المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قرآءات ودراسات نقدية شاملة


بلقيس الجنابي
10/02/2010, 02h37
هَجِيرُ الشَّكِ

دراسة نقدية شاملة


مقدمة لا بد من ذكرها :
أولاً / الرؤية النقدية وضوابطها :
قبل البدء في عملية النقد أحب أن أوضح مفهوماً صغيراً فيما يتعلق بكلمة النقد ... فقد يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى وخاصة لدى غير المختصين بالدراسات الأدبية أن كلمة النقد تدل على إظهار العيوب والانتقاص من النص فقط وهذا تعريف خاطئ لمعنى كلمة النقد ... فالنقد في معناه اللغوي يدل على إبراز الشئ وإظهاره ثم استعمل اصطلاحاً في الدراسات الأدبية لتوضيح معاني الجمال وإظهار نواحي التميز في العمل الأدبي قبل الإشارة والتنبيه على مواطن الضعف فيه على حد سواء أياً كان نوع ذلك العمل . والعكس صحيح بالنسبة لمواطن الضعف في العمل الأدبي فالنقد الحقيقي يشمل الوجهين فكما يهتم بإظهار الجودة نراه معنياً بإظهار الضعف أو الخطأ إن وجد وهذا لصالح الأديب وكلما كان الناقد بصيراً استطاع بتحليله ودراسته أن يلفت انتباه القارئ إلى مواطن القوة والجمال والإبداع في النص حتى أنه من الممكن للناقد إن كان بصيراً ملماً بأدواته أن يكتشف في القصيدة الكثير من المعاني والأفكار التي لم يكن يقصدها الشاعر وهنا يأتي دور براعة الناقد في الكشف عن الأسرار المكنونة خلف المعاني والصور والكلمات ويجب كذلك على الناقد في كلا الحالتين أن يلتزم برؤية موضوعية عادلة للعمل الأدبي بعيدة عن أهواء ذاته ... ومثال ذلك إن وجد الناقد نصاً شعرياً يمدح زيداً من الناس وكان الناقد لايحب زيداً ذاك فيجب أن لايسمح لعاطفته وأهوائه بالانتقاص من جودة النص المطروح لمجرد عدم محبته للممدوح والعكس صحيح , فيجب على الناقد أولاً وأخيراً أن لاينظر إلا إلى النواحي الأدبية والنفسية والصور الفريدة والروح الشاعرة وما إلى ذلك من أدوات النقد البناء الملتزم وأن يتعامل مع النص على أنه مجرد تجربة أدبية أو دفقة شعورية تضوَّعت من سواه ...
وبرأيي أن النقد والتذوق لا يقفان عند هذا المعيار فحسب ولكن يتوجب على الفذ من النقاد إذا ما أراد إظهار بعض العيوب أو السقطات في النص يجب عليه أن لا يفجأ القارئ أو الأديب بالانتقادات اللاذعة الساخرة الشائكة بل يتوجب عليه أن يغلف قوله ويكسوه بالمجملات البديعية ويبتعد عن الزوايا الحادة ما أمكن له ذلك لئلا يكون نقده هداماً للأديب ! أما رأيت حبة الدواء المر وقد كساها صانعُها بالطعم اللذيذ ليسهل ابتلاعها !
وأياً كان هذا النقد فهو أليم على النفس ولا يقبله الكثير من الناس لأنه كالنصيحة والنصيحة في اللغة هي جلد الإبل لتفرقة السليم منها عن المعيب لذلك وجب التنبيه لئلا يقع النقاد في ما لا تحمد عقباه مما يسبب النفور للأديب فيدع الكتابة والتأليف للأبد وهذا ظلم بحقه كبير ! مع مراعاة عدم التغاضي والتجاوز عن الأخطاء إن وجدت في النص لأن ذلك التجاوز يعتبر أيضاً ظلماً غير مباشر للأديب لأنك إن لم تبين له أخطاءه فسيستمر في ذلك الخطأ ويشب عليه وبذلك يكون الناقد قد ظلمه من حيث يحسب أنه أفاده ! وهذا معيار دقيق للغاية وبرأيي أنه لا يُدرّس في الكليات والمعاهد بل يتأتى من التمرس والمران ومقالتي هذه بمثابة نقد للنقاد بغية التجويد والاحتراس في أداء العمل النقدي وقبل الختام أحب أن أعطي مثالاً آخراً لمصطلح يستعمله البعض استعمالاً خاطئاً وهو قريب من موضوعنا هذا وهو كلمة العاطفة .. فالعاطفة هي جميع الانفعالات الصادرة عن النفس وليست المحبة والشوق وما إلى ذلك من العواطف الرقيقة فقط بل هي كلمة شاملة لشتى العواطف فالحب عاطفة والكره عاطفة والشوق عاطفة والبغض عاطفة وهكذا لأن كل تلك العواطف ناتجة عن انفعالات عديدة مختلفة في النفس البشرية .....
ثانياً / القصيدة :

حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
شَرِبْتُ هواكَ كاسـاً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
يقينـي أنَّ وعـدَكَ لـي وفاءٌ سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس ِ
وبُعْدُكَ مُوْرِثٌ عنــدي اكتئاباً وملقاكَ الجميلُ كيوم ِعُرْسي
وحبُّـكَ مالىءٌ نفســي فخاراً بهِ بيـنَ الأنـامِ رفعْتُ رأسي
وزهــرُ الحبِّ أينعَ في حياتي أراهُ سَنَـىً فيبعثُ فـيَّ أُنسي
إذا ما الناسُ قالوا فيـكَ إفْـكاً أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَ نفسي
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنت عمـري ستبقَى أنتَ بدري أنتَ شمسي
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
ولنْ أنساكَ بل تبقَى حُضُـوراً كما أبغي وهَمّي ليسَ يُنسِي
قريبٌ أنتَ من نفسـي ستبقَى فلا يُقْصِيكَ عنّي غيرُ رَمْسي

