reza_neikrav
03/06/2010, 12h58
كانت البداية في أنطلياس, لبنان, حيث ولد عاصي عام 1923, وبعده بعامين ولد شقيقه الأصغر منصور عام 1925. والدهما حنا الياس الرحباني, كان محكوماً عليه بالإعدام من قبل العثمانيين. إلا أنه تمكن من الهرب والالتجاء في أنطلياس, إلى الشمال من بيروت, حيث فتح مقهى في منطقة تدعى 'الفوار' على تخوم البلدة. كان المكان معروفاً بجماله الطبيعي, ومياهه النقية, وطقسه اللطيف, مما جعله شعبياً لأولئك الذين يبحثون عن جلسة هادئة وسعيدة. كان حنا صارماً في الأمور التي تتعلق بالآداب والأخلاق العامة, كان يفصل قسم العائلات عن الأقسام الأخرى بملاءات معلقة, وكان يحظر حتى مسك اليدين في مطعمه, ونظراً لهذا القانون 'الرحباني' الصارم, كان الكثيرون من أبناء بيروت المحافظين يرسلون عائلاتهم إلى مقهى 'الفوار' صباحاً مطمئنين إلى حماية حنا, ثم يلحقون بهم بعد العمل.
رغم قساوته وتحفظه, كان حنا محباً للموسيقى, كان يعزف على 'البزق' في مساءات المطعم, جامعاً حوله زبائنه والولدين الصغيرين ليستمعوا إلى عزفه, بالإضافة إلى بضعة أغانٍ قديمة على الفونوغراف, خاصة أغاني أم كلثوم, أمين حسنين, عبد الوهاب, سيد درويش, وغيرهم من مطربي تلك الأيام.
كان يمضي عاصي ومنصور ستة أشهر في المدرسة كل سنة, ثم كان يخرجهما والدهما لكي يساعداه في موسم الربيع, قانعاً الأم بأن ما حصلا عليه من علم, كافٍ لتلك السنة.
نشأ الصبيان في هذا الجو, تشدد في الأخلاق والسلوك من جهة, وموسيقى وفن من ناحية أخرى, ومن ناحية ثالثة, مناخ قروي بمياه جارية رقراقة خلال الصيف, وفي الشتاء أمطار وعواصف ورعود, يضاف إلى ذلك عامل مهم جداً لعب دوراً في نشأتهما, وهو جدتهما لأمهما, التي كانت أيضاً محافظة كالأب, لكنها كانت تحفظ الكثير من الحكايا والخرافات, عن الأبطال الخياليين, القبضايات, الجنيات, وأخبار الحب, كما كانت تنظم الزجل والقراديات, على الرغم من كونها أمية. كانت تشجعهما على حفظ ما ملكت أيمانهما من هذا الموروث الشعري.
كل هذه العوامل مجتمعة, ساعدت في نشوء موهبة الصبيين, مع مخيلة جدّ غنية وجدّ مزدهرة, وكان يتضح ذلك عندما كان يحبسهما الأب في 'العلية' لكي يبقيا بعيدين عن بقية الصبيان, إذ كان عاصي يخترع حكايات عن الجن وعن ناس لا يكبرون ولا يهرمون, لكي يتسلى أخوه الصغير, والذي كان يصدق كل ما يقوله.
يروي منصور فيقول: كانت علامات الذكاء واضحة عند عاصي منذ البداية, وكانوا يتوقعون أن يصبح شاعراً أو فناناً في المستقبل. أما أنا, فكانوا يقولون أني سأصبح قاطع طريق, في أحسن الأحوال.
لم تكن مرحلة الدراسة الأولى منتظمة بالنسبة للأخوين رحباني, مع هذا كان عاصي مواظباً أكثر من منصور, الذي كان يخترع الحيل والمناورات حتى لا يذهب إلى المدرسة, قائمة المدارس التي تعلما فيها تضم:
مدرسة راهبات عبرين في أنطلياس
مدرسة الأستاذ فريد أبو فاضل في أنطلياس
مدرسة الأستاذ كمال مكرزل, والمدرسة اليسوعية في بكفيّا, لمدة سنة واحدة, ثم عادا بعدها إلى أنطلياس.
كان منصور يحب الشعر منذ طفولته, وبدأ أولى محاولاته في كتابة الشعر في سن الثامنة, وفي الثانية عشرة من عمره اشترك في مجلة 'المكشوف', وبعدها في مجلات أدبية أخرى. كان عاصي يشاطره قراءتها بشغف كبير, ثم انكبّا على قراءة كتب الفلسفة, وكتب 'طاغور' و'ديستويفسكي' ومسرحيات 'شكسبير'.
