عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 17/11/2008, 16h16
الصورة الرمزية د أنس البن
د أنس البن د أنس البن غير متصل  
نهـر العطاء
رقم العضوية:688
 
تاريخ التسجيل: March 2006
الجنسية: مصرية
الإقامة: مصر
المشاركات: 8,310
افتراضي

@ أربع سنوات مضت على تلك الواقعه .. والشافعى لا يزال فى كتاب الشيخ .. مواظبا على دروس القرآن تجويدا وحفظا .. وفى يوم .. نادى عليه جده عبيد الله الأزدى .. سأله وهو راقد فى فراشه .......
ــ لك الآن من العمر ثمانية أعوام يا ابن إدريس .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا جدى ...
ــ وهل يا ترى ختمت القرآن ؟..
ــ لم يبق لى إلا جزء واحد .. لكن !..
أمسك الصبى لسانه حياء .. إستحثه متسائلا وهو ينظر إليه فى إعجاب .......
ــ لكن ماذا يا ولد إدريس .. تكلم .. قل ما عندك ؟!..
ــ أنت تقول القرآن بالهمزه ...
ــ ماذا فى ذلك يا ولدى ؟!..
ــ لقد علمنا الشيخ إسماعيل أن ننطق القرآن .. هكذا بدون الهمزه ...
إبتسم الجد متسائلا .......
ــ وهل ذكر لكم سبب ذلك ؟!..
ــ أجل يا جدى .. قال لنا إن القرآن ليس مشتقا من قرأ .. وإلا كان كل ما قرئ قرآنا .. وإنما هو إسم مثل التوراه والإنجيل ...
ــ الله الله .. فتح الله عليك يا ولد إدريس .. أتدرى أنك علمتنى اليوم مسألة لم أكن أعلمها من قبل .. ما شاء الله .. والآن هيا أسمعنى بعض آيات من القرآن ( بدون همزه ) ...
تربع مكانه وبدأ يتلو فى خشوع .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم "الرحمن .. علم القرآن .. خلق الإنسان علمه البيان .. الشمس والقمر بحسبان .. والنجم والشجر يسجدان .. والسماء رفعها ووضع الميزان .. ألا تطغوا فى الميــزان" …………………


@ فى دار رحبة تقع على مقربة من ساحة المسجد الحرام .. خصصت لتكون مقرا للإماره .. جلس أمير مكة واليمن فى صدر قاعة الحكم .. وبينما يتجاذب أطراف الحديث مع كاتب ديوانه بعد أن فرغ من أعماله .. إذ دخل عليه أحد الحراس قائلا .......
ــسيدى الأمير .. صاحب البريد بالباب ...
ــ من أين أتى .. وما شأنه ؟!..
ــ يقول إنه يحمل رسالة عاجلة من قبل أمير المؤمنين .. أبــى جعفــر المنصور ...
أشار إليه أن يدخله فى الحال وهو يتساءل فى نفسه متوجسا.. يا ترى ما يكون وراء رسول الخليفه القادم من بغداد .. لم يقطع عليه هواجسه إلا دخول الرجل عليه .. تناول منه الرسالة .. عاين الختم عليها فإذا هو ختم أمير المؤمنين .. قبله وهب واقفا وكل من معه تعظيما وإجلالا لخليفة المسلمين .. كان هذا دأبهم عندما ترد عليهم رسائله ...
بدأ يقرأ ما فيها ....... " بسم الله الرحمن الرحيم " من أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور إلى أمير مكة والطائف أما بعد ....... قررنا مستعينين بالله ومتوكلين عليه الحج بالناس هذا العام .. سيكون بصحبتنا إبن أخينا أمير المدينه إبراهيم بن يحى .. وعددا من الأمراء وكبار رجال الدوله .. فإذا وصلك كتابى هذا .. أعلم من معك .. وابعث مناديا ينادى فى أهل مكه .. وزد لهم فى العطايا والهبات .. وأقم الولائم للناس كل ليلة .. ووسع عليهم طوال الموسم والسلام ...
طوى الرسالة فى عناية وهو يكتم دهشته .. ثم أخذ يملى على كاتبه ردا عليها .. تناولها رسول المنصور وانصرف .. وعقب انصرافه أخذ الأمير يتمتم فى سره قائلا .. وقد أخذه الدهش والعجب .......
ــأمير المؤمنين ؟.. ما الذى دهاه يا ترى ؟!.. لقد أدى فريضة الحج آخر مرة منذ ست سنوات .. ويأمرنى بأن أجزل العطايا والهبات لأهل مكه .. وأقيم الولائم لهم كل ليله !!.. ما سبب هذا الجود والسخاء الذى اعتراه .. وهو البخيل الملقب بأبى الدوانيق .. إنه لا ينفق الدراهم إلا بالكاد ..من المؤكد أن فى الأمر شيئا.. هذا الأمر العجيب لا تفسير له إلا شيئا واحدا .. أن تكون النهايه .. أجل لابد أنه يشعر بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا .. ولم لا .. إن صحته فى تأخر مستمر منذ حادثة مقتل ولده جعفر ……
@ فى اليوم التالى وفى شعب الخيف .. خرجت أم حبيبه ومعها وحيدها الشافعى .. وخرج أبوها وأمها وإخوتها وجيرانهم من دورهم يستطلعون الأمر .. كان المنادى يجوب الطرقات والأزقة راكبا بغلته .. ومن حوله جمع من الصبية والرجال والنساء .. مرددا بصوته الأجش العالى .......
ــإلى أهل مكة والطائف .. يعلن أمير المؤمنين .. أبى جعفر المنصور .. أطال الله بقاءه .. وأمد فى عمره .. وأعلى فى العالمين ذكره .. أنه عزم على الحج بالناس هذا العام .. وبهذه المناسبة السعيده .. فإنه أصدر أوامره العالية السامية .. أن تمد الولائم .. لجميع الناس كل ليلة .. بدءا من اليوم .. وحتى نهاية موسم الحج .. أمام ساحة دار الإماره.. كما أمر حفظه الله .. أن يمنح كل واحد من أهل مكه .. عشرون درهما من بيت مال المسلمين .. وعلى من حضر أو سمع هذا النداء .. أن يعلم الغائب ...
@ ذهب الشافعى إلى الكتاب نشيطا كعادته كل يوم .. وكان قد انتهى قبل أيام من حفظ القرآن وتجويده كله .. وفى طريقه إلتقى برفيق الحلقة وصاحبه الفضل بن الربيع .. وقد صارا صديقين حميمين .. لم ينس الفضل أن الشافعى هو الذى اجتهد معه .. وساعده فى حفظ أجزاء القرآن التى كان ينساها .. وأنه أعاد إليه ثقته بنفسه .. ولم ينس له الشافعى بدوره .. أنه بسببه أعطاه فرصة فريدة لم يعمل لها ولم يتكلفها .. ليكتشف الشيخ مواهبه ويعرف قدراته الفذه .. وسرعة حفظه لكل ما يسمعه .. حتى أنه أبى أن يأخذ من أمه درهما واحدا كما تقدم ...

