samirazek
21/01/2011, 06h55
بين أم كلثوم وأحمد رامي
بقلم : رجاء النقاش الهرام : 13/2/2000
عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك!
كان لابد أن تثير مثل هذه الصور الشعرية غضب الذين يفسرونها علي معناها الظاهر المباشر, فالحب الحقيقي لا يجوز أن يكون مرتبطا بالذل, والمحب الصادق كريم علي نفسه وعلي الناس, ولا حب بغير كرامة وكبرياء.
ولكن الذين يفهمون رامي علي حقيقته, يعرفون أن فيه نزعة صوفية عميقة, ولذلك فإن كلمة الذل هنا تحمل معني التواضع والرفق والحنان, وهي أشبه بلغة أهل التصوف, فكثيرا ما يقول المتصوف عن نفسه إنه العبد الحقير أو العبد الفقير والمتصوف هنا لا يقصد أنه فقير أو حقير, ولكنه يقصد أنه تخلص من الغرور والأنانية والامتلاء بحب النفس, ذلك لأن المتصوف قد تجرد من كل شيء ليكون خالصا لعاطفة الحب الإلهي, وهي العاطفة التي تسيطر عليه, وكذلك رامي, فقد أعطي قلبه لعاطفة الحب,
وعاطفة الحب عنده كانت لونا من التصوف السامي, فهو في حبه كأنه يعبد الله بتقدير نعمة الجمال التي أنعم بها علي الإنسان, وهو ليس ذليلا في حبه بالمعني الحرفي الظاهر لكلمة الحب, ولكنه متواضع وذائب في هواه ومتجرد تماما من الغرور والادعاء والاعتداد بالنفس.
وقد أثارت مثل هذه المعاني في قصائد رامي حملة عليه اتهمته بأنه شاعر الضعف و التخاذل و الهوان في الحب, وهذا هو الاتهام, الذي يرد عليه صالح جودت ردا قويا وصحيحا, حيث يقول:
لقد ثارت في وقت من الأوقات حملة من حملات النقد تقسم الأدب إلي بابين, باب القوة وباب الضعف وقيل يومئذ إن شعر رامي بما فيه من لهفة علي الحب والحبيب, وما يذخر به من دموع وتأوهات, ينهض نموذجا لأدب الضعف, وهذه قولة سخيفة, إن أخذنا بها جعلنا أخلد الشعر العاطفي في التاريخ من أدب الضعف
وإني لأري أن أدب الضعف, ليس هو الذي يمتليء بالعاطفة ويلتهب بالحرقة علي الحبيب, وإنما أدب الضعف هو ذلك الذي يسوق اللفظة السقيمة أو المعني الواهي أو الخيال الممجوج,
وإني لأري أدب القوة, ليس هو الذي يتحدث عن الجهاد والجلاد والقلاع والحصون, وإنما أدب القوة هو ذلك, الذي يصدر عن القلب والروح ويسوق اللفظة الحلوة والمعني الرفيع وأدب رامي علي هذا القياس الصحيح أدب قوة, لأنه أدب صدق مستمد من أعماق نفسه وخياله وثقافته
وصحيح أن أدبه حافل بالأنين غارق في الدموع, ولكن ماذا تطلب منه وهذه حياته كلها تشوق وتشوف ووحشة وحنين وأنين؟ أمن العدل أن نطالب شاعرا هذه حياته بأن يحدثنا عن السيف والدم؟ إن الشاعر الحقيقي هو الذي يجعل شعره صورة صادقة من حياته, ذلك هو دفاع صالح جودت عن رامي وهو دفاع في موضعه,
