MOHAMED ALY
21/10/2006, 02h13
عبدالرحمن الخميسي.. موهبة شاملة وحياة عريضة
هذا العام تمر 86 سنة على ميلاد واحد من ألمع المثقفين العرب, الذين لعبوا أكبر دور في صياغة الوجدان القومي في مرحلة المد الثوري, وعلى الرغم من كثرة النصوص الانطباعية, التي تعرضت لموهبته ولمغامراته ولأثره ولأستاذيته, فإن سيرة حياته لاتزال بحاجة إلى تصوير دقيق, يتوازى مع ما حفلت به هذه الحياة من سعة وتنوع وتقلب.
وُلد الخميسي لأب ريفي من إحدى قرى الدقهلية (منية النصر), وأم حضرية من بورسعيد في 13/11/1920, وعاش طفولته الأولى مع والدته, متنقلاً بين مدينتي بورسعيد والسويس, ثم أعاده والده إلى حضانته في سن السادسة, حيث كان يقيم في قريته منية النصر, وألحقه بالمدرسة الابتدائية بالزرقا (وهي الآن عاصمة مركز جديد في محافظة دمياط), وهكذا اغترب مبكرًا من أجل الدراسة الابتدائية, فأتيحت له الخلوة بنفسه منذ سن السابعة, وكان يقضي لياليه في السير على شاطئ النيل, ويعود في نهاية الأسبوع إلى قريته ليقضي بعض الوقت مع والده وزوجته الأخرى, وتكوّنت له منذ طفولته شخصية متأملة تقدر الألم, وتعرفه, وتعطف على الآخرين, وكان على تعلقه بوالدته وشعوره بالوحدة في غيابها يستحضر صورتها وصورة حياته البهيجة في المدينة. وبدأ التعبير الفني بنظم المواويل الشعبية محاكيًا والده ومطربي الريف, وانتقل للدراسة في المنصورة الثانوية, وفيها شجعه الشاعر محمد بيومي على مراسلة الصحف لنشر إنتاجه الأدبي, ونشرت له (البلاغ) المصوّرة قصيدة (أزهار), كما نشرت له (الرسالة) و(الثقافة). وبدأ وعيه السياسي والأدبي ينمو وهو في المنصورة, ثم انتقل إلى القاهرة لينعم بحياة العاصمة الكبرى وما فيها من فرص مواتية, والتحق بمدرسة القبة الثانوية, وشارك في جماعة التمثيل بها, وارتبط بأجواء شارع محمد علي, واضطر إلى البحث عن مأوى في القاهرة يقضي فيه لياليه, حتى إنه كان ينام بعض الليالي في بعض المقاهي والحدائق, وهي التجربة التي عبّر عنها فيما بعد في قصة (النوم). عمل (هو والشاعر أحمد مخيمر) في كتابة المونولوجات والأغاني للملحنين والمطربين والمونولوجستات.
وتعرف سنة (1938) على أحمد رامي في دار الكتب, وعلى محمد فتحي في الإذاعة, حيث درّبه على كتابة التمثيليات الإذاعية وإخراجها, وبدأ يمارس العزف على جهاز البيانو النقالي, ويصاحب الفرق الموسيقية لهذا الغرض. ثم تعرف على أحمد المسيري, وكان صاحب فرقة مسرحية شعبية جوالة ذائعة الصيت, وتعاقد معه, وتشرّب منه الإجادة والتجويد في كل أركان العمل الفني, فقد كان المسيري -كما صار الخميسي فيما بعد - فنانًا شاملاً يجيد التأليف المسرحي, والغنائي, والتمثيلي, الإخراج, والتلحين, والتطريب, والماكياج, والديكور, والإدارة, فضلاً عن النجارة, والكهرباء, والحرف المساعدة للعمل الفني, وكان مسرح فرقة المسيري ارتجالي الطابع, مع تطعيم الأحداث بالواقع والعادات, وقد مارس الخميسي من خلال هذه الفرقة (ومثيلاتها) التعبير الفني المطلق, كما مارس فنون المسرح, الذي يتغير نصه كل ليلة, ولايزال بعض نتاج الخميسي في هذه الفترة متاحًا من خلال بعض ألحانه الشعبية المسجلة, التي قدمها شكوكو, وشفيق جلال, وسعاد مكاوي, وثريا حلمي, فضلاً عن بعض أغاني الأفراح والمناسبات, التي لاتزال تتردد.