وفى الطريق كان الصديقان يتحاوران .. تارة فى مودة تسبقها براءة الطفولة ونقاؤها .. وتارة أخرى يتسابقان فى العدو .. وهى الهواية المحببة للشافعى إلى جانب شغفه بالرمايه .. كانا يتباريان فى إصابة الهدف بالنبال وهما سعداء .. وأخيرا وصلا إلى الكتاب يلهثان من شدة التعب .. جلسا يلتقطان أنفاسهما وهما يتضاحكان فى براءة وصفاء .. بعد أن أعطيا لبدنهما حقه .. أثناء ذلك حضر الشيخ إسماعيل وهو يتوكأ على عصاه .. وبدأ يتخذ مجلسه فــوق الدرج ...

أخذ الشيخ يتفقد الصبية فى إمعان وهو يدور عليهم بعينيه بعد أن سكنت أصواتهم وجوارحهم عندما رأوا الشيخ داخلا عليهم .. أخيرا وقعت عيناه على الشافعى والفضل وهما يجلسان متجاوران .. إبتسم ابتسامة ذات مغزى وأشار للشافعى الذى كانت عيناه معلقة به أن يدنو منه ثم سأله .......
ــ ختمت القرآن منذ أيام يا شافعى .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى الشيخ ...
ــ إقرأ علينا إذن .. إقرأ .. آخر آيات سورة التوبه ...
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم .. فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" ...
ــ صدق الله العظيم .. ما اسم السورة التى تليها ؟!..
ــ سورة يونس ...
ــ أين نزلت ؟!..
ــ نزلت كلها فى مكه .. إلا أربع آيات منها نزلت فى المدينه ...
ــ إقرأ آية منها ؟!..
ــ هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا .. وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب .. ما خلق الله ذلك إلا بالحق .. يفصل الآيات لقوم يعلمون ...
ــ عظيم .. عظيم .. إقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ....... ط ــ س ــ م ...
ــ ط .. س .. م .. تنزيل من الرحمن الرحيم .. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعملون .. بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ...
ــ صدق الله العظيم .. يكفى منك هذا يا ولدى .. كنت أريد أن أطمئن على حفظك للقرآن قبل أن تفارقنا بإذن الله ...
صمت برهة وأردف .......
ــ لكنى أود أن أوصيك بأمرين ...
ــ وما هما .. يا سيدى ؟!..
ــ أولاهما .. أن تقوم لسانك بأن تعرف قواعد اللغة العربيه .. وأصول النطق الصحيح لها .. وهذا أمر لن يتيسر لك تحصيله إلا فى الباديه ...
ــ معذرة سيدى .. فإنى لا أفهم ما تقصده ...
ــ عندما تعود إلى الدار فى المساء .. سل جدك الأزدى .. ولسوف يشرح لك المسألة برمتها ...
ــ سمعا وطاعة يا سيدى .. والوصية الثانيه ؟!..
ــ أوصيك يا ابن أخى بعد أن تتعلم أصول اللغة العربية وفنونها .. أن تعكف على طلب علوم الحديث والفتوى ...
مرت لحظات صمت والشيخ يحيط كتفى الشافعى بيمناه .. قبل أن يقول له فى حنان أبوى ضاف ومحبة خالصه .......
ــ وأظنك ستفعل يا ابن أخى .. إنك ما خلقت إلا لتكون مثل هؤلاء .. ( وأشار بيمناه على حلق العلماء من حوله فى ساحة الحرم ) .. سر على بركة الله وفى كنف رعايته وفضله ...


