بلقيس الجنابي
10/02/2010, 02h37
هَجِيرُ الشَّكِ
دراسة نقدية شاملة
مقدمة لا بد من ذكرها :
أولاً / الرؤية النقدية وضوابطها :
قبل البدء في عملية النقد أحب أن أوضح مفهوماً صغيراً فيما يتعلق بكلمة النقد ... فقد يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى وخاصة لدى غير المختصين بالدراسات الأدبية أن كلمة النقد تدل على إظهار العيوب والانتقاص من النص فقط وهذا تعريف خاطئ لمعنى كلمة النقد ... فالنقد في معناه اللغوي يدل على إبراز الشئ وإظهاره ثم استعمل اصطلاحاً في الدراسات الأدبية لتوضيح معاني الجمال وإظهار نواحي التميز في العمل الأدبي قبل الإشارة والتنبيه على مواطن الضعف فيه على حد سواء أياً كان نوع ذلك العمل . والعكس صحيح بالنسبة لمواطن الضعف في العمل الأدبي فالنقد الحقيقي يشمل الوجهين فكما يهتم بإظهار الجودة نراه معنياً بإظهار الضعف أو الخطأ إن وجد وهذا لصالح الأديب وكلما كان الناقد بصيراً استطاع بتحليله ودراسته أن يلفت انتباه القارئ إلى مواطن القوة والجمال والإبداع في النص حتى أنه من الممكن للناقد إن كان بصيراً ملماً بأدواته أن يكتشف في القصيدة الكثير من المعاني والأفكار التي لم يكن يقصدها الشاعر وهنا يأتي دور براعة الناقد في الكشف عن الأسرار المكنونة خلف المعاني والصور والكلمات ويجب كذلك على الناقد في كلا الحالتين أن يلتزم برؤية موضوعية عادلة للعمل الأدبي بعيدة عن أهواء ذاته ... ومثال ذلك إن وجد الناقد نصاً شعرياً يمدح زيداً من الناس وكان الناقد لايحب زيداً ذاك فيجب أن لايسمح لعاطفته وأهوائه بالانتقاص من جودة النص المطروح لمجرد عدم محبته للممدوح والعكس صحيح , فيجب على الناقد أولاً وأخيراً أن لاينظر إلا إلى النواحي الأدبية والنفسية والصور الفريدة والروح الشاعرة وما إلى ذلك من أدوات النقد البناء الملتزم وأن يتعامل مع النص على أنه مجرد تجربة أدبية أو دفقة شعورية تضوَّعت من سواه ...
وبرأيي أن النقد والتذوق لا يقفان عند هذا المعيار فحسب ولكن يتوجب على الفذ من النقاد إذا ما أراد إظهار بعض العيوب أو السقطات في النص يجب عليه أن لا يفجأ القارئ أو الأديب بالانتقادات اللاذعة الساخرة الشائكة بل يتوجب عليه أن يغلف قوله ويكسوه بالمجملات البديعية ويبتعد عن الزوايا الحادة ما أمكن له ذلك لئلا يكون نقده هداماً للأديب ! أما رأيت حبة الدواء المر وقد كساها صانعُها بالطعم اللذيذ ليسهل ابتلاعها !
وأياً كان هذا النقد فهو أليم على النفس ولا يقبله الكثير من الناس لأنه كالنصيحة والنصيحة في اللغة هي جلد الإبل لتفرقة السليم منها عن المعيب لذلك وجب التنبيه لئلا يقع النقاد في ما لا تحمد عقباه مما يسبب النفور للأديب فيدع الكتابة والتأليف للأبد وهذا ظلم بحقه كبير ! مع مراعاة عدم التغاضي والتجاوز عن الأخطاء إن وجدت في النص لأن ذلك التجاوز يعتبر أيضاً ظلماً غير مباشر للأديب لأنك إن لم تبين له أخطاءه فسيستمر في ذلك الخطأ ويشب عليه وبذلك يكون الناقد قد ظلمه من حيث يحسب أنه أفاده ! وهذا معيار دقيق للغاية وبرأيي أنه لا يُدرّس في الكليات والمعاهد بل يتأتى من التمرس والمران ومقالتي هذه بمثابة نقد للنقاد بغية التجويد والاحتراس في أداء العمل النقدي وقبل الختام أحب أن أعطي مثالاً آخراً لمصطلح يستعمله البعض استعمالاً خاطئاً وهو قريب من موضوعنا هذا وهو كلمة العاطفة .. فالعاطفة هي جميع الانفعالات الصادرة عن النفس وليست المحبة والشوق وما إلى ذلك من العواطف الرقيقة فقط بل هي كلمة شاملة لشتى العواطف فالحب عاطفة والكره عاطفة والشوق عاطفة والبغض عاطفة وهكذا لأن كل تلك العواطف ناتجة عن انفعالات عديدة مختلفة في النفس البشرية .....
