عبد الحميد سليمان
23/10/2010, 22h14
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الحبيب الأديب الذكى / سيد أبى زهدة
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وبعد...
من بعيدأراك ترقب التعليقات والإبداعات وتتمحصها وتستغرق أفكار ورؤى أهلها ثم تأتى تعليقاتك بعد لأي مقتضبة لكنها حصيفة ثرية مترجمة أمينة للمثل العربى السائر (خير الكلام ما قل ودل) ومثلى لا يمر بكتاباتك وتعليقاتك مر الكرام فهى تضج بنبل المقصد وسلامة الفكر وفطرية الذكاء وأصيل الموهبة...على هذا كان تعليقى الأخير حينما بادلتنى إبداعا بإبداع إبداع فى تعليقكم على آخر أعمالي المعنون فى هذا المنتدى الرحيب بعنوان (ما لايعود).
أخى الحبيب.... وكأنك تهيب بى أن أكتب عن أبى حيان التوحيدى بعدما لمست إعجابا داخليا منى به وربما مشتركات بيننا... ذلك أخى الكريم بعض من الحقيقة فأنا من الذين فجأهم أبو حيان فقلب حياتهم رأسا على عقب حينما كنت فى سنوات الدرس والتحصيل الجامعى وصرعنى وأذهلنى تدفق فكرى لأبى حيان وعمق تحليلى ليس له نظير فى درته المكنونة ( الإمتاع والمؤانسة) وفى المقابسات وغير ذلك من ذخائره التى تعد من أغلى وأغنى ثمرات التراث العربى... كان التوحيدى عبقريا فذا لكن زمانه كان زمان التناقضات الحادة وبداية البلاء الأعظم الذى نشأ حينها فبدأ سوسا ينخر بدأب وصبر لا يريم ,إبانها قاد المعتزلة النهضة العقلية الفكرية العربية الكبرى ولكنهم ولسوء الحظ وعظم البلاء تغافلوا عن نقد السلطة التى آمنت بهم وبدورهم حينما اشتطت فى اضطهاد معارضيهم من الأشاعرة والحنابلة وغيرهم فكان سكوتهم فتحا لباب من الشر لم يسد وثلمة وثغرة وجرحا فى خاصرة أمتنا فكريا وسياسيا استبيحت به الحريات وما برحت وأهدرت الكرامات وما انفكت وكبتت العقول وما فتئت, ثم دارت الدوائر وتقلب الدهر بالمعتزلة وهو ُقلّب غدار, فاصطلوا بنفس الكأس واكتوى عقلاء الأمة ومفكروها وغيب العقل العربى وطال به الغياب , وبات ذلك جرحا ثخينا لا يندمل...
أخى الحبيب... فى هذا المناخ عاش أبوحيان التوحيدى عبقريا جبارا لا يضاهي فكره فكر ولايبزه نظير فأنف منه أصحاب السلطة وخشوا سلاطة لسانه و مغبات أفكاره فتقاذفوه مرغما حسير الى عولة وفقر ليس مثلهما نظير ولايمكنه لهما فكاكا وبات من المهمشين الفقراء الضعفاء مثلما صار ذلك مصير العباقرة والعلماء والمخلصين (ركز معى أخى الحبيب).جن أبو حيان حين رأى توسد السفلة وغلبة المنافِِقة والممالئِة المتزلفة المتصدرين كل مائدة واللاعقين لكل حذاء, وهو وما أدراك من هو,مافتىء فقيرا طريدا مرذولا,تتقحمه العيون ولا يعبأ به عابئ ولا يكترث له مكترث فسول له عقله أن ينزل من علياء برجه وطوده وكبريائه ويمتطى راحلة واقعه العرجاء السوداء, وانظر آخى الكريم الى وصفه لحاله آنذاك مبررا لقارئه فعله
((لقد اضطررت بينهم بعد الشهرة، والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل العشب في الصحراء، والى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، والى بيع الدين والمروءة، والى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، والى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم)).