ثالثاً / موضوع القصيدة :
جاءت هذه القصيدة الرائعة في باب الغزل وهذا النوع من الموضوعات الشعرية تعتبر من أرق الأنواع وأصعبها في نفس الوقت لأنه يتدفق من القلب مع وجود ضوابط عديدة لهذا التدفق والنقطة التي تُحسب للشاعرة أنها استطاعت وهي الأنثى من طرح الصورة الغزلية بإبداع وجرأة وإجلال بعيداً عن الصور الحسية أو الألفاظ المستهجنة الجسدية لهذا الموضوع فكيف استطاعت الإتيان بذلك ؟ إنه الإعجاز بحق وهذا يدل على أن شاعرتنا المقتدرة كانت حتى في انسجامها وذوبانها في حالة التأليف الروحي الشعري كانت تسير وفق منهج محدد مقيد منضبط لديها تبعاً لفطرتها السليمة فلم تغالي أو تُسِفّ في نداءاتها للمحبوب بل سمت فتألقت وعلت فأبدعت في الأوصاف والنداءات لذلك المحبوب .
كما أنه هنا لابد لنا من الإشارة أننا في المجتمع الشرقي نتحفظ في مثل تلك الموضوعات لأننا بمزيد من التخلف ( أعتذرعن اللفظة ولكنها الواقع ) لازلنا نعتقد أنه لايجوز للمرأة أن تعلو بصوتها معبرة عن عواطفها بالرغم من أن ذلك هو أبسط حقوقها في حرية التعبير عما تحب وتكره ولكن مثل هذه المعتقدات برأيي هي سقطات موروثة في التفكير لدى عقول بعض الرجال الذين يحبون الحجر على المرأة بكافة حقوقها من حب وكراهية وما إلى ذلك ... فإن صرحت المرأة بالحب قلنا إنها متجرأة وإن أحجمت عن إبداء عواطفها قلنا إنها جامدة غير متفاعلة مع الآخرين وإن آثرت السكوت (مسكينة) قلنا إنها غير اجتماعية فما العمل عندنا نحن يا أيها الرجال ؟؟؟؟؟؟ إنه والله لمن الظلم والاستبداد قمع صوت المرأة إن كان ملتزماً بالآداب العامة أو كان متصلاً بحقوقها ورؤيتها الفردية وهذا من أبسط حقوقها المغصوبة لدى الكثير من بني جلدتنا .
رابعاً / بناء النص :
نحن أمام نص أدبي رائع سامق لأنه عمل شعري مقفى موزون ومن المتعارف عليه أن الشعر يعتبر من أعلى مراتب تصنيف الأعمال الأدبية لأنه يخضع لعدة قواعد في الشكل والمضمون لابد منها كالوزن والقافية ومن هنا اتخذ الشعر سمو المكانة بين جملة الأعمال الأدبية ... وقد جاءت قصيدة الأستاذة بلقيس على بحر الوافر ذلك البحر الفياض الهادر لما يحمل معه من المعاني السهلة الممتنعة في ذات الوقت وهذا أول مايلفت نظرنا في هذه القصيدة .. وقد حاول علماء اللغة قديماً تصنيف بحور الشعر حسب الأغراض الشعرية فاختاروا مثلاً بحر الوافر للحماس وبحر الرمل للغزل وبحر الطويل للفخر وهكذا .. ولكنهم عند التطبيق والدراسة والمقارنة بدا لهم عدم صحة هذه النظرية فمن غير الممكن أن يعد الشاعر مسبقاً بحر قصيدته ويحدد وزنها ثم يقول سأكتب قصيدتي الغزلية هذه على بحر كذا ... لأن من يحدد ليس بشاعر مطبوع بل هو شاعر متكلف مصنوع !
خامساً / القافية :
تميزت هذه القصيدة بحرف السين وربما كانت الشاعرة المتألقة بلقيس قد تعمدت ذلك لما في هذا الحرف من تأثير يشبه السحر عند سماعه وما يبثه في نفس السامع من جرس موسيقي آسر يتدسدس منسكباً في النفس عندما يسارر الأسماع !
كما أن هناك ملاحظة أخرى بالنسبة للقافية السينية فهذه القصيدة كما قلنا سينية أي أن حرفها الأخير هو حرف السين وهو مايسميه العروضيون بالرويّ أما الحرف الذي يسبق حرف الرويّ فيسمى الرِّدْف وللتوضيح :

حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي

فحرف الرِّدْف في البيت السابق الميم في كلمة أمسي
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الراء في كلمة غرس
شَرِبْتُ هواكَ كاساً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الألف في كلمة كأسي
يقينـي أنَّ وعدَكَ لـي وفاءٌ سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس ِ
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الدال في كلمة حدسي
ومعذرة على الإطالة ولكن لابد من التوضيح لإظهار تمكن شاعرتنا من قافيتها وقدرتها على اختيار الألفاظ تبعاً لما تقتضيه قواعد الشعر كذلك أردت التوضيح لكي لايتبادر إلى الذهن أن كل من أتقن الوزن أصبح شاعراً ... وهذا تعقيب على ما ذكرناه سابقاً من تميز الشعر على ما سواه من الألوان الأدبية .
وماذا نريد من ذكر كل تلك المقدمة السابقة ؟ ما نود قوله هو أن هناك قاعدة عروضية متعلقة بحروف القافية وتحديداً في حرف الرِّدْف! وهذه القاعدة باختصار تقول :
أنه لا يتوجب على الشاعر التقيد والالتزام بحرف الرِّدْف كأن يقول : أمسي رمسي لمسي وهكذا بمعنى أن يلتزم حرف الميم في الرِّدْف , وإنما يجوز له أن ينوع أحرف الرِّدْف كما فعلت شاعرتنا المتألقة في قصيدتها وهذا مما يحسب أيضاً للشاعرة من باب التمكن في القوافي والقواعد العروضية فنحن نلاحظ أن جميع حروف الرِّدْف في كل الأبيات مخففة أُمْسي غَرْس كأسي بحَدْس ما عدا بيت واحد :

حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي

جاء حرف الردف في هذا البيت مضعفاً وهذا جائز لأنه بيت واحد من أبيات القصيدة الثلاثة عشر ولكن إذا التزم الشاعر التضعيف أي أن يكون الرِّدْف حرفاً مشدداً في أكثر من بيتين فهنا وجب عليه الالتزام بالتشديد كأن يقول حسّ مسّ جسّ وتكون كامل قصيدته على هذا النحو وإن لم يلتزم فلا يعتبر خطأً وإنما الأصح والأفصح تطبيق القاعدة وهذا مايسميه العروضيون لزوم ما لايلزم ...
سادساً / السهل الممتنع :
عندما يلج القارئ في هذه القصيدة ويقرأ تلك الكلمات الرنانة يتبادر إلى ذهنه أنها سهلة التراكيب بسيطة الألفاظ وأنه بمقدوره الإتيان بمثلها فإذا ما أراد تقليدها ظهر عجزه في محاكاتها وفي تصوري أن هذا هو مناط الإبداع لذلك أستطيع القول أن أسلوب الشاعرة كان أسلوباً بلاغياً يندرج تحت قالب السهل الممتنع فاقرأ معي البساطة والعبقرية في المطلع :

حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي

كلام سهل يفيض رقة وعذوبة وصعوبة في نفس الوقت ... فالشاعرة لم تتكلف التعقيد في الألفاظ أو المعاني إنما جاءت لها الصورة عفو الخاطر وهذا ما نسميه في المقدمة الشعرية ببراعة الاستهلال فعندما يقرأ المتلقي البيت الأول يعرف أن هناك كارثة من العواطف سوف تأتي تباعاً في الأبيات القادمة وما البيت الأول إلا مقدمات لهذا السيل العاطفي الرقراق المنتظر !
سابعاً / التراكيب اللغوية :
من الملاحظ اختيار التناسق في ألفاظ القصيدة بشكل عام فالشاعرة المبدعة قد التزمت بقاموس خاص لها حافظت عليه في كامل القصيدة ونجدها من البراعة بمكان أنها استطاعت أن تطوع الألفاظ ذات النسق الواحد وتوظفها في موضعها لخدمة المعنى المراد كقولها مثلاً :

فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس

وقولها :

فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي

فهناك الكثير من الموازنة والتلاؤم المقصود مابين كلمتي ( خير – غير )
وقولها :

سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس

فكلمة أخامره خطيرة وأنا كشاعر أراها (متعوب عليها والله)
كذلك قولها :

أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَ نفسي

أشك ثم أصدق توظيف رائع للتضاد في اللفظ
كذلك قولها :

يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي

من المحتمل أن يعتقد البعض أن كلمة لي بعد يغني جاءت من باب تكملة الحسبة العروضية أي الوزن الشعري ولكن إذا تجاوزنا هذا المنظور الضيق لما سواه نكتشف أن الشاعرة تعمدت وضع هذه الكلمة لتفيد معنى التفرد لي أنا وحدي فقط وإلا كان من الممكن الإتيان بالكثيرمن المترادفات التي تخدم الوزن فقط ولكنها لاتسمو بالمعنى ولا تفيد الحصر و القصر في الغناء على المحبوب وحده فقط .