فالحقيقة أن الكاذبين من الشعراء والناس هم الضعفاء حتي لو تشدقوا بكلمات القوة والعنفوان وصرخوا أمام الجميع بأعلي الأصوات, أما الصادقون مع أنفسهم ومع الناس فهم الأقوياء, حتي لو امتلأت كلماتهم بكل ألوان الأسي والدموع, فالقاعدة الإنسانية الصحيحة التي تفسر لنا كل أسرار الحياة هي أن الكذب ضعف والصدق قوة, والكاذبون ينهزمون حتي لو بدا لنا أحيانا أنهم أصبحوا سادة الدنيا,
أما الصادقون فهم الذين ينتصرون في آخر الأمر حتي لو بدا لنا أحيانا أنهم وحيدون بلا أنصار ولا أعوان, وأنهم يسيرون في طرقات الحياة وفي عيونهم دموع وفي قلوبهم أشجان وأحزان, ورامي كان قويا بصدقه مع نفسه ومع الناس, وقد استطاع بقوة الصدق أن يجعل لعاطفة الحب في عصره, وبالتحديد في أغانيه التي كتبها لأم كلثوم, صورة مليئة بالرقي والشفافية والذوق الرفيع,
وقد ظل يكتب لأم كلثوم أغانيه الرقيقة الناعمة لمدة تقرب من خمسين سنة, تمتد من سنة1925 وحتي سنة1975 وكانت هذه السنوات في تاريخ مصر سنوات صاخبة مليئة بالأحداث والحروب والانقلابات والمفاجآت في السياسة والمجتمع والاقتصاد والذوق والأخلاق, ولولا هذا الثنائي, الذي يتكون من رامي وأم كلثوم, لكان هذا العصر نوعا من الضجيج المتلف للأعصاب والأرواح,
ولكن ثنائي رامي وأم كلثوم استطاع أن يعزف علي وتر حساس جميل عذب هو وتر العاطفة الإنسانية الراقية فأنشأ لنا هذا الثنائي في وسط غابة الأحداث المتشابكة حديقة كبيرة مليئا بالورد والريحان, يجد فيها قلب الإنسان كثيرا من الراحة والحنان ويستنشق فيها عطر المشاعر النبيلة والعلاقة بين أم كلثوم ورامي لاتزال فيها صفحات تستحق حديثا آخر.
بقلم : رجاء النقاش الهرام : 13/2/2000
عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك!
كان لابد أن تثير مثل هذه الصور الشعرية غضب الذين يفسرونها علي معناها الظاهر المباشر, فالحب الحقيقي لا يجوز أن يكون مرتبطا بالذل, والمحب الصادق كريم علي نفسه وعلي الناس, ولا حب بغير كرامة وكبرياء.
ولكن الذين يفهمون رامي علي حقيقته, يعرفون أن فيه نزعة صوفية عميقة, ولذلك فإن كلمة الذل هنا تحمل معني التواضع والرفق والحنان, وهي أشبه بلغة أهل التصوف, فكثيرا ما يقول المتصوف عن نفسه إنه العبد الحقير أو العبد الفقير والمتصوف هنا لا يقصد أنه فقير أو حقير, ولكنه يقصد أنه تخلص من الغرور والأنانية والامتلاء بحب النفس, ذلك لأن المتصوف قد تجرد من كل شيء ليكون خالصا لعاطفة الحب الإلهي, وهي العاطفة التي تسيطر عليه, وكذلك رامي, فقد أعطي قلبه لعاطفة الحب,
وعاطفة الحب عنده كانت لونا من التصوف السامي, فهو في حبه كأنه يعبد الله بتقدير نعمة الجمال التي أنعم بها علي الإنسان, وهو ليس ذليلا في حبه بالمعني الحرفي الظاهر لكلمة الحب, ولكنه متواضع وذائب في هواه ومتجرد تماما من الغرور والادعاء والاعتداد بالنفس.