ثانياً / القصيدة :
حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
شَرِبْتُ هواكَ كاسـاً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
يقينـي أنَّ وعـدَكَ لـي وفاءٌ سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس ِ
وبُعْدُكَ مُوْرِثٌ عنــدي اكتئاباً وملقاكَ الجميلُ كيوم ِعُرْسي
وحبُّـكَ مالىءٌ نفســي فخاراً بهِ بيـنَ الأنـامِ رفعْتُ رأسي
وزهــرُ الحبِّ أينعَ في حياتي أراهُ سَنَـىً فيبعثُ فـيَّ أُنسي
إذا ما الناسُ قالوا فيـكَ إفْـكاً أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَ نفسي
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنت عمـري ستبقَى أنتَ بدري أنتَ شمسي
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
ولنْ أنساكَ بل تبقَى حُضُـوراً كما أبغي وهَمّي ليسَ يُنسِي
قريبٌ أنتَ من نفسـي ستبقَى فلا يُقْصِيكَ عنّي غيرُ رَمْسي
ثالثاً / موضوع القصيدة :
جاءت هذه القصيدة الرائعة في باب الغزل وهذا النوع من الموضوعات الشعرية تعتبر من أرق الأنواع وأصعبها في نفس الوقت لأنه يتدفق من القلب مع وجود ضوابط عديدة لهذا التدفق والنقطة التي تُحسب للشاعرة أنها استطاعت وهي الأنثى من طرح الصورة الغزلية بإبداع وجرأة وإجلال بعيداً عن الصور الحسية أو الألفاظ المستهجنة الجسدية لهذا الموضوع فكيف استطاعت الإتيان بذلك ؟ إنه الإعجاز بحق وهذا يدل على أن شاعرتنا المقتدرة كانت حتى في انسجامها وذوبانها في حالة التأليف الروحي الشعري كانت تسير وفق منهج محدد مقيد منضبط لديها تبعاً لفطرتها السليمة فلم تغالي أو تُسِفّ في نداءاتها للمحبوب بل سمت فتألقت وعلت فأبدعت في الأوصاف والنداءات لذلك المحبوب .
كما أنه هنا لابد لنا من الإشارة أننا في المجتمع الشرقي نتحفظ في مثل تلك الموضوعات لأننا بمزيد من التخلف ( أعتذرعن اللفظة ولكنها الواقع ) لازلنا نعتقد أنه لايجوز للمرأة أن تعلو بصوتها معبرة عن عواطفها بالرغم من أن ذلك هو أبسط حقوقها في حرية التعبير عما تحب وتكره ولكن مثل هذه المعتقدات برأيي هي سقطات موروثة في التفكير لدى عقول بعض الرجال الذين يحبون الحجر على المرأة بكافة حقوقها من حب وكراهية وما إلى ذلك ... فإن صرحت المرأة بالحب قلنا إنها متجرأة وإن أحجمت عن إبداء عواطفها قلنا إنها جامدة غير متفاعلة مع الآخرين وإن آثرت السكوت (مسكينة) قلنا إنها غير اجتماعية فما العمل عندنا نحن يا أيها الرجال ؟؟؟؟؟؟ إنه والله لمن الظلم والاستبداد قمع صوت المرأة إن كان ملتزماً بالآداب العامة أو كان متصلاً بحقوقها ورؤيتها الفردية وهذا من أبسط حقوقها المغصوبة لدى الكثير من بني جلدتنا .
رابعاً / بناء النص :
نحن أمام نص أدبي رائع سامق لأنه عمل شعري مقفى موزون ومن المتعارف عليه أن الشعر يعتبر من أعلى مراتب تصنيف الأعمال الأدبية لأنه يخضع لعدة قواعد في الشكل والمضمون لابد منها كالوزن والقافية ومن هنا اتخذ الشعر سمو المكانة بين جملة الأعمال الأدبية ... وقد جاءت قصيدة الأستاذة بلقيس على بحر الوافر ذلك البحر الفياض الهادر لما يحمل معه من المعاني السهلة الممتنعة في ذات الوقت وهذا أول مايلفت نظرنا في هذه القصيدة .. وقد حاول علماء اللغة قديماً تصنيف بحور الشعر حسب الأغراض الشعرية فاختاروا مثلاً بحر الوافر للحماس وبحر الرمل للغزل وبحر الطويل للفخر وهكذا .. ولكنهم عند التطبيق والدراسة والمقارنة بدا لهم عدم صحة هذه النظرية فمن غير الممكن أن يعد الشاعر مسبقاً بحر قصيدته ويحدد وزنها ثم يقول سأكتب قصيدتي الغزلية هذه على بحر كذا ... لأن من يحدد ليس بشاعر مطبوع بل هو شاعر متكلف مصنوع !
خامساً / القافية :
تميزت هذه القصيدة بحرف السين وربما كانت الشاعرة المتألقة بلقيس قد تعمدت ذلك لما في هذا الحرف من تأثير يشبه السحر عند سماعه وما يبثه في نفس السامع من جرس موسيقي آسر يتدسدس منسكباً في النفس عندما يسارر الأسماع !