كذلك قولها :

وزهــرُ الحبِّ أينعَ في حياتي أراهُ سَنَـىً فيبعثُ فـيَّ أُنسي

بصياغة أخرى توضح الإبداع في تراكيب الألفاظ لخدمة الصورة الشعرية الرائعة : أينع زهر الحب فرأيته كالسنى فبعث الأنس في حياتي ... إبداعات من المحسنات البديعية من الإستعارات والتشبيه والكناية كلها جاءت من دون إعداد وما يؤكد ذلك بساطة التراكيب
كذلك قولها :

أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنت عمـري ستبقَى أنتَ بدري أنتَ شمسي
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي

نلاحظ تكرار كلمة أنت أنت لعدة مرات وهذا التكرار يسمى في دراسة الغرض الشعري التلذذ بذكر الحبيب كقول الشاعر عروة بن حزام :

فويلي على عفراء ويلا كأنــه على النحر والأحشاء حد سنان

على كبدي من حب عفراء قرحة وعيناي من وجـدي بها تكفان
فعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عندي المعرض المتداني

وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني وعفراء يوم الحشــر ملتقيان

ثامناً / القراءة النفسية للقصيدة :
وما أقصده بالقراءة النفسية هو إلقاء بعض الضوء على العاطفة المراقة في هذه القصيدة وإظهار مواطن الإبداع والميزات التي تميز شاعرتنا عن سواها من الشعراء فأول مايظهر لنا من القراءة الأولى للقصيدة هو خصلة العفاف والسمو في المعاني والأفكار كما أننا نلاحظ أنها تركز على الخصال المعنوية أكثر من تركيزها على المصطلحات المادية الملموسة فهي تنتقل بأسلوب فريد من الوفاء إلى اليقين إلى الطموح إلى الفخار إلى السنا إلى الهمس إلى الغرس وهكذا فلا نكاد نلمح صورة جسدية مادية واحدة كأن تقول عيناك وشفتاك إلخ وهذا هو مقياس العفاف المتميز والمتألق في هذه القصيدة ...
فلنسمع قولها هنا :

غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
شَرِبْتُ هواكَ كاسـاً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي

وكأنها تقول انظر إلى منزلتك السامية عندي ( فكان هواك عندي خير غرسي ) ثم تطالبه بعد ذلك بالوفاء ( فلا تشرب بكأس غير كأسي ) لأن الجزاء من نوع العمل .. كذلك التعبير بكلمة شربت هواك وما به من استعارة موفقة تفيد الامتلاء والتشبع بهوى المحبوب بحيث لم يبقَ مكاناً في داخلها لسواه

وكذلك قولها :

وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي

قمة النقاء ممتزجاً بلمحة الصفاء مكتسياً روعة الإباء وكأنها تقول أنت حبيبي تزرع الأمل والطموح في أرجاء نفسي فلا تدع لليأس مجرد فرصة الدنو مني وليس الاقتراب وكم كنت ياشاعرتنا موفقة في استعمالك كلمة يدنو بدل من الاقتراب ...
وكذلك قولها :

حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي

سمو المعنى مطوي في سمو الإحساس فلا يغازل مفاتني الأنثوية بل إحساسي السامي ويبقى أن نقول أن قصيدة شاعرتنا الرائعة بلقيس الجنابي ما هي إلا صورة جديدة أو نموذجاً جديداً من نماذج شعر الحب العذري الذي يسمو عن المتع الجسدية بل يجاوزها إلى التضحية والإيثار وإلى النبل الروحي والسمو الخلقي في سبيل الإبقاء على هذه العاطفة المحتدمة :

قريبٌ أنتَ من نفسي ستبقَى فلا يُقْصِيكَ عنّي غيرُ رَمْسي

وهناك الكثير والمزيد والفريد من الدراسات النقدية ولكن نكتفي بهذا القدر من النقد خشية الملل على القارئ الكريم ... وإلا فالقصيدة ثرة نضاحة بالعبق والنفائس وينطبق عليها ما قاله الشاعر :

يزيدك وجهها حسناً
إذا ما زدته نظرا
كما لايفوتني التنويه عن أن ماحملته هذه القصيدة من رقة الألفاظ وسلاسة المعاني وتفرد الصور كان له أكبر الأثر في تسهيل عملية تلحينها وتأثيرها بالمتذوقين .. فهي قصيدة موشاة بالمقامات اللحنية مرصعة بالأوتار الأدبية وما كان لينقصها سوى ريشة المبدع العظيم موسيقارنا الزولي ليحرك أوتارها ويعانقها بريشته العطشى ليخرج لنا لحناً رائعاً عبقرياً من ألحان الخلود

وفي الختام دمت لنا شاعرتنا بلقيس أستاذة متمكنة البناء جزلة العطاء ودام قصيدك آسياً جراح قلوبنا ودافعاً بنا الأمل حتى نعرف معنى العشق من جديد بمفهوم مختلف !

بلقيس الجنابي
10/02/2010, 02h43
دراسة نقدية شاملة

الشاعر كمال عبد الرحمن - (سمعجي)


في حضرة شاعرتنا بلقيس الجنابي ،
يتوجبُ الإلتباس بحالة ( الوعى الإبداعي ) ،


فكائِناتها الصوتية و التراكيبية و الدلالية ،،
تتلاحمُ في نسيج ٍ مُحكمٍ كجذع ِ شجرة ،،
يراهُ المُحَللُِ لواحدةٍ من دُرَرِها الإبداعية ،
جَلِيـَّاً ،،
أما وارف الأغصانِ ، و عبقرية الشجون ،
و لذيذ الثمارِ ،، فللمتلقي و الرائي معاً ،،



القصيدة ، حين تشترك ( بحراً و قافية ًً ) مع أخرى ، تشبه ارتداء نفس ألوان و موديل و مقاسات ثوب بعينه
غير أن الإختلاف يكون في جوهر (الذات ) التي ترتدي الثوب ،،
و التي قد تذهبُ ( معانيها ) بعيداً عن النص ( السابق )


أليست القصيدة على نفس وزن و قافية مرثية الخنساء الشهيرة لأخيها صخر :

يؤرقني التــذكـــر حين أمسـي ،،، فأصبــح قــد بليت بفــرط نكــــس ِ
علــى صخروأي فتى كصـخرٍ ،،، ليــوم كـــريهــة ، وطعــان حلــس ِ
وللخصــم الألـــــدِّ اذاتعَـــــدى ،،، ليــأخــذ حــق مظــلــوم ٍبــقــنـــس ِ
فلــم أر مثلـــه رزءاًلجـــــنٍ ،،، ولــــم أرَ مثــلــه رزءا لأنــــــــس ِ

ألا تستدعي إلى ذاكرتنا ، رائعة نزار ( طائشة الضفائر ) و هي كذلك على نفس البحر ( الوافر ) ، و نفس القافية ( سينيّة ) :

تقولين : الهـوى شـيءٌ جميـل ٌ،،، ألم تقـرأ قـديماً شـِعرَ قيــــس ِ
أجئتِ الآن .. تصطنعـين حبـاً،،، أحس به المسـاء .. ولم تحـسي
أطائشـة الضفائر .. غـادرينى،،، فمـا أنا عبـدُ سيــــــدة وكـأسِ
لقد أخـطأت .. حين ظننـت أني أبيعرجولتي .. وأُضيـع رأسـي
فأكــبر من جمـالك كـبريائيوأعنف من لظى شفتيـكِ، بأســي


