هدى سلطان
رحلت عن إحدى وثمانين، وبعد نزلة برد حادة، الفنانة الكبيرة هدى سلطان، تاركة صوتها وصورتها الأخيرة كممثلة مبدعة. رحلت "أم الممثلين" كما يحلو للوسط الفني مناداتها لتترك فراغاً كبيراً في التلفزيون، كما تركت فراغاً كبيراً في السبعينات حين هجرت الغناء إلى التمثيل نهائياً.
أتذكرها في حفل مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة قبل سنوات حين تم تكريمها مع مجموعة فنانين، ويومها غنت مقاطع من إحدى أشهر أغنياتها "إن كنت ناسي أفكرك" وكما هي عادة الجمهور حين تغني هدى سلطان مقاطع قليلة في مناسبات خاصة مثل تلك، إذ يعلو التصفيق والتهليل مع كل قفلة طربية لجملة لحنية ما.
وكان يبدو جلياً في تلك الأثناء إن سلطان تستمتع بغنائها لبعض أشهر أغنياتها، بل كانت تظهر إن الصوت لا يشيخ حين تكون الروح شابة، بغض النظر عن سنوات العمر المديدة، وهكذا في خفر وتواضع تنحني لوقوف الجمهور احتراماً لجمال صوتها وقدرتها على الأداء السليم والممتع رغم مرور السنين، وإلى كل ذلك لم تكن الابتسامة وخفة الظل تفارقها ولو للحظة.
عشقي لصوت هدى سلطان يعود إلى بداية تسعينيات القرن الماضي و بالتحديد مع بداية دخولي الكونسرفتوار البحريني . كما أتذكرها في حفلات عدة ربما أكثرها قرباً لذاكرتي حفلة بغداد بالأسود و الأبيض .
كنت كلما ظهرت أفترش الأرض أمام التلفزيون وأنا أنظر إلى جميلة شقراء فاتنة، بفستان ديكولتيه أسود وربما يكون أحمر، لكن لم يكن التلفزيون قد تلوّن حبن تصوير هذه الحفلة.
وكلما ظهرت في أغنية من أغنيات هذا الحفل ، كان والدي يقص علي حكاية مرضها حكاية مرضها، فهي حين وصلت الى بغداد أصابتها نزلة برد حادة وكاد الحفل يلغى، لولا العناية الطبية المكثفة، وكان بادياً عليها بعض التعب والبحة، وهي تذكر هذا في بداية الحفل، ولولا أنها ذكرت الأمر ربما لم نعرف بمسألة مرضها ونحن نجلس مدهوشين أمام ذاك الجمال، وتلك الأناقة في كل شيء، بدءاً من الشكل وصولاً إلى الصوت والأداء.
في كل مرة كان التلفزيون يبث واحدة من أغنياتها ، فتارة نسمعها تغني أغنياتها الشهيرة التي كنا نرددها بشغف وحب، مثل أغنيتها التطريبية المبدعة "إن كنت ناسي أفكرك، ياما كان غرامي بيسهرك، وكان بعادي بيحيّرك" من ألحان العبقري المبدع رياض السنباطي، وأغنيتها الشعبية "يا ضاربين الودع، هوّ الودع قال إيه، خصام حبيبي دلع ولا خصامه ليه".
وربما كثيرون لم يتعرفوا إلى هدى سلطان المغنية المتقنة التي أثبتت وجودها أيام الكبار إبان الخمسينيات والستينيات قبل أن يأخذها التمثيل تماماً وتتوقف عن الغناء في السبعينيات. غنت روائع إضافة إلى ما ذكرناه، وإبداعها في الطرب، كان غالبية أغنياتها تميل إلى اللون الشعبي، خاصة تلك التي غنتها ضمن الأفلام مثل "يا تكسي الغرام"، "من بحري وبنحبوه"، "يا عزيز عيني"، "مكتوب الهوى"، "آه يا انت"، "توت ..توت" مع عبد المنعم مدبولي، و"عمري ما دقت الحب"، "لاموني"، "محسودة"، "يا اسطه"، يا جدع ياظريف"، "على دول" وغيرها، ومن ألحان محمد عبد الوهاب لها أغنية "رجع الهوى تاني" وأغنية للطفل غنتها في فيلم "حكم القوي".