وعلى هذا أمعن التوحيدى فى توظيف عقله ومنطقه تزلفا وتقربا وتحسسا وسعيا لنيل وزارة أو ولاية أومنصب أو وظيفة كالذى ظفر بها مسكويه الذى جلس منه مجلس التلميذ توددا وتزلفا ةتقربا ليجمع بينهما كتابهما المشترك (الهوامل والشوامل)، فحينها وصف أسئلته بالهوامل وترك لمسكويه الشوامل ، ووضع نفسه في مرتبة الشك المتواضع والضعف الهزيل وترك لمسكويه متعة التظاهر باليقين الشامل، وذاك التظاهر هو المفسد للمعارف القاتل للثقافات ومقتلة المفكر الذى يهرب من شك السؤال إلى طمأنينة الجواب.
أخى الكريم....لا تعجب كيف ينقلب الحال فيجلس التوحيدي مجلس التابع من مسكويه ، وهو الذي وصفه قبل ذلك فى مؤلفه الأشهر(الإمتاع والمؤانسة) ,إبان تمرده وثورته وسخريته من ضعفاء العقل والعلم والمعرفة الذين يتهاوون أمام جبروت عقله وخضم معارفه بأنه
((قليل السكب، بطيء السبك، مشهور المعاني، كثير التواني، شديد التوقي، ضعيف الترقي، يرد أكثر مما يصدر، ويتطاول جهده ثم يقصر، ويطير بعيدا، ويقع قريبا، ويسقي من قبل أن يغرس، ويمنح من قبل أن يميه، وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ في الفلسفة، وتأتٍ في الخدمة، وقيام برسوم الندامة، وسنة في البخل وغرائب من الكذب، وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء))
ثم يعود فيصفه على إجماله بأنه ((عيى بين أبيناء وفقير بين أغنياء))ولعلنا يلح علينا سؤال عما ألجأ أبا حيان إلى أن يجلس مجلس التلميذ من مسكويه بعد كل ما قاله فيه, والجواب هو الفقر المدقع الذي اجتمع إلى عقل جبار فآلمه وأثخنه كما لا يفعل بفقيرغيره من أولئك الذين يستسلمون لحظوظهم ويقنعون بحالهم ويعتذرون لأنفسهم ويحلمون بتغير أحوالهم فى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وهى لهم فى ظنهم دون غيرهم,وهذا دأبهم ومستقر حالهم ,فقر يكلؤه فقر ومسغبة تردفها مسغبة ولا أمل ولاعمل وإنما استسلام وخضوع وقدرية لاتمل ولاتثور.
لكن أبا حيان لم يرضخ ولم يستسلم ووخزه عقله وأوغل لومه فى نفسه بعدما أجهده فقره وأرهقته فاقته ، وجن جنونه وهو يرى الأدنياء ينهلون من فيض الأعطيات السخية التى ضلت طريقها إلى بابه ، فلما ضاقت به الدنيا، نظر إلى مسكويه فوجده يرتع فى بحبوحة معية ابن العميد وأريحيته ،حينما كان وزيرا لركن الدولة البويهي،ولم يكن مسكويه مجرد أمين مكتبته و إنما كان مستشارا له وعلى هذا تفتق ذهن التوحيدي عن حيلة الأسئلة والأجوبة فى كتابيهما (الهوامل والشوامل) ليصل خيطه برجل تلتقي عنده خيوط كثيرة لعل فى ذلك منجاة له بعدما تنكر له الجميع،.لقد كان أبو حيان التوحيدي صريحا فى وصفه حاله المزرية بين أهل زمانه وسعيه لنيل ما يرفع به خسيسته بين الناس ويقهر ضعف حاله ووحشى فقره,ولكن لاحياة لمن تريد فما أغنى عنه أفكه وزوره وما كسب فاصطلى بنارين ذواتى لهب, نار لومه لنفسه ونار لوم غيره واستهزائهم وتقريعهم وشماتتهم فيه ونار إحساسه بفشله واستفحال عوزه وخيبة سعيه, عندها عاش وحيدا منبوذا غير مرحب به لا بين الفقراء رفقاء حاله وواقعه, ولا بين العلماء الذين استنكروا تطلعه وتبدله ولم يعد ممكنا له أن يقرع آذانهم بقضايا الحرية والعلم الأصيل وتقمص دور المثقف الرائد مثلما كان غير مرحب به بين الوزراء والكبراء الذين ركلته مجالسهم وتقاذفته عيونهم وأقدامهم وألسنته واستمرأت التسلى بهزاله وفشله وغبائه...أخى الكريم.. هكذا عاش أبو حيان التوحيدى حسيرا أليما معوزا فقيرا, فلما استعرت نار غله وحقده أقسم ليحرمن أولئك القوم ومن بعدهم مما فاض به عقله من روائع المؤلفات فأشعل فيها نار غيظه ولهيب موجدته وضرام يأسه ولم يسلم منها إلا القليل.
