عبد الحميد سليمان
22/07/2011, 17h26
بسم الله الرحمن الرحيم
اللواذ إلى الذاكرة
هل يفعل الزمن كل تلك الأفاعيل في الوجوه والقسمات التي كانت ندية منبسطة الأسارير ,أتراها وقد وخطها الثقل والكبر وتناوشتها الأمراض والعلل فاستحالت من وجوه نضرة مشرقة تنضح قسماتها بالتفاؤل والبهجة والرضي ولا يزعجها حالها ولا مآلها فهي راضية قانعة مطمئنة, إلى وجوه قاتمة كئيبة تضج بالهموم وتصطرع على ملامحها وقسماتها الأخاديد والثنيات وتتساند الوهاد فيها إلى النجاد وتضل البسمات طريقها إليها وتقفر ساحات الأمل وتجدب الحياة وتضيق الأرض على أصاحبها بما رحبت فلا ُيرى منهم أحدٌ إلا عبوسا قمطريرا مثقلا قانطا دنياه سواد ملتحف بسواد.
.... جالت تلك الخواطر بنفسي وأنى أتفحص وجها عرفته منذ نيف وأربعين عاما كان أيامها وضيئا بهى الطلعة ناصع الابتسام مفعما بالآمال والتفاؤل ,حين جمعني إليه والى غيره محفل لجب عاصف دعاني إليه داع مستصرخا إياي إلى حضوره لحل معضلة اجتماعية من تلك المعضلات اللواتي بدت كثيفات متواترات وضجت بهن مجتمعاتنا ولم تستثن قرى ريفية ونجوعا كان الطلاق فيها نادرة من النوادر التي ُتستدعى إلى الذاكرة حين تلوح بوادره التى قد تلج بزوجين إلى الافتراق, ترويعا وردعا لهما ولأمثالهما وتذكيرا بسود المصائر ,وتنبيها إلى أنهما سيكونان عبرة وأمثولة تتقاذفها الذاكرة الجمعية وتلوكها الألسنة ,فيرتدعان ويئوبان إلى حكمة الكبار ونصح الناصحين , هكذا استشرت ظاهرة الطلاق والانفصال وما يردفها من افتراق وتباغض ومعضلات اجتماعية متراكبة متراكمة استعرت واستشرت وخطت خطوطها السود على مجتمعاتنا تكلؤها أفكار جديدة ومتغيرات ومنطلقات لعلائق غريبة على من كانوا أقرب إلى الجسد الواحد في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتجانسهم ووسيع صدورهم وتسامحهم ووافر هممهم وعاجل نجداتهم واضطلاعهم وتصديهم و حملهم ورأبهم لثقيل أحمال البيوت الموشكة على التصدع والانهيار إلى أن تستفيق وتنفض عنها ما ران على قلوب أهلها واسودت به النوايا وغردت له الغربان والبوم اللواتي تعالى نعيقها ونعيبها بهجة وسرورا لرؤيتها وسريع إيقاعاتها وصخب مواجهاتها وحواراتها وجليل نذرها وخطوبها وداهم روعها ومدلهم معقباتها.
.... ولم يدر أولئك الذين استصرخوننى وقع استغاثتهم واستعجالهم وتلهفهم وما يسوقونه من أسباب لذلك وما ينذرون به من نذر بشرور وانتقام لا يحد مداه,إن لم يُنتصف لأعزائهم وأحبائهم ويُوعى ويُتفهم ويُستجاب وُيمتثل لصاعق أوامرهم وخطير قراراتهم. ودائما ما كانت قلوبنا تئن لذلك وما تظنه وتتحسب لنتائجه ومغباته ,فيفعل ذلك فيها الأفاعيل فتقصى الاعتذارات وتحجب الاحتجاجات والذرائع ,فمثل تلك الخطوب تتهدد أسمى العلائق وتشي بأوخم العواقب وتحض علي درئها وتلزم المرء لزاما ببذل أقصى الجهد المحموم تضرعات الأطفال الصامتة المثخنة واستصراخهم المكتوم وآيات الروع التي توغل في طفولتهم وتغتال براءتهم وتتربص بهم وتلوٍح بأيامهم السود ولياليهم القادمات .