@ لبث الشافعى طيلة النهار يقلب فى رأسه الصغير .. ما سمعه من شيخ الكتاب .. وهو فى عجب من كلامه .. ما الذى يعنيه يا ترى من ورائه ؟!.. ما معنى أن يقوم لسانه .. وأن يتعلم اللغة العربية الصحيحه ؟!.. ولماذا طلب إليه الخروج إلى الباديه .. أى شئ سيجده فيها ؟!.. هل هناك قوما يتكلمون لغة أخرى .. أفكارا كثيرة .. أسئلة لا جواب لها .. عند من هم فى مثل عمره .. أحاطت به .. تزاحمت فى رأسه الصغير .. وجعلته فى حيرة من أمره ...
لم يصبر أن يأتى المساء حتى يعود إلى الدار ليسأل عنها جده .. قرر أن يتوجه إليه من فوره فى دكان العطارة عقيب مغادرته ساحة الحرم .. كان الشيخ منهمكا فى ترتيب بعض البضائع المكدسة أمامه .. ورصها على الأرفف فى نسق بديع .. ألقى عليه السلام وأخبره بما كان من أمر الشيخ إسماعيل معه .. إبتسم جده قائلا .. وهو ينفض يديه من الغبار العالق بهما .......
ــ أجل يا ابن إدريس .. أخلص لك الشيخ النصيحه وأصدقك القول .. إن أمامك رحلة طويلة لا مناص لك من القيام بها .. إن كنت راغبا فى أن تستأنف طريق العلم .. وتمضى فيه ...
ــ لم أفهم بعد يا جدى .. ما الذى تقصده ؟!..
ــ سأشرح لك الأمر .. العرب عامة بما فيهم نحن القرشيون .. خالطوا أبناء الأمم الأخرى بحكم السفر الدائم والترحال وشغلهم بالتجاره .. وأيضا لوجود كثير من العجم بينهم .. كان من نتيجة كل ذلك أن هجنت لغتهم العجمه .. فلم تسلم ألسنتهم من بعض اللحن وغريب القول .. وفقدت لغتهم شيئا غير قليل من نقائها ...
إزداد عجبا وقال مقاطعا .......
ــ رغم فصاحتنا .. وبلاغتنا المعروفة عنا .. نحن أهل الحجاز ؟!..
ــ أجل .. رغم فصاحتنا وبلاغتنا .. لكن رغم ذلك .. وهذا من لطف الله بنا .. بقيت جماعة من العرب .. هم أهل الباديه .. لم يخالطوا أى جنس .. ولم يتعاملوا فى شؤونهم مع غير العرب .. لذلك سلمت لغتــهم من أى لهجات دخيلة .. وبقى لسانهم العربى الأصيل على حاله .. لم تشبه شائبه ...
صمت برهة وأردف قائلا .......
ــ هل سمعت الحديث المروى عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. والذى قال فيه ....... إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ...
ــ أجل .. سمعته غير مرة من الشيخ إسماعيل ...
ــ عظيم .. هذه الأحرف يا ولدى لها تأويلات كثيره .. من ذلك مثلا أنها تشير إلى سبع لغات من قبائل العرب .. ورغم أنهم اختلفوا فى تعيين هذه القبائل السبعه .. إلا أن قريشا وهذيل لم يختلف عليهما أحد .. فهذيل إحدى جماعات ست لا تؤخذ اللغة الصحيحة إلا عنها .. وهم من أفصح العرب لسانا .. وأعذبهم لغة وأحسنهم بيانا ...
ــ آه .. لهذا السبب نصحنى الشيخ إسماعيل .. أن أذهب من فورى إلى الباديه ؟!..
ــ أجل يا ولد إدريس .. أجل .. عليك بعد أن تنتهى مناسك الحج .. أن تعد نفسك إن شاء الله للرحيل إلى الهذليين .. هناك .. فى الباديه .. تخالطهم وتعيش بينهم .. وتحيا حياتهم وتعرف كلامهم .. وأيضا تحفظ أشعارهم وحكمهم ...
ــ سمعا وطاعة يا جدى ..
قالها الفتى سعيدا .. إلا أنه ارتسم على وجهه تساؤل .. هم أن يتكلم غير أن حياءه منعه .. فاستحثه جده قائلا .......
ــ ألمح فى عينيك تساؤلا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا جدى .. لكنى لا أريد أن أشق عليك بكثرة السؤال ...
ــ سل ما بدا لك .. لا يزال أمامنا متسع من الوقت .. قبل أن نغلق الحانوت ...
ــ كنت أود أن تسمعنى شيئا من أشعارهم ؟!..
ضحك فى حنان قائلا .......
ــ إيه يا ولد إدريس .. ما أكثر ما قالوا .. إن لهم من القصائد ما يوقر مائة بعير وزياده .. إسمع مثلا قول شاعرهم أبى ذؤيب الهذلى .. فى الحكم والوصايا .......
أمن المنون وريبه تتوجــع ؛ والدهر ليس بمعتب من يجزع ...
وتجلدى للشامتين أريهموا ؛ أنى لريب الدهر لا أتضعضع ...
والنفس راغبة إذا رغبتها ؛ وإذا تــرد إلى قليــل تقنــع ...
ــ الله الله .. شعر بديع حقا .. ليتك تسمعنى مزيدا من شعرهم هــذا يا جــدى ؟!..
ــ إسمع يا ولدى قول شاعرهم .......
مالى أحن إذا جمــالك قربت ؛ وأصــد عنك وأنت منى أقرب ...
وأرى البلاد إذا سكنت بغيرها ؛ جدبا وإن كانت تطل وتخصب ...
ــ شوقتنى بكلامك هذا إلى الرحيل إليهم .. أعدك أنى لن أغادر ديارهم بإذن الله تعالى .. حتى أحفظ عن ظهر قلب كل ما قالوه ...
رد معقبا وهو يربت على كتفيه .......
ــ أنا على ثقة من ذلك يا ولدى ...
ثم أردف قائلا وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزى .......
ــ أذكرك أيضا أن براعتهم .. ليست فى اللغة والشعر فحسب .. بل هم أيضا بارعون فى فنون الرماية والقتال .. أليست تلك هواياتك .. أيها الولد القرشى ؟!..
أطرق الصبى رأسه حياء .. دون أن يتكلم أو يعقب .. واستأذن تاركا جده يواصل عمله فى الدكان ...