كما أن هناك ملاحظة أخرى بالنسبة للقافية السينية فهذه القصيدة كما قلنا سينية أي أن حرفها الأخير هو حرف السين وهو مايسميه العروضيون بالرويّ أما الحرف الذي يسبق حرف الرويّ فيسمى الرِّدْف وللتوضيح :
حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الميم في كلمة أمسي
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الراء في كلمة غرس
شَرِبْتُ هواكَ كاساً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الألف في كلمة كأسي
يقينـي أنَّ وعدَكَ لـي وفاءٌ سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس ِ
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الدال في كلمة حدسي
ومعذرة على الإطالة ولكن لابد من التوضيح لإظهار تمكن شاعرتنا من قافيتها وقدرتها على اختيار الألفاظ تبعاً لما تقتضيه قواعد الشعر كذلك أردت التوضيح لكي لايتبادر إلى الذهن أن كل من أتقن الوزن أصبح شاعراً ... وهذا تعقيب على ما ذكرناه سابقاً من تميز الشعر على ما سواه من الألوان الأدبية .
وماذا نريد من ذكر كل تلك المقدمة السابقة ؟ ما نود قوله هو أن هناك قاعدة عروضية متعلقة بحروف القافية وتحديداً في حرف الرِّدْف! وهذه القاعدة باختصار تقول :
أنه لا يتوجب على الشاعر التقيد والالتزام بحرف الرِّدْف كأن يقول : أمسي رمسي لمسي وهكذا بمعنى أن يلتزم حرف الميم في الرِّدْف , وإنما يجوز له أن ينوع أحرف الرِّدْف كما فعلت شاعرتنا المتألقة في قصيدتها وهذا مما يحسب أيضاً للشاعرة من باب التمكن في القوافي والقواعد العروضية فنحن نلاحظ أن جميع حروف الرِّدْف في كل الأبيات مخففة أُمْسي غَرْس كأسي بحَدْس ما عدا بيت واحد :
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
جاء حرف الردف في هذا البيت مضعفاً وهذا جائز لأنه بيت واحد من أبيات القصيدة الثلاثة عشر ولكن إذا التزم الشاعر التضعيف أي أن يكون الرِّدْف حرفاً مشدداً في أكثر من بيتين فهنا وجب عليه الالتزام بالتشديد كأن يقول حسّ مسّ جسّ وتكون كامل قصيدته على هذا النحو وإن لم يلتزم فلا يعتبر خطأً وإنما الأصح والأفصح تطبيق القاعدة وهذا مايسميه العروضيون لزوم ما لايلزم ...
سادساً / السهل الممتنع :
عندما يلج القارئ في هذه القصيدة ويقرأ تلك الكلمات الرنانة يتبادر إلى ذهنه أنها سهلة التراكيب بسيطة الألفاظ وأنه بمقدوره الإتيان بمثلها فإذا ما أراد تقليدها ظهر عجزه في محاكاتها وفي تصوري أن هذا هو مناط الإبداع لذلك أستطيع القول أن أسلوب الشاعرة كان أسلوباً بلاغياً يندرج تحت قالب السهل الممتنع فاقرأ معي البساطة والعبقرية في المطلع :
حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
كلام سهل يفيض رقة وعذوبة وصعوبة في نفس الوقت ... فالشاعرة لم تتكلف التعقيد في الألفاظ أو المعاني إنما جاءت لها الصورة عفو الخاطر وهذا ما نسميه في المقدمة الشعرية ببراعة الاستهلال فعندما يقرأ المتلقي البيت الأول يعرف أن هناك كارثة من العواطف سوف تأتي تباعاً في الأبيات القادمة وما البيت الأول إلا مقدمات لهذا السيل العاطفي الرقراق المنتظر !
سابعاً / التراكيب اللغوية :
من الملاحظ اختيار التناسق في ألفاظ القصيدة بشكل عام فالشاعرة المبدعة قد التزمت بقاموس خاص لها حافظت عليه في كامل القصيدة ونجدها من البراعة بمكان أنها استطاعت أن تطوع الألفاظ ذات النسق الواحد وتوظفها في موضعها لخدمة المعنى المراد كقولها مثلاً :
فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس
وقولها :
فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
فهناك الكثير من الموازنة والتلاؤم المقصود مابين كلمتي ( خير – غير )
وقولها :
سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس
فكلمة أخامره خطيرة وأنا كشاعر أراها (متعوب عليها والله)
كذلك قولها :
أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَ نفسي
أشك ثم أصدق توظيف رائع للتضاد في اللفظ
كذلك قولها :
يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
من المحتمل أن يعتقد البعض أن كلمة لي بعد يغني جاءت من باب تكملة الحسبة العروضية أي الوزن الشعري ولكن إذا تجاوزنا هذا المنظور الضيق لما سواه نكتشف أن الشاعرة تعمدت وضع هذه الكلمة لتفيد معنى التفرد لي أنا وحدي فقط وإلا كان من الممكن الإتيان بالكثيرمن المترادفات التي تخدم الوزن فقط ولكنها لاتسمو بالمعنى ولا تفيد الحصر و القصر في الغناء على المحبوب وحده فقط .