..... فعل ذلك فعله في نفسي واستنهض همتي وشحذ الصبر واستنفر الحكمة والإخلاص وقضت بذلك حتمية المسئولية ومستوجبات الدور والاضطلاع ومخلصات النوايا, ولا ريب أن مثل تلك الخلافات الزوجية في المجتمعات البسيطة أو شبيهة البسيطة تمثل خطورة قد تصل بأهلها إلى أن يبيت انفصام عراها حلا واجبا درأً لغائلة الاشتعال العائلي والاصطفاف المرزول الذي تعرف بداياته ولا تعرف توابعه ومعقباته.
.... هكذا دار الأمر وضجت به قاعة بيتي في صخب وتشاحن واصطفاف وصراخ واضطرام في الوجوه, حين انبرى زوج يسوق آيات ألمه ووقائع روعه وسليط مآخذه ونذيره,وبلا وعى أو فهم لخطير الأمر وآداب المجالس والمخاطبة انبرى أشقاؤه وأصهاره وأقرباؤه إلى دعمه والاصطفاف وراء رايته,في مواجهته لزوجة مكلومة باكية حسيرة الوجه مضطرمة القسمات اصطف خلفها ومعها من بادل الزوج وأهله دحضا بدحض ونذيرا بنذير وصراخا بصراخ وتهديدا بتهديد, وبدا الجميع وكأنهم لا يكترثون بمن نفروا إلى حل النزاع وطرحوا متاعبهم ومشاغلهم وهمومهم وراء ظهورهم وهرعوا إلى تلك القاعة القفراء الكئيبة ,
.... صخب وضجيج آيس معه المصلحون من الإصلاح وباتت السبل موصدة والخطوب جاثمة باشقة متأهبة صرخ جراءها أحد علماء الدين النافرين لوئد تلك المصائب قائلا ( طالما أن الحال قد وصل إلى ما وصل إليه فلنعد إلى ما أمرنا به الله (" الطلاق مرتان إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" اسمعوني يا قوم... أقول إما الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ..... إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ).
.... كالبرق استرجعتنى ذاكرة الأيام الآفلة إلى ذلك الزوج المكلوم منذ نيف وأربعين عاما كان حينها يقود فرقة من فرق المقاومة اليدوية لدودة ورق القطن التي كانت معتادة ولازمة وواجبة في ستينيات القرن المنصرم حماية لحقول القطن الذي مثل ناصع محصوله آنذاك ثروة مصر الأولى ومصدر دخلها والذي كان يستنفر الريف وأهله والدولة ورجالها لحمايته , صافحت عيناي لأول مرة آنذاك ذلك الزوج الكليم الكظيم المدلهم القسمات وكان شابا نضرا وضيئا حالما لا يعبأ بقيظ أغسطس ولا بشمسه المضطرمة ويترأف بالصغار الذين تنحني ظهورهم ولا تكاد تستقيم وتجحظ عيونهم ومآقيهم وتجف حلوقهم تقصيا وبحثا عن الدود وبيضه ويرقاته ويجتمع على طفولتهم المنتهكة المنهكة إلى ذلك الاصطلاء قيظ لا يكل ولا يمل ولا يرحم.
...على أن ما شدني إلى ذلك الشاب إنما كان غناؤه الذي صدح به غٍرّيِدا عذبا حنونا مشعا رائعا ذات يوم كان شديد الغلظة مستعرا تقذف شمسه بحممه ولظاه على أولئك البؤساء وغيرهم من الفلاحين والدواب المتناثرين في الحقول المترامية الأطراف في قريتي كفر سليمان البحري المستلقية على ضفة نهر النيل إلى الجنوب الغربي من دمياط, ولم تسلم الطيور من غائلة ذلك القيظ ولهيبه ولا الأجساد المنهكة المفترشة للتراب من أولئك المستظلين اللائذين بغصون الأشجار وظلالها بعد أن أرهقهم كدهم ودأبهم السرمدي في الحقول منذ بزوغ الفجر إلى رابعة النهار, لكن ما جذبني إلي غناء ذلك الشاب ثم أسرني كان تدفقه الشعوري واختلاجاته غير المفتعلة , وتهدج في صوته يشي بأن ذلك الغناء ليس أداة لتبديد الوقت ومقاومة لبطئه واصطبارا على وقع الأيام وقسوتها وإنما تكمن وراءه تجاريب وذكريات مترعة وأشواق مضطرمة وحرقة ولوعة لا تخفى على فطين نظير شريك,لفحه لظى ذلك الشجن واصطلى ببحر من المشاعر المتقدة والحنين المستكن إلى حبيب مجهول لما يجيء بعد, لكنه ما انفك يترسم صورته وملامحه ويلتمس مقدمه ويستفيء بواحته حسبما تتخيلها وتنسجها ذاكرته وخيالاته المترعة بالأحلام والأماني العِذاب,
القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب
كل ده وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب
...ما هذه الروعة وما هذا الشوق والوجد الذي تعتلج به نبرات صوت ذلك الشاب وتتسمعه الطيور وتتحسسه الآذان وتعتذر له قلوب وعقول بعض من الفلاحين الذين استقر لديهم أن بوح رجل على هذه الشاكلة يشين برجولته ويزرى بشخصيته ومكانته,ويتواتر الغناء عصر كل يوم بلا ملل من مغنيه ولا من سامعيه الذين باتوا يتحسسون نحيب ذلك الشاب متقد العاطفة , صادحا بروائع نجاة الصغيرة دون غيرها , والذي يختلج اختلاجا ويضطرم اضطراما عندما يغنى أغنيات (القريب منك بعيد, وساكن قصادى وبحبه وأنا بستناك ,وشكل تانى حبك انته شكل تانى), وبات قلبي يختلج ويخفق بعنف حينما يتسرب شجوه إلى أذنيً اللتين تتحفزان وتستحضران أعلى قدراتهما في استدراج الأصوات واحتضانها حينما تدلف إليها بشجوها وشجنها ولهيبها أغنية تضج بعتاب مكلوم لم ييأس من أوبة الحبيب (أول حاجة قابلتني في حياتي ,حبك الجبار,آخر حاجة دلوقتى في حياتي قلبك الغدار ,صورة حلوة وصورة مرة..مرسومين لي في كل حتة)
..... بت متيقنا أن رديف ذلك الحنين والشوق الدفين المتدفق من شجِيْ الغناء وعذوبته ورجعه وتوقد مشاعر صاحبه التي لا تخفى على قلب ولا يخطؤها عقل , حبيب معلوم متسمع متواعد متعطش مشوق,لكنه ليس كحبيبي المجهول الذي رسمت ومابرحت أرسم صورة خيالية له دون أن تراه عيناي,وحثني فضولي أن أتحرى أمر تلك الغادة التي أحبها ذلك الشاب وأسعى لاستكناه أمرهما بعدما أخذ حبها عليه كل مأخذ وبات أسيرا مستسلما له,وتحسست الأمر ولم ألبث إلا يوما أو بعض يوم حتى صح عندي الخبر, لقد كان ذلك المحبوب المُلهِم طالبة تدرج في سنوات درسها الأولى في المرحلة الثانوية وكان صاحبنا يتحسس خطاها في ذهابها إلى مدرستها بفارسكور وعند إيابها عصر كل يوم ,وكان منزلها غير بعيد من ساحات عمل فرقة المقاومة اليدوية تلك في حقول القطن, واليه يتناهى رجع ضئيل من ذلك الشجو الذي يشفى ولا يكفى ويلهب ولا يطفئ.
..... حين صدمت عيناي بذلك الزوج المضطرم الذي باتت حياته الزوجية التي ناهزت الثلاثين عاما قاب قوسين أو أدنى من نهايتها وحين راعتني قسمات وجهه, وحين صافحت عيناي تلك الزوجة المكلومة المستأسدة المتوثبة وتلك الجموع الصاخبة المتأهبة لم يكن أحد أفجع منى قلبا وأفدح ألما في مآلات الحب العميق وكيف تصل دورة الأيام بالمتحابين الذائبين حبا وشوقا وحنينا إلى أن يصيرا متناطحين ,متنابزين, متبارزين, متباغضين , مزرين بماضيهما ورائع أيامهما التي باتت هباءً منثورا كأنها لم تَغْن بالأمس, وحين وصل الأمر إلى منتهاه وأزفت بهما الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة خطرت في قلبي خاطرة استحثتني وألهبتني وألهمتني إلى أن أخرج بها من قيود عقلي وسابق خبرتي وغرابة فعلى وثقيل همي إلى واقع هذه المصيبة وساحة هذا الجحيم المتلظية مزريا بما قد تثيره من دهشة الحاضرين, فاستأذنت الزوجين في كلمة أقولها لهما على انفراد فاستغربا واستغرب معهم الجميع لكنهم صمتوا ولم يبدوا اعتراضا ولا ترحيبا, فدلفت بهذين المتباغضين المفعمين بظنون السوء, المتأهبين المتوقعين المتربصين لأسوأ المفاجآت إلى الغرفة ,ودوني ودون القوم باب موصد وقلبان وعقلان نافران ساخطان, وحين وقفت بينهما شرعت النافذة المطلة على الحقول والزراعات المنسدحة فتدفقت نسمات العصارى الرائعة وكأنها قد آلت على نفسها أن تسهم في حل تلك المعضلة برقتها وطراوتها وبطيبها وعبيرها المضمخة به من زهرات الياسمين والورد البلدي وشجيرات تمر الحنة التي تزدان بها حديقة منزلي غير بعيد من لوحة بديعة رسمتها زهرات شجيرات القطن البيضاء والصفراء التي كست تلك الحقول بروعتها الخلابة.