...أخى هى مأساة اليوم وكل يوم وليس عندى من الوقت وللأسف الشديد ما يمكننى من الاستطراد فى الشرح والسرد ,لقد فعل ذلك الدولاب بأبى حيان التوحيدى ما فعله بغيره من العباقرة الذين عاصروه ومنهم سيد شعراء العربية أبوالطيب المتنبي الذى سعى إلى ما سعى إليه أبو حيان ولجأ إلى ابن العميد مثلما لجأ, بعدما عاش فى بلاط بنى حمدان فى حلب دون أن ينال ما يتمناه وهو ولاية من الولايات كانت تسند للعبيد وللجنود وللسدنة وللسفلة لكنها تأبى عليه وتستطيل, واضطر إلى ترك بلاط سيف الدولة الحمدانى ورحل الى مصر وأسرف فى مدح كافور الإخشيدي وهو يعلم أنه خصى من عبيد بنى الأخشيد فما أغنى عنه تزلفه وما كسب فهجاه بقصيدته الشهيرة التى افتتحها بقوله:
عيد بأية حال عدت يا عيد...بما مضى أم لأمر فيك تجديد
الى أن قال هاجيا كافور مبديا سخطه ويأسه لامزا له فى أصله وفصله:
لاتشتر العبد الا والعصا معه...إن العبيد لأنجاس مناكيد
إلى أن وقع فى أيدى اللصوص الذين كانوا يكمنون في الطريق من واسط إلى بغداد ,وحين نصحه الناصحون وحذره المحذرون ألا يسلك ذلك الطريق فأبى عليه كبره وثارت كرامته واستنكر سابق قوله وادعاؤه وعاجز شجاعته أن يقف أمام ناصحيه وجلا خائفا يترصد فلم يعبأ بنصحهم ولم يتحسب لمعقبات أمره وكيف له أن يرتجف أو يستسلم للخوف وهو من راج فخره بنفسه وسرى بين العرب شعرا جبارا عتيا:
الخيل والليل والبيداء تعرفنى... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هكذا سعى المتنبي الى حتفه بظلفه وسار مع ابنه وبعض غلمانه، فعرض له فاتك بن جهل الأسدي في جماعة من شانئيه، وكان قد هجا أخته وأفحش فى هجائها، فقتله وتناثر ديوانه الذي خطه بيده، بعد حياة حافلة بالطموح والفشل.
أخى الكريم..هى إذن مأساة المثقف العربى وملهاة الواقع الغريب السقيم والشر المستطير المستديم الذى لا يميز بين غث ولا ثمين فى أزمنة الرويبضة التى توسد الأمور فيها الى غير أهلها والذى حذرنا منه رسولنا الكريم فى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فارتقب الساعة) وللساعة هنا معان كبيرة بالغة الأهمية عميقة ثاقبة النظر وليعى الواعون وليتدبر المتدبرون ,ومعلوم مستقر أن توسيد الأمور إلى غير أهلها فعل الحمقى والسفلة والمستغلين ولا تكاد الحيوانات فى غفلتها تفعل ذلك أما نحن فنفعل بلا مخافة من لومة لائم ولاثورة ثائر ولا استفاقة تائه غائب نائم, ولا ولن يرثى أو يثور لنا أحد حتى لو أتت علينا فادح العلل التي أوهنت جسم الأمة وهدت كيانها ,ولولا بقية من أصول ومن دين لخرجنا من التاريخ الذي ذهب بعض الأوعياء إلى أن العرب قد خرجوا منه بغير عوده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ولا كاشف لذلك إلا هو يصيب برحمته من يشاء ولا يرد بأسه عن القوم الكافرين...أخى الكريم هذا غيض من فيض وأحيلك وأحيل القراء إلى (أبى حيان الدمياطى) التي تضمنتها صفحات هذا المنتدى الرحيب وتناولت فيها ذلك فى إسقاط على واقعنا الأليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أ/ د عبد الحميد سليمان
الأخ الحبيب الأديب الذكى / سيد أبى زهدة
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.. وبعد...