غير أن بلقيس ، استعارت ثوب ( ثورة الشك ) مع سبق الإصرار ،،

أكادُ أَشُـكُّفي نَفسِيلأنِّي
أَكادُ أَشُكُّ فيكَ وأَنتَ مِنِّي
يَقولُ الناسُ إنكَ خِنتَ عَهْدِي
وَلم تحْفظ هَوَايَ وَلَم تصُنِّي
وَأنتَ مُنايَ أَجْمَعُهَا مَشَتْ بي
إلَيكَ خُطى الشبابِ المُطمَئِنِّ
وَقَدْ كادَ الشبَابُ لغَيْرِ عَوْدٍ
يُوَلـِّي عَنْ فتىً في غَيرِ أمْنِ


و لكنها ـ خالفت المعنى ،،
فنحن هنا بصدد ( معارضة ) لقصيدة ( ثورة الشك ) ،
نفس الوزن ، نفس القافية ، بالإضافةِ إلى وشائج المعنى ، و الذي تناولته بلقيس بطريقة مغايرة ،،


فهى هنا تثق بالحبيب ثقة لا مزعزعَ لها ، بعكس ( ثورة الشك ) :

يقينـي أنَّ وعدَكَ لـيوفاءٌ
سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْسِ


إذا ما الناسُ قالوا فيـكَإفْكاً
أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَنفسي


هناك ، شكٌ حاضرٌ ، و صراعٌ يتراوح بين الريبة و التخوفِ الشقاء ، و هنا ، يقينٌ لا يدعُ للشكِ مجالاً ، و لا يفتكُ بالعاشق

***

القصيدة مغزولة بمهارة و حِرفية ،،
و لنتأمل هذه الثنائية الصوتية في بعض الأبيات ،،
و التي قد لايفطن المتلقي إليها ، و لكنه لا يعدم مذاقها الموسيقي ،،
فالشاعرة ( بقصدية أو بلا قصدية ) ،، تراوِحُ صدى صوتٍ موسيقي في البيت الواحد ،، فيستلفتنا ما يشبه ( القرار و الجواب ) بترديد بنية اللفظ مرتين :

أَمسـي ،،، أُمســي
غرستُ ،، غرسي
كاســـاً ،، كأســـي
أنســـاكَ ،، يُنســي

و لو لاحظنا بقية الأبيات ،، سنجد هذا التجانس اللفظي بدرجة أو أخرى ،،

تلك الزركشات الصوتية ، التي توَشي هذا البحر الرشيق ( الوافر ) ،،
و هذا الحضور ( الخفي القاتم ) لثورة الشك الكابية المنكسرة المستريبة ، يجعلُ من قصيدةِ عبد الله الفيصل ، ظِلاً لقصيدة بلقيس ، المُشرِقة ، المبتهجة ،
( الضد يظهر حسنه الضد )

أليس حُبها أكثر رسوخاً ،،
حين يكون المعشوق ، فوق مرتبة الشك !

ألم يقفز المعنى خطوة إلى الأمام ،
متجاوزاً الحيرةَ و الظن و الريبة !

المعاني في ثورة الشك ،
أكثر رصانة ً و أقوى تركيباً و أعمق انفعالاً ،،

لكننا هنا ،
بصدد حالة نفسية مغايرة ،،
تشيعُ جَوّاً مشرقاً متفائِلاً ،
تتقافز كفراشةٍ ،،
و تشبه رقصة ثنائية بين حبيبين ،
أو بين قصيدة و قاريء ،
لا يعوقها حائل ( غموضي ) أو التباس ( رمزي ) يُحَجّم من متعة الرقصة !

***

يسهل ملاحظة العاطفية الغنائية ،،
و تغلب النزعة الوجدانية الذاتية ،
في ( هجير الشك ) ،،


و الشكل في القصيدة ،
غالبٌ على المضمون ،
حتى أن المضمونَ مائِدٌ في الشكلِ ،،
لا نكاد نتحسسه ،
إلا و تنثال في أنامِلنا غنائية رقراقة

حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْرٍ
يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّحِسِّي



أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنتعمري
ستبقَى أنتَ بدري أنتَشمسي



و نلاحظ فطرة أنثوية ، ربما تميز الأدب النسائي ، تمنحُ الصوتَ الشِعريَّ زخماً
و وَشِيَّاً و زركشة ً ،، فالمرأة تهتم بالتفاصيل ،، و تتفوق على الرجل بحسِها ( السيمتري ) :

شَرِبْتُ هواكَ كاساً من رحيقِ
فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِكأسي


هذه الكؤوس الثلاثة التي توزعت ألفاظاً ،، هي كأسٌ واحدٌ ( مَعنىً )


***


القصيدة العمودية ،
حين يستتب هيكلها الشكلي ،،
و تدخل في طور التنامي ،،
يسهل ملء فراغاتِها بألفاظٍ
( إن لم تكن دقيقة ً بما يناسب المعنى ) ،
فهى على أقل تقدير ، لن تكون
( ناتِئة ً أو شاذة ) ،،
لأنها تتماهى مع سلطة الشكل ،
و هو ما نلمحه في قصيدتنا هذه ،،

فكلمات مثل
( مورث ،، اكتئاباً ، فخاراً ، الجميل ،، ) و غيرِها ، كان يمكن توشية القصيدة بغيرها ،
دون أن يختل المعنى ،
بل يمكن استشعار أن شاعرتنا ،
فضـَّلتَ رصدَ إلهامِها المُنساب ،
و تسجيله كما هو ، دون أن تتدخلَ تدخلاً
( حِرَفِيّاً ) ،
تدقق خلاله في الألفاظ

و حتى أقرب المعنى ،،
فالنهر حين يجري ،،
فإن ما تلقيه فوق مجراه ،،
سيأخذ نفس الإتجاه ،،
غصنَ شجرةٍ كان ، أو صندوقاً خشبياً

و نهرُ القصيدة حين يجري ،،

يحتملُ إبحارَ المراكب الكبيرة و الصغيرة !

و نهرُ بلقيس الجنابي حين يجري ،،
يسلبنا بإبداعِهِ و سِحرِه
فنستسلمُ لمجراهُ

( الحاضرة الغائبة ) ثورة الشك ،، بحضورها التاريخي في ذهن المتلقي ، كان لا بد أن تمتصَ قدراً من حضور نصنا هذا ( آلية المقارنةالذهنية )

ـ القصيدة ( سينية ) بامتياز ،، و هنا ، لا أقصدُ القافية فحسب ،،
فالقصيدة متخمة بتجليات حرف السين داخل الأبيات ،، و وقعه الحاد اللافت للسمع

ـ الإسراف في ( واو ) العطف ، في أول الشطرات ( ست مرات ) ، يَحُدُّ من تحرر بنية الجملة ، و لا يطلق العنان للخيال ، أو تجاوز بؤرة شعورية بعينِها ، و خاصة أن استخدامها هنا ، كان عطفاً لجملةٍ على جُملة

ـ القصيدة ، لا تعرض تشكيلات لغوية معقدة ،، أو تتسم بغموض إيحائي ،، بل بدت الزخرفات البلاغية ، هي العنصر السائد ،
و لعل تلك القصيدة ، هي أقل قصائد بلقيس الجنابي تأويلاً

و إذا كان مُتـلقو الشِعر ، في حالة انقراضٍ مًطـَّرِد ،، فمثل هذه ( الوجدانية الغنائية ) برومانسيتِها ،، و زخرفاتِها البلاغية ،، تـَرُدُّ الأنفاسَ الطازجة ، إلى حديقة الشِعر المَنسيّة ،،،،