وقد ارتقى الخميسي من ممثل صغير في هذه الفرقة إلى نجمها الأول, وقد نمت هذه التجربة في شخصيته ملكات اليقظة,وسرعة البديهة نتيجة اضطراره للتجاوب على المسرح مع زملائه من الممثلين التلقائيين, وفضلاً عن هذا, فقد تفجّرت موهبته في إتقان تأليف المسرحيات والمسلسلات الإذاعية, كما صُقلت مواهبه في الإخراج, والموسيقى, والتلحين, وكتابة الشعر, وفي هذه الفرقة توثقت علاقة الخميسي بنجار الفرقة, ودفع به إلى ساحة التمثيل وغناء المونولوجات الخفيفة, وكان هذا النجار هو محمود شكوكو, الذي كان يتهيّب التجربة, فشجعه الخميسي, واختار له زيه التقليدي وتمثاله...إلخ. وعاش الخميسي هذه الفترة مع الفرق الجوالة, ولعله شكّل بنفسه بعض هذه الفرق.
وفي سنة1940 أتيح له أن يتعرف بشاعر القطرين خليل مطران, حيث عرف مستوى آخر من الحياة, ومن التجديد الفني في الشعر والإبداع الرومانسي, والعمل من أجل الخير, وارتقت قدرات الخميسي واهتماماته على يد مطران وعلى يد مَنْ عرفهم بعده من الأدباء والمفكرين, وبخاصة سلامة موسى, وإبراهيم ناجي, وكامل الشناوي, الذي اختار له لقب (القديس) وروّج له, وارتبط معه بصداقة عمر, ثم عرف محمد عودة الذي ارتبط معه أيضًا بصداقة عمر, ثم الأخوين مصطفى أمين وعلي أمين وموسى صبري, وانتقلت جلساته إلى الفيشاوي وغيرها من مقاهي القاهرة, كما عرف حفني باشا محمود, واختاره كامل الشناوي محررًا أدبيًا لأخبار اليوم, ومنها انتقل بعد بضعة شهور إلى صحيفة (الكتلة) صحيفة حزب مكرم عبيد, وفيها اقتصر على نشر إبداعاته ونقده.
كانت بداية عمله في الإذاعة المصرية (1938-1960), وعمل في استوديو مصر (1944).
وترك وظيفته في الإذاعة المصرية (1947) للعمل في إذاعة الشرق الأدنى, وكانت تبث من يافا, وفي تلك الإذاعة عمل الخميسي مؤلفًا للبرامج والتمثيليات, ومخرجًا ومذيعًا وممثلاً, وقد زامل هناك سامي داود, وعميد الإمام, والسيد بدير, وناصر الدين النشاشيبي, وكانت الإذاعة تذيع أيضًا أحاديث للأساتذة: العقاد, والمازني, ومحمد مهدي الجواهري.
