المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أم كلثوم تردد ـ يارب هل يرضيك ـ أكثر من 20 مرة و ـ نعم أنا مشتاق ـ40 مرة


محمد بالغ
27/11/2010, 20h53
أسسه وزير الثقافة اليمني خالد الرويشان


منتدى أم كلثوم تسجيلات نادرة. . وتحليلات باهرة




محظوظ، لا ريب، من تتاح له الفرصة ليحضر إحدى جلسات منتدى أم كلثوم في صنعاء! ذلك أنه ليس مكاناً رسمياً يمكن أن يدخله عشاق كوكب الشرق، كما أنه ليس مؤسسة أهلية يستطيع أن ينضم لعضويتها المولعون بالموسيقى والغناء، وإنما هو تجمع لعدد محدود من الأصدقاء الذين أدركتهم نعمة الإحساس الشفيف، فهرعوا يفتشون عن الكلمة العذبة واللحن الأنيق والأداء الاَسر.

أول الحكاية خالد الرويشان وزير الثقافة اليمني هو صاحب فكرة تأسيس المنتدى قبل نحو خمس سنوات، ذلك أن هذا الرجل يتمتع بحس أدبي عالٍ، كما أنه واسع الثقافة والاطلاع، أما علاقته بفن الموسيقى والغناء فتتكئ على موهبة متدفقة تدعمها رؤية ثاقبة وذائقة راقية.

لقد كانت دهشتي باتساع البحر حين قال لي خالد الرويشان في مطلع أبريل/نيسان الفائت عندما زار دبي إنه يجتمع مع عدد محدود من الأصدقاء المخلصين في صنعاء في فترة المقيل ليستمعوا إلى أم كلثوم، ثم أضاف: ليست الأغنيات التي نعرفها والتي تباع حفلاتها في الأسواق، بل إننا نمتلك - والكلام للوزير - مجموعة لا بأس بها من تسجيلات نادرة شدت بها كوكب الشرق في حفلات أقامتها في مدن عربية وأوروبية عديدة.

كنا نتناول الغداء اَنذاك في فندق (جراند حياة) بدبي، ولأنني أعد نفسي من المفتونين بسماع أم كلثوم، فقد دهشت من كلام الرويشان الذي توقف عن تناول الطعام وهو يذكرني بسحر أدائها في أغنية (يا طول عذابي) ذلك أن وزير الثقافة يعرف كيف يلتقط مناطق الجمال والفرادة في أداء السيدة أم كلثوم. . تلك المناطق التي لا يلتفت إليها أحد ولا يتوقف عندها إلا صاحب أذن حساسة جداً وذائقة مرهفة.

إن (يا طول عذابي) التي كتب كلماتها أحمد رامي ولحنها رياض السنباطي، من الأغنيات غير الشائعة لكوكب الشرق، وقد ترنمت بها لأول مرة في حفلة يوم 6/1/1938، فلما نبهني الوزير إلى عبقرية أدائها في المقطع الذي تقول فيه: (وقتها تحتار. . . أي الضنا تختار)، أيقنت أنني أمام مستمع من طراز فريد، مستمع نبيه وذكي لا تمر الموسيقى ولا يعبر الصوت من أمام أذنه من دون أن يصطاد أجمل ما فيهما ويشرحه لأصدقائه من الذين يشاركونه الاهتمام بالفن السامي.

كنت أعرف جيداً (يا طول عذابي)، حيث استمعت لها واستمتعت بها عشرات المرات، لذا أدهشني الرويشان بمقدرته الفائقة على التلقي والافتتان، وقلت له: هناك مقطع اَخر تتجلى فيه أم كلثوم بصور استثنائية في تلك التحفة الغنائية، وذلك عندما تشدو : سكت عن شكوى الهجران وحيرة القلب الولهان وقلت أصور له هنايا ساعة ما أشوفه ويايا اَنذاك، أخبرني الوزير بأمر منتدى أم كلثوم الذي أسسه في صنعاء، ووعدني بأن يرتب لي حضور إحدى جلسات هذا المنتدى في أول زيارة لي للعاصمة اليمنية.

