبعد أن تفرغ منه .. لك ما شئت .. تشد الرحال إلى المدينه وتحظى بالجلوس إلى إمامها ..
سكت برهة وأردف ....
ــ ألم تسمع حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " : "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم , فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينه" ..
ــ بلى .. سمعت هذا الحديث .. لكن آااااااااه .. تعنى ...
ــ أجل كانت إشارة نبوية من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " قبل مائة وسبعين سنه , إلى إمامها مالك بن أنس .. إن أهل المدينة يا ولدى لم يجمعوا على أحد بعد الشيخين أبى بكر وعمر , إلا على إمامهم وشيخهم مالك ..........

@ فى اليوم التالى انطلق الشافعى إلى الحجون , قاصدا دار صديق شيخه سفيان , مستعيرا منه موطأ مالك على وعد أن يرده له بعد أيام يكون قد فرغ فيها من قراءته .. رجع إلى داره والسعادة تغمره , حاملا كتابا بين دفتيه حوالى ألف حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم " .. ظل عاكفا على صفحاته يحفظ ما فيها فى نهم مواصلا الليل بالنهار , وفى نهاية اليوم التاسع كان قد أتى على آخر صفحات كتاب , دونه الإمام مالك فى أربعين سنة كامله .. بينما الأم ترقبه بإعجاب به ممزوج بإشفاق عليه لما يكابده من جد وسهر , على ضوء مصباح خافت , تحيطه بحنانها وعطفها , جالسة إلى جواره تعينه وترعاه , تشجعه بابتسامتها الدافئه التى لا تفارقها وهى تنظر إليه ..
وبعد أن أتى على آخر كلمة فى الكتاب وقد وعى كل ما حواه , إلتفت إلى أمه قائلا وهو يطويه .....
ــ الحمد لله , الآن يا أمى انتهيت من قراءة موطأ مالك ..
ــ تنتهى من سفر ضخم كهذا فى تسعة أيام , عجيب والله يا ولدى !..
ــ أجل يا أماه , بل وحفظت فى رأسى كل ما جمعه الإمام من أحاديث رسول الله "ص" ..
صمت برهة وأردف .....
ــ لذلك عزمت على أمر , هل تعينينى عليه ؟!.
ــ تكلم يا ولدى , خيرا إن شاء الله ..
ــ عزمت على مواصلة رحلة العلم ..
ــ مواصلة رحلة العلم ؟!. إلى أين يا قرة عينى ؟.
ــ المدينه .. بى شوق يدفعنى للتعرف على علوم أهلها .. سنرحل إليها سويا إن شاء الله , إن وافقتنى على ذلك ..
إلتفت إليه خاله على , وكان يتابع حوارهما وهو مستلق على ظهره ناظرا إلى سقف الدار , قال مستنكرا .....
ــ لا أفهم إلحاحك فى الرحيل إلى المدينه , أى فائدة تعود عليك وقد نهلت من علوم أكابر شيوخ مكه وعلمائها .. لم التعب والنصب , وفيم الغربة والفراق يا أبا عبد الله ؟!. الناس هنا لا حديث لهم إلا عنك .. أمرك عجيب والله !..
تلقى الشافعى كلامه المحتد بابتسامة , تاركا العنان لبصره منطلقا ولخياله سابحا فى الفضاء الممتد من أمامه عبر نافذة مفتوحة على مصراعيها وهو يقول كأنما يحادث نفسه ......
ما فى المقام لذى عقل وذى أرب
من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب
إنى رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
الأسد لولا فراق الغاب ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقى فى أماكنه
والعود فى أرضه نوع من الحطب
فإن تغرب هذا عز مطلبه
وإن تغرب ذاك عز كالذهب
كانت للشافعى موهبة خصبة نادره فى نظم الشعر , وملكة قادرة حاضره دربها العلم وصقلها دوام تحصيله .. غير أن نفسه أبت أن تنخرط فى سلك الشعراء , ولم ترد له أن يمضى فيه إلى آخر الدرب , وهى تلتمس السمو إلى ما هو أعظم وأرقى , الفقه وعلوم الدين والحديث , كان يعى تماما معنى قول الله تعالى ووصفه لأحوال الشعراء : "والشعراء يتبعهم الغاوون , ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون , وأنهم يقولون ما لا يفعلون" .. ذات مرة حاول واحد من أصحابه أن يشجعه على احتراف الشعر , لما أعجبه سلاسة نظمه وسرعة بديهته , فقال له ....
