كريمة عطار
16/11/2011, 08h32
ارفع هذا المقال تخليدا لذكرى الفقيد عادل الهاشمي الذي فجعنا بوفاته يوم الجمعة الماضي. تغمده الله برحمته الواسعة واسكنه فسيح جنانه
***********
الغناء العراقي
فقرات مختارة من بحث للمرحوم عادل الهاشمي
نشر في الملحق الثقافي لصحيفة المدى العراقية بتاريخ 29حزيران 2008
=========
ان الغناء العراقي الذي هو جزء من الغناء العربي له وجود روحي يكاد يكون مطلقاً في روحانيته، لأن الامة العربية هي امة قرآنية وأمة الانبياء والرسل وقد صدق (ابن خلدون) حينما وصف العرب قائلاًً (والعرب اسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذمم الاخلاق).
وعليه يمكن القول ان الغناء في امة العرب قد ضغط في السنوات القلائل من نهاية القرن التاسع عشر والعقود التالية من القرن العشرين، جميع العواطف الانسانية داخل البقعة الجغرافية العراقية والعربية المدخرة والمؤجلة في آن واحد، تلك التي تكفي ان تملأ قروناً وقروناً من التاريخ، فالزخم الذي يفيض من الغناء العراقي زخم صوفي وشعوري ووطني وقومي وهولايستهدف ابداً في كل نشاطاته توفير الاسباب التي تيسر المتع، بل انما يستهدف اولاًواخيراً الاندماج في النظام للغناء.
ان اشكال الغناء هو قانون أزلي ومن الصعب التفكير باضافة سلاسل جديدة لقوالب الغناء من حيث الصفات والقواعد والانماط والمدارس والاتجاهات والاحكام، وانه من اليسير علينا أن نرى ان الحقيقة العميقة في الغناء العراقي من قوة الصوت ورقته وعذوبته وجرسه وصلصلته وأحساسه وقيمته الفنية وحركة نبراته ونطقه وجزالته تنبع من مبدأ وتتدفق من حس الضرورة التاريخية، فنحن لانزال في غنائنا العراقي بعيدين كل البعد عن اية تقنية علمية دونما مخطط او وحدات علمية من البحث والاستقصاء النظري والعملي . فنجاح صوت غنائي عراقي يعود الى الحظ وأقل ندرة الى الغريزة الفنية.
وعليه لم يسبق لأي دراسة ان ادركت من قريب او بعيد، أن هناك منشأ أو جذراً ينمو عليه حل عريض وواسع لمشاكل الغناء، والاصوات الكبيرة التي مرت في الغناء العراقي عبر اكثر من نصف قرن كانت تنمو تحت رعاية ذوقية غريزية تقليدية ، هذه الاصوات التي نمت وكبرت وأثمرت في شجرة الغناء العراقي ، كانت بعيدة عن نموذجية الرؤية التاريخية والعلمية لفن الغناء ، من خلال الادراك الكلي للتركيب الخارجي والداخلي له ومن حتمية الفرق بكل وضوح بين الأثر الجوهري للغناء وبين الاثر الميكانيكي له، بين محتوى الخيال وبين القانون الفني للغناء، بين الصورة والنموذج وبين المعادلة والنهج، بين الغناء الواقعي الاني، وبين الغناء المحتمل دائماً، وان اسماء مثل (عثمان الموصلي، احمد الزيدان، محمد القبانجي ، عزيز علي ، سليمة مراد ، ناظم الغزالي ، حضيري ابو عزيز، داخل حسن،صديقة الملاية، رضا علي، محمد عبد المحسن، مائدة نزهت ، زهور حسين، وحيدة خليل، ياس خضر، حسين نعمة، فاضل عواد ، فؤاد سالم، رياض احمد) هؤلاء وسواهم أمثلة على رقعةجغرافية تمثلت فيهم ـ مدينية الغناء، ذلك ان اية سيرة شخصية لفن الغناء ، تستقطب اول ماتستقطب روح البيئة التي انطلق منها. وحسنا في الغناء وبصيرتنا الداخلية يريان بالتأكيد في اسماء عراقية في الغناء كما لو انها تمثل تتابعاً في الماضي لكي يتصل هذا التتابع الى ساحة الحاضر.
