هذا هو المنشور بمنتدى سماعى
فى باب ( مقالات فى الموسيقى )
للعضو reiza-niklav
وهو ما يتماشى مع مقالنا الاغنية السياسية
سطع نجم سيد درويش فى هذا الجو العاصف وهدده البريطانيون بالسجن والنفى لكنه توفى مبكرا قبل أن ينال شرف ذلك ، وكان بكتب وينظم أيضا ، ومن نظمه كلمات النشيد الوطنى الشهير " بلادى بلادى لك حبى وفؤادى" وقد استوحى النشيد من كلمات أطلقها الزعيم الوطنى مصطفى كامل الذى توفى أثناء طفولة سيد درويش لكن كلماته ظلت تلهب مشاعر المصريين
أنشد سيد درويش العديد من الأغانى والأناشيد الوطنية كأنشودة " أنا المصرى كريم العنصرين" ، وقد لحن نشيد " قوم يا مصرى " من كلمات لبديع خيرى قرأها فى إحدى الصحف قبل أن يتعارفا وقبض عليه الانجليز بسبب ذلك رغم أنها كانت مادة منشورة بالفعل إلا أن تلحين الشيخ سيد لها جعلها تنتشر فى جميع الأوساط القارئة وغير القارئة مما جعل الانجليز يشعرون بخطورة ألحانه لتأثيرها البالغ فى إحساس الناس وكأنها فى تعبئة الجماهير جهاز إعلامى جبار
وعنما تولى الخديو عباس حلمى الذى كان ميالا للإصلاح عزله الانجليز بينما طالب المصريين بعودته للحكم ، وشددت الرقابة على الصحف وما تيسر من وسائل الإعلام حتى الأغانى ، واحتال سيد درويش للموقف بتلحين دور "عواطفك" وهو دور عاطفى كما يظهر من عنوانه ، لكنه تكون من 8 ابيات فى مطلع كل شطرة حرف من اسم الخديو ولقبه فإذا قرئت الحروف الأولى قرئت " عباس حلمى خديو مصر" ، والأعجب من هذا أن الدور كانت كلماته من تأليفه هو!
وعندما نفى الزعيم سعد زغلول احتال مرة أخرى لتذكير الناس بالمطالبة بحريته فلحن طقطوقة " يا بلح زغلول " ، وعند عودته من المنفى أعد نشيدا لاستقباله فى ميناء الإسكندرية مطلعه " مصرنا وطننا سعدها أملنا " وتظهر التورية جلية فى كلمة " سعدها"
وربما من الجدير ملاحظة أن هذا الفنان لم يتقاض أجورا من أحد عن كثير من أعماله الوطنية التى عبأت الشعب ضد الفساد والاحتلال ولم يكلفه أحد بنظمها أو تلحينها ، وإنما كان وراءها فقط حس وطنى عال وشخصية ثائرة تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ ، وهو يذكر المصريين بجذورهم دائما ، فهو يشعرهم بالفخر فى المطلع القوى " أنا المصرى كريم العنصرين .. بنيت المجد بين الإهرامين" فى أوبريت شهرزاد من كلمات بيرم التونسى ، وهو لحن فائق الفخامة مما يليق بعظمة الجدود ويتغنى فى نهايته بقصة حب شاعرية يصوغ لحنها فى نسق شعبى بسيط يتصاعد تدريجيا إلى ختام أوبرالى الشكل متماشيا بذلك مع أصول التلحين المسرحى الجماهيرى ويترك بهذا الختام نفس الانطباع القوى بالفخامة الذى بدأ به اللحن
وفى أسلوب مختلف فى لحن " قوم يا مصرى " يحث أبناء الوطن على تذكر ماضيهم المجيد ولكن فى صيغة عتاب قاس قائلا :
شوف جدودك فى قبورهم ليل نهار .. من جمودك كل عضمة بتستعار ..
صون آثارك ياللى ضيعت الآثار .. دول فاتوا لك مجد خوفو لك شعار ..