كذلك قولها :
وزهــرُ الحبِّ أينعَ في حياتي أراهُ سَنَـىً فيبعثُ فـيَّ أُنسي
بصياغة أخرى توضح الإبداع في تراكيب الألفاظ لخدمة الصورة الشعرية الرائعة : أينع زهر الحب فرأيته كالسنى فبعث الأنس في حياتي ... إبداعات من المحسنات البديعية من الإستعارات والتشبيه والكناية كلها جاءت من دون إعداد وما يؤكد ذلك بساطة التراكيب
كذلك قولها :
أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنت عمـري ستبقَى أنتَ بدري أنتَ شمسي
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
نلاحظ تكرار كلمة أنت أنت لعدة مرات وهذا التكرار يسمى في دراسة الغرض الشعري التلذذ بذكر الحبيب كقول الشاعر عروة بن حزام :
فويلي على عفراء ويلا كأنــه على النحر والأحشاء حد سنان
على كبدي من حب عفراء قرحة وعيناي من وجـدي بها تكفان
فعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عندي المعرض المتداني
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني وعفراء يوم الحشــر ملتقيان
ثامناً / القراءة النفسية للقصيدة :
وما أقصده بالقراءة النفسية هو إلقاء بعض الضوء على العاطفة المراقة في هذه القصيدة وإظهار مواطن الإبداع والميزات التي تميز شاعرتنا عن سواها من الشعراء فأول مايظهر لنا من القراءة الأولى للقصيدة هو خصلة العفاف والسمو في المعاني والأفكار كما أننا نلاحظ أنها تركز على الخصال المعنوية أكثر من تركيزها على المصطلحات المادية الملموسة فهي تنتقل بأسلوب فريد من الوفاء إلى اليقين إلى الطموح إلى الفخار إلى السنا إلى الهمس إلى الغرس وهكذا فلا نكاد نلمح صورة جسدية مادية واحدة كأن تقول عيناك وشفتاك إلخ وهذا هو مقياس العفاف المتميز والمتألق في هذه القصيدة ...
فلنسمع قولها هنا :
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
شَرِبْتُ هواكَ كاسـاً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
وكأنها تقول انظر إلى منزلتك السامية عندي ( فكان هواك عندي خير غرسي ) ثم تطالبه بعد ذلك بالوفاء ( فلا تشرب بكأس غير كأسي ) لأن الجزاء من نوع العمل .. كذلك التعبير بكلمة شربت هواك وما به من استعارة موفقة تفيد الامتلاء والتشبع بهوى المحبوب بحيث لم يبقَ مكاناً في داخلها لسواه
وكذلك قولها :
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
قمة النقاء ممتزجاً بلمحة الصفاء مكتسياً روعة الإباء وكأنها تقول أنت حبيبي تزرع الأمل والطموح في أرجاء نفسي فلا تدع لليأس مجرد فرصة الدنو مني وليس الاقتراب وكم كنت ياشاعرتنا موفقة في استعمالك كلمة يدنو بدل من الاقتراب ...
وكذلك قولها :
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
سمو المعنى مطوي في سمو الإحساس فلا يغازل مفاتني الأنثوية بل إحساسي السامي ويبقى أن نقول أن قصيدة شاعرتنا الرائعة بلقيس الجنابي ما هي إلا صورة جديدة أو نموذجاً جديداً من نماذج شعر الحب العذري الذي يسمو عن المتع الجسدية بل يجاوزها إلى التضحية والإيثار وإلى النبل الروحي والسمو الخلقي في سبيل الإبقاء على هذه العاطفة المحتدمة :
قريبٌ أنتَ من نفسي ستبقَى فلا يُقْصِيكَ عنّي غيرُ رَمْسي
وهناك الكثير والمزيد والفريد من الدراسات النقدية ولكن نكتفي بهذا القدر من النقد خشية الملل على القارئ الكريم ... وإلا فالقصيدة ثرة نضاحة بالعبق والنفائس وينطبق عليها ما قاله الشاعر :
يزيدك وجهها حسناً
إذا ما زدته نظرا
كما لايفوتني التنويه عن أن ماحملته هذه القصيدة من رقة الألفاظ وسلاسة المعاني وتفرد الصور كان له أكبر الأثر في تسهيل عملية تلحينها وتأثيرها بالمتذوقين .. فهي قصيدة موشاة بالمقامات اللحنية مرصعة بالأوتار الأدبية وما كان لينقصها سوى ريشة المبدع العظيم موسيقارنا الزولي ليحرك أوتارها ويعانقها بريشته العطشى ليخرج لنا لحناً رائعاً عبقرياً من ألحان الخلود
وفي الختام دمت لنا شاعرتنا بلقيس أستاذة متمكنة البناء جزلة العطاء ودام قصيدك آسياً جراح قلوبنا ودافعاً بنا الأمل حتى نعرف معنى العشق من جديد بمفهوم مختلف !