اذن ماهو الغناء العراقي؟
انه بالتأكيد عرض منتظم للماضي بكل قوالبه وقوانينه واشكاله وبيئاته والخروج على هذا الماضي يشكل نقطةالبدء نحو التسطيح والانحدار. والحق ان قوانين الغناء ليست رأياً شخصياً، انما هي نتاج عائلة كاملة من الاذهان على مستوى حقب التاريخ، ورثها جيل عن جيل سبقه من خلال امتزاج العلم الموسيقي بافكارنا الفطرية عن فن الغناء، الى جانب ذلك ما يطرحه العصرمن متغيرات تكون عوناً على ترسيخ اصولية الغناء لا ان تكون تمرداً عليها. وعليه فأن المشابهة بين تلك المراحل من تطور الغناء العراقي ، يقوم على الالتزام باصولية الغناء، أما المشابهة السطحية ،تلك التي تجمع المراحل ، فهي مكيدة عظمى وقعت في شباكها جميع الاراء التي تحدثت عن فن الغناء العراقي، بأعتباره قيمة ليست قابلة للمس أو التغيير! بينما الحقيقة ان الاداء الذي يجب ان يحتل حيزاً من الاهتمام، هو الذي يحاول التنسيق بين هذه المراحل ونقدها ثم ترجمة مغزاها الروحي العميق الصلة باسماع الفئات الشعبية.
ولكي يكون حديثنا موثقاً بالوقائع التاريخية الدقيقة، لابد من معرفة ما يجري من الوان واتجاهات ومنابر. فالغناء العراقي، بعد عصر (البستة) الفقيرة، انطلق في مجال الخيال والبناء النغمي والتحليق الموسيقي الى آفاق اكثر تطوراً وقيمة وبناء في الاغنية العراقية ، عندما جاء الى الحلبة العراقية، الشقيقان (صالح الكويتي وداود الكويتي) حيث عملا على تشكيل فن الاغنية العراقية من خلال التعبير عن روح البيئة مستقطبة مقومات الصيغة اللحنية ـ السليمة ـ ولكي تستأثربالمناخات الشرقية الزاخرة والمؤطرة بطابع الاصالة والتفرد متأثرة الى حد ما بأنجازات الاغنية العربية (المصرية) -على وجه الخصوص (محمد عبد الوهاب ام كلثوم ،صالح عبد الحي، فتحية احمد، فريد الاطرش ، اسمهان ، عبد الغني السيد، ليلى مراد) من خلال الاسطوانات والافلام الغنائية، ويمكن القول ان الاغنية العراقية، كانت قبل الشقيقين صالح وداود شيئاً تعلق بنظام البستة الفقير، وصارت بعدهما ومن خلالهما شيئاً تعلق بنظام الاغنية المركبة نسبياً مثال (كلبك صخر جلمود، على شواطئ دجلة مر،هذا مو انصاف منك، تأذيني ، يالماشي الله وياك، مرابط، وين رايح وين، منك يالاسمركلبي تمرمر، كلبي خلص ، شكول على حظي، وكثير غيرها.
في العراق كان كبار المغنين، فبعد مرحلة الفنان المتعدد المواهب عثمان الموصلي ، ومحمد القبانجي بوزنه المتميز الواضح، كان هناك (حضيري ابو عزيز) بأنتشاره الجغرافي الواسع، (ناظم الغزالي)بفرادته الادائية المستمدة من أصول التجويد العربي الاصيل، (سليمة مراد) بفطرتهاالقوية في التلقي الغنائي، (داخل حسن) بابتكاره التطريبي في فن الاداء، (حسن خيوكه)في انتظام حركته الغنائية، (يوسف عمر) في نهجه البغدادي في غناء المقام العراقي ، (زكية جورج) بنبراتها الشجية (صديقة الملاية) بوقع صوتها القوي المشوب بغلظته..