هدى سلطان شقيقة الراحل محمد فوزي الذي أبدع لها أجمل الألحان، رغم سنواتها القليلة في هذا الفن كما أسلفنا إلا أنها نالت شهادة كبار الملحنين مثل السنباطي، وفوزي ورغم ما أشيع في الصحافة من موقف شقيقها منها ومحاربته لها كي لا تدخل ميدان الفن، إلا أنها تدحض هذه الافتراءات وتتحدث عن المحبة الكبيرة التي كانت بينها وبين شقيقها، بدليل إنه أنتج لها أفلاماً ولحن لها أغنيات، بل تعيد له الفضل في زرع بذرة الفن وعشقه في داخلها، حين كان يختلس بعض الأوقات بعيداً عن العائلة ويمسك العود ويغني، كانت تدندن من خلفه وتردد بعض أغنيات أم كلثوم إذ تسمعها عبر الراديو.
تقول في إحدى لقاءاتها الصحفية إنه تدربت بعد حضورها من طنطا إلى القاهرة على يد الملحن أحمد عبد القادر. وفي بيت شقيقها محمد الذي سبقها إلى القاهرة حيث تحدى الوالد في دراسة الموسيقى، تعرفت إلى كبار الفنانين والشعراء والموسيقيين مما ساهم في تنمية موهبتها التي لم تدعمها بالدراسة مثل شقيقها.
لم يجمعها أي فيلم بشقيقها محمد فوزي وسبب ذلك، حسب قولها، إنه لم يكتب سيناريو خاص لهما. وتقول بأن فريد الأطرش قدم لها ألحاناً عديدة جميلة وبقيت علاقتها جيدة به حتى بعد انفصالها عن زوجها فؤاد الأطرش شقيق فريد.
صوت هدى سلطان
تميز صوتها بالقوة والخامة العريضة الواضحة، وبطرب غني، يشبع القفلات والجمل اللحنية، لا يعن، أو يتفكك في أي موضع، بحيث يبقى في نفس القوة في القرار وفي الجواب، وفي عِرب تضعها في أماكنها الصحيحة.
صوت مترع بالأحاسيس الجياشة، والدفء النادر، والحس التلقائي. كان البعض يصف خامتها بالمخمل النفيس، لذلك جذبت كبير مثل رياض السنباطي، الذي أبدع لها واحدة من روائع ألحانه التي ستبقى على مر الزمن.
فنانة من زمن الطرب الأصيل، ما يزال كثيرون يعشقون الاستماع إلى صوتها، الطالع من الأعماق. صوت ممرغ بمسحة شجن ولوعة وآه جارحة عريضة القرار، وفي أحيان نجده، مغلفاً بطبقة هلامية من الدلال والغنج والآه، فعبرت عن روح الخفة والظرافة في الألحان الشعبية. وفي كل الأحوال يبقى صوتها ذا إطلالة خاصة مختلفة عن مجايلاتها مثل نور الهدى وصباح وشادية وغيرهن، فهو مزيج من نبرة مغنيات، نجمات شارع محمد علي، ونبرة الأنوثة الرقيقة، والأسلوب العصري الأنيق و"المودرن" في الغناء، الخالي من الشوائب والاستعراض للطبقات والدرجات. وربما هذا ما جعل المخرج حسن الإمام يستغل هذه الصفات في الصوت ليوظفها في فيلم "حكم القوي" كما استغل تماماً الوجه البريء المريح المماثل تماماً للصوت.