@ ظل الخليفة المنصور يعانى فى الشهور الأخيرة آلاما مبرحه .. فى النهار يكابد الآلام ويجاهد فى إخفائها .. وفى الليل لا يهنأ بفراش أو يلتذ بمنام .. بل تظل عيناه ساهرتان .. كأن بينهما وبين النوم خصومة ثأر أو قطيعة رحم .. لكنه كان يتحامل على نفسه .. متظاهرا بالقوة وشدة البأس .. أمام المحيطين به من أهله أو أعوانه .. فإذا ما صار فى خلوة وحده .. أعطى لمشاعره العنان ولنفسه الحق .. أن تتحرك شفتاه بالآهات والأنات .. بينما يبث ربه شكواه ...
ومع توالى الأيام ضعفت مقاومته وخارت قواه تماما .. حتى أنه لم يطق صبرا على قسوة الآلام .. أسلم الأسد العباسى نفسه لليأس واستسلم للفراش أخيرا .. بعد أن نال منه المرض وأنهك قواه .. وفى إحدى الليالى بينما هو فى فراشه وقت الظهيره .. والشمس قد تكبدت السماء .. جلست زوجته أروى بالقرب منه .. لا ترفع عنه عينان مليئتان حنانا وإشفاقا .. وهو يردد فى صوت هامس كأنما يناجى نفسه .......
المرء يأمل أن يعيش ؛ وطول عمر قد يضره ...
تبلى بشاشته ويبقى ؛ بعد حلو العيش مره ...
وتخونه الأيــام حتى ؛ لا يرى شيئــا يسره ...
كم شامــت بى إن ؛ هلكت وقائل لله دره ...
قالت وهى تجاهد أن تحبس دموعها .. مظهرة أمامه الثبات ورباطة الجأش .. مستنكرة عليه تشاؤمه ويأسه .. بينما تشاغلت بمسح جبينه براحة يدها .......
ــ ما هذا الذى تنشده يا أبا عبد الله !.. ولم كل ذلك التشاؤم واليأس ؟!..
سكتت برهة ثم أردفت قائلة .. بعد أن رسمت شبح ابتسامة على شفتيها .......
ــ إنها وعكة عارضه .. سرعان ما تزول كسابقتها .. ستقوم بعدها معافى سليم البدن بإذن الله .. إن الله تعالى لم يخلق داء إلا خلق له دواء .. أليس كذلك يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ صدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. لكن أكملى بقية الحديث .. إلا الموت .. أجل إلا الموت يا أروى .. لقد ولدت فى شهر ذى الحجه .. ووليت فى شهر ذى الحجه ...
قال ذلك ثم تنهد قائلا .......
ــ وهجس فى نفسى أنى أموت هذا العام .. فى نفس هذا الشهر .. إنى أشعر بدبيب الوهن فى جسدى .. وأن صحتى فى تأخر يوما عن يوم ...
ردت وهى تغالب البكاء .......
ــ لقد أرسلنا منذ أيام فى طلب طبيب من الهند .. معروف ببراعته وحذقه .. فى مداواة علل البطن والمعدة التى تعانى منها ...
رد قائلا وهو يشيح بيده بعيدا فى ضجر ويأس .......
ــ طبيب !. ماذا يفيد طبيب الهند أو غيره .. صدقينى يا أم موسى .. لا جدوى من وراء ذلك كله .. لقد تمكنت العلة منى واستحكم الداء ...
تحولت عن مجلسها واقتربت منه .. وهى تطوق عنقه بيدها قائلة .......
ــ حفظك الله من كل سوء .. إذا اعتل أمير المؤمنين .. إعتل الناس جميعا ..
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأحكى لك حكاية عن واقعة حدثت لى فى صباى .. لم أروها لأحد قبل اليوم إلا لواحد من الحكماء .. رويتها له فى الكوفه بعد أن توليت الخلافه .. ولم يسمعها منى بعد ذلك أحد .. إلا أنت الآن يا أروى ...
ــ حكايه !.. أية حكاية تلك يا أبا عبد الله ؟!..
ــ إنه منام غريب .. رأيته فى صباى .. لا زلت أذكره كأنى أراه الآن ...
أخذ يلتقط أنفاسه لحظات .. ثم استأنف قائلا وهى تنصت له .......
ــ رأيت كأنى فى المسجد الحرام بمكه .. ورسول الله [صلى الله عليه وسلم ] داخل الكعبه .. ونفر كثير من الناس ملتفون من حولها .. وإذا بمناد يخرج قائلا .......
ــ أين عبد الله .. فأسرع أخى أبا العباس السفاح ودخل الكعبه .. ثم خرج وبيده لواء أسود .. ثم نودى مرة ثانيه ....... أين عبد الله .. فقمت أنا وعمى عبد الله بن على نستبق .. فسبقته حتى أتيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. فعقد لى لواء وأوصانى بأمته .. ثم عممنى بعمامة كورها ثلاثا وعشرين كورا .. بعدها إستيقظت من نومى .. وأنا فى حيرة من أمرى .. أخذت وقتها أسأل نفسى .. ما تأويل هذه الرؤيا يا ترى .. هل أدركت تأويلها يا أم موسى ؟!..