***********
الغناء العراقي
فقرات مختارة من بحث للمرحوم عادل الهاشمي
نشر في الملحق الثقافي لصحيفة المدى العراقية بتاريخ 29حزيران 2008
=========
ان الغناء العراقي الذي هو جزء من الغناء العربي له وجود روحي يكاد يكون مطلقاً في روحانيته، لأن الامة العربية هي امة قرآنية وأمة الانبياء والرسل وقد صدق (ابن خلدون) حينما وصف العرب قائلاًً (والعرب اسرع الناس قبولاً للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذمم الاخلاق).
وعليه يمكن القول ان الغناء في امة العرب قد ضغط في السنوات القلائل من نهاية القرن التاسع عشر والعقود التالية من القرن العشرين، جميع العواطف الانسانية داخل البقعة الجغرافية العراقية والعربية المدخرة والمؤجلة في آن واحد، تلك التي تكفي ان تملأ قروناً وقروناً من التاريخ، فالزخم الذي يفيض من الغناء العراقي زخم صوفي وشعوري ووطني وقومي وهولايستهدف ابداً في كل نشاطاته توفير الاسباب التي تيسر المتع، بل انما يستهدف اولاًواخيراً الاندماج في النظام للغناء.
ان اشكال الغناء هو قانون أزلي ومن الصعب التفكير باضافة سلاسل جديدة لقوالب الغناء من حيث الصفات والقواعد والانماط والمدارس والاتجاهات والاحكام، وانه من اليسير علينا أن نرى ان الحقيقة العميقة في الغناء العراقي من قوة الصوت ورقته وعذوبته وجرسه وصلصلته وأحساسه وقيمته الفنية وحركة نبراته ونطقه وجزالته تنبع من مبدأ وتتدفق من حس الضرورة التاريخية، فنحن لانزال في غنائنا العراقي بعيدين كل البعد عن اية تقنية علمية دونما مخطط او وحدات علمية من البحث والاستقصاء النظري والعملي . فنجاح صوت غنائي عراقي يعود الى الحظ وأقل ندرة الى الغريزة الفنية.
وعليه لم يسبق لأي دراسة ان ادركت من قريب او بعيد، أن هناك منشأ أو جذراً ينمو عليه حل عريض وواسع لمشاكل الغناء، والاصوات الكبيرة التي مرت في الغناء العراقي عبر اكثر من نصف قرن كانت تنمو تحت رعاية ذوقية غريزية تقليدية ، هذه الاصوات التي نمت وكبرت وأثمرت في شجرة الغناء العراقي ، كانت بعيدة عن نموذجية الرؤية التاريخية والعلمية لفن الغناء ، من خلال الادراك الكلي للتركيب الخارجي والداخلي له ومن حتمية الفرق بكل وضوح بين الأثر الجوهري للغناء وبين الاثر الميكانيكي له، بين محتوى الخيال وبين القانون الفني للغناء، بين الصورة والنموذج وبين المعادلة والنهج، بين الغناء الواقعي الاني، وبين الغناء المحتمل دائماً، وان اسماء مثل (عثمان الموصلي، احمد الزيدان، محمد القبانجي ، عزيز علي ، سليمة مراد ، ناظم الغزالي ، حضيري ابو عزيز، داخل حسن،صديقة الملاية، رضا علي، محمد عبد المحسن، مائدة نزهت ، زهور حسين، وحيدة خليل، ياس خضر، حسين نعمة، فاضل عواد ، فؤاد سالم، رياض احمد) هؤلاء وسواهم أمثلة على رقعةجغرافية تمثلت فيهم ـ مدينية الغناء، ذلك ان اية سيرة شخصية لفن الغناء ، تستقطب اول ماتستقطب روح البيئة التي انطلق منها. وحسنا في الغناء وبصيرتنا الداخلية يريان بالتأكيد في اسماء عراقية في الغناء كما لو انها تمثل تتابعاً في الماضي لكي يتصل هذا التتابع الى ساحة الحاضر.