من بعيدأراك ترقب التعليقات والإبداعات وتتمحصها وتستغرق أفكار ورؤى أهلها ثم تأتى تعليقاتك بعد لأي مقتضبة لكنها حصيفة ثرية مترجمة أمينة للمثل العربى السائر (خير الكلام ما قل ودل) ومثلى لا يمر بكتاباتك وتعليقاتك مر الكرام فهى تضج بنبل المقصد وسلامة الفكر وفطرية الذكاء وأصيل الموهبة...على هذا كان تعليقى الأخير حينما بادلتنى إبداعا بإبداع إبداع فى تعليقكم على آخر أعمالي المعنون فى هذا المنتدى الرحيب بعنوان (ما لايعود).
أخى الحبيب.... وكأنك تهيب بى أن أكتب عن أبى حيان التوحيدى بعدما لمست إعجابا داخليا منى به وربما مشتركات بيننا... ذلك أخى الكريم بعض من الحقيقة فأنا من الذين فجأهم أبو حيان فقلب حياتهم رأسا على عقب حينما كنت فى سنوات الدرس والتحصيل الجامعى وصرعنى وأذهلنى تدفق فكرى لأبى حيان وعمق تحليلى ليس له نظير فى درته المكنونة ( الإمتاع والمؤانسة) وفى المقابسات وغير ذلك من ذخائره التى تعد من أغلى وأغنى ثمرات التراث العربى... كان التوحيدى عبقريا فذا لكن زمانه كان زمان التناقضات الحادة وبداية البلاء الأعظم الذى نشأ حينها فبدأ سوسا ينخر بدأب وصبر لا يريم ,إبانها قاد المعتزلة النهضة العقلية الفكرية العربية الكبرى ولكنهم ولسوء الحظ وعظم البلاء تغافلوا عن نقد السلطة التى آمنت بهم وبدورهم حينما اشتطت فى اضطهاد معارضيهم من الأشاعرة والحنابلة وغيرهم فكان سكوتهم فتحا لباب من الشر لم يسد وثلمة وثغرة وجرحا فى خاصرة أمتنا فكريا وسياسيا استبيحت به الحريات وما برحت وأهدرت الكرامات وما انفكت وكبتت العقول وما فتئت, ثم دارت الدوائر وتقلب الدهر بالمعتزلة وهو ُقلّب غدار, فاصطلوا بنفس الكأس واكتوى عقلاء الأمة ومفكروها وغيب العقل العربى وطال به الغياب , وبات ذلك جرحا ثخينا لا يندمل...
أخى الحبيب... فى هذا المناخ عاش أبوحيان التوحيدى عبقريا جبارا لا يضاهي فكره فكر ولايبزه نظير فأنف منه أصحاب السلطة وخشوا سلاطة لسانه و مغبات أفكاره فتقاذفوه مرغما حسير الى عولة وفقر ليس مثلهما نظير ولايمكنه لهما فكاكا وبات من المهمشين الفقراء الضعفاء مثلما صار ذلك مصير العباقرة والعلماء والمخلصين (ركز معى أخى الحبيب).جن أبو حيان حين رأى توسد السفلة وغلبة المنافِِقة والممالئِة المتزلفة المتصدرين كل مائدة واللاعقين لكل حذاء, وهو وما أدراك من هو,مافتىء فقيرا طريدا مرذولا,تتقحمه العيون ولا يعبأ به عابئ ولا يكترث له مكترث فسول له عقله أن ينزل من علياء برجه وطوده وكبريائه ويمتطى راحلة واقعه العرجاء السوداء, وانظر آخى الكريم الى وصفه لحاله آنذاك مبررا لقارئه فعله
((لقد اضطررت بينهم بعد الشهرة، والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل العشب في الصحراء، والى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، والى بيع الدين والمروءة، والى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، والى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم)).
وعلى هذا أمعن التوحيدى فى توظيف عقله ومنطقه تزلفا وتقربا وتحسسا وسعيا لنيل وزارة أو ولاية أومنصب أو وظيفة كالذى ظفر بها مسكويه الذى جلس منه مجلس التلميذ توددا وتزلفا ةتقربا ليجمع بينهما كتابهما المشترك (الهوامل والشوامل)، فحينها وصف أسئلته بالهوامل وترك لمسكويه الشوامل ، ووضع نفسه في مرتبة الشك المتواضع والضعف الهزيل وترك لمسكويه متعة التظاهر باليقين الشامل، وذاك التظاهر هو المفسد للمعارف القاتل للثقافات ومقتلة المفكر الذى يهرب من شك السؤال إلى طمأنينة الجواب.
