عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 11/05/2006, 09h54
Alfarabymusic Alfarabymusic غير متصل  
مواطن من سماعي
رقم العضوية:1729
 
تاريخ التسجيل: May 2006
الجنسية: فلسطينية
الإقامة: الأراضي المقدّسة
المشاركات: 142
افتراضي عبد الحليم حافظ

عبد الحليم حافظ .. يعيش فنّيّاً في مماته أكثر مما عاش في حياته


"ماذا بوسع هذا الصوت الصغير أن يفعل ؟ " علّق اعضاء لجنة الإختبار في الإذاعة المصرية لدى سماعهم "عبد الحليم علي اسماعيل شبانة" يجرّب حظّه للمرّة الأولى أمامهم بأغنيته الأولى " لقاء" لكلمات الشاعر المصري الكبير صلاح عبد الصبور ولألحان كمال الطويل. هذا الصوت الصغير استطاع ، خلال سنوات معدودات ، أن يحتلّ مكان الصدارة بين مطربي الأغنية العصرية في المنتصف الثاني من القرن العشرين؛ فكيف تسنّى له ذلك ؟
يبدو أنّ كمال الطويل ، زميل "الصوت الصغير" في الدراسة ، كان مؤمناً بموهبة حليم المتميّزة لدرجة انه ألحّ عليه مطوّلاً أن يجرب حظّه أمام لجنة الإختبار في الإذاعة لينال إجازة للغناء من على أمواج الأثير. وقد أوصى الطويل بصديقه لدى عضو اللجنة آنذاك ، حافظ عبدالوهاب ، الذي أحبّ الموهبة الشابة وآمن بها حتى أعطاها اسمه ليصبح "عبدالحليم حافظ". وقد راق الأمر لحليم كذلك كيلا يختلط الأمر على المستمعين ، إذ أنّ أخا عبدالحليم " اسماعيل شبانة " كان مطرباً مشهوراً آنذاك ولم يكن من المستحبّ أن يخلط الجمهور بين الإسمين
جاء صوت عبدالحليم ليسدّ ثغرة في الأصوات الرّجالية بدأت بالإتساع في مطلع الخمسينات من القرن الماضي بعد أن انحسر صوت محمد عبدالوهاب ، كبيرمطربي الشرق ، وذهب العمر المتقدّم ببريق صوته الذهبي الأخّاذ فراح يتفرّغ ليلحّن لغيره أكثر مما يغنّي بنفسه . في هذه الفترة الحرجة بالذات وعلى الرغم من وجود أصوات مميّزة كثيرة - يذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : فريد الاطرش ، محمد قنديل، كارم محمود، عبدالعزيز محمود، عبدالغني السيد، محمد عبد المطلب، محمد الكحلاوي، شفيق جلال، محمد فوزي، عبده السروجي، ابراهيم حموده وغيرهم - برز صوت صاف ٍ شاب مدرّب مخمليّ رخيم عميق لم يشبه صوتاً آخر سمعه الجمهور من قبل . وما أن بثّت الإذاعة المصريّة عام 1952 أغنية " صافيني مرّة " ، للحن محمد الموجي ، والتي تعتبر بحقّ أغنية حليم المشهورة الأولى ، حتى قفز جمهور مستمعي الإذاعة المصريّة الجبّارة في الوطن العربي ، كمن اكتشف كنزاً وهو في أمسّ الحاجة إليه . وبعد "صافيني مرّة" انطلق حليم يشدو "على قد الشوق" لألحان كمال الطويل المتميّز ، وما هي الا شهور قليلة حتى كان اسم عبدالحليم حافظ على كل لسان وبات "حليم" معبود الجماهيرفي الوطن العربي كلّه.
ولد عبدالحليم شبانة في بلدة "الحلوات" من أعمال محافظة الشرقيّة فجر يوم 21 حزيران عام 1929 أخاً لأسماعيل ومحمّد وعليّة ؛ وتوفّيت والدته أثناء ولادته وتبعها والده بعد ثلاثة أشهر بالتقريب ليجد الأيتام الأربعة أنفسهم في احضان خالهم ، متولّي عماشة ، الموظّف في بنك التسليف الزراعي في مدينة الزقازيق ، ليتولاّهم برعايته مشكوراً ، رغم محدوديّة دخله وامكانيّاته المتواضعة . وقد مكث حليم لدى خاله حتى التحق بدار الأيتام في الزقازيق حيث عاش وتلقّى العلم حتى تخرّجه ؛ ومن ثمّ إلتحق بالكونسيرفتوار لينتقل من بعده الى "المعهد العالي لفنون الأداء" .
