المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغناء الصحراوي جزء من الهوية الوطنية


بلخياطي
30/04/2010, 08h06
أصول وتاريخ يحكيان الإبداع والحكمة


أثار الباحث حفيظ حمدي الشريف في محاضرة ألقاها مؤخرا بقاعة "فرانس فانون" برياض الفتح ضمن فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى الأندلسية والموسيقى العتيقة موضوع الغناء الصحراوي أو ما يعرف بـ "الأياي، ياي" وأسهب في ربطه بالسياق الفني والثقافي وكذا التاريخي والحضاري مؤكدا أنه لم يأخذ حظه من البحث.
في كل مرة كان المحاضر يؤكد أن هذا الفن تراث وفن راق هو جزء من الهوية الوطنية، وكل من يعتبره فلكلورا أجرم في حق هذا التراث. السيد حمدي شريف وهو أستاذ في الانتروبولوجيا وفي الفلسفة ومهتم بالبحث الموسيقي قدم عرضا وافيا لهذا النوع ولرواده، وحتى لأهم الباحثين والمستشرقين، خاصة الفرنسيين ممن أسهبوا في الكتابة من هذا الفن المترجم لثقافة ولتاريخ الجزائر، من جهة أخرى كان يتوقف المحاضر ليؤدي بعض المقاطع الغنائية لهذا النوع بكل تمكّن مرفوقا بعازف حترف على آلة العود.

بلخياطي
30/04/2010, 08h14
بداية، أشار المحاضر الى أن اهتمامه بهذا النوع، جاء كرد فعل طبيعي لما ورثه من محيطه الأسري بل وكل المنطقة التي ترعرع فيها والتي تتذوق هذا الفن، ثم ربط المحاضر هذا الفن بالبداوة، اذ قال أنه نوع بدوي وليس حضري، وتأسف بالمناسبة كون هذا الفن لم يلق الاهتمام اللائق رغم قيمته الكبيرة سواء شعرا اوموسيقى وبقي مهمشا اللهم الا في بعض المناسبات الفلكلورية".

اللغة الشعرية لهذا النوع الغنائي قوية جدا وتكاد تكون لغة أكاديمية حسب المحاضر، كما أنه نوع موسيقي كامل، كما يتميز بالترابط المتلازم بين الشعر واللحن علما أن الشعر فيه هو السيد لكنه لا يظهر دون اللحن والعكس صحيح.

ويرى بعض الباحثين أن نصوص هذا النوع ذات وحدة تامة بين الموسيقى والنص، وتقول احدى قواعد هذا الفن أن»الكلام سلعة والقرجومة تبيعوا«.
إن الأياي ـ ياي" يعكس ايضا حياة البدو وبذلك فهو منتشر في المناطق التي يعيش فيها هؤلاء في رحلتهم بين الشتا ء والصيف، لذلك فهو ينتشر شمالا من المسيلة الى تيارت بما فيها حتى سطيف، وجنوبا من بسكرة حتى البيض

يتضمن الغناء الصحراوي عدة انواع منها»النع البابوري« الذي أبدع مثلا الراحل رحاب الطاهر في الغناء بأصوله، هناك ايضا نوع »البابور« نسبة لجبال تقع شمال بوسعادة وهناك النوع الغربي نسبة لغرب بسكرة.
للإشارة فإن الطابع الصحراوي يشترك مع غيره في الطبوع الجزائرية منها الطابع البدوي الوهراني الذي اشتهر به الشيخ حمادة مثلا، وكذلك الطابع الشاوي مع الجرموني وعلي الخنشلي والسطايفي الذي يعرف بالسراوي (أي الريف اوالبادية).