أخى الكريم....لا تعجب كيف ينقلب الحال فيجلس التوحيدي مجلس التابع من مسكويه ، وهو الذي وصفه قبل ذلك فى مؤلفه الأشهر(الإمتاع والمؤانسة) ,إبان تمرده وثورته وسخريته من ضعفاء العقل والعلم والمعرفة الذين يتهاوون أمام جبروت عقله وخضم معارفه بأنه
((قليل السكب، بطيء السبك، مشهور المعاني، كثير التواني، شديد التوقي، ضعيف الترقي، يرد أكثر مما يصدر، ويتطاول جهده ثم يقصر، ويطير بعيدا، ويقع قريبا، ويسقي من قبل أن يغرس، ويمنح من قبل أن يميه، وله بعد ذلك مآخذ كشدوٍ في الفلسفة، وتأتٍ في الخدمة، وقيام برسوم الندامة، وسنة في البخل وغرائب من الكذب، وهو حائل العقل لشغفه بالكيمياء))
ثم يعود فيصفه على إجماله بأنه ((عيى بين أبيناء وفقير بين أغنياء))ولعلنا يلح علينا سؤال عما ألجأ أبا حيان إلى أن يجلس مجلس التلميذ من مسكويه بعد كل ما قاله فيه, والجواب هو الفقر المدقع الذي اجتمع إلى عقل جبار فآلمه وأثخنه كما لا يفعل بفقيرغيره من أولئك الذين يستسلمون لحظوظهم ويقنعون بحالهم ويعتذرون لأنفسهم ويحلمون بتغير أحوالهم فى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وهى لهم فى ظنهم دون غيرهم,وهذا دأبهم ومستقر حالهم ,فقر يكلؤه فقر ومسغبة تردفها مسغبة ولا أمل ولاعمل وإنما استسلام وخضوع وقدرية لاتمل ولاتثور.
لكن أبا حيان لم يرضخ ولم يستسلم ووخزه عقله وأوغل لومه فى نفسه بعدما أجهده فقره وأرهقته فاقته ، وجن جنونه وهو يرى الأدنياء ينهلون من فيض الأعطيات السخية التى ضلت طريقها إلى بابه ، فلما ضاقت به الدنيا، نظر إلى مسكويه فوجده يرتع فى بحبوحة معية ابن العميد وأريحيته ،حينما كان وزيرا لركن الدولة البويهي،ولم يكن مسكويه مجرد أمين مكتبته و إنما كان مستشارا له وعلى هذا تفتق ذهن التوحيدي عن حيلة الأسئلة والأجوبة فى كتابيهما (الهوامل والشوامل) ليصل خيطه برجل تلتقي عنده خيوط كثيرة لعل فى ذلك منجاة له بعدما تنكر له الجميع،.لقد كان أبو حيان التوحيدي صريحا فى وصفه حاله المزرية بين أهل زمانه وسعيه لنيل ما يرفع به خسيسته بين الناس ويقهر ضعف حاله ووحشى فقره,ولكن لاحياة لمن تريد فما أغنى عنه أفكه وزوره وما كسب فاصطلى بنارين ذواتى لهب, نار لومه لنفسه ونار لوم غيره واستهزائهم وتقريعهم وشماتتهم فيه ونار إحساسه بفشله واستفحال عوزه وخيبة سعيه, عندها عاش وحيدا منبوذا غير مرحب به لا بين الفقراء رفقاء حاله وواقعه, ولا بين العلماء الذين استنكروا تطلعه وتبدله ولم يعد ممكنا له أن يقرع آذانهم بقضايا الحرية والعلم الأصيل وتقمص دور المثقف الرائد مثلما كان غير مرحب به بين الوزراء والكبراء الذين ركلته مجالسهم وتقاذفته عيونهم وأقدامهم وألسنته واستمرأت التسلى بهزاله وفشله وغبائه...أخى الكريم.. هكذا عاش أبو حيان التوحيدى حسيرا أليما معوزا فقيرا, فلما استعرت نار غله وحقده أقسم ليحرمن أولئك القوم ومن بعدهم مما فاض به عقله من روائع المؤلفات فأشعل فيها نار غيظه ولهيب موجدته وضرام يأسه ولم يسلم منها إلا القليل.