... لفت ذلك انتباه الزوجين إلى تلك المناظر الرائعة والنسائم الثرية وكأنه استعادهما إلى أيامهما الخالية وذكرياتهما المترعة, فشرعت أتكلم عن الأساليب المستحدثة في محاربة الآفات التي كانت تهاجم شجيرات القطن والتي استُغنى بها عن أساليب المقاومة اليدوية القديمة المهلكة التي كنا نؤديها في أيام شبابنا الغض الجميل الآفل , وصح ظني في أن ذلك النهج قد يحرك المستكنات ويستثير الذكريات ويحيى الأفئدة المثقلة بالسواد,المستغرقة في رحلة الضياع ,المتأهبة لسواد الافتراق وبحور الحداد, وقوى عزمي حين تحسست نظرات الزوجين المتبادلة المتألمة المتعاتبة التي استغرقها الصمت والتأمل وبدا لي أن ذلك قد أعادهما إلى ذكريات أيامهما الآفلة وحرك مستكناتهما المفعمة, فاستحلفت الزوج أن يغنى أغنية القريب منك بعيد مثلما كان يغنٍيها إبان عمله في تلك الحقول المفجوعة المشفقة المتألمة, ولم يجد الزوج بدا من الاستجابة لي فنأى إلى النافذة وشدهت عيناه إلى الحقول وجاء صوته واهنا كليما باردا لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى أنعشته اهتزازات شجيرات القطن في الحقول وتمايلها وكأنها ترقص على وقع غنائه الرخيم , ولم تتأخر النسائم الطيبة فشرعت تلطف ثم تبدد وقع ذلك القيظ الغليظ ,
.... شيئا فشيئا بدت سخونة الطقس تشق طريقها إلى عباب القلوب فإذا بالعيون تدمع وإذا بالدموع تهمى والآهات تتصاعد والذكريات تتسلل ثم تفيض وإذا بالنحيب المكتوم يطفو فيفصح,وإذا بهذه الأبدان المنهكة المتداعية المتدابرة تستدير فتتصافح باستدارتها الوجوه المتنافرة بعد ثقيل إدبار وإعراض, وحين تعاتبت العيون تسامحت بعتابها القلوب,هنالك انفجر نهران من الدموع فيضا وحرارة ودفقا,ترفدهما نظرات العتاب الحانية المترعة,ولم يلبث الزوجان إلا قليلا حتى تلاحما في عناق مذهل وأنين ونحيب لا يكاد يعي أو يأبه إلى أن غريبا يقف إلى جانب المتعانقين الذين غابا في الاحتضان والذوبان والانصهار فبدا وكأنه لن يريم, آنئذ لم يعد مقبولا ولا معقولا بقائي في تلك الغرفة مع هذا الاضطرام والُعتْب الصامت الموله فخرجت إلى الجمع المتلمظ المتحفز المتأهب المتوثب المتنمر, قائلا لهم قولا حاسما جازما فاصلا (شرفتم يا رجاله كل واحد منكم يتفضل يِروًح لبيته ولأولاده , ويشوف شغله ويركز على مصالحه.... المشكلة انتهت, شكر الله سعيكم نراكم بخير وفى خير) هنالك انتكست رؤوسهم و تدافعت خطواتهم وخرجوا لا يلوون على شيء.
الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
دمياط الجديدة 20 من يوليو2011
اللواذ إلى الذاكرة
هل يفعل الزمن كل تلك الأفاعيل في الوجوه والقسمات التي كانت ندية منبسطة الأسارير ,أتراها وقد وخطها الثقل والكبر وتناوشتها الأمراض والعلل فاستحالت من وجوه نضرة مشرقة تنضح قسماتها بالتفاؤل والبهجة والرضي ولا يزعجها حالها ولا مآلها فهي راضية قانعة مطمئنة, إلى وجوه قاتمة كئيبة تضج بالهموم وتصطرع على ملامحها وقسماتها الأخاديد والثنيات وتتساند الوهاد فيها إلى النجاد وتضل البسمات طريقها إليها وتقفر ساحات الأمل وتجدب الحياة وتضيق الأرض على أصاحبها بما رحبت فلا ُيرى منهم أحدٌ إلا عبوسا قمطريرا مثقلا قانطا دنياه سواد ملتحف بسواد.
.... جالت تلك الخواطر بنفسي وأنى أتفحص وجها عرفته منذ نيف وأربعين عاما كان أيامها وضيئا بهى الطلعة ناصع الابتسام مفعما بالآمال والتفاؤل ,حين جمعني إليه والى غيره محفل لجب عاصف دعاني إليه داع مستصرخا إياي إلى حضوره لحل معضلة اجتماعية من تلك المعضلات اللواتي بدت كثيفات متواترات وضجت بهن مجتمعاتنا ولم تستثن قرى ريفية ونجوعا كان الطلاق فيها نادرة من النوادر التي ُتستدعى إلى الذاكرة حين تلوح بوادره التى قد تلج بزوجين إلى الافتراق, ترويعا وردعا لهما ولأمثالهما وتذكيرا بسود المصائر ,وتنبيها إلى أنهما سيكونان عبرة وأمثولة تتقاذفها الذاكرة الجمعية وتلوكها الألسنة ,فيرتدعان ويئوبان إلى حكمة الكبار ونصح الناصحين , هكذا استشرت ظاهرة الطلاق والانفصال وما يردفها من افتراق وتباغض ومعضلات اجتماعية متراكبة متراكمة استعرت واستشرت وخطت خطوطها السود على مجتمعاتنا تكلؤها أفكار جديدة ومتغيرات ومنطلقات لعلائق غريبة على من كانوا أقرب إلى الجسد الواحد في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم وتجانسهم ووسيع صدورهم وتسامحهم ووافر هممهم وعاجل نجداتهم واضطلاعهم وتصديهم و حملهم ورأبهم لثقيل أحمال البيوت الموشكة على التصدع والانهيار إلى أن تستفيق وتنفض عنها ما ران على قلوب أهلها واسودت به النوايا وغردت له الغربان والبوم اللواتي تعالى نعيقها ونعيبها بهجة وسرورا لرؤيتها وسريع إيقاعاتها وصخب مواجهاتها وحواراتها وجليل نذرها وخطوبها وداهم روعها ومدلهم معقباتها.
.... ولم يدر أولئك الذين استصرخوننى وقع استغاثتهم واستعجالهم وتلهفهم وما يسوقونه من أسباب لذلك وما ينذرون به من نذر بشرور وانتقام لا يحد مداه,إن لم يُنتصف لأعزائهم وأحبائهم ويُوعى ويُتفهم ويُستجاب وُيمتثل لصاعق أوامرهم وخطير قراراتهم. ودائما ما كانت قلوبنا تئن لذلك وما تظنه وتتحسب لنتائجه ومغباته ,فيفعل ذلك فيها الأفاعيل فتقصى الاعتذارات وتحجب الاحتجاجات والذرائع ,فمثل تلك الخطوب تتهدد أسمى العلائق وتشي بأوخم العواقب وتحض علي درئها وتلزم المرء لزاما ببذل أقصى الجهد المحموم تضرعات الأطفال الصامتة المثخنة واستصراخهم المكتوم وآيات الروع التي توغل في طفولتهم وتغتال براءتهم وتتربص بهم وتلوٍح بأيامهم السود ولياليهم القادمات .
