عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 11/08/2007, 15h02
الصورة الرمزية عثمان دلباني
عثمان دلباني عثمان دلباني غير متصل  
ابوهنية
رقم العضوية:42597
 
تاريخ التسجيل: June 2007
الجنسية: جزائرية
الإقامة: الجزائر
المشاركات: 1,570
افتراضي رد: التأثير الصوفي في الفنون والثقافة الشعبية الجزائرية

التأثير الصوفي في الفنون والثقافة الشعبية الجزائرية ج2

4ـ الشعر الشعبي (أو الملحون) وعلاقته بالتصوف

وأشار العلّامة ابن خلدون في مقدّمته إلى الشعر الملحون او الشعبي فذكر أن واضعه هو رجل من أهل الاندلس كان يعرف بابن عُمَيِّر (بضم العين وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة) الذي نزل مدينة فاس وعنه نقل الناس هذا الأسلوب في نظم الشعر بدون تكلّف.وهناك شخصية عظيمة أخرى ظهرت أيضًا في طليعة هذا الميدان، وهو محمّد بن عيسى الشهير بابن قزمان الأندلسي الزجّال (555 هـ ـ 1160م)الذي غمر الأدب الأندلسي بأزجاله وشعره الملحون، ويسّر بإبداعه هذا ما كان متعسّرًا على العامة،فأخذ كلّ واحد منهم ينظم كلماته شعرًا على النمط الجديد بلهجته الخاصة دون كلفة ولا تعاطٍ للأوزان الشعرية الخليلية التقليدية، وهذا ما سمي بعد ذلك في ارض الأندلس بالزجل،الذي نظموه على أوزان جديدة انتشرت بعد ذلك في المشرق أيضًا وجعلوا لها أسماء مثل (كان وكان) و (الموّالية) و (السلسلة)و (الدوبيت) و (المستطيل)و (المنسرد) و (المطرب)،ممّا عرف عند الأدباء بفنون الشعر السبعة، وقالوا "هذه لا تسمّى شعرًا لأن أوزانها مخالفة لأوزان العرب" وجعلوها من الأبحر المهملة (19).
إن الشاعر الشعبي (أو شاعر الملحون) يمتص جانبا من التصوف ثم يعيد نسجه وتنظيمه وفق ما تزود به من علوم ومعارف دينية. وهنا نلاحظ أن الشاعر الشعبي لا يجهل الأبعاد الحضارية لخطابه، فهو يستفيد مما تعطيه الجماعة الشعبية كما يستفيد من مؤهلاته الاجتماعية و الثقافية.
ويلاحظ المتتبع لقصائد الشعر الشعبي (الملحون) أن الحكاية التي يرويها الأدب الشعبي هي سبيل واضح لاستكشاف الوعي الصوفي في مستوى من مستوياته، والتعرف و لو بشكل أولي على ما يعتمل داخل المجتمع من نشاط ديني وثقافي. وغني عن القول أن الشاعر الشعبي الصوفي متأثر بالثقافة الدينية والشعبية التي أخذها من محيطه والوسط الذي عاش فيه، هذه الثقافة التي تعتبر زادًا معرفيًا متنوعًا تقدمه (الجامعة الشعبية) المتمثلة في المساجد والزوايا.
وفي هذا السياق ينبغي التأكيد على أن معظم شعراء الملحون الجزائريّين والمغاربيّين إن لم نقل جميعهم هم من الصوفية .و نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر :
سيدي لخضر بن خلوف، عبد العزيز المغرواي، الحاج محمّد النجّار،الحاج عيسى لغواطي، الشيخ عبد الرحمن المجدوب، الحاج مبارك بو لطباق، سيدي أحمد لغارابلي، عبد القادر بلوهراني،سيدي أمحمّد بن عودة، سيدي بلحسن وغيرهم.
ومن الممكن أن نضيف إلى هؤلاء أسماء أخرى من الشعراء الذين كتبوا في المديح النبوي والوعظ ومدح الأولياء والصالحين، حتّى و إن لم يشتهروا كصوفية ولكن نصوصهم مشرّبة بالروح الصوفية والمصطلحات الصوفية.ومن بين هؤلاء الشاعر التلمساني أبو عبد الله الحاج محمّد بن أحمد بن مسايب الذي عاش في القرن 12 الهجري و أصله من الأندلس،كان يكتب في العديد من الأغراض غير أنّه عندما يكتب في المديح النبوي أو الوعظ أو مدح الأولياء، لا يستطيع القارئ أن يميّز بين شعره وشعر غيره من الشعراء المتصوّفين وذلك لشدّة غوصه في الأحوال و التعابير الصوفية.
ومن القصائد التي توحي بتبحّر محمّد بن مسايب في المجال الصوفي ومعرفته العميقة بالطريق و أهلها على الأقل في الجانب النظري،يمكن ذكر ما يلي:
( الوفاة) وهي قصيدة في وفاة الرسول ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ ( يا الوحداني) وهي في موضوع التوبة والاستغفار ، (ماوفاشي طلبي) وهي قصيدة يوحي ظاهرها للقارئ الساذج بأنها غرامية، غير أنه يقول في آخرها :
" نمدح جدّ الشرفا صاحب الحوض أحمد سلطاني
غفرانك يـا ربي حرمة النبي الماحي الطاهر
فيه غاية رغبي بيه راني متولّع يـــاسر " (20).