ولولا الشعر بالعظماء يزرى .. لكنت اليوم أشعر من لبيد
بعد أن انتهى من سرد أبياته , نظرت إليه أم حبيبه باسمة وهى تقول ...
ــ حفظك الله يا ابن إدريس .. ما أجمل الشعر منك نظما وإلقاء .. دائما تتحفنا بالحكم ومأثور القول .. قاطعها "على" وهو على حاله من الدهشة من كلام ابن شقيقته ......
ــ أختاه , ألم تري ولدك بعينى رأسك وقد أتى على كتاب مالك شيخ المدينه .. ووعى كل ما حواه !. ألم يقل ذلك بلسانه الآن !.. ما الداعى إذن للسفر ومفارقة البلاد والأهل ؟!.
إنبرى الشافعى قائلا ......
ــ كل هذا صحيح , لكن يا خالى العزيز , إمام كبير وشيخ جليل مثل مالك بن أنس , لا يجوز أبدا أن يفوتنى لقاءه , والتزود من بحر علومه شفاها , آه , ليتنى أدركت فقيه الكوفه , إمام أهل الرأى , أبى حنيفه , والله لو كان فى آخر بلاد الدنيا لرحلت إليه ..
مرت لحظات من الصمت قطعها الشافعى بقوله .....
ــ أتعجب يا خال من كلامى !. سأحكى لك حكاية سمعتها من شيخى سفيان بن عيينه ..
إنتبه خاله معتدلا فى جلسته قائلا .....
ــ ماذا قال شيخك ؟.
ــ حكى لنا ذات يوم ...........
ــ سمع جابر الأنصارى وهو بالمدينه , أن عقبة الجهنى لديه حديث فى القصاص .. خرج على الفور إلى السوق واشترى بعيرا شد عليه رحله , ومضى إليه حيث يقيم فى رحلة استمرت شهرا كاملا , وأخيرا لقى عقبه , سأله عن سبب قدومه إليه فقال له ... جئت لأسمع منك حديثا لم يسبق أن تحدث به أحد غيرك , تحدثت به عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " فى القصاص , ورغبت فى سماعه منك مشافهة قبل أن يموت أحدنا .............
واستأنف الشافعى .........
ــ فهذا رجل قطع تلك الرحلة الشاقة من أجل حديث واحد يعلمه , لكنه أراد أن يستوثق من صحته من راويه .. وأنت يا خال تعجب من سفرى إلى شيخ عنده مائة ألف حديث .. والله لو قضيت عمرى كله أسافر فى طلب العلم , فلن أتوانى عن ذلك أبدا , حتى لو رحلت إلى آخر بلاد الأرض .....
سأضرب فى طول البلاد وعرضها .. أنال مرادى أو أموت غريبا ..
فإن تلفت نفسى فلله درها .. وإن سلمت كان الرجوع قريبا ..
رد خاله ضاحكا وقد انفرجت أساريره .....
ــ من ذا الذى يقدر على أن يجاريك فى حججك , فضلا عن قوافيك يا ابن إدريس .. ليس عندى ما أقوله لك بعدما سمعته منك , إلا أن أدعو الله لك أن يبلغك مرادك .. كنت أعلم منذ البداية أن الغلبة ستكون من نصيبك ..
تضاحك الجميع , بينما أخذت أم حبيبه تربت بيدها على ظهره فى حنان , قائلة ....
ــ أنت وما عزمت عليه .. على بركة الله يا ولدى .. سنرحل إلى المدينة سويا إن شاء الله , بعد أن تعد عدتك للسفر ..
صمتت هنيهة ثم نظرت للفضاء الممتد من أمامها قائلة ........
ــ إيه يا ولدى .. تلك هى المرة الثانية التى أسافر فيها للمدينه .. لم أشاهد أرضها منذ وفاة إدريس ..
ــ متى كانت المرة الأولى يا أماه ؟..
ــ منذ زمن طويل .. بعد أن تزوجت بعام واحد , شددنا الرحال إليها لزيارة الروضة النبوية الشريفه .. ونزلنا أيامها عند عمك يعقوب ...........

يتبع إن شاء الله ................................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها

التعديل الأخير تم بواسطة : د أنس البن بتاريخ 16/05/2011 الساعة 16h28
رد مع اقتباس