الطريق إلى صنعاء الشعر كان دليلي إلى صنعاء هذه المرة، بعد أن قادني الكتاب إلى العاصمة اليمنية العريقة للمرة الأولى في سبتمبر/ كانون الأول 2004 للمشاركة في فعاليات معرض صنعاء الدولي للكتاب.

(الملتقى الثاني للشعراء العرب الشباب) هو الذي وفر لي فرصة الحضور إلى هذه المدينة الباذخة، حيث جئت بدعوة كريمة من وزارة الثقافة باعتباري أحد ضيوف الشرف في هذا الملتقى الذين تصدرهم الناقد السوري الكبير الدكتور كمال أبو ديب، حيث تم تكريمه في الملتقى، والدكتور صلاح فضل، والكدتور محمد عبد المطلب، والشاعر الكبير أحمد عنتر مصطفى مدير متحف أم كلثوم، والشاعرة والفنانة ميسون صقر القاسمي، والشاعر أحمد الشهاوي نائب رئيس تحرير مجلة نصف الدنيا، ومجدي رجب ممثلاً لوكالة الأهرام للصحافة. . وغيرهم.

أكثر من 320 شاعراً يمنياً وعربياً أضاؤوا صباحات وليالي صنعاء بقصائدهم البديعة وأشعارهم الشائقة، حتى النقد كان له نصيب كبير في هذا الملتقى، فاستمعنا إلى ما كتبه المبدع الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، الأب الروحي للثقافة اليمنية المعاصرة، والدكتور صلاح فضل والدكتور محمد عبد المطلب والدكتور حاتم الصكر والدكتور صبري مسلم والدكتورة وجدان الصائغ والشاعر حلمي سالم. . وغيرهم. .

ومع ذلك لم يكن كل هذا الألق الإبداعي يغنينا عن سماع كوكب الشرق! . .

في حضرة المنتدى في زحام لقاءاته ومواعيده وبرامجه استطاع وزير الثقافة خالد الرويشان أن يرتب لنا جلسة في منتدى أم كلثوم، حيث تفضل بدعوتنا (أحمد الشهاوي وأنا) لحضور المقيل في منزل مصطفى شريف الرفاعي المنسق الوطني لمشروع الدعم الانتخابي.

كانت المفاجأة مدهشة; حيث اكتشفنا أن منتدى أم كلثوم ما هو إلا حجرة بسيطة تقع أعلى منزل مصطفى الرفاعي وتطل على مشهد بانورامي ساحر، حيث تتلألأ العمارة اليمنية بطرازها الفريد والاَسر وهي محاطة بجبال صنعاء الراسخة والشاهقة، التي تستقبل (شمس الأصيل) بحنان وتعكسها نوراً وظلالاً يسر الناظرين.

ضم المقيل أعضاء المنتدى الذي يرأسه مصطفى شريف الرفاعي، كونه الوحيد الذي رأى أم كلثوم رأي العين، بل والتقط صورة فوتوغرافية معها حين حضر حفلتها في قاعة جامعة القاهرة عام 1972 عندما شدت بأغنية (يا مسهرني)، كما قال لي، فضلاً عن كونه يتمتع بذائقة راقية وذكاء حاد في اقتناص مناطق الجمال في أداء سيدة الغناء.

أما الأمين العام للمنتدى فهو إبراهيم شريف الرفاعي، فضلاً عن عدد اَخر لا يتجاوز 12 شخصاً هم أعضاء المنتدى.

تصدرت المشهد صورة ملونة صغيرة لأم كلثوم وضعت في برواز زجاجي أنيق في حجرة المقيل، كانت صورة نادرة بدت فيها الاَنسة أم كلثوم ترفل في ثياب الشباب النضر، فسألت من أين حصلوا على هذه الصورة؟ وكانت الإجابة مثيرة وقاطعة: - إن هذه الصورة ذاتها ببروازها كانت تزين غرفة نوم أم كلثوم