لعل فضاءاتِها ( هجير الشك ) طـُرِقت ،، لكنها ما تزال حُبلى بالنجوم

تحياتي و تقديري لشاعرتنا الكبيرة بلقيس

بلقيس الجنابي
11/02/2010, 02h58
الخطاب الشعري الوطني ونوستالجيا الأنا

الخطاب الشعري الوطني ونوستالجيا الأنا في "يا دار هدله بالشتات ألا الطـُمي" للشاعرة العراقية الكبيرة بلقيس الجنابي


بقلم/ د. عبد الله حسين كراز

كثير هم من انشغلوا في واشتغلوا على هموم الوطن وشؤونه وآلامه وأوجاعه ومصائبه كما وتطلعاته وأحلامه وأشجانه وما بين الأسى والحزن واليأس والإحباط وبين الحالة المتشظيه في المشاعر والأحاسيس والتطلعات تكمن أسرار البقاء والبحث عن المكان في جوف الأزمنة كلها بطريقة الكتابة بدم القلب وحبر السنين وماء البحر وعذب النهر وطين الشوارع ورمل الشواطئ ونخيل الأرض، رسماً تحمله المآقي والترائب والأفئدة التي حملت رحم المعاناة التي جسدها الجلادون وذوو القلوب المتحجرة والظلاميون والمنافقون والأفاقون والمرتزقة وما انفكوا يطاردون أحلام الماجدين والماجدات من أبناء الأوطان التي تحلم بشمس الحرية والانعتاق من أغلال المحتل والاستعمار والغزاة والطامعين بخيرات البحر والنهر والسماء والأرض والبر وناسها الطيبين.
شعراء وشاعرات تأبطوا/ن الهموم كلها في وجع متواصل ومتفاعل وحميمي، كتبوا/ن بالدم وحبر اللحم ما انشقت عنه صدورهم/ن وأقلامهم/ن رغم كيد الكائدين والخائبين والمتوجسين من ثورة الحق حين تأتيهم من فوق الهام ومن تحت أرجلهم وعن شمائلهم وعن يمينهم، تكون كالطلقات التي تحمل ثورة وحجارة من سجيل تدك مضاجعهم ومنابت مفاسدهم وتدافع عن كرامة الوطن والمواطن، وعن تاريخهم وتراثهم وحضارتهم وعقيدتهم وأصالتهم، ترفض التبعية والانقياد والارتباط مع المحتل والغاصب والعدو وتتحدى كل مظاهر التغيير والإحلال والتهميش والتغريب والتشويه.
هنا نص يعبر في ثنايا حروفه وصوره ومعادلاته الموضوعية وتعبيراته الفنية واستحضاراته التاريخية والتراثية والأسطورية عن ثورة الإنسان والوطن ضد الظلم والطغاة ممن يحولون تغيير أسماء الحارات والشوارع والمساجد والمدارس والجامعات، وتهجين اللغة وتشويه التاريخ وضرب الأمة بالأمة من أجل أن يتسيد ويفرض سطوته وإرادته وعنجهيته وأجندته على المحتل (الرازح تحت بطش الاحتلال وعملائه).
تحرص الشاعرة أن توظف مفرداتها بعناية وسلاسة حتى يكون أثر التلقي أكبر، وفي مفتتح النص تبادر لطرح سؤالها المؤرق والباعث على الصدمة والتمني معاً، إذ لا بد أن يرحل العدوان الذي جثم على قلب أرض وطنها وعاث فيها فوضى وفساداً وتسبب في كوارث إنسانية وطبيعية، وما يدهش القارئ هنا هو اللفظتان "الجيثوم" الذي تلبد بالأرض الخضراء والطبيعية مسبباً فيها وبين ناسها الكوابيس الجاثمة على صدورهم وفي قلوبهم:

هل غادر الجيثوم والجثام

ومن تلك اللحظة الشعورية والحسية النابضة بالحس الوطني والانتماء للأصل تتمنى الشاعرة أن تتم إبادة الظلم ومن تسببوا فيه وأن ينمحي الإجرام الذي خلف القتل والدمار وترك الأرامل والأرض جرداء ومحترقة:

وأبيـد ظلم وأمحى إجرام

وتبدو الصورة الفنية هنا في تجسيد المعنوي (الظلم والإجرام) كي يحرك مشاعر القارئ الذي يتماهى مع الصوت الوطني الناهض من تلافيف النص بما حوى.
ثم تتواصل أصوات الأماني من داخل الباطن الشاعرة والباحثة عن حلول تعيد للأرض مجدها وخضرتها وتاريخها وعنفوان شبابها بالتحرر من نير الظلم ومسببيه، وما استحضار الأرض مباشرةً هنا إلا دليلاً على قول الحقيقة أن الأرض وناسها بكل طبقاتهم، ولا استكبار في ذلك، ترفض المحتل الغاشم والناهب لخيرات الأرض التي توشحت بالسواد، وهي صورة تثير الإحساس بالثورة على الغاصب الظالم والظلامي، وهذا يدل قطعياً على شعور الذات الشاعرة بحميمة الحنين إلى وطن الأجداد والآباء والشهداء والحضارة والتاريخ، ويوحي بصوت نهضوي ثوري تحرري ضد الكولونيالية الجديدة التي استباحت الأرض والعرض والشجر والحجر والبشر:

وتحررت أرض السواد

وما نلمسه هنا أيضاً هو نبرة التهكم والسخرية في وجود "عدل وأمن زائد وسلام" وهذا ما دمره الاحتلال وعملاؤه، مثله في ذلك مثل أي احتلال يجثم على أي أرض يعيث فيها فساداً وخراباً ودماراً ومحواً للهوية التاريخية والحضارية للأرض التي يغتصبها من أصحابها الأصليين، بحيث تكون هذه التورية المجازية صريحة في قول عكس ما تخبؤه المفردات وهو لعب ماهر بالكلمات التي توجع القارئ عندما يدرك أن الأمر عكس ما يبوح به النص:
وإخوة وسكينة وتضامن
ومحبة ومودة ووئام

وتصل قمة السخرية المنطوية على أمنية وحلم لا بد يتحقق عندما تستحضر الشاعرة رمزاً معادلاً موضوعياً أسطورياً تاريخياً يكفي لوحده أن يقول كل شئ حول تجربة الشاعرة وما يفتعل في باطنها، متمثلاً في "أوروك":

واستبشرت أوروك

لنعلم من كتب التاريخ أنها مدينة عراقية عريقة تحمل عبق الحضارة والتاريخ والتراث والانتماء والحب والتوحد مع الأرض والناس، ولها أسماء أخرى مثل أورك و أرك اشتهرت بصناعة الفخار رمز الالتصاق بالأرض وطينها. وهذا يدل بوضوح حرص الشاعرة أن تذكر قارئها بأمجاد أمتها وتاريخها وحضارتها، وتدل لدلالة قاطعةً على حميمية الانتماء والولاء لله ثم للوطن الذي أنجب الخير الكثير لأهله وأطفاله ورجاله ونسائه:
وما بين الكلمات والكلمات تتحرك لغة الشاعرة تعبر عن الدفين من النوايا والرغبات والأحلام في أن "أوروك" قد استبشرت:

بالخير وازدهرت بها الأيام
واستقبلت أعيادها وتماثلت

لشفائها وتلاشت الأورام
وتحققت أحلامها وتبددت

وتعبر الشاعرة عن أحد أهم قضايا أمتها إلا وهي الوحدة والتوحد والتضامن والتلاحم بين كافة شرائح المجتمع، ولكن السواد الأعظم من المعنى يذهب منحى التحسر والتألم والرثاء على الأيام الخوالي حين كان كل ما جاء به النص فاعلاً ومتسيداً للقاصي والداني، فالشاعرة تعبر عن مكنون أحلامها، وتأخذنا للماضي القريب تستحضر منه صورها وثيماتها وفكرتها وأحاسيسها وتسترجع بنا كل مظاهر الحياة قبل أن تقتل الحياة، فالأمنية المتوحدة والمتسيدة هنا هي أن ترى الشاعرة ومعها طبقات كبيرة من ناسها وشعبها أن:

وشائج القربى تسامت بالرؤى
وعلى الصفاء تواصت الأرحام


ثم تطرح سؤالاً تهكمياً وساخراً، بعد أن تذوب "أناها" الشخصية في "الأنا الجمعية" الوطنية التي ما زالت تقبع في مآسي الاحتلال والجاثمين على أرض عراقها عنوة وظلماً وعدواناً، وبعد أن تكون قد توحدت مع رموز أسطورية من عبق التاريخ والحضارة والتراث:

هل آمن الآتي المحرر أهلها
من نفسه أو حطمت أصنام


ثم تعيد تكرار ذكر "أوروك" بما تحمله من دلالات عميقة ومتسعة في أفقها الوطني والتاريخي، وبالسؤال ذاته المثير للسخرية والمفاجأة، حيث لفظة "العظيم" جاورت "أوروك"، لتدل على بقاء الانتماء العظيم والقوي للوطن الأم رغم كل محاولات طمس هويته الحقيقية وتراثياته ومعالم الوجود الأصيل على أرضه:
هل حال أوروك العظيم تمام

ثم يتحول الخطاب بزاوية لا تبتعد عن بؤرة الزوايا السابقة من البوح النصي والسياقي، حين تصف العراق كله ضحية تعاني الأمرين من محتليه وسارقيه وظالميه، هنا البكاء ليس حسرةً ولا تحسراً ولا استسلاماً ولا محض يأس، بل صوت يعلو ولا يعلى عليه، خاصةً وأن الشاعرة تستحضر من عبق التراث والتاريخ الوطني رمزاً أسطورياً يشكل معادلاً موضوعياً للأنا الشاعرة تتمثل في شخصية "حذام" :

نبكي العراق كما بكته حذام

وكما يخبرنا التاريخ ان "حذام" امرأة عاشت وتسيدت في الجاهلية وكانت مثالاً صاعقاً ومدهشاً في حدة البصر وصدق الخبر لدرجة أن شاعراً قال فيها:
إذا قالت حذام فصدقوها ::: فأن القول ما قالت حذام
وقالوا فيها أيضاً "أبصر من حذام،" وحذام-الشاعرة هي تتماهى وتتداخل في صفاتها مع زرقاء اليمامة ، ولقول التاريخ حتى يستقيم المعنى والمغزى والدلالات، أن ما أشهر "حذام" قصتها حين بيّت جيشٌ من أعداءِ قبيلة حذام النية على مهاجمتهم بالخيل والإبل، وأرادوا التمويه على القبيلة فاستخدموا أفرع الشجر حاملينها، وقد أبصرتهم حُذام فأسرعت تُحَذِر القوم فجافوها والنتيجة الهزيمة الحتمية لعدم تصديقهم كلامها.
وفي خضم هذا البوح الشعوري الشاعري الذي يجسد ملامح المشاعر المشتعلة حباً وولعاً وهياماً بالوطن وترابه ونهره وجوّه، وهو ما يدل على أداء جيد في تنفيس الطاقة الشعورية الوطنية والمنطوية على نوستالجيا متفاعلة تلهمها الذات الشاعرة للنص في صورة حنين متأجج ومعذب للوطن ومدنه وقراه، وكما يبوح النص مراراً بصيغة الأنا إلا أنها الأنا الجمعية التي تتكلم باسم كل أبناء الوطن ممن اكتووا بنار الظلم والطغيان والقهر والعذابات والموت، ولذا:

نبكي العراق مآثرا ومفاخرا

لأن أعداء العراق – من الروم والأعجام - ممن تجرأوا على اغتيال طقوسه الساحرة الآتية من عبق التراث والتاريخ والعقيدة والحضارة والعالمية "قد شوهوه." وهو ما لا تنساه الشاعرة لترسمه بأحرف من ماء دمها الذي خضب كل بقعة وبؤرة في بر الوطن وشجره ونهره وجوّه!
وكأن البكاء الصاعد بدموعه من باطن الشعب المغلوب على أمره والرازح تحت نير الاحتلال وبطش عملائه يمثل حال قصوى للدفاع عن تأزم الأنا الإنسانية التي لونها الانتماء بالدم وحده.
ولا تنسى الشاعرة أن تستحضر قامة بطولية وفارسة كتبت في سفر التاريخ تاريخاً وحضارةً ونديةً وبطولةً وصمود في وجه البغاة الطغاة من "الروم والعجم:"

قد غاب عنه الفارس الضرغام

لذا يبقى فعل البكاء علامة فارقة في علاقة الشاعرة بالحاضر مما اعترى العراق الوطن المجروح المكبوت والسليب:
نبكي العراق وقد غدا من بعده

وتنتقل بنا الشاعرة في خضم بوحها المتصاعد والمتسع إلى "دار هدله" بكل ما تنطوي عليها الصورة هنا ودلالاتها الوطنية والقومية والتاريخية والأسطورية، وبما يعمق من حالة النوستالجيا المتأججة في دم الشاعرة ومن يتماهى معها ويتوحد في همها وإرثها من المشاعر الفياضة بخصيب الانتماء والولاء للوطن ولا شئ غير الوطن:

يا دار هدله بالشتات ألا الطـُمي


وهنا لابد من التنويه المعلوماتي لرمز "هدله" كمعادل موضوعي تتماهى معه وفيه الشاعرة كي تبوح اللحظة الشعورية والشاعرية بكل ما يعتمل في خبايا الأنا الوطنية والتي يلتهب القلب فيها بمشاعر الوطن وناسه الطيبين الشرفاء والضحايا، ففي "هدله"، التي في طيف العراق وطقوسه وجغرافيته، كما تذكر القصص هبط آدم "عليه السلام" وحواء ... وقد يكون هذا سبب حب حواء العراق والإنسانة "هدله" لبلدها أكثر من باقي نساء العالم بجمعه.. وارتباطها الروحي والتاريخي والأسطوري به... فالعراق بيتها الأوحد والأول وقبلتها المجيدة رغم أنف الحاقدين والكارهين والمغتصبين لكل كينونتها، وحديقتها الغنّاء وإن يبست أغصان الشجر فيها ذات مرحلة تتألم فيه مع ناسها.

ثم تتواصل الشاعرة مع العراق "الرفات" لتمنحه من دمها الوصية الخالدة والانتماء العقدي والروحي والمقدس: إن الهديل على الرفات حرام

و تخاطب الشاعرة "هدله" بما تحمله من متاع الخصب والديمومة والمقاومة والتاريخ والصمود والتحدي، فتقول شامخةً وبصوت شاعري محموم وحميمي:

يا دار هدله بالنواة ألا ارجمي
عقمت نخيلك أجهضت أكمام


وبعد أن تفضح الشاعرة زيف المحتل وعملائه وكذب الخائنين والخائبين تصر أن تقول ما لديها مباشرة بدون تكلف أو غموض أو إبهام، لتخاطب ذاتها في "هدله:"

يا دار هدله بالرماد تزيني
ناديت هدله والعراق مناحة
ودموع دجلة والفرات سجام


وفي هذا كله دعوة صريحة لرفض الظلم وصناعه وتجاره، رفضاً لمزيد ذبح بالوطن وتقسيمه إرباً تتشظى، وكأنها تحلم بفارس مغوار يـأتي من عبق التاريخ ومن رحم الأرض كي يخلصها وناسها من دنس المحتل والغاصب والمرتزق ويطهرها من جرحها النازف عبر الزمان وفي المكان الذي يولد فيه الرجال الرجال.