في عمر الرابعة عشر, أسس عاصي مجلة اسمها 'الحرشاية' حيث كتب بخط يده أولى محاولاته الشعرية, والقصص المسلسلة, باللغة العربية الفصحى أو بالعامية اللبنانية, كان يوقعها بأسماء مستعارة, ويذهب ليقرأها من بيت لبيت في نهاية كل أسبوع.
غيرة منصور من أخيه الأكبر. دفعته لأن يؤسس مجلة أخرى مشابهة, والتي أسماها 'الأغاني' حيث بدأت المنافسة بينهما.
لم تكن أمور المطعم في الفوار على ما يرام, فاضطر والدهما إلى بيعه, ثم اشترى مقهى صغيراً في منطقة 'المنيبيع'. كما افتتح مطعماً في أنطلياس حيث كان يعمل فيه في الشتاء, لهذا أمضت العائلة سبع سنوات متنقلة بين 'المنيبيع' في الصيف, وأنطلياس في الشتاء. ثم تدهور وضع الأسرة الاقتصادي , فاضطر عاصي ومنصور للمساعدة, فعملا في قطاف الليمون, ثم انصرفا لمساعدة والدهما في المطعم. ساعدت بيئة المنطقة على اختزان الكثير من الذكريات, والتي استعملاها فيما بعد في أعمالهما, كانت الطبيعة, الأحراج, الحيوانات, كتبهما. تعرفا إلى المقالع والبارود ولغة الصخر. وهناك ولدت شخصيات 'سبع' و'مخّول'.
بعد سنة, عادا إلى أنطلياس, حيث التقيا الأب بولس الأشقر, وقد شكل هذا اللقاء تحولاً أساسياً في حياتهما, وقتها طلبا منه الانضمام إلى جوقة الصلاة والتراتيل التي كان يعلمها, فوافق على انضمام منصور فقط, ولم يأخذ عاصي لأن صوته كان قد بدأ 'يرجّل' في نبرة وسيطة بين الخشونة والنعومة, لكنه سمح له بتعلم الألحان دون أن مشاركة فعالة.
ومرة كان يحاول الأب بولس أن يشرح نظرية 'التيتراكورد' لطلابه, فاكتشف أنه لم يتمكن أحد من استيعابها, لكن عاصي الذي كان يقف خارجاً عند الباب قال أنه يستطيع شرحها, فدعاه الأب بولس وقال له: 'إذا أعدت شرح النظرية سأعلمك الموسيقى', وهكذا كان, شرح عاصي النظرية, وبدأت مرحلة تعلم الموسيقى.
تعلّما العزف على البزق لوحدهما, ولاحقاً وجد عاصي ورقة عشر ليرات على أرض المقهى, فأخذها واشترى كماناً, وصار يعزف عليه بالإضافة إلى متابعة دراسته الموسيقية على يد الأب بولس الأشقر.
درسا علم 'الهارموني' وتاريخ الموسيقى الشرقية من كتب نادرة كانت بحوزة الأب بولس, وسرعان ما بدأا بالتأليف, وكان أول عمل نشيداً بمناسبة عيد الأب بولس الأشقر, ثم ألحاناً دينية وبصورة خاصة المزامير, بالاشتراك مع الجوقة
ومع هذا لم تقتصر موهبتهما على الموسيقى فقط, حيث كان شغفهما بالمسرح كبيراً, تعرفا إلى المسرح في مدرسة فريد أبو فاضل, والمدرسة اليسوعية في بكفيّا, ومع أنه لم تكن هناك حركة مسرحية ناشطة في لبنان في ذلك الوقت, إلا أن ذلك لم يمنع من تقديم أعمالاً مسرحية هنا وهناك عندما تسمح الظروف, ثم أصبح المسرح هاجساً لديهما, إلى أن كتب يوسف لويس أبو جودة مسرحيات لهما خصيصاً بالعامية اللبنانية.