ــ ما وجه الغرابة والعجب فيها .. أقسم أنها رؤيا واضحة وضوح النهار .. ليست فى حاجة لمن يتأولها أو يعبرها.. إنها تنبئ بما صرت إليه .. أنك ستكون ذات يوم خليفة على المسلمين .. وأنه سيكون لك شأن كبير .. وهذا ما حدث تماما ...
ــ ألم تدركى منها .. أمرا آخر ؟!..
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله .. هلا أفصحت ؟!..
ــ بعد أن توليت أمور الخلافه .. تذكرت هذه الرؤيا .. أرسلت فى التو رسولا يأتينى بأحد الحكماء المعبرين من الكوفه .. قال لى ………………
ـ رؤياك هذه يا أمير المؤمنين .. والعمامة التى كورها رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] على رأسك ثلاثا وعشرين مره .. تشير إلى زمن ولايتك ومدة خلافتك .. وأيضا إلى ما يتبقى من عمرك .. ثلاثا وعشرين سنه ..
ــ أفهمت يا أم موسى ؟!.. فى شهر ذى الحجة القادم .. ونحن على أبوابه .. تكتمل هذه السنوات ...
ردت قائلة دون أن تعقب على كلامه .. محاولة أن تغير مجرى كلامه .....
ــ دع عنك هذه الهواجس .. أظنك أرسلت فى استدعاء ولى العهد ؟!.
أجابها متثائبا وهو يميل على جانبه الأيسر .......
ــ ولدى محمد المهدى .. أجل .. ليته يعجل بالقدوم من الرى ...
ــ لم يا أمير المؤمنين ؟!..
رد باقتضاب وهو يميل برأسه على الوساده .......
ــ لدى الكثير .. مما أود أن أقوله له ...
لاحظت أنه يريد أن يستريح على فراشه .. قامت ناحية الباب .. وأمرت خادمه ألا يسمح لأحد بالدخول عليه .. إلا بإذن منها .. خرجت تاركة زوجها وهو فى حالة بين النوم واليقظه ..
وإذا به بعد أن صار وحده .. يرى شعاعا من الضوء فى ركن الغرفه .. حاول أن يتبين مصدره .. فإذا به يلمح وهو يدقق النظر مستجمعا قواه .. شبحا يقف ساكنا فى آخر الغرفة .. كأنما انشقت عنه الأرض .. أخذ يحدق النظر فيه .. محاولا أن يستبين ملامحه .. غير مصدق عينيه .. فإذا الواقف بعيدا عنه شيخ نحيل .. تحيط به هالة من ضوء خافت .. يرتدى ثيابا بيضاء .. له وجه مضئ تزينه لحية طويله .. وأسفل عينه اليمنى شامة سوداء ...
رآه المنصور وهو يقترب منه على مهل .. نظر إلى قدميه .. فإذا هما لا تلمسان سطح الأرض .. كانتا ترتفعان عنها قليلا .. كأنه يمشى على الهواء .. إنتابه الفزع .. كاد قلبه ينخلع من هول المفاجأه .. ظل يفرك عينيه .. يتأكد أنه لا يزال يقظا لم ينم بعد .. وأن الذى يراه حقيقة ليس مناما أو تخيلا .. وهو يتمتم بشفتيه بعض الأدعيه .. أخيرا سأل بصوت مرتعش متحشرج .......
ــ من أنت بالله عليك .. كيف دخلت غرفتى .. الأبواب كلها موصده ؟!..
ــ السلام عليك أولا .. لا تخف يا أبا جعفر ...
ــ وعليك السلام .. من أنت .. بشر أم ...؟!..
ــ لا يهم هذا .. إنما أتيت لأبلغك رسالة أيها الخليفة الراحل .. ثم أمضى بعدها لحالى ...
ــ رساله !.. أية رسالة تلك ؟!..
ــ أبا جعفر إسمعنى جيدا .. إنك ملكت ما ملكته ؛ والأمر فيه إلى سواكا ...
سأله المنصور وقد جف حلقه وزاد خوفه .......
ــ زدنى فهما أهى النهايه ؟!..
ــ أبا جعفر ....... قد حانت وفاتك وانقضت ؛ سنوك وأمر الله لابد واقع ...
فهل يا ترى من كاهن أو منجم ؛ لك اليوم من أمر المنايا مانع ...
ــ قد علمت .. لكنى عزمت على حج البيت هذا العام .. إنها آخر أمنية لى فى هذه الدنيا .. فهل لى إليها من سبيل ؟!..
ــ إمض لما أنت عازم عليه أيها الراحل .. لكنه أمر مبرم وقضاء فصل ...
إنتهى الشيخ الشبح من كلامه .. ثم استدار واختفى .. فجأة كما جاء .. كأنما انشقت عنه الأرض .. بينما راح المنصور فى سبات عميق .. بعد أن شعر بالسكينة كأنما نزلت على قلبه وغمرت جوانحه ...