اذن ماهو الغناء العراقي؟
انه بالتأكيد عرض منتظم للماضي بكل قوالبه وقوانينه واشكاله وبيئاته والخروج على هذا الماضي يشكل نقطةالبدء نحو التسطيح والانحدار. والحق ان قوانين الغناء ليست رأياً شخصياً، انما هي نتاج عائلة كاملة من الاذهان على مستوى حقب التاريخ، ورثها جيل عن جيل سبقه من خلال امتزاج العلم الموسيقي بافكارنا الفطرية عن فن الغناء، الى جانب ذلك ما يطرحه العصرمن متغيرات تكون عوناً على ترسيخ اصولية الغناء لا ان تكون تمرداً عليها. وعليه فأن المشابهة بين تلك المراحل من تطور الغناء العراقي ، يقوم على الالتزام باصولية الغناء، أما المشابهة السطحية ،تلك التي تجمع المراحل ، فهي مكيدة عظمى وقعت في شباكها جميع الاراء التي تحدثت عن فن الغناء العراقي، بأعتباره قيمة ليست قابلة للمس أو التغيير! بينما الحقيقة ان الاداء الذي يجب ان يحتل حيزاً من الاهتمام، هو الذي يحاول التنسيق بين هذه المراحل ونقدها ثم ترجمة مغزاها الروحي العميق الصلة باسماع الفئات الشعبية.
ولكي يكون حديثنا موثقاً بالوقائع التاريخية الدقيقة، لابد من معرفة ما يجري من الوان واتجاهات ومنابر. فالغناء العراقي، بعد عصر (البستة) الفقيرة، انطلق في مجال الخيال والبناء النغمي والتحليق الموسيقي الى آفاق اكثر تطوراً وقيمة وبناء في الاغنية العراقية ، عندما جاء الى الحلبة العراقية، الشقيقان (صالح الكويتي وداود الكويتي) حيث عملا على تشكيل فن الاغنية العراقية من خلال التعبير عن روح البيئة مستقطبة مقومات الصيغة اللحنية ـ السليمة ـ ولكي تستأثربالمناخات الشرقية الزاخرة والمؤطرة بطابع الاصالة والتفرد متأثرة الى حد ما بأنجازات الاغنية العربية (المصرية) -على وجه الخصوص (محمد عبد الوهاب ام كلثوم ،صالح عبد الحي، فتحية احمد، فريد الاطرش ، اسمهان ، عبد الغني السيد، ليلى مراد) من خلال الاسطوانات والافلام الغنائية، ويمكن القول ان الاغنية العراقية، كانت قبل الشقيقين صالح وداود شيئاً تعلق بنظام البستة الفقير، وصارت بعدهما ومن خلالهما شيئاً تعلق بنظام الاغنية المركبة نسبياً مثال (كلبك صخر جلمود، على شواطئ دجلة مر،هذا مو انصاف منك، تأذيني ، يالماشي الله وياك، مرابط، وين رايح وين، منك يالاسمركلبي تمرمر، كلبي خلص ، شكول على حظي، وكثير غيرها.
في العراق كان كبار المغنين، فبعد مرحلة الفنان المتعدد المواهب عثمان الموصلي ، ومحمد القبانجي بوزنه المتميز الواضح، كان هناك (حضيري ابو عزيز) بأنتشاره الجغرافي الواسع، (ناظم الغزالي)بفرادته الادائية المستمدة من أصول التجويد العربي الاصيل، (سليمة مراد) بفطرتهاالقوية في التلقي الغنائي، (داخل حسن) بابتكاره التطريبي في فن الاداء، (حسن خيوكه)في انتظام حركته الغنائية، (يوسف عمر) في نهجه البغدادي في غناء المقام العراقي ، (زكية جورج) بنبراتها الشجية (صديقة الملاية) بوقع صوتها القوي المشوب بغلظته..