اشتغل النص على لغة شاعرة ومجازية إلى حد كبير واستحضر من رحم التاريخ صوراً أسطورية لأمكنة ملأت التاريخ حضارة وعمارةً وفناً، ولشخوص كبيرة سمت في سماء العراق الوطن ورسمت معالم حضارته وتاريخه منيعاً على المحتل وزمرته الحاقدة. وجسدت تراكيبه لوحة الخطاب الشعري الوطني ونوستالجيا الأنا في النص الذي ترجم مشاعر الأنا الوطنية والإنسانية بكل ما تحمله من جراحات وعذابات وحنين ومشاعر تفيض بالألم والأمل.

بلقيس الجنابي
11/02/2010, 03h17
عبق الشعر في وصف النفيس: قراءة في عالم الشاعرية في "من ربة الشعر"

عبق الشعر في وصف النفيس: قراءة في عالم الشاعرية في


"مِنْ ربّةِ الشعر" للشاعرة العراقية

بلقيس الجنابي




من منا لا يحب الشعر وحروفه وثورته الباطنية في العقل والقلب، ما دام ينهض من رحم تجربة أو رؤية تشتعل فيها الأفكار والأحاسيس والمشاعر التي ترتسم بألوان تستمدها القصيدة من عبقرية الذات الشاعرة ووعيها وقدرتها على الكتابة والتعبير والبناء والتشكيل كي تبلغ رسالة النص ويتوحد مع قناعه/ذاته الشاعرة/صوته المتسيد القراء والمتلقين والمستمعين من مستويات متعددة ومتباينة في همومها وأحلامها وأمانيها.
هنا النص ينطق بالعديد من بؤر الشعور والشاعرية ويستنطق الجسد والعقل والقلب في حميمية الكلمات والصور والتعبيرات. حيث تتحرك الفكرة ضمن إطارها الشاعري ووحدتها الموضوعية والعضوية بسلاسة واقتدار وتمكن. وينطوي النص على أبعاد قيمية إنسانية تتراوح من الحميمي الوطني والكوني الإنساني، ومن الخاص إلى العام وبالعكس في تراسل فني وبنية سليمة ومترابطة ومنسجمة في تداعياتها التصويرية والانطباعية التي يرسمها النص في لوحة القلب. ينطلق النص من قمة الأحاسيس وذروتها حيث الشعر والمشاعر والأحاسيس والكلمات والعبارات والتراكيب والأبنية كلها تتمازج أو تتوازى وتمنح المتلقي فضاءً من التأمل والتدبر والمتعة، مستلهماً في خاطره ما تدور فكرة النص حوله وفي بوتقته. وعند الولوج في عالم الشاعرية والنص، نستشف قدراً فنياً دالاً وقوياً امتشقت الشاعرة منه صهوة القصيدة وأصوات الحروف التي هيمنت عليها حرارة التعبير والتجاور الصوري والبديعي.
وتبدأ الشاعرة بوحها من عمق التجربة وبوتقة الأحساس من فضاء الشعر ذاته تعبيراً عن حبها الحميمي للشعر الذي يكتب لحن الحياة وصيرورة المشاعر، حيث تقوى على صوغ مادتها الشعرية بإرادة تستمد قوتها من تشابكات حروف الفن العربي الأول: الشعر،

من ربّةِ الشعرِ جاءَتْ تُسْعِفُ الجُمَلُ
فلا تَرَدُّدَ من ذاتي ولا وَجَلُ


وهي هنا تجسد عالم الشعر وتشخصه بعالم الأسطورة وفعلها التراثي والمعرفي والإنساني، ما يعني قوة التعبير والتشخيص، كما في قولها "جاءت تسعف الجمل،" برغم نبرتها الفردية والذاتية المباشرة، إلا أنها تحمل بعداً جمعياً وإنسانياً.
ويتحول الخطاب الشعري في عالم القصيدة بما ينسجم مع فكرة النص وذاته الشاعرة، في صيغة الخطاب الناقد والساخر لمن "لجوا برأيهم" في غير مخمصةٍ ولا طائل:

وهمّتي فوقَ من لجّوا برأيِهُمُ
جهلاً ودونَ مراقي عِزّتي زُحَلُ


ربما استحضرت الشاعرة "رمز الأسطورة العريقة "زحل" من مكامن التاريخ والثقافة والتراث لتثري فكرتها وتعمق دلالات الصورة التي تعزز روح الانتماء والولاء للشعر الذي يكتب الوطن والذات الإنسانية بتلاحم حميمي.
ثم تغمر الشاعرة بهو نصها بصور فنية وذات دلالات سامية وقيم إنسانية ببعض اللسمات الرومانسية وفي ذلك تداخل للمعرفة والثقافة والرأي والرؤية من حقول قطفت منها الشاعرة ما راق لها لتخدم فكرتها وثيماتها المنثورة في مساحات القصيدة، كما في:

ألشعرُ بعضُ أغاريدي وأنسُجُهُ


ففي الصورة تلك وصف جمالي ودال لعالم الشعر وكينونته الفنية والدلالية والماتعة الشيقة، حيث عالم الشعر هو عالم الأغاريد والمنسوج بقلم الشاعرة في مراحل تشظيها من جهة، ومن أخرى في توحدها مع الحرف والكلمات المعبرة عن حلمها وأمانيها وما يعتمل في باطنها الجوانية دون فجوات ودون غموض ولا إبهام، ليكون النسج رقيقاً وبهياً وجميلاً ورائقاً يمتزج بروح النثر الذي يخرج منه "مزج العسل" كما تصر الشاعرة على وصفه:


نسجاً رقيقاً ونثري مزْجُهُ العسلُ


وما يستيد فضاء النص هو الوطن الأعز وأشياؤه وتضاريسه ومعالم الحياة والخلود فيه، والتي تستلهم الشاعرة منه مادتها الشعرية والشعورية العميقة والمتسعة والبليغة، ليصبح ملاذاً لمشاعرها وعالمها الشعري وملهماً لها في كل حرف ترسمه في لوحاتها الشاعرية.
ويتواصل بوح الشاعرة بكل حميميته وشاعريته وبالاستعانة بجماليات التعبير والكتابة الشاعرية وبتقنيات إبداعية واعية وموفقة من تشبيه وإزاحة تصويرية وتجاور واستعارة وتكثيف، وصفاً لحالة من التلاحم مع الوطن والنفس الخالدة فيه، وهنا تقارن الشاعرة ذاتها العاشقة للوطن وفيه ع أولئك الذين أصابوه بمرارة وتسببوا في مأساته وكبواته وخرابه:


مثلُ الرحيقِ مقالي في تذوّقِهِ
وقولُهمْ بمرارِ الصابِ مُتّصِلُ



وتبوح الشاعرة بطريقتها المتفردة عن شعروها بالفخر وهي العاشقة الأولى للوطن الذي يدعوها لتبادل الحالة ذاتها من العشق والمغازلة:


ألفخر لي حين أمضي في مغازلتي
حِبِّي ، وبعضُ تراتيلي هي الغَزَلُ


ورغم غموض الصورة في "أمضي في مغازلتي" و "بعض تراتيلي هي الغزل"، إلا أن النص يفكك غموضه بوحدته العضوية والموضوعية/الثيماتية دون انتقاص من المعنى والقيمة الدلالية للنص ككل.
وفي حالة من التماهي مع الأنا العليا ومثيلتها الباطنية تتوحد الشاعرة مع الطبيعة بكل تفاصيلها وأشيائها عشقاً للوطن الذي هيمنت على فضاءاته تعابير دالة ومعمقة وإيحائية مثل "يمامة البر" وهي تحيك في خاطر الشاعرة لباس الشاعرية وزي البوح الوطني والإنساني خالصاً ونقياً:

صوتي وصوتي بحالِ الوَجْدِ متّصِلُ


وهنا تجسيد لصوتها الذي يسافر عبر المكان والزمان في بنية الوطن كما النص، حيث التوحد بين الصوت الآتي من عميق الوطن وذلك الصاعد من باطن الذات الشاعرة ووجدانها وعاطفتها الحارة والمتقدة. ولا أدل على قدرة الشاعرة على البوح المعرفي والتاريخي والتراثي إلا استحضارها المتميز لرمز تراثي وتاريخي وأسطوري أصيل يحمل دلالات العشق والحب والموت في حياة الوطن، إذ تقول بصوت متفرد في عبق حروف "ولادة" التي تتماهى معها من حيث قوة شعرها وفصاحته وعزيز فكرها، ويشهد لها بالعفاف والطهر:


"ولاّدةُ الشعر" في الماضي رسمتُ لها
دربَ النسيبِ ولا ربعٌ ولا طللُ


وهي هنا تحط رحال القصيدة وإرهاصات بوحها فوق جودي الفنية السامقة والتعبيرية الشاعرية المتحولة جمالاً ورونقاً دالاً على الصلة القوية والخالدة بين قلب الوطن وقلب الشاعرة، وعلى ماضيها العريق والأصيل والمشرف، وعلى نسبها الوطني والنافذ في أعماق الجسد المترع بعشقه وحبه المتنامي في كل وقت:

مضتْ على رِسْلِها في رحلةٍ عبرتْ
دنيا الخيالِ ولا ناقٌ ولا جَمَلُ


وبتوظيف تقنيات الشاعرية المتقنة والدالة بكل وعي ودربة ودراية، تنجح الشاعرة في وصف الحالة الإنسانية لعشقها الأبدي للوطن، فتارةً الوطن محاط كما الرسغ بأسورة من الماس المترجم حباً وولعاً وهياماً وعشقاً لا ينفد وبحصون القلب الذي ينبض بكل هذا وذاك، وتعزز فكرتها ورؤيتها الشاعرية بمزيد صور لشخصيات لها دلالاتها وقيمتها ووزنها التاريخي والمعرفي والتراثي والانساني كما شخصية "سافو":

وهي الحصون ُ وأبياتي تذكّرني
بشعرِ " سافو " لها من ربِّهِ القُبَلُ


بحيث تصبح "سافو" رمزاً كونياً على قدر الشاعرة في التماهي والتوحد مع شاعرة الإغريق الأولى التي تفردت في طرحها قضايا الأمة والناس بصورة جريئة وصريحة، وفي التحدي والتحمل والوفاء، وبما تحمله من دلالات أسطورية عابقة بالحياة والجماليات والمعنى.
وتواصل الشاعرة بوعي وحنكة في وصف حروفها الراسمة لأحاسيسها ومشاعرها المفعمة بعشق الأوطان وأمكنتها وتاريخها وبطولاتها، موظفةً أدق التفاصيل وابلغ الصور الشاعرية والجماليات الشكلية والرائقة، فتقول بنيرة الكبرياء ما دام الوطن ينتصب شاخصاً أمامها وفي مرآةعيونها كما وعيها:

قصائدي مثلُ غزلانٍ مُكَحَّلَةٍ
لا يُحْسَدُ الكُحْلُ لكنْ يُحْسَدُ الكَحَلُ


ففي اللوحة الشاعرية هنا تشبيهٌ بليغ وصريح أدل من وصفها المباشر للحالة التي امتشقت أحاسيسها واعتملتها في باطنها، بحيث تصبح قصائدها "غزلانٍمُكَحَّلَةٍ" بكل ما تحمله الصورة من بلاغة في الوصف والجمال، ولتدل على مدى عشقها المستدام لوطنها الخالد في دمها وعروقها. وعندما تخاطبنا بقولها،

لا يُحْسَدُ الكُحْلُ لكنْ يُحْسَدُ الكَحَلُ


وبكل ما تحمله الصورة الشاعرية هنا من تجانس لفظي بين "الكُحْلُ" و "الكَحَلُ"- وما قد تسببه من غموض لدى القارئ – لتعبر عن مدى اعتزازها بنفسها العاشقة وذاتها المتوحدة مع الوطن عبر الزمن دون توقف وتحدياً لمن يتآمرون عليه وفيه.

ثم يتحول النص ليرسم معالم عشق مستجدة وحميمية وعميقة، حيث تعزف الذات الشاعرة مشاعر الانتماء والحنين للوطن على قيثارتها الخاصة بأوتار قلبها المتجدد النبضات والدماء:

عزفتُ أمسِ على قيثارتي غزلاً
عنّي وعنهُ أهالي العشْقِ قد سألوا


وينطوي البيت السابق على لحظة من الدهش والتساؤل، بحيث يكون حله في:


فقيل " رابعةٌ " والشوقُ تيّمَها
إلى الحبيبِ لديهِ يُسْكِرُ النَّهَلُ


لتمنح نصها لوحةً متفردةً وجديدةً مع "رابعة" – ابنة الوطن ذاته وتحديداً ابنة البصرة الراسخة في قلب الوطن العراق - التي تتمثل في إرادتها وقوة شخصيتها ومواقفها أزاء الوطن والحبيب الذي احتضنه الوطن بطل جغرافيته وطقوسه، وبما تحمله، وبما يحمله هذا الاستحضار الواعي لشخصية أسطورية ورمزية كبيرة من دلالات العشق الإلهي والتصوف والزهد والعبادة الوفية.
وما دام البوح يعبر عن لحظات العشق والحب الخالد، تأخذنا الشاعرة إلى شطآن "دجلة" ومائه الأحلى، ملهماً إياها ومبصراً لها كون العراق وفضاء الوطن كله، في تجاوره مع "الفرات" مائه الأعذب، وفي ذلك اعتزاز لا يخفت بالوطن وحبه:


وقلتُ من دجلةٍ جاءتْ حلاوتُهُ
ماءً فُراتاً ويحلو شُربُهُ العَلَلُ


هذا البوح ينطوي على تداخل الثيمات وتمازجها في وعي الشاعرة التي تميزت في عرض فكرتها شعرياً وشعورياً بكل حميمية وفنية وبتوظيف تقنيات شاعرية وجمالية دلّت على ثقافة الشاعرة وإرادتها التعبيرية بكل ما تملك من أدوات إثرائية من محسنات بديعية وتجاور وإزاحة وتكثيف وانسيابية وحراكية تصويرية في وحدة موضوعية وثيماته وعضوية ملموسة في ثنايا النص وتلافيف فكرته، بحيث تهيمن حالة العلاقة بين الوطن والعشاق له بكل تفاصيلها وإرهاصاتها على فضاء النص ومشاهده الفنية والجمالية.


د. عبدالله حسين كراز