@ مضت ساعات .. وبينما الشمس فى طريقها للغروب .. والظلال تتكاثف فوق سطح القصر .. صحا المنصور من نومه .. فتح عينيه ليرى امرأته واقفة إلى جواره .. تجفف بمنشفة فى يدها .. ما تراكم على جبينه من عرق غزير .. وهى تقول له بعد أن زينت فمها ابتسامة حانيه .......
ــ نوم العافية إن شاء الله يا أمير المؤمنين .. إنك تبدو الآن أحسن حالا ...
أجابها قائلا وهو يأخذ نفسا عميقا .......
ــ أجل أجل الحمد لله .. أشعر الآن ببعض الراحة والسكينه ...
صمت برهة ثم سألها .......
ــ هل بالباب أحد ؟!..
ــ أجل يا أمير المؤمنين .. الطبيب ...
ــ طبيب !.. أى طبيب هذا ؟!..
ــ أنسيت يا مولاى .. الطبيب الذى أرسلنا فى طلبه من الهند .. وصل منذ ساعة .. إلا أنه آثر الإنتظار .. إلى أن تصحو من نومتك ...
رد المنصور وعلى شفتيه ابتسامة ساخره .......
ــ الطبيب !.. ما جدوى الطبيب .. بعد الذى رأيت ...
ــ ماذا تقول يا أبا عبد الله ؟!..
ــ لا شئ لا شئ أدخلوه ما دامت تلك رغبتكم ...
فيما كان الطبيب منهمكا فى فحصه .. دخل ولى العهد يلهث على عجل .. وقد بدت عليه آثار رحلة طويلة شاقه .. وقف مكانه يستمع إلى الطبيب .. وهو يحاور المنصور ويسأله عن شكواه .. وفى نهاية الحوار بينهما .. قال الطبيب موجها كلامه له .......
ــ هذا الذى تشكو منه يا أمير المؤمنين .. من غلبة المرة الحمراء .. سأعد لك دواء من السفوف اليابسه .. مع بعض المركبات الحاره .. على أن تقل من الطعام ...
إستدار الطبيب خارجا .. فى اللحظة التى نظر المنصور فيها لولده المهدى .. نظرة فهم منها أنه يريد أن يختلى به .. فلما صارا وحدهما .. قال له فى صوت واهن .. وهو يمد يده إليه ليدنيه منه .......
ــ إنى عزمت يا ولدى .. على الخروج إلى الحج .. غدا إن شاء الله .. على أن تبقى أنت هنا مكانى .. تدير أمور البلاد .. لقد أرسلت رسالة بذلك منذ أيام .. إلى أمير مكه .. أعرفه فيها بما عزمت عليه ...
قاطعه متوسلا .......
ــ معذرة يا أبى .. ما هذا الذى عزمت عليه !.. أعتقد أنك لا تحتمل فى مثل هذه الحال .. رحلة طويلة شاقة كرحلة الحج .. إننا فى أيام شديدة الحراره .. والطريق غير ممهد من بغداد إلى مكه ...
رفع المنصور راحته طالبا منه ألا يسترسل فى توسلاته .. ثم قال له .......
ــ يا ولدى لا تجزع .. إنها النهايه .. نهاية رحلة الحياة التى لابد منها .. لا جدوى من كلامك هذا .. ليت أجلى يأتينى وأنا بمكه ...
ثم تنهد قائلا .......
ــ ليتنى أدفن فى ترابها الغالى ...
رد وهو يغالب دموعه .......
ــ أنت وما عزمت عليه يا أمير المؤمنين ...
قال المنصور .......
ــ أدن منى يا ولدى .. أعطنى كل سمعك .. فإنى أوصيك بخصال .. ليتك تعمل بها ...
ــ السمع والطاعة يا أبت ...
ــ إعلم أن السلطان لا يصلح إلا بالتقوى .. ولا تصلح رعيته إلا بالطاعه .. ولا تعمر البلاد بمثل العدل .. واعلم أن أقدر الناس على العفو .. أقدرهم على العقوبه .. وأعجز الناس من ظلم من هو دونه .. إتق الله يا ولدى .. فيما أعهد إليك من أمور المسلمين من بعدى .. والزم الحلال .. فإن ثوابك فى الآجل .. وصلاحك فى العاجل .. إياك وتبذير أموال الرعيه .. وعليك بشحن الثغور .. وضبط الأطراف وتأمين السبل .. وباشر أمورك بنفسك .. وكن حسن الظن بربك .. سئ الظن بمن حولك .. من عمالك وكتابك .. تفقد من يبيت على بابك .. وسهل إذنك للناس .. ولا تنم .. فإن أباك لم ينم .. منذ ولى الخلافه .. وما غمضت عينى إلا وقلبى يقظان .. هذه وصيتى إليك .. والله خليفتى عليك ...
سكت برهة وسأله .......
ــ أين ولديك .. موسى وهارون ؟!..
ــ بالباب يا أبت مع أمهما الخيزران .. ينتظرون أن تأذن لهم ...
إفتر فمه عن ابتسامة باهتة وهو يقول .......
ــ يا لها من امرأة محظوظة .. وكيف لا تكون .. وهى امرأة أمير المؤمنين من بعدى .. وأم لأميرين للمؤمنين .. إيــــه .. من يدرى .. قد تكون جدة لأمير المؤمنين .. إحرص على هذا الأمر يا ولدى .. لا تدع الخلافة تخرج من ولدنا أبدا .. مهما كلفك هذا ..
ثم أخذ يقول لنفسه .. بعد أن دخل أحفاده عليه وقبلوا يديه .......
ــ اللهم بارك لى فى لقائك يا رب العالمين .. اللهم إن كنت عصيتك فى أمور كثيرة .. فقد أطعتك فى أحب الأشياء إليك .. شهادة ألا إله إلا الله مخلصا ...