..... فعل ذلك فعله في نفسي واستنهض همتي وشحذ الصبر واستنفر الحكمة والإخلاص وقضت بذلك حتمية المسئولية ومستوجبات الدور والاضطلاع ومخلصات النوايا, ولا ريب أن مثل تلك الخلافات الزوجية في المجتمعات البسيطة أو شبيهة البسيطة تمثل خطورة قد تصل بأهلها إلى أن يبيت انفصام عراها حلا واجبا درأً لغائلة الاشتعال العائلي والاصطفاف المرزول الذي تعرف بداياته ولا تعرف توابعه ومعقباته.
.... هكذا دار الأمر وضجت به قاعة بيتي في صخب وتشاحن واصطفاف وصراخ واضطرام في الوجوه, حين انبرى زوج يسوق آيات ألمه ووقائع روعه وسليط مآخذه ونذيره,وبلا وعى أو فهم لخطير الأمر وآداب المجالس والمخاطبة انبرى أشقاؤه وأصهاره وأقرباؤه إلى دعمه والاصطفاف وراء رايته,في مواجهته لزوجة مكلومة باكية حسيرة الوجه مضطرمة القسمات اصطف خلفها ومعها من بادل الزوج وأهله دحضا بدحض ونذيرا بنذير وصراخا بصراخ وتهديدا بتهديد, وبدا الجميع وكأنهم لا يكترثون بمن نفروا إلى حل النزاع وطرحوا متاعبهم ومشاغلهم وهمومهم وراء ظهورهم وهرعوا إلى تلك القاعة القفراء الكئيبة ,
.... صخب وضجيج آيس معه المصلحون من الإصلاح وباتت السبل موصدة والخطوب جاثمة باشقة متأهبة صرخ جراءها أحد علماء الدين النافرين لوئد تلك المصائب قائلا ( طالما أن الحال قد وصل إلى ما وصل إليه فلنعد إلى ما أمرنا به الله (" الطلاق مرتان إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" اسمعوني يا قوم... أقول إما الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ..... إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ).
.... كالبرق استرجعتنى ذاكرة الأيام الآفلة إلى ذلك الزوج المكلوم منذ نيف وأربعين عاما كان حينها يقود فرقة من فرق المقاومة اليدوية لدودة ورق القطن التي كانت معتادة ولازمة وواجبة في ستينيات القرن المنصرم حماية لحقول القطن الذي مثل ناصع محصوله آنذاك ثروة مصر الأولى ومصدر دخلها والذي كان يستنفر الريف وأهله والدولة ورجالها لحمايته , صافحت عيناي لأول مرة آنذاك ذلك الزوج الكليم الكظيم المدلهم القسمات وكان شابا نضرا وضيئا حالما لا يعبأ بقيظ أغسطس ولا بشمسه المضطرمة ويترأف بالصغار الذين تنحني ظهورهم ولا تكاد تستقيم وتجحظ عيونهم ومآقيهم وتجف حلوقهم تقصيا وبحثا عن الدود وبيضه ويرقاته ويجتمع على طفولتهم المنتهكة المنهكة إلى ذلك الاصطلاء قيظ لا يكل ولا يمل ولا يرحم.
...على أن ما شدني إلى ذلك الشاب إنما كان غناؤه الذي صدح به غٍرّيِدا عذبا حنونا مشعا رائعا ذات يوم كان شديد الغلظة مستعرا تقذف شمسه بحممه ولظاه على أولئك البؤساء وغيرهم من الفلاحين والدواب المتناثرين في الحقول المترامية الأطراف في قريتي كفر سليمان البحري المستلقية على ضفة نهر النيل إلى الجنوب الغربي من دمياط, ولم تسلم الطيور من غائلة ذلك القيظ ولهيبه ولا الأجساد المنهكة المفترشة للتراب من أولئك المستظلين اللائذين بغصون الأشجار وظلالها بعد أن أرهقهم كدهم ودأبهم السرمدي في الحقول منذ بزوغ الفجر إلى رابعة النهار, لكن ما جذبني إلي غناء ذلك الشاب ثم أسرني كان تدفقه الشعوري واختلاجاته غير المفتعلة , وتهدج في صوته يشي بأن ذلك الغناء ليس أداة لتبديد الوقت ومقاومة لبطئه واصطبارا على وقع الأيام وقسوتها وإنما تكمن وراءه تجاريب وذكريات مترعة وأشواق مضطرمة وحرقة ولوعة لا تخفى على فطين نظير شريك,لفحه لظى ذلك الشجن واصطلى ببحر من المشاعر المتقدة والحنين المستكن إلى حبيب مجهول لما يجيء بعد, لكنه ما انفك يترسم صورته وملامحه ويلتمس مقدمه ويستفيء بواحته حسبما تتخيلها وتنسجها ذاكرته وخيالاته المترعة بالأحلام والأماني العِذاب,
القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب
كل ده وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب
...ما هذه الروعة وما هذا الشوق والوجد الذي تعتلج به نبرات صوت ذلك الشاب وتتسمعه الطيور وتتحسسه الآذان وتعتذر له قلوب وعقول بعض من الفلاحين الذين استقر لديهم أن بوح رجل على هذه الشاكلة يشين برجولته ويزرى بشخصيته ومكانته,ويتواتر الغناء عصر كل يوم بلا ملل من مغنيه ولا من سامعيه الذين باتوا يتحسسون نحيب ذلك الشاب متقد العاطفة , صادحا بروائع نجاة الصغيرة دون غيرها , والذي يختلج اختلاجا ويضطرم اضطراما عندما يغنى أغنيات (القريب منك بعيد, وساكن قصادى وبحبه وأنا بستناك ,وشكل تانى حبك انته شكل تانى), وبات قلبي يختلج ويخفق بعنف حينما يتسرب شجوه إلى أذنيً اللتين تتحفزان وتستحضران أعلى قدراتهما في استدراج الأصوات واحتضانها حينما تدلف إليها بشجوها وشجنها ولهيبها أغنية تضج بعتاب مكلوم لم ييأس من أوبة الحبيب (أول حاجة قابلتني في حياتي ,حبك الجبار,آخر حاجة دلوقتى في حياتي قلبك الغدار ,صورة حلوة وصورة مرة..مرسومين لي في كل حتة)
..... بت متيقنا أن رديف ذلك الحنين والشوق الدفين المتدفق من شجِيْ الغناء وعذوبته ورجعه وتوقد مشاعر صاحبه التي لا تخفى على قلب ولا يخطؤها عقل , حبيب معلوم متسمع متواعد متعطش مشوق,لكنه ليس كحبيبي المجهول الذي رسمت ومابرحت أرسم صورة خيالية له دون أن تراه عيناي,وحثني فضولي أن أتحرى أمر تلك الغادة التي أحبها ذلك الشاب وأسعى لاستكناه أمرهما بعدما أخذ حبها عليه كل مأخذ وبات أسيرا مستسلما له,وتحسست الأمر ولم ألبث إلا يوما أو بعض يوم حتى صح عندي الخبر, لقد كان ذلك المحبوب المُلهِم طالبة تدرج في سنوات درسها الأولى في المرحلة الثانوية وكان صاحبنا يتحسس خطاها في ذهابها إلى مدرستها بفارسكور وعند إيابها عصر كل يوم ,وكان منزلها غير بعيد من ساحات عمل فرقة المقاومة اليدوية تلك في حقول القطن, واليه يتناهى رجع ضئيل من ذلك الشجو الذي يشفى ولا يكفى ويلهب ولا يطفئ.
..... حين صدمت عيناي بذلك الزوج المضطرم الذي باتت حياته الزوجية التي ناهزت الثلاثين عاما قاب قوسين أو أدنى من نهايتها وحين راعتني قسمات وجهه, وحين صافحت عيناي تلك الزوجة المكلومة المستأسدة المتوثبة وتلك الجموع الصاخبة المتأهبة لم يكن أحد أفجع منى قلبا وأفدح ألما في مآلات الحب العميق وكيف تصل دورة الأيام بالمتحابين الذائبين حبا وشوقا وحنينا إلى أن يصيرا متناطحين ,متنابزين, متبارزين, متباغضين , مزرين بماضيهما ورائع أيامهما التي باتت هباءً منثورا كأنها لم تَغْن بالأمس, وحين وصل الأمر إلى منتهاه وأزفت بهما الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة خطرت في قلبي خاطرة استحثتني وألهبتني وألهمتني إلى أن أخرج بها من قيود عقلي وسابق خبرتي وغرابة فعلى وثقيل همي إلى واقع هذه المصيبة وساحة هذا الجحيم المتلظية مزريا بما قد تثيره من دهشة الحاضرين, فاستأذنت الزوجين في كلمة أقولها لهما على انفراد فاستغربا واستغرب معهم الجميع لكنهم صمتوا ولم يبدوا اعتراضا ولا ترحيبا, فدلفت بهذين المتباغضين المفعمين بظنون السوء, المتأهبين المتوقعين المتربصين لأسوأ المفاجآت إلى الغرفة ,ودوني ودون القوم باب موصد وقلبان وعقلان نافران ساخطان, وحين وقفت بينهما شرعت النافذة المطلة على الحقول والزراعات المنسدحة فتدفقت نسمات العصارى الرائعة وكأنها قد آلت على نفسها أن تسهم في حل تلك المعضلة برقتها وطراوتها وبطيبها وعبيرها المضمخة به من زهرات الياسمين والورد البلدي وشجيرات تمر الحنة التي تزدان بها حديقة منزلي غير بعيد من لوحة بديعة رسمتها زهرات شجيرات القطن البيضاء والصفراء التي كست تلك الحقول بروعتها الخلابة.