بلخياطي
30/04/2010, 08h14
تحدث المحاضر ايضا عن حياة الرحالة، هؤلاء الذين لايسكنون مكانا معينا اوقارا بل مساحات واسعة يرتحلون عبرها وبالتالي فإنهم عبر رحلاتهم وتنقلاتهم المستمرة ينشرون فنهم هنا وهناك وأهم ما يميز شعرهم الغنائي النصوص التي تتضمن صور الحنين وهو ما نجده مثلا في شعر الشيخ سماتي الذي قال في احدى قصائده:
"طالت بي هذه الغربة عياني ذا التل ضاقت روحي بيه"
نجدالترحال مكررا في عدة قصائد حتى في رائعة »حيزية« لمحمد بن قيطون، والحقيقة ان الترحال والحنين والغربة مكررة كثيرا في هذا الشعر.
عن الموسيقى قال المحاضر أن موسيقى الطابع الصحراوي ليست ريتيمية الا في بعض الأحيان وفي بعض القطع منها مثلا »قلبي يتفكر عربان رحالة« لخليفي أحمد و» ياراس بنادم« لبارة اعمر و»حيزية« لعبابسة. علما أن أي عصرنة لهذه الموسيقى قد تقتلها وتفرغها من سياقها وهويتها كما حدث مع الراحل عبابسة عندما غنى »حيزية« مع جوق عصري (تابع للاذاعة الوطنية) فإن الأغنية كانت نشازا وفقدت خصوصيتها والعزف كان غير جميل والريتم قوي ولا يتماشى وهذا النوع الصحراي الأصيل غير القابل للعصرنة.
موسيقى هذا النوع لاتنقطع ربما استمدت أصولها من مشاهد الصحراء الضاربة في البعد والقارة التي لاتقطعها أية جبال او تضاريس او غيرها، بمعنى أن الزمن الموسيقي لا ينقطع تماما كما تقول الفلسفة الإغريقية ان الوقت مستغرق في الديمومة والسريان.
عن مضمون نصوص الطابع الصحراوي، فإن اغلبها ذات أصول دينية خاصة في المدح ، كما أنها تصور الحياة البدوية (العمران البدوي) وتستعرض خصوصياتها كالعصبية القبلية، والشجاعة والسيف، والفروسية والكرم والصبر، واللجوء كذلك الى وصف بعض الحيوانات كالحصان، الحمام، الغزال وغيرها وغالبا ما تكون لها ايحاءات غير مباشرة فالغزال يرمز للمرأة، والحصان للشجاعة والحمامة للغربة

بلخياطي
30/04/2010, 08h15
كما يتميز هذا الشعر الملحون بالمزج بين النص المقدس والنص الخاص او العاطفي اي التخفي ببعض صور المدح الديني لأجل الغزل مثلا وذلك لأسباب اجتماعية وهي ميزة تشترك فيها كل النصوص المغاربية.
الآلة الموسيقية الأساسية في الطابع الصحراوي هي »القصبة« وهي تختلف عن »الجواق« أو الناي فهي ذات أصول أعمق تترجم الصوت في مساحة أكثر، وقد اكتفى هذا الطابع من خلال المغني باصطحاب آلة نوع واحدة فقط الى أن جاءت سنة 1930 وأدخلت آلة »قصبة« ثانية وهكذا فقد سميت الأولى بالركيزة« ( تضع ركائز اللحن) والثانية بـ "الرديف" (أي المرافقة) وهذه الأخيرة تركز على أداء نوتة واحدة تردّدها.
قد يعتقد المستمع لهذا الطابع الموسيقي انه نفسه يتكرر دائما الا أن لكل مطرب طريقته المختلفة عن الأخرى فالبارة اعمر يختلف عن خليفي أحمد او درياسة او عبابسة او غيرهم.
من المداحين والقوالين القدامى الذين أدوا هذا الطابع ذكر المحاضر بل?ندوز وبلكرم وغيرهما، أما من المغنيين الذين ظهروا في المرحلة اللاحقة ممن غنوا في هذه المناطق البدوية فنجد اسماعيل، وعمار البوسعادي تم أتت فترة دخل فيها مغنو الصحراوي الى المدينة وانتشروا في كل الجزائر وحتى في الخارج ومن هؤلاء بارة اعمر، رحاب الطاهر، خليفي أحمد ودرياسة والذين سجلت أعمالهم كغيرها من الموسيقى فإن الأغنية الصحراوية تستعين بالاستخبار كمقدمة، كما أن هذه الموسيقى تعرضت لتجارب لإقحام بعض الآلات الغربية لكنها باءت بالفشل ولم تعط نتائج مشجعة فمستحيل أن تعوض »ال?صبة« آلة البيانو او القيتارة وإلا اصبح الأمر مضحكا.
وتنحصر هذه الموسيقى في التعامل مع ربع المقام (ربع الزمن) وتتماشى وطابع الرصد الذي يميز كل الموسيقى العربية، وهناك مقاطع غناها المحاضر قال عنها انها تكاد تكون مشرقية الموسيقى خاصة في الاستخبار كأغنية »الغربة« ( في الخمسينيات) لرحاب الطاهر.
في الأخير أشار المحاضر الى أن هذا الفن اصبح تراثا ثقافيا مشتركا بين الجزائريين ولم يعد حبيس مناطق معينة، ذلك لأنه فن راق يعكس الشخصية والواقع الجزائري بكل حكمة وفلسفة، من جهة أخرى تأسف المحاضر عن حركة الهرج والمرج التي تعيشها الساحة الفنية اليوم متسائلا »هل لنا أن نتوقف قليلا عن الرقص والجري لنتذوق الأجمل والأحلى؟«.