@ بعد أيام .. بينما أهل مكة يستعدون للخروج إلى جبل عرفات .. إذا بصوت المنادى يقرع آذانهم .. وهو يجوب الطرقات .. ناعيا إليهم أمير المؤمنين .. الذى وافته المنية قبل أن يدخل مكه بمرحلة واحده .. هرع الناس فزعين خارج منازلهم .. يستطلعون الأمر ويتناقلون النبأ .. بينما صوت المنادى من بعيد يردد قائلا .......
ــ أمير المؤمنين .. دعى فأجاب .. ولبى نداء ربه محرما .. سبحان الحى الذى لا يموت .. سبحان الباقى بعد فناء خلقه ...
وفى دار عبيد الله الأزدى التف كل من فى البيت حوله فى فضول وانتباه وهو يحكى لهم .......
ــ مات المنصور .. وهو فى طريقه إلى مكه .. بعد أن أحرم من الرصافة .. وساق البدن أمامه .. وبعد أن جاوز الكوفة بمراحل .. إشتد عليه المرض عند بئر ميمون .. القريبة من مكه ...
سأله على .......
ــ هل يدفن هنا .. أم سيعودون به إلى بغداد ؟!..
ــ قيل إنه سيدفن هنا بمكه .. عند ثنية المعلاه بالحجون .. كما أوصى ...
ــ وهل تمت البيعة لولى العهد .. محمد المهدى ؟!..
ــ قيل أن الربيع بن يونس .. ذلك الوزير الداهيه .. أعمل الحيله وأخبر من معه .. أن المنصور يطلب منهم أن يبايعوا لولده المهدى .. كان ذلك بعد أن فارق الحياه .. لكن الربيع لم يشأ أن يعلمهم بذلك .. إلا بعد أن تمم البيعة للمهدى ………………
---------
@ قبل وفاته بأيام قليلة .. كان المنصور قد انتهى من إقامة قصر جديد .. أطلق عليه قصر الخلد .. خارج مدينة بغداد فى مكان طيب الهواء بعيدا عن الزحام .. دفعه لإقامته أن هذه المدينة سرعان ما ازدحمت بالتجار والصناع .. وطالبى العلم الذين رغبوا فى المقام بها .. الوافدين إليها من كل حدب وصوب .. وشاءت إرادة الله تعالى .. أن يموت المنصور بعد فراغه من إقامة هذا القصر .. لم يكتب له أن يقيم فيه ولو يوما واحدا .. وأول من دخله ولده أبو عبد الله المهدى .. بعد أن أصبح أميرا للمؤمنين .. وفى أول لقاء له بالأمراء والقاده ورجال الدوله .. فى قاعة الحكم بقصر الخلد .. إتخذ المهدى مجلسه فى الصدارة .. شابا طويلا فارعا .. أسمر اللون جعد الشعر .. له من العمر ثلاثة وثلاثين عاما .. نظر إلى الربيع .. خاطبه فى تؤدة ونبرة حزن فى صوته .......
ــ إقرأ على الحاضرين .. الرسالة التى أملاها عليك أمير المؤمنين .. قبل أن يرحل إلى جوار ربه ...
ــ السمع والطاعة يا أمير المؤمنين .. بسم الله الرحمن الرحيم ....... من عبد الله المنصور أمير المؤمنين .. إلى من خلف بعده .. من بنى هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين ...
سكت الربيع وقد خنقه البكاء وأبكى الحاضرون معه .. إغتنمها أحد الشعراء فرصة فقام منشدا .......
عجبــا للذى نعى الناعيان ؛ كيــف فاهــت بموته الشفتان ..
ضم أطراف ملكه ثم أضحى ؛ خلــف أقصاهم ودون الدانى ..
ذو أناة ينســى لها الخائف ؛ الخوف وعزم يلوى بكل جنان ...
ذهبت دونه النفوس حذارا ؛ غيــر أن الأرواح فى الأبدان ...
قال أمير المؤمنين مستنكرا بكاءهم وانتحابهم .......
ــ قد أمكنكم البكاء وغلبكم .. أنصتوا أصلحكم الله ...
ثم أشار للربيع بيمناه الذى واصل قراءة الرساله .......
ــ أما بعد .. فإنى كتبت كتابى هذا إليكم فى آخر أيامى فى الدنيا .. وأنا على عتبات الآخره .. أسأل الله ألا يفتنكم بعدى .. وألا يلبسكم شيعا وألا يذيق بعضكم بأس بعض .. وأذكركم بالبيعة لولدى محمد المهدى .. أميرا للمؤمنين من بعدى .. ومن بعده لولده موسى والسلام ...
طواها الربيع والتفت للحاضرين قائلا فى ثبات وحزم .......
ــ وبالأمس أيها الأمراء والقاده .. بايعنا أبا عبد الله المهدى .. أميرا للمؤمنين ...
قبل أن ينهضوا من أماكنهم لتجديد البيعه .. أشار لهم المهدى أن يلتزموا أماكنهم .. ثم قال بصوت جهورى .. بعد أن خيم الصمت أرجاء المكان .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... إن الأرض يورثها من يشاء من عباده .. والعاقبة للمتقين أما بعد .. فإنا أمرنا بأخذ البيعة الآن .. لولدنا موسى وليا للعهد ولقبناه بالهادى .. ومن بعده لأخيه هارون ولقبناه بالرشيد .. تلكم وصية الخليفة الراحل .. كما أمرنا بإطلاق سراح كل المحبوسين .. إلا من كان محبوسا على دم .. أو سعى فى الأرض فسادا .. كما أصدرنا بيانا بأسماء أمرائنا وعمالنا على البلاد والثغور .. وأوصينا بتقصير المنابر فى كل المساجد .. إلى مقدار منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. وتغيير كساء الكعبة وطلائها بالخلوف .. وأن يبدأ العمال والصناع والفعلة من الغد .. فى حفر الركايا وبناء المصانع والدور والقصور .. على طول الطريق من العراق إلى الحجاز .. كى يكون آمنا طيبا للمسافرين والحمد لله ...