وقبل أن يبلغا سن الرشد, أسسا 'نادي أنطلياس الثقافي' حيث حاولا من خلاله تقديم بعض النشاطات الثقافية والاجتماعية بمساعدة شبان البلدة, قدما حفلات غنائية, ثم وضعا ألحاناً لإدخالها في المسرحيات, وكانت باكورة أعمالهما مسرحية 'وفاء العرب' التي ألّفاها ولحناها ومثّلا فيها, أخذ عاصي فيها دور 'النعمان الثالث' ولعب منصور دور 'حنظلة'. ثم مسرحيات أخرى كانت إما من تأليفهما, أو بالمشاركة مع آخرين.
وفي عام 1944 بدأت مرحلة جديدة في حياتهما الفنية, حيث بدأا بتقديم مسرحيات غنائية طويلة وذات قصة, كما نظما ولحنا أغنيات قصيرة لا تتجاوز مدتها دقيقتين أو ثلاث دقائق, والتي كان لها حضوراً إيجابياً في إذاعة دمشق, وإذاعة الشرق الأدنى, حيث تجاوب معهما مدراء تلك الإذاعات, ووجدوا فيها نمطاً جديداً للأغنية, غير الأغنية الطويلة التي كانت سائدة, والتي كانت تعتمد على الترداد والتطريب، لكن التدهور المالي للعائلة لم يسمح باستمرار النشاط الفني, ففي سن السادسة عشر, انضم عاصي إلى سلك البوليس بعد أن اضطر إلى تكبير سنه كي يحق له التقدم إلى الوظيفة, ثم فعل منصور نفس الشيء.
كان عمل عاصي في البوليس في أنطلياس, وكان البوليس الوحيد فيها, وكان رئيس البلدية وقتها 'وديع الشمالي' محباً للفن وعازفاً على الكمان, مما شجع عاصي على الهروب من وظيفته ليمارس هوايته, ويعود في آخر الشهر ليقبض المعاش.
أما منصور فقد كان عمله كبوليس في قسم الأمن العام في بيروت, وكعاصي كان يهرب من وظيفته ليحضر الحفلات الفنية, كان العمل الفني ممنوعاً عليهما, باعتبار أنهما يعملان في سلك البوليس, لكن هذا لم يكن ليمنع سعيهما نحو الفن. كانا يتنكران بثياب مختلفة, وأحياناً يضعان شوارب مستعارة, لكن لم يوفّقا في إخفاء شخصيتهما الحقيقية كل الوقت, فقد قبض عليهما أو كاد أن يقبض عليهما في أحايين عديدة, لكن في كل مرة, كانا يستطيعان التملص بطريقة أو بأخرى, وبشكل أساسي لأنهما كانا أولاد حنا الرحباني المعروف والمحترم.
بعد الحرب العالمية الثانية, قرر عاصي ومنصور أن ينتقلا من الهواية إلى عالم الاحتراف, وكانت الإذاعة الطريق الوحيد للانطلاق في المجال الاحترافي, تعرفا في البداية على 'إيليا أبو الروس' وكان عليهما أن يخضعا لامتحان, فقدما في الامتحان بعضاً من أعمالهما الخاصة, إلا أنها لم تلق ترحيباً من قبل اللجنة الفاحصة, باستثناء 'ميشيل خياط', ادعى أعضاء اللجنة أن تلك الأغاني تتضمن كلمات غريبة وغير مألوفة في الأغنية العربية عموماً واللبنانية بشكل خاص, مثل: 'ليش' , 'هيك' , 'جرد' .. وهكذا رفض كورس الإذاعة ومطربوها أن يغنوا للرحبانيين, فأحضرا أختهما 'سلوى' وأسمياها 'نجوى' لتؤدي أغانيهما في الإذاعة.
حول هذا يقول منصور: 'نحن جئنا بتفكير شعري, وبموسيقى مغايرة .. غيرنا كل شيء .. لماذا؟ لا أعرف .. تأثرنا بعبد الوهاب .. تأثرنا بسيد درويش .. تأثرنا بالعديد من الفنانين .. لكن عندما جئنا لنكتب .. كتبنا بلغتنا الخاصة .. وبرأيي على الفنان أن يقول جديداً .. وإلاّ , فليصمت…'
كانت الأغاني في الإذاعة تقدم بشكل حي, دون تسجيل مسبق, مع استمرار تقديم أعمالهما, بدأ يؤمن بهما بعض الأشخاص, ومن هؤلاء: 'فؤاد قاسم' رئيس مصلحة الإذاعة, الذي تبنى أعمالهما, وطلب من عاصي, الذي كان قد تعلم العزف على الكمان في الكونسيرفاتوار, وتعلم الأصول العلمية للموسيقى على يد الأستاذ 'إدوار جهشان' في أكاديمية الفنون لـ 'ألكسي بطرس', أن ينضم إلى الإذاعة بصفة عازف كمان, ومؤلف موسيقي. وافق عاصي واستقال من سلك الشرطة, وكان يأتي كل يوم إلى عمله في الإذاعة على الدرّاجة (البسكليت).