دراسة نقدية شاملة
مقدمة لا بد من ذكرها :
أولاً / الرؤية النقدية وضوابطها :
قبل البدء في عملية النقد أحب أن أوضح مفهوماً صغيراً فيما يتعلق بكلمة النقد ... فقد يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى وخاصة لدى غير المختصين بالدراسات الأدبية أن كلمة النقد تدل على إظهار العيوب والانتقاص من النص فقط وهذا تعريف خاطئ لمعنى كلمة النقد ... فالنقد في معناه اللغوي يدل على إبراز الشئ وإظهاره ثم استعمل اصطلاحاً في الدراسات الأدبية لتوضيح معاني الجمال وإظهار نواحي التميز في العمل الأدبي قبل الإشارة والتنبيه على مواطن الضعف فيه على حد سواء أياً كان نوع ذلك العمل . والعكس صحيح بالنسبة لمواطن الضعف في العمل الأدبي فالنقد الحقيقي يشمل الوجهين فكما يهتم بإظهار الجودة نراه معنياً بإظهار الضعف أو الخطأ إن وجد وهذا لصالح الأديب وكلما كان الناقد بصيراً استطاع بتحليله ودراسته أن يلفت انتباه القارئ إلى مواطن القوة والجمال والإبداع في النص حتى أنه من الممكن للناقد إن كان بصيراً ملماً بأدواته أن يكتشف في القصيدة الكثير من المعاني والأفكار التي لم يكن يقصدها الشاعر وهنا يأتي دور براعة الناقد في الكشف عن الأسرار المكنونة خلف المعاني والصور والكلمات ويجب كذلك على الناقد في كلا الحالتين أن يلتزم برؤية موضوعية عادلة للعمل الأدبي بعيدة عن أهواء ذاته ... ومثال ذلك إن وجد الناقد نصاً شعرياً يمدح زيداً من الناس وكان الناقد لايحب زيداً ذاك فيجب أن لايسمح لعاطفته وأهوائه بالانتقاص من جودة النص المطروح لمجرد عدم محبته للممدوح والعكس صحيح , فيجب على الناقد أولاً وأخيراً أن لاينظر إلا إلى النواحي الأدبية والنفسية والصور الفريدة والروح الشاعرة وما إلى ذلك من أدوات النقد البناء الملتزم وأن يتعامل مع النص على أنه مجرد تجربة أدبية أو دفقة شعورية تضوَّعت من سواه ...
وبرأيي أن النقد والتذوق لا يقفان عند هذا المعيار فحسب ولكن يتوجب على الفذ من النقاد إذا ما أراد إظهار بعض العيوب أو السقطات في النص يجب عليه أن لا يفجأ القارئ أو الأديب بالانتقادات اللاذعة الساخرة الشائكة بل يتوجب عليه أن يغلف قوله ويكسوه بالمجملات البديعية ويبتعد عن الزوايا الحادة ما أمكن له ذلك لئلا يكون نقده هداماً للأديب ! أما رأيت حبة الدواء المر وقد كساها صانعُها بالطعم اللذيذ ليسهل ابتلاعها !
وأياً كان هذا النقد فهو أليم على النفس ولا يقبله الكثير من الناس لأنه كالنصيحة والنصيحة في اللغة هي جلد الإبل لتفرقة السليم منها عن المعيب لذلك وجب التنبيه لئلا يقع النقاد في ما لا تحمد عقباه مما يسبب النفور للأديب فيدع الكتابة والتأليف للأبد وهذا ظلم بحقه كبير ! مع مراعاة عدم التغاضي والتجاوز عن الأخطاء إن وجدت في النص لأن ذلك التجاوز يعتبر أيضاً ظلماً غير مباشر للأديب لأنك إن لم تبين له أخطاءه فسيستمر في ذلك الخطأ ويشب عليه وبذلك يكون الناقد قد ظلمه من حيث يحسب أنه أفاده ! وهذا معيار دقيق للغاية وبرأيي أنه لا يُدرّس في الكليات والمعاهد بل يتأتى من التمرس والمران ومقالتي هذه بمثابة نقد للنقاد بغية التجويد والاحتراس في أداء العمل النقدي وقبل الختام أحب أن أعطي مثالاً آخراً لمصطلح يستعمله البعض استعمالاً خاطئاً وهو قريب من موضوعنا هذا وهو كلمة العاطفة .. فالعاطفة هي جميع الانفعالات الصادرة عن النفس وليست المحبة والشوق وما إلى ذلك من العواطف الرقيقة فقط بل هي كلمة شاملة لشتى العواطف فالحب عاطفة والكره عاطفة والشوق عاطفة والبغض عاطفة وهكذا لأن كل تلك العواطف ناتجة عن انفعالات عديدة مختلفة في النفس البشرية .....
