الموضوع: صبري مدلل
عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 26/10/2007, 19h13
الصورة الرمزية mghazel
mghazel mghazel غير متصل  
ضيف سماعي
رقم العضوية:96834
 
تاريخ التسجيل: October 2007
الجنسية: تونسية
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 2
Post رد: اعمال الفنان صبري مدلل

صبري مدلل:
سيد الارتجالات وصانع الوَجْد والسرور

تحقيق: بسام لولو

انعجن صبري مدلل بهواء مدينته حلب، وتبلل بمطر مزاريبها، واستظل من شمسها في ركن من مساجدها أو تحت إحدى ياسمينات دورها، واكتوى بلواعج أشواقها، والتقى كبار فناني مدرستها،



وغاب أخيراً في تربتها، وخلال كل ذلك ما كان يفعل شيئاً إلا الغناء، حتى يخال المرء أن صوته لا يقل أثراً في حجارة حلب عن هوائها وشمسها ومطرها، وحتى صارت أشرطته مثل فستقها وزعترها وصابونها وحلوياتها يرسلها الحلبي بفخر إلى أحبته في أصقاع الدنيا. لذلك ما كان بإمكان أي عمل موسيقي أو أدبي أو تشكيلي أو سينمائي أو صحفي أن يتناول صبري مدلل بمعزل عن مدينته، لكن أحد سمّيعته، قال: من المستحيل على أي عمل أن يصل إلى قامة الشيخ صبري، إذ بقيتُ أبحث عن سر بهاء شخصيته، فلم أستطع أن أمسك بتلابيبها. لذلك ما كان همنا في هذا العمل إلا أن نحاول الإجابة عن سؤال: من هو صبري مدلل إنسانياً وفنياً؟ من خلال بعض المصادر التي تحدثت عن سيرته، واللقاء بعدد من الفنانين والباحثين والسميعة الذين عايشوه عن قرب، وبعض مما قيل فيه، فإلى هذه المحاولة:

سيرة ذاتية

من كتاب "شيخ المطربين صبري مدلل وأثر حلب في غنائه وألحانه" لمحمد قدري دلال، وكتاب"مئة من أوائل حلب" لعامر مبيض، وبعض المصادر الأخرى، حاولنا أن نتعرف إلى بعض من سيرة صبري مدلل الذاتية: ولد الشيخ صبري عام1918، في أسرة حلبية متدينة، فقرأ القرآن منذ صغره على يد الشيخ أحمد المصري الذي اكتشف جمال صوته فأوكل إليه مهمة الأذان، قبل أن يتتلمذ موسيقياً على يد الشيخ عمر البطش، فتأثر به كثيراً، كما تأثر بالعديد من أعلام الموسيقى والغناء في حلب، ومنهم الشيخ بكري كردي، وراح ينشد ويغني في الزوايا والتكايا والمساجد وحفلات الموالد والأعراس، إلى أن أنشئت إذاعة حلب عام1947، فكان واحداً ممن غنوا على هوائها المباشر عام 1949، لكنه سرعان ما أطاع والده في التخلي عن العمل فيها خشية أن يصير مطرباً، وهو الأمر الذي ما كانت تفضّله الأسر المتدينة، فعاد إلى الإنشاد الديني عملاً بالمبدأ القائل: "مدّاح طه لا يُضام"، وأسس فرقة تتابع عليها كبار المنشدين مثل أحمد السمان المدني وفؤاد خانطوماني وعمرنبهان ثم عبدالرؤوف حلاق وزكريا مكي ومحمد وعمر صابوني وحسن حفار.. وانتهت بأن تسلم ابن أخته الفنان أحمد حمادية إدارتها. وقد خاض المدلل بجدارة غمار التلحين، فلحن أربعين عملاً دينياً، باستثناء واحد كان غزلياً. لكن النقلة النوعية في حياة المدلل حدثت عندما تعرف إليه أحد الموسيقيين الأجانب، هو كريستيان بوخه، فقدمه إلى الجمهور الفرنسي، لتتتالى بعد ذلك حفلاته في العديد من الدول العربية والأجنبية مثل ألمانيا وهولندا والنمسا واليونان وبلجيكا وسويسرا والصين وتونس ومصر والكويت ولبنان والإمارات العربية المتحدة. حافظ الشيخ صبري على ما ورثه من أساليب الأداء والغناء والانتقاء، فلم يخرج على الجمل الموسيقية القديمة، ولم يتصرف فيها إلا في حدود الجماليات، وما يتناسب مع إمكاناته الصوتية العالية التي دربها أحسن تدريب، وكان لا يقنعه من الألحان سوى ما أُتقنَ صنعه، واستكمل حظه من المراجعة والتنقيح والتدبيج، وهذا ما بدا واضحاً في ألحانه.. وقد استلهم ما خزنته ذاكرته من أعمال سيد درويش والقصبجي ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد وداود حسني فأعطى لوناً جميلاً لأثواب لم يعرفها الإنشاد الديني قبلاً ولم يعهد مثلها في قوالبه. وقد جعل المدلل من سهرة السبت من كل أسبوع علامة فارقة في مدينة حلب على مدى 15سنة، فكانت تستقطب كبار فنانيها ومبتدئيهم وسميعتها وضيوفها من سفراء وفنانين ومثقفين. وخلال كل ما تقدم ظل الشيخ صبري يتحرك مثل نواس بين منزله في حي الجلّوم، وبين دكانه الذي يبيع فيه صابون الغار الحلبي في حي الكلاسة، وبين المساجد التي عمل فيها مؤذناً، والتي كان آخرها الجامع الأموي الكبير في حلب، حيث كان يؤذن فيه الظهر والمغرب والعشاء فقط.. وقد جعل من كل مكان يحط فيه مدرسة فنية يقصدها ويؤمها طالبو العلم، إلا المكفوفين فقد كان يقصدهم في معهدهم الخاص بهم ليعلمهم أصول الغناء والإنشاد على أمل أن يحصلوا بذلك على مصدر رزق لهم. كُرِّم المدلل من الرئيس السوري 2001 ، ومن كل من التقاه أو سمعه أو سمع عنه، سواء بالحب والتقدير، أو بتخليد ذكره في الصحافة والأدب والتشكيل والسينما والدراسات الموسيقية. شيّعته حلب إلى مثواه الأخير في مقبرة "الصالحين" في 19-8-2006