وقد أثارت مثل هذه المعاني في قصائد رامي حملة عليه اتهمته بأنه شاعر الضعف و التخاذل و الهوان في الحب, وهذا هو الاتهام, الذي يرد عليه صالح جودت ردا قويا وصحيحا, حيث يقول:
لقد ثارت في وقت من الأوقات حملة من حملات النقد تقسم الأدب إلي بابين, باب القوة وباب الضعف وقيل يومئذ إن شعر رامي بما فيه من لهفة علي الحب والحبيب, وما يذخر به من دموع وتأوهات, ينهض نموذجا لأدب الضعف, وهذه قولة سخيفة, إن أخذنا بها جعلنا أخلد الشعر العاطفي في التاريخ من أدب الضعف
وإني لأري أن أدب الضعف, ليس هو الذي يمتليء بالعاطفة ويلتهب بالحرقة علي الحبيب, وإنما أدب الضعف هو ذلك الذي يسوق اللفظة السقيمة أو المعني الواهي أو الخيال الممجوج,
وإني لأري أدب القوة, ليس هو الذي يتحدث عن الجهاد والجلاد والقلاع والحصون, وإنما أدب القوة هو ذلك, الذي يصدر عن القلب والروح ويسوق اللفظة الحلوة والمعني الرفيع وأدب رامي علي هذا القياس الصحيح أدب قوة, لأنه أدب صدق مستمد من أعماق نفسه وخياله وثقافته
وصحيح أن أدبه حافل بالأنين غارق في الدموع, ولكن ماذا تطلب منه وهذه حياته كلها تشوق وتشوف ووحشة وحنين وأنين؟ أمن العدل أن نطالب شاعرا هذه حياته بأن يحدثنا عن السيف والدم؟ إن الشاعر الحقيقي هو الذي يجعل شعره صورة صادقة من حياته, ذلك هو دفاع صالح جودت عن رامي وهو دفاع في موضعه,
فالحقيقة أن الكاذبين من الشعراء والناس هم الضعفاء حتي لو تشدقوا بكلمات القوة والعنفوان وصرخوا أمام الجميع بأعلي الأصوات, أما الصادقون مع أنفسهم ومع الناس فهم الأقوياء, حتي لو امتلأت كلماتهم بكل ألوان الأسي والدموع, فالقاعدة الإنسانية الصحيحة التي تفسر لنا كل أسرار الحياة هي أن الكذب ضعف والصدق قوة, والكاذبون ينهزمون حتي لو بدا لنا أحيانا أنهم أصبحوا سادة الدنيا,
أما الصادقون فهم الذين ينتصرون في آخر الأمر حتي لو بدا لنا أحيانا أنهم وحيدون بلا أنصار ولا أعوان, وأنهم يسيرون في طرقات الحياة وفي عيونهم دموع وفي قلوبهم أشجان وأحزان, ورامي كان قويا بصدقه مع نفسه ومع الناس, وقد استطاع بقوة الصدق أن يجعل لعاطفة الحب في عصره, وبالتحديد في أغانيه التي كتبها لأم كلثوم, صورة مليئة بالرقي والشفافية والذوق الرفيع,
وقد ظل يكتب لأم كلثوم أغانيه الرقيقة الناعمة لمدة تقرب من خمسين سنة, تمتد من سنة1925 وحتي سنة1975 وكانت هذه السنوات في تاريخ مصر سنوات صاخبة مليئة بالأحداث والحروب والانقلابات والمفاجآت في السياسة والمجتمع والاقتصاد والذوق والأخلاق, ولولا هذا الثنائي, الذي يتكون من رامي وأم كلثوم, لكان هذا العصر نوعا من الضجيج المتلف للأعصاب والأرواح,
ولكن ثنائي رامي وأم كلثوم استطاع أن يعزف علي وتر حساس جميل عذب هو وتر العاطفة الإنسانية الراقية فأنشأ لنا هذا الثنائي في وسط غابة الأحداث المتشابكة حديقة كبيرة مليئا بالورد والريحان, يجد فيها قلب الإنسان كثيرا من الراحة والحنان ويستنشق فيها عطر المشاعر النبيلة والعلاقة بين أم كلثوم ورامي لاتزال فيها صفحات تستحق حديثا آخر.