هي مطربة معتمدة في الإذاعة المصرية منذ بداية الخمسينات. تقول التمثيل شغلني عن الغناء وأخذ كل وقتي رغم إن بداية أحلامي كانت غنائية. إلا أن انشغالي بالتمثيل في السينما والمسرح كان له تأثير على حضوري في الحفلات الغنائية، لذلك أعوض هذا في الغناء في البداية في الأفلام وبعض المناسبات.
في الآونة الأخيرة وبعد الأحداث التي عصفت بالبلاد العربية شاركت في أوبريت "القدس ح ترجع لنا"، ففاجأت الجميع بصوتها الذي ما يزال محتفظاَ بقوته ولياقته وقدرته على سحب البساط من تحت أقدام مغنيات اليوم الشابات. لكنها بعد امتداد العمر بها وظفت صوتها في بعض الغناء الوطني والديني والمناسبات الجادة أو الدعوات إلى تكريم أو مؤتمرات موسيقية مثل "مهرجان الموسيقى العربية" الذي يكرم الكبار كل عام. كانت تجد صعوبة في تقبل وقفتها على المسرح للغناء مثل أيام زمان، رغم مطالبات الجمهور. كما غنت في مسرحيات عدة مثل "وداد الغازية"، "الملاك الأزرق"، "سيد درويش"، "بمبة كشر" وغيرها.
سيرة
اسمها جمالات بهيجة حبس عبد العال الحو
مواليد قرية كفر أبو جندي، طنطا، محافظة الغربية 1925.
صديقتها المحامية مفيدة عبد الرحمن اختارت لها اسم هدى سلطان عندما قررت احتراف الفن *عام 1950 تقدمت من الإذاعة ونجحت في الاختبار من قبل لجنة مكونة من حافظ عبد الوهاب، وعبد الوهاب يوسف اللذين أجازوا صوتها.
بدأت مشوارها الغنائي قبل السينمائي. ففي عمر 9 سنوات غنت في مدرستها أغنية لأم كلثوم "إنت فاكراني ولا ناسياني"، فنالت إعجاب الحاضرين ونصحها البعض للاتجاه إلى الغناء لحلاوة صوتها وصغر سنها.
أول أغنية عبر الإذاعة بعنوان "حبيبي ما لقتش مثاله" من تلحين أحمد عبد القادر.
أول دور في فيلم سينمائي عام 1950 من إخراج نيازي مصطفى بعنوان "ست الحسن"، غنت فيه ثلاث أغنيات منها أغنية "قطر الندى".
في فيلم "الأسطى حسن" غنت "حسن وعزيزة"، و "الحنطور".
في 1954 أول فيلم استعراضي غنت فيه مع عبد العزيز محمود الدويتو الشهير "يا تاكسي الغرام"، من إخراج نيازي مصطفى.
لها خمسة أشقاء. وولدان وثلاث بنات.
شقيقها الأكبر الراحل محمد فوزي.
حفظت القرآن في قريتها كفر جندي.
والدها مزارع محافظ شديد، كان يحرص على تعليم أبنائه تعاليم الدين، لذلك زوجها باكراً بموظف في سكة الحديد.
شقيقها محمد فوزي انتقل إلى القاهرة لدراسة الموسيقى وكان هذا حدثاً كبيراً في حياة الأسرة، ولم يرض عنه والده إلا بعد أن حقق شهرة واسعة وكان فخراً للجميع.
ـ تزوجت خمس مرات:
محمد نجيب وأنجبت منه أولى بناتها، نبيلة.
فؤاد الجزايرلي منتج وموزع سينمائي معروف تعاونا وقدما معاً في البداية عدة أعمال.
فؤاد الأطرش. شقيق الراحل فريد الأطرش.
فريد شوقي، وحش الشاشة. وأنجبت منه مها وناهد. ودام زواجهما 15 سنة.
حسن عبد السلام. مخرج تعاونت معه في عدة أفلام.
التعديل الأخير تم بواسطة : خليـل زيـدان بتاريخ 18/08/2022 الساعة 17h52
|