ثانياً / القصيدة :
حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
شَرِبْتُ هواكَ كاسـاً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
يقينـي أنَّ وعـدَكَ لـي وفاءٌ سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس ِ
وبُعْدُكَ مُوْرِثٌ عنــدي اكتئاباً وملقاكَ الجميلُ كيوم ِعُرْسي
وحبُّـكَ مالىءٌ نفســي فخاراً بهِ بيـنَ الأنـامِ رفعْتُ رأسي
وزهــرُ الحبِّ أينعَ في حياتي أراهُ سَنَـىً فيبعثُ فـيَّ أُنسي
إذا ما الناسُ قالوا فيـكَ إفْـكاً أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَ نفسي
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنت عمـري ستبقَى أنتَ بدري أنتَ شمسي
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
ولنْ أنساكَ بل تبقَى حُضُـوراً كما أبغي وهَمّي ليسَ يُنسِي
قريبٌ أنتَ من نفسـي ستبقَى فلا يُقْصِيكَ عنّي غيرُ رَمْسي
ثالثاً / موضوع القصيدة :
جاءت هذه القصيدة الرائعة في باب الغزل وهذا النوع من الموضوعات الشعرية تعتبر من أرق الأنواع وأصعبها في نفس الوقت لأنه يتدفق من القلب مع وجود ضوابط عديدة لهذا التدفق والنقطة التي تُحسب للشاعرة أنها استطاعت وهي الأنثى من طرح الصورة الغزلية بإبداع وجرأة وإجلال بعيداً عن الصور الحسية أو الألفاظ المستهجنة الجسدية لهذا الموضوع فكيف استطاعت الإتيان بذلك ؟ إنه الإعجاز بحق وهذا يدل على أن شاعرتنا المقتدرة كانت حتى في انسجامها وذوبانها في حالة التأليف الروحي الشعري كانت تسير وفق منهج محدد مقيد منضبط لديها تبعاً لفطرتها السليمة فلم تغالي أو تُسِفّ في نداءاتها للمحبوب بل سمت فتألقت وعلت فأبدعت في الأوصاف والنداءات لذلك المحبوب .
كما أنه هنا لابد لنا من الإشارة أننا في المجتمع الشرقي نتحفظ في مثل تلك الموضوعات لأننا بمزيد من التخلف ( أعتذرعن اللفظة ولكنها الواقع ) لازلنا نعتقد أنه لايجوز للمرأة أن تعلو بصوتها معبرة عن عواطفها بالرغم من أن ذلك هو أبسط حقوقها في حرية التعبير عما تحب وتكره ولكن مثل هذه المعتقدات برأيي هي سقطات موروثة في التفكير لدى عقول بعض الرجال الذين يحبون الحجر على المرأة بكافة حقوقها من حب وكراهية وما إلى ذلك ... فإن صرحت المرأة بالحب قلنا إنها متجرأة وإن أحجمت عن إبداء عواطفها قلنا إنها جامدة غير متفاعلة مع الآخرين وإن آثرت السكوت (مسكينة) قلنا إنها غير اجتماعية فما العمل عندنا نحن يا أيها الرجال ؟؟؟؟؟؟ إنه والله لمن الظلم والاستبداد قمع صوت المرأة إن كان ملتزماً بالآداب العامة أو كان متصلاً بحقوقها ورؤيتها الفردية وهذا من أبسط حقوقها المغصوبة لدى الكثير من بني جلدتنا .
رابعاً / بناء النص :
نحن أمام نص أدبي رائع سامق لأنه عمل شعري مقفى موزون ومن المتعارف عليه أن الشعر يعتبر من أعلى مراتب تصنيف الأعمال الأدبية لأنه يخضع لعدة قواعد في الشكل والمضمون لابد منها كالوزن والقافية ومن هنا اتخذ الشعر سمو المكانة بين جملة الأعمال الأدبية ... وقد جاءت قصيدة الأستاذة بلقيس على بحر الوافر ذلك البحر الفياض الهادر لما يحمل معه من المعاني السهلة الممتنعة في ذات الوقت وهذا أول مايلفت نظرنا في هذه القصيدة .. وقد حاول علماء اللغة قديماً تصنيف بحور الشعر حسب الأغراض الشعرية فاختاروا مثلاً بحر الوافر للحماس وبحر الرمل للغزل وبحر الطويل للفخر وهكذا .. ولكنهم عند التطبيق والدراسة والمقارنة بدا لهم عدم صحة هذه النظرية فمن غير الممكن أن يعد الشاعر مسبقاً بحر قصيدته ويحدد وزنها ثم يقول سأكتب قصيدتي الغزلية هذه على بحر كذا ... لأن من يحدد ليس بشاعر مطبوع بل هو شاعر متكلف مصنوع !
خامساً / القافية :
تميزت هذه القصيدة بحرف السين وربما كانت الشاعرة المتألقة بلقيس قد تعمدت ذلك لما في هذا الحرف من تأثير يشبه السحر عند سماعه وما يبثه في نفس السامع من جرس موسيقي آسر يتدسدس منسكباً في النفس عندما يسارر الأسماع !
كما أن هناك ملاحظة أخرى بالنسبة للقافية السينية فهذه القصيدة كما قلنا سينية أي أن حرفها الأخير هو حرف السين وهو مايسميه العروضيون بالرويّ أما الحرف الذي يسبق حرف الرويّ فيسمى الرِّدْف وللتوضيح :
حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الميم في كلمة أمسي
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الراء في كلمة غرس
شَرِبْتُ هواكَ كاساً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الألف في كلمة كأسي
يقينـي أنَّ وعدَكَ لـي وفاءٌ سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس ِ
فحرف الرِّدْف في البيت السابق الدال في كلمة حدسي
ومعذرة على الإطالة ولكن لابد من التوضيح لإظهار تمكن شاعرتنا من قافيتها وقدرتها على اختيار الألفاظ تبعاً لما تقتضيه قواعد الشعر كذلك أردت التوضيح لكي لايتبادر إلى الذهن أن كل من أتقن الوزن أصبح شاعراً ... وهذا تعقيب على ما ذكرناه سابقاً من تميز الشعر على ما سواه من الألوان الأدبية .