في المعهد رغب حليم أن ينضمّ الى قسم الأصوات إلاّ أنّ لإدارة المعهد كان رأي آخر ، إذ أُلحق بقسم الآلات رغماً عنه ليتعلّم العزف على آلة "الأبوا" شبه النادرة إبان تلك الفترة ، وهي آلة شبيهة بالكلارينيت ، شوهد حليم فيما بعد يعزف عليها في أحد أفلامه . وعندما تخرّج حليم من المعهد في سنّ العشرين ، كان أحد ثلاثة عازفين على "الأبوا" في المملكة المصريّة كلها ، فالتحق عازفاً بالفرقة الموسيقية الرسميّة في الإذاعة المصريّة . وكان زميله في الدراسة في المعهد كمال الطويل قد سبقه الى الألتحاق بالإذاعة مساعداً للمراقب الموسيقي هناك ، فمهّد له ليمثل أمام لجنة الإختبار .
إنّ "الأبوا" كآلة نفخ تعتمد كلّ الإعتماد على ضبط النفَس والتحكّم بكمّيّة الهواء الصّادرة عن رئتي العازف فإن زادت عن حدّها صدر عن الآلة صوت أشبه بفحيح يصمّ الآذان ، وإن نقصت كمّيّة الهواء تهدّج صوت الآلة وتحشرج لتفقد خاصّيّتها وتميّز صوتها عن غيرها من آلات النفخ . لهذا كان لمقدرة العازف عبدالحليم في التحكّم بالنفَس في العزف على آلة الأبوا أكبر الأثر في صقل صوته كمغنٍّ ، إذ وظّف مقدرته المحكمة بترداد النفَس في خدمة صوته ، فخرج صوته وقوراً هادئاً ملتزماً بعيداً كلّ البعد عن الصّراخ. ويعزي العديد من النقّاد سرّ نفاذ صوت حليم الى الوجدان العربي الى قدرته الفائقة في ضبط نفسه ونفَسه في الغناء ، حتى عندما كان يغنّي في المقامات العالية ، على حدود أصوات النساء. وقد أثّر تحكّمه هذا في عزفه على آلته على دقّة أدائه ونظافته وطول نفَسه في غنائه مما أكسب غناءه وصوته لوناً خاصّاً ، قلّ مثيله بين أقرانه في ذلك الحين .
وكان حليم من الذكاء بأن لم يحاول تقليد صوت عبدالوهاب وإن راح يتعلّم من الأستاذ طريقة أدائه في الأفلام على وجه الخصوص ، مدركاً البون الشاسع بين صوته وصوت عبدالوهاب ، إذ بلغت مساحة صوت الأخير في فترته الذهبيّة زهاء ديوانين كاملين بينما لم تتجاوز مساحة صوت عبدالحليم عشر درجات على السلّم الموسيقي. كما لم يقلّد حليم أحداً آخر طيلة ربع قرن حياته الفنّية فلم يستطع الجمهور الذي سمعه لأوّل مرّة في أوائل الخمسينات أو فيما بعد، أن يعقد مقارنة بين هذا الصوت الواعد الجديد وبين الأصوات التي اعتاد سماعها من قبل .
فاجأ حليم جمهوره المتعاظم بصوت وبأداء غير مسبوقين ، طابعاً لوناً جديداً من الغناء لم يعهده الجمهور من قبل ، ممّا فرض على ملحّنيه الخمسة الكبار الذين تعاملوا معه طيلة حياته الفنيّة ولحّنوا له مجتمعين أكثر من ثلاثة أرباع أغانيه ، أن يتأقلموا مع هذا الأداء الجديد ، فراح كل من محمد الموجي وكمال الطويل ومحمد عبدالوهاب وبليغ حمدي ومنير مراد ، وعلى الرغم من خصوصيّة كل منهم ، راحوا يلحّنون لحليم بالأجواء التي فرضها ، فكانت الألحان مختلفة الا أنّ الجوّ العام للأغنية بقي حليميّاً .