* وكيف وصلت إلى هنا؟ - بطريقة ما. . ! كذلك وضعت في ركن الحجرة الأجزاء الثلاثة من موسوعة أم كلثوم التي صاغها فيكتور ود. سليم وإلياس سحاب! رباعيات الخيام قاد خالد الرويشان جلسة الاستماع ببراعة حيث اتخذ موضعاً بجوار المسجل ثم راح يتحدث عن إحدى حفلات أم كلثوم النادرة التي تجلى فيها صوتها وهي تُنشد لؤلؤتها البهية (رباعيات الخيام) التي كتبها أحمد رامي ولحنها السنباطي وشدت بها لأول مرة في حفلة يوم 2/2/1950، بعد ذلك أدار المسجل لينطلق صوت كوكب الشرق صدّاحاً ندياً: القلب قد أضناه عشق الجمال والصدر قد ضاق بما لايقال يارب هل يرضيك هذا الظما والماء ينساب أمامي زلال رددت أم كلثوم (يارب هل يرضيك) أكثر من عشرين مرة، كل مرة بإحساس وأداء ونبرة مختلفة، وكان الرويشان يلفت انتباهنا إلى هذه المقدرة الاستثنائية في تلون الصوت وفي الانتقال من القرار والجواب والعكس بسلاسة ويسر.

نعم. . . أنا مشتاق (هل تعلم أن (نعم) كلمة باردة في اللغة العربية يصعب شحنها بطرق أداء متعددة؟ أم كلثوم قالتها أكثر من 40 مرة وكل مرة بصيغة مختلفة وشعور مغاير) هكذا قال لي خالد الرويشان ونحن نحتسي (الجانزبيل) الطيب المذاق بعد أن ارتوينا من نهر صوت أم كلثوم في رباعيات الخيام.

سألته: أين قالت هذه (النعم)؟ - في (أراك عصي الدمع)، حين تقول: (نعم. . أنا مشتاق وعندي لوعة)! * من أين تأتي بهذه التسجيلات النادرة يا معالي الوزير؟ ضحك الجميع، ثم قال خالد: إن الذي يفتش عن الجمال سيجده لا محالة، فحين أزور سورية مثلاً أبحث عن التسجيلات النادرة عندما كانت أم كلثوم تزور دمشق أو حلب وتغني فوق مسارحها، فالشعب السوري ذاوقة ويقدر الطرب.

ثم قال مصطفى الرفاعي رئيس المنتدى إنهم يمتلكون نحو 10 تسجيلات مختلفة لعدد كبير من أغنيات سيدة الغناء العربي! كان الذهول يعتري أحمد الشهاوي وأنا ونحن نتلقى هذه المعلومات المثيرة من قبل الوزير والذين معه! وضع الرويشان شريط (أراك عصي الدمع) في المسجل، حيث ساد صمت عميق، فالذين يجلسون في هذا المقيل يتمتعون بفضيلة الإنصات لكل ما هو بديع وجميل.

الحق أن ذهولي كان عظيماً، فأم كلثوم ظلت نحو 40 مرة تردد (نعم أنا مشتاق وعندي لوعة) بصياغات متعددة وحرارة نابعة من قلب عاشق، حتى أن الذين حظوا بنعمة حضور تلك الحفلة النادرة في المسرح أدركتهم نشوة الطرب بصورة ليس لها مثيل، فراحوا يعربون عن سعادتهم بالتهليل والتصفيق كلما تجلى صوت السيدة الأولى، وبصفته ذواقة من نوع فريد، أخذ خالد الرويشان يلفت انتباهنا إلى اللاَلئ النادرة في أداء كوكب الشرق في هذه الجملة اليتيمة (نعم. . أنا مشتاق)! فأشار إلى ارتعاشة هنا. . وقرار هناك. . وبحة صوت هنا. . وجواب هناك. . وطول نفس هنا. . . وشجن هناك.

لقد تجاوزت أم كلثوم في هذا الشطر نفسها كما أشار الوزير بحق.

وفد رسمي لاستقبال (رق الحبيب)! أستطيع أن أجزم أنه ما من وفد رسمي خرج لاستقبال شريط أغنية - وأكرر شريط أغنية - إلا ذلك الوفد الذي كلفه وزير الثقافة استقبال شريط أغنية (رق الحبيب) في مطار صنعاء! الحكاية طريفة ومثيرة لاريب، وقد سردها لنا خالد الرويشان بأسلوب شائق، فقال: (كنت أقلب بالريموت القنوات الفضائية، حتى وصلت إلى إذاعة البحرين التي كانت تذيع تسجيلاً نادراً ل (رق الحبيب)، كانت الأغنية في منتصفها تقريباً، فحاولت تسجيلها من دون جدوى، لأني لا أمتلك الجهاز الذي يسجل من التلفزيون مباشرة، فأمرت الحراسة أن تستعير جهازاً من الجيران، وهكذا لم أستطع أن أسجل إلا جزءاً يسيراً من هذه التحفة الرائعة.