@ دخل العام الهجرى الجديد .. أخذت أم حبيبه تعد العدة وتجهز ولدها للرحيل إلى الباديه .. أعدت له شيئا من الزاد وبعض الملابس والأغطيه .. ونفحته بما تيسر لديها من دراهم .. وقبل أن يغادرا مكه استأذنها فى الذهاب إلى شيخه إسماعيل بن قسطنطين ليسلم عليه .. إلتقى فى الكتاب بصديقه الفضل بن الربيع .. الذى لم ينته بعد من دروس القرآن .. وقبل أن يفترقا شد الشافعى على يديه مودعا .. وهو يقول له .......

ــ وداعا يا صديقى الحبيب .. ليت الأيام تجمعنا ونلتقى يوما مرة أخرى .. حتما سنلتقى بإذن الله .. قلبى يحدثنى بذلك يا أخى الفضل ...
رد قائلا وهو يغالب دموعه .......
ــ ليت الأيام تجمعنا .. لأرد لك معروفا طوقت به عنقى .. وجميلا لن أنساه لك طيلة عمرى .. لولا أن من الله على بصحبتك يا أخى .. لما تمكنت من مواصلة دروس القرآن .. إنك أعدت إلى ثقتى بنفسى ………………

@ إنطلق الشافعى بصحبة أمه إلى الباديه .. فى البقاع الجبلية القريبة من مكه .. حيث تعيش قبائل بنو هذيل .. كان الطريق وعرا والرحلة شاقة مضنيه .. وفى الطريق أثناء سيرهما .. فوجئت أم حبيبه بولدها يسألها .......
ــ أماه ...
ــ نعم يا قرة عينى ...
ــ ليتك تحدثينى عن أبى ...
تعجبت من سؤاله .. تلك أول مرة يتوجه لها بسؤال كهذا .. لم تدر له سببا .. إلا أنها ردت قائلة .. بعد أن مسحت دمعة فرت من عينيها رغما عنها ....... أبوك يرحمه الله .. لم أر مثله فى الرجال .. فى سماحة خلقه وطيبته .. كان قليل الكلام كثير التفكر .. لم يقل لى يوما لشئ لم أفعله لم لم تفعليه .. لم أره أبدا غاضبا أو حانقا .. كان راضيا على الدوام .. قانعا بما قسمه الله لنا .. وقبل أن يفارق الحياه .....
إختنق صوتها بالبكاء .. لم تستطع مواصلة الكلام .. سكت الصغير إجلالا لصمتها .. لم يطلب منها أن تواصل الحديث .. غير أنها بعد لحظات أردفت قائلة .......
ــ قبل أن يفارق الحياة يا ولدى .. أوصانى عليك ...
ــ ماذا قال يا أمى ؟!..
ــ كانت آخر كلماته قبل أن يفارق الحياه ....... إحرصى على ولدنا .. ضعيه دوما بين عينيك .. فلسوف يكون له شأن كبير .. إنه عالم قريش .. عالم قريش .. بعدها أسلم الروح إلى بارئها ...
سألها الغلام فى براءة .......
ــ وأين هو الآن يا أمى ؟!..
ردت قائلة .. وهى تنظر إلى الأفق البعيد .......
ــ إنه فى عالم الخلود .. فى جوار ربه ...
أخيرا وصلا إلى الباديه .. لم تتركه إلا بعد أن اطمأنت عليه .. وسلمته بنفسها لشيوخ هذيل .. أوصتهم به .. بعد أن عرفتهم بنسبه وشرفه ………
@ عاش الشافعى معهم سنوات .. يحيا حياتهم .. يتكلم كلامهم .. يردد أشعارهم .. ينتقل بانتقالهم من مكان لآخر .. لم يغادرهم أكثر من سبعة أعوام .. هبط بعدها إلى مكه وهو دون الخامسة عشره بقليل .. فتى أسمر .. نحيفا ضامرا كأنه عود من خيزران .. بحرا فى اللغة والأدب والشعر .. يحمل فى صدره أكثر من عشرة آلاف بيت .. من أشعار بنى هذيل بإعرابها ومعانيها .. ويحمل شعر الشنفرى كله .. صار بتلك الثروة الهائلة .. واحدا ممن يؤخذ عنهم النطق الصحيح للغة العربيه .. وحجة بلسانه العربى الفصيح .. تعلم عندهم أيضا فنون الرماية التى كان يهواها .. حتى صار بارعا فيها .. ولما عاد إلى داره .. وجدها وقد خلت من ساكنيها .. إلا أمه التى أصبحت تعيش بمفردها .. علم منها أن جدته ماتت منذ عامين .. ومن بعدها جده الأزدى بعد معاناة طويلة مع المرض .. وأن دكان العطارة آل إلى خاله على .. الذى تزوج وانتقل إلى دار أخرى .. عاشت أم حبيبه مع ولدها .. واهبة حياتها كلها له .. تنتقل معه حيث رحل .. حاملة على كاهلها مهمة إعداده وتنشئته .. عملا بوصية زوجها .. لم تنس أبدا كلماته التى قالها لها .. قبل أن يفارق الحياه .. ولا يزال رجع صداها يرن فى أذنيها .. وهو يقول لها .......

ــ إحرصى على ولدنا يا أم حبيبه .. ضعيه دوما بين عينيك .. فلسوف يكون له شأن كبير .. إنه عالم قريش .. عالم قريش .. الذى لم يأت بعد ...

*******


تم بعون الله الفصل الأول
من السيره الشافعيه
ونبدأ بعد استراحة فى سرد أحداث
الفصل الثانى

يتبع إن شاء الله الفصل الثانى ........................
__________________
أحرث حقول المعرفه
لتقطف سنبلة الفهم
التى بذرتها
رد مع اقتباس