بيد أنّ التعطّش لصوت رجالي مميّز ، بُعيد بدء احتجاب عبدالوهاب المذكور عن الساحة الغنائيّة ، لم يكن كافياً لرفع حليم الى المنزلة التي وصل اليها خلال فترة وجيزة ، ولم يكن في دقّة أدائه ودرايته الموسيقيّة كعازف ما يضمن له البروز بين عشرات المطربين والمطربات المعروفين آنذاك فما بالك باحتلال مرتبة الصدارة لربع قرن على الأقلّ . لقد ساهمت ظروف أخرى في صنع وصقل الموهبة الشّابة على ما طبعت عليه ، فقد انطلق حليم مع بدء انتشار المكبّرات الصوتيّة العملاقة ، تلك التي ساهمت في ايصال صوته "الصغير" الى آخر مستمع في القاعات الكبيرة التي ملأها بمئات محبّيه ، بينما كان المطربون حتى ئذٍ يغنّون من غير مساعدة ميكروفون ومكبّرات صوت عملاقة
ساهمت صناعة السينما كذلك في إيصال صوت حليم الى جمهوره الكبير في أرجاء الوطن العربي بعد أن رأى الجمهور بأمّ عينه على الشاشة أنّ الشاب ذا الصوت المخمليّ الرخيم هو شاب وسيم الطلعة أيضاً عليه مسحة من حزن غامض ، فابتسمت له الكاميرات وأكملت تركيب الصورة الناقصة في أذهان الجمهور.
وفطن محمد عبدالوهاب ، عرّاب الإغنية المصريّة في الربع الثاني من القرن العشرين ورجل الأعمال المتطوّر والذي كان قد كوّن شركة افلام مع هنري بركات ووحيد فريد ، فطن لموهبة حليم وعرض عليه عقداً لتمثيل ثلاثة أفلام . وكان العقد يحمل في ثناياه بنودًا تؤكّد أنّ العقد عقد احتكار لجهود حليم لمدة خمس سنوات تبدأ من تاريخ توقيع العقد ، أي من العام 1953 وحتى العام 1958 ، بأجر شامل قدره عشرين ألف جنيه . ولم يفكر عبدالحليم كثيراً في العرض فوقّع العقد وقبض العربون وقيمته ألفي جنيه ، وطار من الفرح ؛ حيث لم يتعدَّ أجره عن الإغنية في الاذاعة الأربعين جنيها، وعن الحفلة الواحدة المئة جنيه.
وبعد أن طبّقت شهرة عبدالحليم الآفاق مع "صافيني" و "على قد الشوق ، رغبت المنتجة ماري كويني استثمار نجاح حليم ، فاتفقت مع المخرج الراحل ابراهيم عمارة على البحث عن قصة تصلح الى تحويلها فيلماً سينمائياً لبطل غنائي وفعلا تمّ العثور على القصة التي كتبها محمد علي سامي وكتب لها السيناريو والحوار ابراهيم عماره وسيد بدير وتمّ استدعاء حليم لكي يمثل الدور الاول الغنائي امام شادية وحسين رياض وزوزو نبيل.. الإ أنّ عقده مع محمد عبدالوهاب ، عقد الاحتكار، حال دون ذلك فأُسقط في يد الجميع . وجاءت عبدالحليم فرصة اخرى امام فاتن حمامة وعمر الشريف واحمد رمزي وهي تمثيل فيلم "أيامنا الحلوة" اخراج حلمي حليم ، فضرب عبدالحليم عرض الحائط بعقد عبدالوهاب وقبل توقيع عقد الفيلم ، وبدأ التصوير فعلاً . وعندما شكّ عبدالوهاب بأن عبدالحليم على وشك أن يكسب القضية التي رفعت أمام القضاء لفضّ الإحتكار ، طلب مقابلته وأعطاه تصريحاً بأن يعمل في أفلام الغير بشرط أن يكون تحت أمرة شركة "صوت الفن" في أي وقت لتنفيذ العقد.
تمّ عرض فيلم "أيامنا الحلوة" ، الذي كان سبباً مباشراً في ازدياد جماهيرية عبدالحليم وانتشاره كمطرب وممثل، فتأكد عبدالوهاب أنه قد حان الوقت كي يستثمر في هذا الفنان الشاب ، فبدأ بتصوير فيلم " أيام وليالي"، ثم فيلم "بنات اليوم" ثم فيلم "دليلة" ، وهكذا تم للموسيقار محمد الوهاب ما أراد ، وتحققت لحليم فرصة حياته ماديّاً إذ أصبح بعد ذلك شريكاً في شركة "صوت الفن" مع محمد عبدالوهاب ووحيد فريد ، وأدار الشركة صديق حليم المحامي مجدي العمروسي.
راح جمهور السينما يتدفّق على أفلام حليم لينضمّ الى عشّاق صوته ، وانضمّ هؤلاء الى جمهور السينما ليكوّنا معاً ، خلال سنوات قصيرة ، الملايين من محبّي حليم في كل أقطار الوطن العربيّ من المحيط الى الخليج. واجتاز نجاح حليم حدود القطر المصري الى المشرق والمغرب العربيين وصارت أغانيه جزءاً من الوجدان العاطفي العربي .
رد مع اقتباس