- ثم ماذا؟ يضيف الرويشان: (اتصلت بسفير اليمن في البحرين وأخبرته أن إذاعة البحرين التي تبث على شاشة التلفزيون قد أذاعت تسجيلاً نادراً لأغنية (رق الحبيب) في اليوم الفلاني والساعة كذا! ورجوته أن يحضر لي نسخة من هذا التسجيل النادر.

ثم يكمل الوزير : (قال لي السفير انتظر يومين أو ثلاثة وسأرسله لك في الحقيبة الدبلوماسية، فأخبرته أن الأمر لا يستحق، ذلك أنك تستطيع نسخه من الاَن وفوراً وترسله مع أي شخص قادم إلى صنعاء في طائرة الليل! * ثم ماذا يا معالي الوزير؟ - وعدني السفير بالتنفيذ، فأرسلت وفداً من وزارة الثقافة يحمل لوحة كتب عليها (رق الحبيب)، لأننا لا نعرف اسم الشخص الذي يحمل نسخة من هذا التسجيل الاستثنائي! ولأن خالد الرويشان يتسم بخصال النبلاء، فإنه أبى أن يستمع إلى (رق الحبيب) منفرداً عندما تسلّم شريطها في الثانية صباحاً، وانتظر حتى دعا إلى لقاء طارئ في اليوم التالي مباشرة أعضاء منتدى أم كلثوم ليشاركوه فرحة التمتع باقتناص حفلة نادرة لأغنية فاتنة! وفي لفتة كريمة ومؤثرة تفضل الوزير بإهدائي نسخة من هذا التسجيل الباهر ل (رق الحبيب) التي كتب كلماتها أحمد رامي ولحنها محمد القصبجي وشدت بها أم كلثوم لأول مرة في 18/9/1941.

لقد كان خالد الرويشان محقاً حين لاحظ أن ما هو شائع من أغنيات كوكب الشرق لا يتعدى 5% مما شدت به، وأن هناك حفلات باذخة ارتجلت فيها أم كلثوم بصورة لم يسبق لها مثيل في فن الغناء العربي.

والدي. . وأم كلثوم في تلك الجلسة الاستثنائية تذكرت والدي عبد الفتاح عراق (1924-1995) الذي علمني فن الاستماع إلى أم كلثوم منذ كنت طفلاً صغيراً، فكان ينبهني إلى عبقريتها في أداء هذه الكلمة أو تلك الجملة، مثلما قال لي إن حرف الحاء في (مجروح) يقطر منه الدم وهي تغني (المغنى حياة الروح. . يسمعها العليل تشفيه. . وتداوي كبيد مجروح تحتار الأطبا فيه).

تذكرت أبي وشكرته في نفسي وترحمت عليه لأنه منحني فضيلة التلقي الراقي. لذا حين أشرت إلى بعض الجماليات في أداء أم كلثوم وافق رئيس المنتدى ضاحكاً على منحي عضوية منتسبة، ثم تفضل مشكوراً، بعد أن تأكد من افتتاني بكوكب الشرق، بأن وهبني العضوية الكاملة! جلسة نادرة وساحرة مر أكثر من خمس ساعات ونحن هائمون في بحر الفن الكلثومي العذب والعميق، يسحرنا أداء السيدة الأولى في الغناء، وتمتعنا تعليقات خالد الرويشان وملاحظاته الثاقبة، حتى أنني لم أنتبه إلى أن السويعات كرّت هكذا بسرعة، فشكراً لليمن السعيد، وشكراً لصنعاء المدينة الساحرة، وشكراً لمنتدى أم كلثوم ورئيسه وأعضائه، أما الثناء الكبير فمن نصيب هذا الأديب الفنان المثقف صائد اللؤلؤ. . خالد الرويشان. .

منقول من منتديات حوار