وكان من نتائج اقتناع 'فؤاد قاسم' بالأسلوب الرحباني, أن أصدر قراراً يمنع فيه بث أية أغنية تتجاوز مدتها الخمس دقائق, مما إدى إلى انحسار تيار الأغنية الطويلة.
رغم قساوته وتحفظه, كان حنا محباً للموسيقى, كان يعزف على 'البزق' في مساءات المطعم, جامعاً حوله زبائنه والولدين الصغيرين ليستمعوا إلى عزفه, بالإضافة إلى بضعة أغانٍ قديمة على الفونوغراف, خاصة أغاني أم كلثوم, أمين حسنين, عبد الوهاب, سيد درويش, وغيرهم من مطربي تلك الأيام.
كان يمضي عاصي ومنصور ستة أشهر في المدرسة كل سنة, ثم كان يخرجهما والدهما لكي يساعداه في موسم الربيع, قانعاً الأم بأن ما حصلا عليه من علم, كافٍ لتلك السنة.
نشأ الصبيان في هذا الجو, تشدد في الأخلاق والسلوك من جهة, وموسيقى وفن من ناحية أخرى, ومن ناحية ثالثة, مناخ قروي بمياه جارية رقراقة خلال الصيف, وفي الشتاء أمطار وعواصف ورعود, يضاف إلى ذلك عامل مهم جداً لعب دوراً في نشأتهما, وهو جدتهما لأمهما, التي كانت أيضاً محافظة كالأب, لكنها كانت تحفظ الكثير من الحكايا والخرافات, عن الأبطال الخياليين, القبضايات, الجنيات, وأخبار الحب, كما كانت تنظم الزجل والقراديات, على الرغم من كونها أمية. كانت تشجعهما على حفظ ما ملكت أيمانهما من هذا الموروث الشعري.
كل هذه العوامل مجتمعة, ساعدت في نشوء موهبة الصبيين, مع مخيلة جدّ غنية وجدّ مزدهرة, وكان يتضح ذلك عندما كان يحبسهما الأب في 'العلية' لكي يبقيا بعيدين عن بقية الصبيان, إذ كان عاصي يخترع حكايات عن الجن وعن ناس لا يكبرون ولا يهرمون, لكي يتسلى أخوه الصغير, والذي كان يصدق كل ما يقوله.
يروي منصور فيقول: كانت علامات الذكاء واضحة عند عاصي منذ البداية, وكانوا يتوقعون أن يصبح شاعراً أو فناناً في المستقبل. أما أنا, فكانوا يقولون أني سأصبح قاطع طريق, في أحسن الأحوال.
لم تكن مرحلة الدراسة الأولى منتظمة بالنسبة للأخوين رحباني, مع هذا كان عاصي مواظباً أكثر من منصور, الذي كان يخترع الحيل والمناورات حتى لا يذهب إلى المدرسة, قائمة المدارس التي تعلما فيها تضم:
مدرسة راهبات عبرين في أنطلياس
مدرسة الأستاذ فريد أبو فاضل في أنطلياس
مدرسة الأستاذ كمال مكرزل, والمدرسة اليسوعية في بكفيّا, لمدة سنة واحدة, ثم عادا بعدها إلى أنطلياس.
كان منصور يحب الشعر منذ طفولته, وبدأ أولى محاولاته في كتابة الشعر في سن الثامنة, وفي الثانية عشرة من عمره اشترك في مجلة 'المكشوف', وبعدها في مجلات أدبية أخرى. كان عاصي يشاطره قراءتها بشغف كبير, ثم انكبّا على قراءة كتب الفلسفة, وكتب 'طاغور' و'ديستويفسكي' ومسرحيات 'شكسبير'.
في عمر الرابعة عشر, أسس عاصي مجلة اسمها 'الحرشاية' حيث كتب بخط يده أولى محاولاته الشعرية, والقصص المسلسلة, باللغة العربية الفصحى أو بالعامية اللبنانية, كان يوقعها بأسماء مستعارة, ويذهب ليقرأها من بيت لبيت في نهاية كل أسبوع.