والواقع أن المتمعّن في نص هذه القصيدة يجد فعلًا تعابير غرامية كثيرة شائعة في أجوائها، وعندما نقول تعابير "غرامية" فنحن لا نقصد العاطفية منها فحسب بل نقصد أيضًا التعابير الحسّية الجسدية مثل قوله :
" محبوبي كحل العين والشفر والحاجب والسالف
حسنه مكمول الزين يسحر العاشق بسر مخالف
ديما فوق الخدين الورد فاتح لونه متخالف" (21)

إلى غير ذلك من التعابير التي توحي للقارئ أن الشاعر يصف امرأة لا رجلًا، ما يجعله يتوهّم ان القصيدة غزلية وهي غير ذلك. وهذه عادة الشعراء الصوفية في تعابيرهم العشقية الجيّاشة بالحب تجاه الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام و الأولياء الصالحين.
وكذلك نجد بن مسايب في قصيدته أو بالأحرى زجله المسمّى (بدر الدجى عسّاس) ، الذي يغنّى في الطابع الأندلسي او النوبة (رهاوي) على إيقاع (الانصراف)،فإن المستمع يتصوّر أن هذا الزجل هو في الخمرة والغرام،فهو يقول :
" بدر الدجى عسّاس والليل راح
يحلى الطرب والكاس بين الملاح
قم يا نديم قم دير الكيوس
فايق من النوم تجلس جليس"
وهذا النص هو في الواقع في مدح الرسول ـ صلّى اله عليه وسلّم ـ ويعرف القارئ والمستمع ذلك عند قول الشاعر :
زهوي وعشقي فيه سيد البشر
قلبي مولّع بيه ما لي صبر
في محبته خلّيه تفنى العمر" (22)

ويلاحظ في هذا الصدد ان محمّد بن مسايب يقتدي بالشعراء الصوفية الذين ليست لديهم مشكلة او عقدة من التحدّث عن ( العشق) وهو أعلى درجات المحبّة في حقّ الله تعالى، أو في حقّ الرسول عليه السلام أو الأولياء والصّالحين، ونلاحظ الأمر نفسه في قصيدة (هاض الوحش عليّ) و (سعدي بيك سعدين)و (الحرم يا رسول الله) و قصيدتي (هاج غرامك) و (أبو علام ) اللتين نظمهما في مدح سيدي عبد القادر الجيلاني، و (باسم العظيم الدايم) .
و يظهر تبحّر محمّد بن مسايب في معرفة الاولياء والصوفية في قصيدته (يا أهل الله غيثوا الملهوف).
و إذا علمنا بأن محمّد بن مسايب اشتهر أكثر كشاعر غرامي،عرفنا مدى التأثير الذي كان للمدرسة الشعرية الصوفية على الشعر الملحون باعتباره رافدًا هامًا من روافد ثقافتنا الشعبية، هذا إن لم يكن أهمها على الإطلاق.وهنا يحضرني قول المفكّر كولن ويلسون : (إن الفنانين والفلاسفة في أي عصر يجب أن يكونوا علماءه ورجال دينه في الوقت نفسه، ويجب أن يكون كل عالم قادرا على الحصول على الإدراك الديني كقدرة الراهب على فهم نظرية الكمّ في الفيزياء مثلًا). (23)
ولا يرجع تأثير شعراء الملحون الصوفيين إلى مواهبهم الشعرية فحسب،بل يرجع بالأساس إلى كونهم صوفية،وتلاميذ لشيوخ صوفيين سواءٌ من مؤسّسي الطرق (مثل سيدي قدور العلمي الذي كان من تلاميذ سيدي أحمد بن عيسى مؤسّس الطريقة العيساوية ، دفين مكناس)، أو من خلفائهم .وبالفعل عندما ندرس قصائد هؤلاء الشعراء نجد فيها "أسرارًا" و أجواء خاصة لا نجدها في قصائد غيرهم من الشعراء،فقصائدهم تتميّز بجاذبية روحية لا يمتلكها غيرهم.
ومن المعروف أن أغلب الصوفية عبر التاريخ كانوا ينظمون الشعر، وكذلك الحال في الجزائر والمنطقة المغاربية،ومن بين مؤسّسي الطرق والصوفية المعاصرين الجزائريّين الذين كتبوا الشعر الملحون نذكر : الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي المستغانمي،وشيخه سيدي محمّد بن الحبيب البوزيدي المستغانمي،والشيخ الحاج عدّة بن تونس المستغانمي.وتتميز دواوين هؤلاء الشيوخ بعمق المعاني وسلاسة العبارة ومتانة التركيب في آن واحد.وقد نظم هؤلاء الشيوخ في الفصيح أيضًا كما نظموا في الملحون بجميع الأوزان وحتّى في الطبوع الغنائية الأندلسية.
ومن هؤلاء الشعراء أيضًا الشيخ عبد القادر بن طبجي ،شاعر سيدي عبد القادر الجيلاني ودفين مقامه بمستغانم، وله ديوان مطبوع جمعه الأستاذ عبد القادر غلام الله . وبن طبجي هو صاحب القصيدة المشهورة (عبد القادر يا بوعلام..ضاق الحال عليّ).

يتبع
__________________
ما ندمت على سكوتي مرة، لكنني ندمت على الكلام مرارا. عمر بن الخطاب

FACEBOOK - ATHMANE
رد مع اقتباس