... لفت ذلك انتباه الزوجين إلى تلك المناظر الرائعة والنسائم الثرية وكأنه استعادهما إلى أيامهما الخالية وذكرياتهما المترعة, فشرعت أتكلم عن الأساليب المستحدثة في محاربة الآفات التي كانت تهاجم شجيرات القطن والتي استُغنى بها عن أساليب المقاومة اليدوية القديمة المهلكة التي كنا نؤديها في أيام شبابنا الغض الجميل الآفل , وصح ظني في أن ذلك النهج قد يحرك المستكنات ويستثير الذكريات ويحيى الأفئدة المثقلة بالسواد,المستغرقة في رحلة الضياع ,المتأهبة لسواد الافتراق وبحور الحداد, وقوى عزمي حين تحسست نظرات الزوجين المتبادلة المتألمة المتعاتبة التي استغرقها الصمت والتأمل وبدا لي أن ذلك قد أعادهما إلى ذكريات أيامهما الآفلة وحرك مستكناتهما المفعمة, فاستحلفت الزوج أن يغنى أغنية القريب منك بعيد مثلما كان يغنٍيها إبان عمله في تلك الحقول المفجوعة المشفقة المتألمة, ولم يجد الزوج بدا من الاستجابة لي فنأى إلى النافذة وشدهت عيناه إلى الحقول وجاء صوته واهنا كليما باردا لكنه لم يلبث إلا قليلا حتى أنعشته اهتزازات شجيرات القطن في الحقول وتمايلها وكأنها ترقص على وقع غنائه الرخيم , ولم تتأخر النسائم الطيبة فشرعت تلطف ثم تبدد وقع ذلك القيظ الغليظ ,
.... شيئا فشيئا بدت سخونة الطقس تشق طريقها إلى عباب القلوب فإذا بالعيون تدمع وإذا بالدموع تهمى والآهات تتصاعد والذكريات تتسلل ثم تفيض وإذا بالنحيب المكتوم يطفو فيفصح,وإذا بهذه الأبدان المنهكة المتداعية المتدابرة تستدير فتتصافح باستدارتها الوجوه المتنافرة بعد ثقيل إدبار وإعراض, وحين تعاتبت العيون تسامحت بعتابها القلوب,هنالك انفجر نهران من الدموع فيضا وحرارة ودفقا,ترفدهما نظرات العتاب الحانية المترعة,ولم يلبث الزوجان إلا قليلا حتى تلاحما في عناق مذهل وأنين ونحيب لا يكاد يعي أو يأبه إلى أن غريبا يقف إلى جانب المتعانقين الذين غابا في الاحتضان والذوبان والانصهار فبدا وكأنه لن يريم, آنئذ لم يعد مقبولا ولا معقولا بقائي في تلك الغرفة مع هذا الاضطرام والُعتْب الصامت الموله فخرجت إلى الجمع المتلمظ المتحفز المتأهب المتوثب المتنمر, قائلا لهم قولا حاسما جازما فاصلا (شرفتم يا رجاله كل واحد منكم يتفضل يِروًح لبيته ولأولاده , ويشوف شغله ويركز على مصالحه.... المشكلة انتهت, شكر الله سعيكم نراكم بخير وفى خير) هنالك انتكست رؤوسهم و تدافعت خطواتهم وخرجوا لا يلوون على شيء.
الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
دمياط الجديدة 20 من يوليو2011