غيرة منصور من أخيه الأكبر. دفعته لأن يؤسس مجلة أخرى مشابهة, والتي أسماها 'الأغاني' حيث بدأت المنافسة بينهما.
لم تكن أمور المطعم في الفوار على ما يرام, فاضطر والدهما إلى بيعه, ثم اشترى مقهى صغيراً في منطقة 'المنيبيع'. كما افتتح مطعماً في أنطلياس حيث كان يعمل فيه في الشتاء, لهذا أمضت العائلة سبع سنوات متنقلة بين 'المنيبيع' في الصيف, وأنطلياس في الشتاء. ثم تدهور وضع الأسرة الاقتصادي , فاضطر عاصي ومنصور للمساعدة, فعملا في قطاف الليمون, ثم انصرفا لمساعدة والدهما في المطعم. ساعدت بيئة المنطقة على اختزان الكثير من الذكريات, والتي استعملاها فيما بعد في أعمالهما, كانت الطبيعة, الأحراج, الحيوانات, كتبهما. تعرفا إلى المقالع والبارود ولغة الصخر. وهناك ولدت شخصيات 'سبع' و'مخّول'.
بعد سنة, عادا إلى أنطلياس, حيث التقيا الأب بولس الأشقر, وقد شكل هذا اللقاء تحولاً أساسياً في حياتهما, وقتها طلبا منه الانضمام إلى جوقة الصلاة والتراتيل التي كان يعلمها, فوافق على انضمام منصور فقط, ولم يأخذ عاصي لأن صوته كان قد بدأ 'يرجّل' في نبرة وسيطة بين الخشونة والنعومة, لكنه سمح له بتعلم الألحان دون أن مشاركة فعالة.
ومرة كان يحاول الأب بولس أن يشرح نظرية 'التيتراكورد' لطلابه, فاكتشف أنه لم يتمكن أحد من استيعابها, لكن عاصي الذي كان يقف خارجاً عند الباب قال أنه يستطيع شرحها, فدعاه الأب بولس وقال له: 'إذا أعدت شرح النظرية سأعلمك الموسيقى', وهكذا كان, شرح عاصي النظرية, وبدأت مرحلة تعلم الموسيقى.
تعلّما العزف على البزق لوحدهما, ولاحقاً وجد عاصي ورقة عشر ليرات على أرض المقهى, فأخذها واشترى كماناً, وصار يعزف عليه بالإضافة إلى متابعة دراسته الموسيقية على يد الأب بولس الأشقر.
درسا علم 'الهارموني' وتاريخ الموسيقى الشرقية من كتب نادرة كانت بحوزة الأب بولس, وسرعان ما بدأا بالتأليف, وكان أول عمل نشيداً بمناسبة عيد الأب بولس الأشقر, ثم ألحاناً دينية وبصورة خاصة المزامير, بالاشتراك مع الجوقة
ومع هذا لم تقتصر موهبتهما على الموسيقى فقط, حيث كان شغفهما بالمسرح كبيراً, تعرفا إلى المسرح في مدرسة فريد أبو فاضل, والمدرسة اليسوعية في بكفيّا, ومع أنه لم تكن هناك حركة مسرحية ناشطة في لبنان في ذلك الوقت, إلا أن ذلك لم يمنع من تقديم أعمالاً مسرحية هنا وهناك عندما تسمح الظروف, ثم أصبح المسرح هاجساً لديهما, إلى أن كتب يوسف لويس أبو جودة مسرحيات لهما خصيصاً بالعامية اللبنانية.
وقبل أن يبلغا سن الرشد, أسسا 'نادي أنطلياس الثقافي' حيث حاولا من خلاله تقديم بعض النشاطات الثقافية والاجتماعية بمساعدة شبان البلدة, قدما حفلات غنائية, ثم وضعا ألحاناً لإدخالها في المسرحيات, وكانت باكورة أعمالهما مسرحية 'وفاء العرب' التي ألّفاها ولحناها ومثّلا فيها, أخذ عاصي فيها دور 'النعمان الثالث' ولعب منصور دور 'حنظلة'. ثم مسرحيات أخرى كانت إما من تأليفهما, أو بالمشاركة مع آخرين.