إن هذا الكلام لا يصدر إلا عن فكر عميق آمن به سيد درويش فى فترة لم تكن فيها كل الآثار المصرية التى نعرفها اليوم ويعرفها العالم كله قد اكتشفت بعد ، لم يكن هناك غير الأهرامات ظاهرة بينما كثير من آثار الأقصر وغيرها ما زالت تحت التراب وهذا يبين قيمة هذه الدعوة
وهناك أمثلة فى التاريخ المعاصر تدل على أن بعث الروح القومية وتوحيد أبناء الشعوب فى هوية واحدة يبدأ بداية ناجحة إذا التفت الناس إلى ماضيهم وآثار جدودهم وهكذا فعل القائد الألمانى بسمارك موحد ألمانيا ونجح فى مسعاه ، وهكذا يفعل البريطانيون والفرنسيون وغيرهم
ولم يكن ليتصدى لتلحين مثل هذا الكلام بغرض توصيله للشعب بأكمله مجرد ملحن طقاطيق أو حتى فذ من أفذاذ الأدوار ، وفى عصر ساد فيه الاحتلال وكل ما جلبه من فساد وأراد نشره من رذيلة ، وخاصة أن مثله لن يجد مطربة صالات تغنيه ولا شركة اسطوانات تموله ، ولن يجد من يقدمه أجرا عليه من أحد فضلا عن تعرضه للاضطهاد بسببه ، وإنما تحتاج كلمات كهذه فى عصر كهذا إلى ملحن مثقف على دراية بالتاريخ وكفاح الشعوب وذى حس وطنى عال ، كما يدرك كيف يخاطب الناس وينقل إليهم إيمانه العميق بالقضية الوطنية ويحرك أحاسيسهم للعمل من أجلها
وفى أعماله المسرحية ، التى هى عصب نتاجه الفنى نجد كثيرا من الأناشيد الحماسية وأغنيات ملأى بالإسقاطات السياسية والاجتماعية التى أيقظت روح الإصلاح والتحدى والتفاؤل لشعب بأكمله
وظهر تعاطف سيد درويش مع مختلف الطوائف الشعبية فى ما عرف بألحان الطوائف ، وهى أغنيات لها إيقاعاتها الخاصة وغنيت بلهجة ومصطلحات كل طائفة دون تغيير ، ولا شك أنها كانت من أصعب ما تصدى لتلحينه سيد درويش ، إذ وضع لكل منها إيقاعاتها وأنغامها الخاصة التى تشعرنا وكأننا نرى ما نسمع ووهناك العشرات من هذه الألحان سميت بأسماء الطوائف مثل "الصنايعية" ، "الشيالين" ، "السقايين" ، " الجرسونات ، "الأروام" ، " المغاربة" وغيرها
وبلغت مدرسة سيد درويش التعبيرية ذروتها فى جملة لحنية مشهورة فى لحن " الوصوليين" الذى يقول نصه "عشان ما نعلا ونعلا ونعلا .. لازم نطاطى نطاطى نطاطى" ، فنسمع اللحن يتصاعد فى نعلا ونعلا .. ثم يتراجع فى هبوط مع "نطاطى نطاطى" ، وهى سمة الوصوليين فى كل مكان وزمان إذ يرضون بالذل مقابل المكاسب المادية ، ومسلكهم فى ذلك التقرب من الحاكم والتودد إليه بالنفاق والتحايل ويتنازلون فى سبيل ما يغدقه عليهم من عطايا ومناصب عن كل قيمة ومبدأ محترم فى الحياة
وهذه الاتجاهات تدلنا بوضوح إلى أن سيد درويش كان صاحب فكر وليس موسيقيا فقط ، وأنه استخدم موهبته الموسيقية فى توصيل أفكاره للناس ، وقد برع فى ذلك تماما وقد ساعده بلا شك مؤلفين ثوريين كبديع خيرى الذى دانت له العامية المصرية بل وجميع اللهجات الموجودة على أرض مصر فى ذلك الوقت ، وكذلك بيرم التونسى أمير شعراء العامية