وماذا نريد من ذكر كل تلك المقدمة السابقة ؟ ما نود قوله هو أن هناك قاعدة عروضية متعلقة بحروف القافية وتحديداً في حرف الرِّدْف! وهذه القاعدة باختصار تقول :
أنه لا يتوجب على الشاعر التقيد والالتزام بحرف الرِّدْف كأن يقول : أمسي رمسي لمسي وهكذا بمعنى أن يلتزم حرف الميم في الرِّدْف , وإنما يجوز له أن ينوع أحرف الرِّدْف كما فعلت شاعرتنا المتألقة في قصيدتها وهذا مما يحسب أيضاً للشاعرة من باب التمكن في القوافي والقواعد العروضية فنحن نلاحظ أن جميع حروف الرِّدْف في كل الأبيات مخففة أُمْسي غَرْس كأسي بحَدْس ما عدا بيت واحد :
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
جاء حرف الردف في هذا البيت مضعفاً وهذا جائز لأنه بيت واحد من أبيات القصيدة الثلاثة عشر ولكن إذا التزم الشاعر التضعيف أي أن يكون الرِّدْف حرفاً مشدداً في أكثر من بيتين فهنا وجب عليه الالتزام بالتشديد كأن يقول حسّ مسّ جسّ وتكون كامل قصيدته على هذا النحو وإن لم يلتزم فلا يعتبر خطأً وإنما الأصح والأفصح تطبيق القاعدة وهذا مايسميه العروضيون لزوم ما لايلزم ...
سادساً / السهل الممتنع :
عندما يلج القارئ في هذه القصيدة ويقرأ تلك الكلمات الرنانة يتبادر إلى ذهنه أنها سهلة التراكيب بسيطة الألفاظ وأنه بمقدوره الإتيان بمثلها فإذا ما أراد تقليدها ظهر عجزه في محاكاتها وفي تصوري أن هذا هو مناط الإبداع لذلك أستطيع القول أن أسلوب الشاعرة كان أسلوباً بلاغياً يندرج تحت قالب السهل الممتنع فاقرأ معي البساطة والعبقرية في المطلع :
حبيبـي أنتَ في يومي وأَمْسي وفي صبح ِ الغداةِ وحينَ أُمْسي
كلام سهل يفيض رقة وعذوبة وصعوبة في نفس الوقت ... فالشاعرة لم تتكلف التعقيد في الألفاظ أو المعاني إنما جاءت لها الصورة عفو الخاطر وهذا ما نسميه في المقدمة الشعرية ببراعة الاستهلال فعندما يقرأ المتلقي البيت الأول يعرف أن هناك كارثة من العواطف سوف تأتي تباعاً في الأبيات القادمة وما البيت الأول إلا مقدمات لهذا السيل العاطفي الرقراق المنتظر !
سابعاً / التراكيب اللغوية :
من الملاحظ اختيار التناسق في ألفاظ القصيدة بشكل عام فالشاعرة المبدعة قد التزمت بقاموس خاص لها حافظت عليه في كامل القصيدة ونجدها من البراعة بمكان أنها استطاعت أن تطوع الألفاظ ذات النسق الواحد وتوظفها في موضعها لخدمة المعنى المراد كقولها مثلاً :
فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس
وقولها :
فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
فهناك الكثير من الموازنة والتلاؤم المقصود مابين كلمتي ( خير – غير )
وقولها :
سيبقَـى لا أُخامِـرُهُ بحَدْس
فكلمة أخامره خطيرة وأنا كشاعر أراها (متعوب عليها والله)
كذلك قولها :
أشُِكُّ فلا أصدِّقُ غيـرَ نفسي
أشك ثم أصدق توظيف رائع للتضاد في اللفظ
كذلك قولها :
يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
من المحتمل أن يعتقد البعض أن كلمة لي بعد يغني جاءت من باب تكملة الحسبة العروضية أي الوزن الشعري ولكن إذا تجاوزنا هذا المنظور الضيق لما سواه نكتشف أن الشاعرة تعمدت وضع هذه الكلمة لتفيد معنى التفرد لي أنا وحدي فقط وإلا كان من الممكن الإتيان بالكثيرمن المترادفات التي تخدم الوزن فقط ولكنها لاتسمو بالمعنى ولا تفيد الحصر و القصر في الغناء على المحبوب وحده فقط .