وفي عام 1944 بدأت مرحلة جديدة في حياتهما الفنية, حيث بدأا بتقديم مسرحيات غنائية طويلة وذات قصة, كما نظما ولحنا أغنيات قصيرة لا تتجاوز مدتها دقيقتين أو ثلاث دقائق, والتي كان لها حضوراً إيجابياً في إذاعة دمشق, وإذاعة الشرق الأدنى, حيث تجاوب معهما مدراء تلك الإذاعات, ووجدوا فيها نمطاً جديداً للأغنية, غير الأغنية الطويلة التي كانت سائدة, والتي كانت تعتمد على الترداد والتطريب، لكن التدهور المالي للعائلة لم يسمح باستمرار النشاط الفني, ففي سن السادسة عشر, انضم عاصي إلى سلك البوليس بعد أن اضطر إلى تكبير سنه كي يحق له التقدم إلى الوظيفة, ثم فعل منصور نفس الشيء.
كان عمل عاصي في البوليس في أنطلياس, وكان البوليس الوحيد فيها, وكان رئيس البلدية وقتها 'وديع الشمالي' محباً للفن وعازفاً على الكمان, مما شجع عاصي على الهروب من وظيفته ليمارس هوايته, ويعود في آخر الشهر ليقبض المعاش.
أما منصور فقد كان عمله كبوليس في قسم الأمن العام في بيروت, وكعاصي كان يهرب من وظيفته ليحضر الحفلات الفنية, كان العمل الفني ممنوعاً عليهما, باعتبار أنهما يعملان في سلك البوليس, لكن هذا لم يكن ليمنع سعيهما نحو الفن. كانا يتنكران بثياب مختلفة, وأحياناً يضعان شوارب مستعارة, لكن لم يوفّقا في إخفاء شخصيتهما الحقيقية كل الوقت, فقد قبض عليهما أو كاد أن يقبض عليهما في أحايين عديدة, لكن في كل مرة, كانا يستطيعان التملص بطريقة أو بأخرى, وبشكل أساسي لأنهما كانا أولاد حنا الرحباني المعروف والمحترم.
بعد الحرب العالمية الثانية, قرر عاصي ومنصور أن ينتقلا من الهواية إلى عالم الاحتراف, وكانت الإذاعة الطريق الوحيد للانطلاق في المجال الاحترافي, تعرفا في البداية على 'إيليا أبو الروس' وكان عليهما أن يخضعا لامتحان, فقدما في الامتحان بعضاً من أعمالهما الخاصة, إلا أنها لم تلق ترحيباً من قبل اللجنة الفاحصة, باستثناء 'ميشيل خياط', ادعى أعضاء اللجنة أن تلك الأغاني تتضمن كلمات غريبة وغير مألوفة في الأغنية العربية عموماً واللبنانية بشكل خاص, مثل: 'ليش' , 'هيك' , 'جرد' .. وهكذا رفض كورس الإذاعة ومطربوها أن يغنوا للرحبانيين, فأحضرا أختهما 'سلوى' وأسمياها 'نجوى' لتؤدي أغانيهما في الإذاعة.
حول هذا يقول منصور: 'نحن جئنا بتفكير شعري, وبموسيقى مغايرة .. غيرنا كل شيء .. لماذا؟ لا أعرف .. تأثرنا بعبد الوهاب .. تأثرنا بسيد درويش .. تأثرنا بالعديد من الفنانين .. لكن عندما جئنا لنكتب .. كتبنا بلغتنا الخاصة .. وبرأيي على الفنان أن يقول جديداً .. وإلاّ , فليصمت…'
كانت الأغاني في الإذاعة تقدم بشكل حي, دون تسجيل مسبق, مع استمرار تقديم أعمالهما, بدأ يؤمن بهما بعض الأشخاص, ومن هؤلاء: 'فؤاد قاسم' رئيس مصلحة الإذاعة, الذي تبنى أعمالهما, وطلب من عاصي, الذي كان قد تعلم العزف على الكمان في الكونسيرفاتوار, وتعلم الأصول العلمية للموسيقى على يد الأستاذ 'إدوار جهشان' في أكاديمية الفنون لـ 'ألكسي بطرس', أن ينضم إلى الإذاعة بصفة عازف كمان, ومؤلف موسيقي. وافق عاصي واستقال من سلك الشرطة, وكان يأتي كل يوم إلى عمله في الإذاعة على الدرّاجة (البسكليت).
وكان من نتائج اقتناع 'فؤاد قاسم' بالأسلوب الرحباني, أن أصدر قراراً يمنع فيه بث أية أغنية تتجاوز مدتها الخمس دقائق, مما إدى إلى انحسار تيار الأغنية الطويلة.