المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة


أحمد حسن هاشمى
09/02/2010, 17h44
بدر

(1)
و كأنه آدم أرضه، لم يلقِ بالاً لتلك النسمات التي داعبت أطراف ثوبه كاشفةً عن ساقه النحيلة و هو على استلقائه الخالد على حشيته القذرة وهي نفسها مخزن (العدة) و ما يلزمه و ما ادخره من قروش لا تكفي لرتق ثقب في فم صغير جائع.
لطالما تساءلت في قرارة نفسي عن ذلك الكائن الأسطوري الذي لا تراه نائمًا إلا إذا نلت شرف كونك أحد أدواته التي يستعملها لصنع الشاي في موقف السيارات القريب من مكان عملي، نهاراً بين تقاذف السباب مع السائقين و ليلاً مع أي طارق من طراق الليل يقضي معه ليلته كي يستأنف العمل في اليوم الذي يليه و هكذا دواليك.. كنتُ قد تجاوزتُ مرحلة اليأس من اقتناص ما يخبئه ذلك الرجل في صدره، ففي جلوسي معه لا ينطق سوى (أيوه يا أستاذ....؟) ثم يستدرجك للحديث عن أحوالك أو يصمت، و كنتُ آلَيْتُ على نفسي أن لا أقطع المحاولة معه على سبيل قضاء ما يتبقى من الليل بعد عودتي من عملي بعد ساعة من منتصفه.

(2)
وجهه كان مألوفًا لديَّ، ففي كل ليلة يأتي مترنحًا تتقاذفه نسمات الهواء يمنة و يسرة و كأن معاقرتَهُ الخمرَ عقابٌ (سيزيفي) و حتى مع سكره البين يظل محتفظًا برصانة كاذبة ليصنع منها حاجزًا وهميًا بينه و بين الناس خوفًا من لا شيء و كل شيء، و في ليلتنا تلك أتى على غير عادته مبكرًا و ملابسه غير مهندمة تشي بخروجه المفاجئ من منزله. جلس بيني و بينه طلب كوبًا من الشاي و أخرج من علبة سجائره –غالية الثمن- لفافتَيْ تبغ بأَرْيَحِيَّةٍ لم نعتدها منه و بعد سؤاله عن أحواله و عن شروده البادي على ملامحه، خرج عن صمته و قال: (قلت لها إنني كاذب فارْبَدَّ وجهها و تنامت عليه ثمارُ أفعالي السابقة، طلبتِ الطلاق... خرجتُ من المنزل هائمًا على وجهي تصاحب صوت أفكاري دحرجة الحجارة التي تركلها قدماي، ثم تمر أمامي السنون كاشفةً عن ثغرها الباسم و لا أرى فيه سوى أنيابٍ تتقاطع في بسمة الواثق الساخر من هرولة ضحيته و عبث خطاها... لا أعرف من أين يأتي القدر بساعة الحسم؟)
قال: (طيب روح و اطلب منها السماح)
تنهد و قال: (من يوم أن قالت لي أمي فرحةً بذقني "و الله كبرت و صرت رجلاً!" خربت و أصبح الزمن يجبرني على التوقيع على وصل استلام الهناء زواج... نعم... حياة... كرامة... لا إذن فلتعِشْ كيفما نبتتْ لك الحياة في أرض البوار و كنتُ أنا نبتًا شيطانيًا جذوره الضمير أينما وجد الماء كان... مشيناها خطى)
قلت أنا: لا تقل كُتِبَتْ علينا.