كذلك قولها :
وزهــرُ الحبِّ أينعَ في حياتي أراهُ سَنَـىً فيبعثُ فـيَّ أُنسي
بصياغة أخرى توضح الإبداع في تراكيب الألفاظ لخدمة الصورة الشعرية الرائعة : أينع زهر الحب فرأيته كالسنى فبعث الأنس في حياتي ... إبداعات من المحسنات البديعية من الإستعارات والتشبيه والكناية كلها جاءت من دون إعداد وما يؤكد ذلك بساطة التراكيب
كذلك قولها :
أُحبُّكَ ما حَيِيْتُ وأنت عمـري ستبقَى أنتَ بدري أنتَ شمسي
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
نلاحظ تكرار كلمة أنت أنت لعدة مرات وهذا التكرار يسمى في دراسة الغرض الشعري التلذذ بذكر الحبيب كقول الشاعر عروة بن حزام :
فويلي على عفراء ويلا كأنــه على النحر والأحشاء حد سنان
على كبدي من حب عفراء قرحة وعيناي من وجـدي بها تكفان
فعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عندي المعرض المتداني
وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني وعفراء يوم الحشــر ملتقيان
ثامناً / القراءة النفسية للقصيدة :
وما أقصده بالقراءة النفسية هو إلقاء بعض الضوء على العاطفة المراقة في هذه القصيدة وإظهار مواطن الإبداع والميزات التي تميز شاعرتنا عن سواها من الشعراء فأول مايظهر لنا من القراءة الأولى للقصيدة هو خصلة العفاف والسمو في المعاني والأفكار كما أننا نلاحظ أنها تركز على الخصال المعنوية أكثر من تركيزها على المصطلحات المادية الملموسة فهي تنتقل بأسلوب فريد من الوفاء إلى اليقين إلى الطموح إلى الفخار إلى السنا إلى الهمس إلى الغرس وهكذا فلا نكاد نلمح صورة جسدية مادية واحدة كأن تقول عيناك وشفتاك إلخ وهذا هو مقياس العفاف المتميز والمتألق في هذه القصيدة ...
فلنسمع قولها هنا :
غَرَسْتُ هواكَ في قلبـي جنوناً فكانَ هواكَ عندي خيرَ غَرْس ِ
شَرِبْتُ هواكَ كاسـاً من رحيق فلا تشرَبْ بكأس ٍ غير ِ كأسي
وكأنها تقول انظر إلى منزلتك السامية عندي ( فكان هواك عندي خير غرسي ) ثم تطالبه بعد ذلك بالوفاء ( فلا تشرب بكأس غير كأسي ) لأن الجزاء من نوع العمل .. كذلك التعبير بكلمة شربت هواك وما به من استعارة موفقة تفيد الامتلاء والتشبع بهوى المحبوب بحيث لم يبقَ مكاناً في داخلها لسواه
وكذلك قولها :
وأنتَ تَبُثُّ في صدري طموحاً قويّاً ليسَ يدنـو منـهُ يأسي
قمة النقاء ممتزجاً بلمحة الصفاء مكتسياً روعة الإباء وكأنها تقول أنت حبيبي تزرع الأمل والطموح في أرجاء نفسي فلا تدع لليأس مجرد فرصة الدنو مني وليس الاقتراب وكم كنت ياشاعرتنا موفقة في استعمالك كلمة يدنو بدل من الاقتراب ...
وكذلك قولها :
حديثُكَ يا حبيبـي همسُ شِعْر ٍ يُغَنَّي لي ، يُغـاز ِلُ فِيَّ حِسِّي
سمو المعنى مطوي في سمو الإحساس فلا يغازل مفاتني الأنثوية بل إحساسي السامي ويبقى أن نقول أن قصيدة شاعرتنا الرائعة بلقيس الجنابي ما هي إلا صورة جديدة أو نموذجاً جديداً من نماذج شعر الحب العذري الذي يسمو عن المتع الجسدية بل يجاوزها إلى التضحية والإيثار وإلى النبل الروحي والسمو الخلقي في سبيل الإبقاء على هذه العاطفة المحتدمة :
قريبٌ أنتَ من نفسي ستبقَى فلا يُقْصِيكَ عنّي غيرُ رَمْسي
وهناك الكثير والمزيد والفريد من الدراسات النقدية ولكن نكتفي بهذا القدر من النقد خشية الملل على القارئ الكريم ... وإلا فالقصيدة ثرة نضاحة بالعبق والنفائس وينطبق عليها ما قاله الشاعر :
يزيدك وجهها حسناً
إذا ما زدته نظرا
كما لايفوتني التنويه عن أن ماحملته هذه القصيدة من رقة الألفاظ وسلاسة المعاني وتفرد الصور كان له أكبر الأثر في تسهيل عملية تلحينها وتأثيرها بالمتذوقين .. فهي قصيدة موشاة بالمقامات اللحنية مرصعة بالأوتار الأدبية وما كان لينقصها سوى ريشة المبدع العظيم موسيقارنا الزولي ليحرك أوتارها ويعانقها بريشته العطشى ليخرج لنا لحناً رائعاً عبقرياً من ألحان الخلود
وفي الختام دمت لنا شاعرتنا بلقيس أستاذة متمكنة البناء جزلة العطاء ودام قصيدك آسياً جراح قلوبنا ودافعاً بنا الأمل حتى نعرف معنى العشق من جديد بمفهوم مختلف !