طفل كبير

البعد الروحي والإنساني في شخصية صبري مدلل، تكلم عنه المخرج السينمائي محمد ملص الذي استطاع بعبقرية فذة أن يمسك بأحد مفاتيح هذه الشخصية من أول سؤال لها في بداية فيلمه الوثائقي عنها، عندما قال لصبري: من أنت؟ فأجابه: "أنا صبري مدلل المنشد الحلبي ومُدْخِل السرور إلى قلوب الناس"، فكشفت هذه الإجابة، فيما كشفت، عن البعد الإنساني العميق لهذا الرجل الذي كرّس عمره ليكون منشداً وباعثاً على السرور، فما كان من ملص إلا أن قبض عليها، وصاغ منها عنوان فيلمه "حلب.. مقامات المسرّة". وفي الوقت الذي يقدّر فيه ملص أن من سوء حظ الكثيرين، من خارج حلب، أنهم لم يتعرفوا إلى صوت المدلل إلا متأخراً في أواخر السبعينيات، يرى أن النصر الكبير الذي حققه صبري هو أنه استطاع أن يرفس سنوات العمر، وألا ينكسر أمامها، فظل ينشد ويبعث السرور، عبر صدق وجمال الصوت والكلمة واللحن، معلناً عن روحه في قدرتها على تجاوز جحود الأزمنة، وتدفقها بالحياة والكرم، وإصرارها على الجمال والتألق. وللكشف عن المزيد من طبقات شخصية المدلل، يتحدث ملص بحميمية عن اللحظات الدافئة والجميلة، في الفترة التي أمضاها، ليلاً ونهاراً، في بيت المدلل الذي وضع نفسه بين أيدي فريق الفيلم، فكان ملص كلما دلف إلى دهليز من دهاليز شخصية المدلل، وجد ذاكرة أمينة ووفية للإنشاد ببعديه الديني والغزلي، وإرادة في التعبير عنه بأصالة وصدق، لحماية هذا التراث الغنائي الخاص الذي يتناثر في أرجاء وهواء مدينة حلب العريقة، فكان يفوح بعطر صوته أمام الكاميرا والأنوار والأجهزة في أوقات التحضير لالتقاط لحظة له، وهو يمسك بالدف ليستعيد على مسامع الفريق مقاماً من المقامات. إلى جانب هذه الذاكرة الحية يرى ملص في المدلل طفولة نابضة، وهو يرتدي"جلابيته" الجميلة، ويقفز على السرير ليلتقط صورة من على الجدار، ولينفخ الغبار عنها، ويقول: "هذه الصورة لي وأنا في باريس، أو مصر.."، أو وهو يلتقط صورة أمه من بين صوره التي بعثرها على السرير، ليقول عنها: كانت لا تقدم لي العشاء، إلا إذا غنيت لها! وعن علاقة المدلل بمدينته ومجتمعها، يتحدث ملص عن التصوير في الشارع، فكان مع فريقه، يتجلل ببهاء قامة المدلل وطربوشه الأحمر القاني، وكانت تكل أيديهم من مصافحة الناس، وهم يعبرون الأسواق، من بيت المدلل إلى مئذنة الجامع الكبير، ليعلن أذان الظهر، فكان بمجرد أن ينبث بكلمات الأذان الأولى، يجلل حلب بصوته وهو يدعوها إلى الصلاة. ولأنه لم يقدر للكثيرين أن يروا الفيلم، فقد ظل السؤال: هل استطاع أن يصل إلى قامة صبري؟ في الإجابة عن هذا السؤال يرى ملص أنه كسب صبري مدلل، وحقق ما يصعب تحقيقه، بجهود وعون أخيه الشاعر الإماراتي أحمد السويدي، لكن كلام ملص ظل يحمل شيئاً من حرقة وغصة على واقع هذه الأمة الذي حال دون توصيل هذا الإنجاز. فملص يرى أن الأزمات في منطقتنا العربية، كثيراً ما تكون ظالمة وجاحدة وناكرة عندما تنثر الرمال فوق العطاءات وفي هواء اللحظات المتألقة في حياة المجتمعات، لكن ملص يؤمن بقدرة التاريخ على إزاحة الغبار عن قاماته، من مثل عباقرة الموسيقى النادرين الذين أسسوا ما سمي بمدرسة حلب في الغناء، وهم: علي وإبراهيم الدرويش وعمر البطش وبكري كردي. وفي نهاية حديثه يؤكد ملص أهمية صبري مدلل في أنه الحافظة أو الذاكرة التي فقدناها والتي نحتاج إليها في كل الأزمنة. نهاية جيل لتوصيف الجانب الفني في شخصية صبري مدلل، كان لنا وقفة مع فواز باقر؛ دكتور في الهندسة المعمارية وباحث في علم الموسيقى، مهتم في العلاقة بين العمارة والموسيقى، وعازف عود ذو سمعة ناصعة، رافق صبري مدلل في عدد من حفلاته، فقال عن صبري: إنه من أفضل مؤذني ومنشدي ومطربي وملحني حلب المبدعين، استطاع بما يملكه من موهبة وروحانيات وخيال وخبرة وحسن أداء وصوت أن يشق طريقاً مباشراً وسريعاً من قلبه إلى حلقه، مستغنياً بذلك عن الطرق الإجرائية الموسيقية، ومستفيداً في ذلك من عمله مؤذناً، ومعبراً في صوته عن كل ما يتحلى به من صفات الكرم والعفوية والشفافية والطيبة واللطف ودماثة الروح. ويلفت باقر الانتباه إلى أن كون صبري ملحناً لا يقل عنه مؤذناً أو منشداً؛ إذ إن جملته اللحنية لا تقل مستوى وجمالاً عن جملة كبار ملحني الموسيقى العالمية، بما تنطوي عليه من خيال وكثافة، ويدلل باقر على ذلك بجلسة جمعته مع صبري وعدد من الموسيقيين الفرنسيين الذين تحدثوا فيها عن لحن سمعوه لأحد الموشحات القديمة، وسحر ألبابهم، فكانت دهشتهم كبيرة عندما عرفوا أن صاحب اللحن هو صبري مدلل الجالس معهم.. بهذه التوصيفات يرى باقر أن صبري ظُلم عندما قَصَره بعضهم على أنه موضوع فلكلوري سياحي.. وبهذه التوصيفات يعلن باقر برحيل صبري نهاية جيل مؤمن بموسيقاه الشرقية كما هي، ومكتف ومملوء بها بانسجام مطلق، من دون أي شعور بالنقص.
رد مع اقتباس