...أخى هى مأساة اليوم وكل يوم وليس عندى من الوقت وللأسف الشديد ما يمكننى من الاستطراد فى الشرح والسرد ,لقد فعل ذلك الدولاب بأبى حيان التوحيدى ما فعله بغيره من العباقرة الذين عاصروه ومنهم سيد شعراء العربية أبوالطيب المتنبي الذى سعى إلى ما سعى إليه أبو حيان ولجأ إلى ابن العميد مثلما لجأ, بعدما عاش فى بلاط بنى حمدان فى حلب دون أن ينال ما يتمناه وهو ولاية من الولايات كانت تسند للعبيد وللجنود وللسدنة وللسفلة لكنها تأبى عليه وتستطيل, واضطر إلى ترك بلاط سيف الدولة الحمدانى ورحل الى مصر وأسرف فى مدح كافور الإخشيدي وهو يعلم أنه خصى من عبيد بنى الأخشيد فما أغنى عنه تزلفه وما كسب فهجاه بقصيدته الشهيرة التى افتتحها بقوله:
عيد بأية حال عدت يا عيد...بما مضى أم لأمر فيك تجديد
الى أن قال هاجيا كافور مبديا سخطه ويأسه لامزا له فى أصله وفصله:
لاتشتر العبد الا والعصا معه...إن العبيد لأنجاس مناكيد
إلى أن وقع فى أيدى اللصوص الذين كانوا يكمنون في الطريق من واسط إلى بغداد ,وحين نصحه الناصحون وحذره المحذرون ألا يسلك ذلك الطريق فأبى عليه كبره وثارت كرامته واستنكر سابق قوله وادعاؤه وعاجز شجاعته أن يقف أمام ناصحيه وجلا خائفا يترصد فلم يعبأ بنصحهم ولم يتحسب لمعقبات أمره وكيف له أن يرتجف أو يستسلم للخوف وهو من راج فخره بنفسه وسرى بين العرب شعرا جبارا عتيا:
الخيل والليل والبيداء تعرفنى... والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هكذا سعى المتنبي الى حتفه بظلفه وسار مع ابنه وبعض غلمانه، فعرض له فاتك بن جهل الأسدي في جماعة من شانئيه، وكان قد هجا أخته وأفحش فى هجائها، فقتله وتناثر ديوانه الذي خطه بيده، بعد حياة حافلة بالطموح والفشل.
أخى الكريم..هى إذن مأساة المثقف العربى وملهاة الواقع الغريب السقيم والشر المستطير المستديم الذى لا يميز بين غث ولا ثمين فى أزمنة الرويبضة التى توسد الأمور فيها الى غير أهلها والذى حذرنا منه رسولنا الكريم فى قوله صلى الله عليه وسلم (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فارتقب الساعة) وللساعة هنا معان كبيرة بالغة الأهمية عميقة ثاقبة النظر وليعى الواعون وليتدبر المتدبرون ,ومعلوم مستقر أن توسيد الأمور إلى غير أهلها فعل الحمقى والسفلة والمستغلين ولا تكاد الحيوانات فى غفلتها تفعل ذلك أما نحن فنفعل بلا مخافة من لومة لائم ولاثورة ثائر ولا استفاقة تائه غائب نائم, ولا ولن يرثى أو يثور لنا أحد حتى لو أتت علينا فادح العلل التي أوهنت جسم الأمة وهدت كيانها ,ولولا بقية من أصول ومن دين لخرجنا من التاريخ الذي ذهب بعض الأوعياء إلى أن العرب قد خرجوا منه بغير عوده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ولا كاشف لذلك إلا هو يصيب برحمته من يشاء ولا يرد بأسه عن القوم الكافرين...أخى الكريم هذا غيض من فيض وأحيلك وأحيل القراء إلى (أبى حيان الدمياطى) التي تضمنتها صفحات هذا المنتدى الرحيب وتناولت فيها ذلك فى إسقاط على واقعنا الأليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أ/ د عبد الحميد سليمان