(3)
أعلاه وجه كالقصعة التي تداعى عليها أكلتها تناثر عليه الشعر كيفما اتفق، أما أن تفتح بابًا يكون هو طارقه فعليك أن تعلم أن عينيك ستجحظان من الذهول فمن سالف الوصف لرأسه أضف عليه بطنًا كقعر سفينة نوح و أرجلاً كمنسأة سليمان بعدما أتت عليها دابة الأرض، كان آخر من انضم لنا و كنت أظنه تقاعد عن العمل لكن فيما بعد علمت أنه
مازال في منتصف عقده الرابع لكن تركه القدر كأينا مع الكبد و قوارضه أتته مورقًا و تركته قاعًا صفصفًا.
قال هو: "يعني كأنك يا أبا زيد ما غزيت!"
و عندها افتر ثغره عن ابتسامة لا تراها إلا على وجوه خيل الحكومة و قال: (عندما وجدت نفسي مغروسًا في العار و لا يد لي في ذلك و لا مطلب لي في الحياة إلا الستر، و البحر أمامي هادئ طافية حيتانه تغري بالصيد ونار الحاجة من خلفي تقول هل من مزيد قلت لنفسي (اثبت أنت مع الحق) استدرت إلى النيران و خرجت مفصولاً من العمل و من هناك إلى هنا). عندها انبريتُ أنا قائلاً: حمدًا لله على سلامتك (دون كيخوت).

(4)
لم يبد على وجهه الاكتراث لما قيل و غالبًا لما سيقال و هو على حالته وأنا على رد فعله أدرى و أعلم، لم يرد سوى بجملتين لا أدري إن خرجتا عن نطاق صوت عقلي قائلهما أو عن لسان حالهما.

(5)
إذا حسبت لوهلة أن جميع الحواس قد قتلت فلا تركن لذلك الشعور فأنت في جل تلك الظنون واهم!

(6) طاف بعينيه على الجالسين حتى استقرتا عليَّ و فجأة سألني:"كيف حال أخيك؟"
قلت له: "ربنا على الظالم و المفتري فمن يوم أن شد الرحال إلى هناك وهو يسف التراب و راضٍ بالهم و الهم لا يرضى، و الكفيل يهدده بالترحيل يراه طفلاً لا يعرف كيف يغير (كافولته).
تجهم و قال: "من ليس له خير في بلده لا يجده في أخرى".
لم يبقَ سوى أن أعرفكم بنفسي، كائن حي، راكض على أعتاب الحياة أنهيت دراستي في الفيزياء، أعمل قهوجيًا تتساوى عندي الآن نوائب الدهر و لسعات جمر (الولعة) على المعسل.
آخر أخباري أن محل إقامة كرامتي تغير من قفاي إلى جبهتي كي لا تكون إلا لله أما هو فتركته مستباحًا –رغمًا عني- حتى للإعلانات مدفوعة الأجر!

(7)
لحظة خاطفة مرت عليَّ و على جلسائه ارتفع فيها زئبق الغيط و الحنق في ترمومتر الحس لم يلبث أن عاد إلى درجة تجمده عندما رأينا وجوه أصحاب الأيادي التي لم تبخل علينا بالتوقيع على قفا كل منا يصاحبها
"بطاقتك يابن......... أنت و هو؟"
انتظرت أن يقوم عليهم و هو يكفيهم وحده، لكنه ظل على حاله و راح يتمتم بكلمات لم تصل إلى مسامعي، أخرج كل منا هويته و هو متوقع النهاية.
"انجر يا روح أمك منك له على البوكس!"
،
نعم كنا جميعًا و قلوبنا شتى بينما على أرائك (البوكس) التأم الشمل... رأيته... رأيته يرتق من الحماسة و علت همهماته و اتسعت ابتسامته كاشفة عن أسنان نخرة سوادها من سواد الطمي و خرجت كلماته و كأنها من طمي أسنانه نبتت و من صفاء روحه رُوِيَتْ.دهمهم بجسمه و الأهزوجة تضطرم مع ألحان القراع... قل أعوذ... مد بوزه... كل غدانا.... الجبان ابن الجبانة.... قام لقانا.... شعب هائج.... ناس غلابة... كش خايف... ساب وراه.... ريحة نتانة... و وراه رمينا.... ميت ألف قلة.... و عليه ضربنا.... من كل مدفع.... ميت ألف دانة.
الآن عرفته!
أحمد محمد هاشم
الخط المائل شعر أحمد فؤاد نجم