الكاتب الشاعر
وتوج الخميسي نشاطه في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات بإشرافه على صفحة فنية يومية في جريدة (المصري) وفيها كتب عمودًا يوميًا بعنوان (من الأعماق), ونشر في هذه الصفحة إبداعات كثيرة ومتنوعة للجيل الصاعد وقتها, وكان إنتاج يوسف إدريس القصصي ضمن ما نُشر في هذه الصفحة تباعًا, وقد تنبأ له بمستقبله الذي تحقق. وقد رشحه للعمل في (المصري) صديقه وابن بلده زكريا الحجاوي (1914-1975), وقد كان مديرًا لتحريرها, وفيها زامل محمود عبدالمنعم مراد, وحسن فؤاد, وعثمان العنتبلي, وعبدالرحمن الشرقاوي, وسعد مكاوي, وعبدالرحمن صادق, وتعرف إلى الجناح اليساري في الوفد بزعامة محمد مندور, وعزيز فهمي, ومصطفى موسى, وعبدالمحسن حمودة. كما نشأت علاقة حميمة بينه وبين أحمد أبو الفتح, حتى أنه أطلق اسم أحمد على ابنه. وشهدت (المصري) منافسته مع سعد مكاوي, الذي كان ينشر حلقات روايته الشهيرة (السائرون نيامًا), وفي المقابل نشر الخميسي (ألف ليلة وليلة) في حلقات ممتعة استمرت أكثر من عام تحت عنوان (ألف ليلة وليلة الجديدة), بأسلوب جديد راعى الاختصار وعدم الإخلال, وتجنب لوازم العمل القديم من السجع والبذاءة وألفاظ الجنس, وقد نشرت في سلسلة كتب للجميع بعد ذلك. كذلك خاض الخميسي معركة عنيفة مع محمد التابعي حول الموسيقى والطرب والمفاضلة بين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم. وفي بابه (من الأعماق) استأنف نشر إبداعاته من الشعر والقصة, وترجمة الأعمال الأدبية لموباسان, وتشيكوف, مما جمعه فيما بعد في كتابه (يوميات مجنون). كما نشر مقالات نقدية ومقالات عُني فيها بالتذوق ونشر الوعي الموسيقي. وفي هذه الفترة نشر الخميسي (1951) كتابه (المكافحون). وقد قدم في هذا الكتاب سيرة حياة عدد من المكافحين من أجل وطنهم, مثل عبدالله النديم, وجمال الأفغاني, وعمر مكرم.
وصبيحة إلغاء معاهدة (1936), كتب الخميسي (أكتوبر 1951), في بابه (من الأعماق) بالمصري مقالاً ناريًا كان مما جاء فيه:
(كان أمس زئيرًا راعدًا, وطوفانًا من الحماس الغامر, وشمسًا مشرقة باهرة الأضواء. الزئير ألفته صرخات الملايين بسقوط الاستعمار ومعاهدة 1936 واتفاقيتي 1899, وطوفان الحماس كان ينصب من قلوب الملايين تمجيدًا لهذه الخطوة الباسلة, التي قطعت بها الحكومة العلاقة بين مصر الضحية وإنجلترا الغاصبة المفترسة. كان أمس يومًا خالدًا كفن فيه المصريون ماضي الاحتلال, وأهالوا عليه التراب, كان عيدًا مجنون الأفراح, القيد انكسر, فانطلقوا أيها المواطنون إلى أرض الحرية, ولا تدعوا للغاصبين فرصة أخرى. اغسلوا جراحكم, وقفوا صفًا واحدًا باسلاً تحت شمس الحياة).
وفيما بعد الثورة, بدأ الخميسي علاقته بحركة الجيش بالتحفظ الشديد, منطلقًا من ثقافته وتجربته, وقد روى أحمد أبو الفتح في مقال له في الوفد (1999) بعض ما صور به موقف الخميسي وتخوّفه من الديكتاتورية فقال:
(أذكر أن الخميسي كان في الشهور الأولى من الحركة سريع الحساسية, مما سيحل بمصر على يد الديكتاتورية, وكان ينشر كلمته يوميًا في جريدة (المصري), وأخذ من آن لآخر يوجه اللوم بأسلوبه اللولبي إلى مَن انخدعوا في حركة الجيش, وفي يوم من الأيام, حضر إلى مبنى جريدة (المصري) ثلاثة من ضباط الجيش, وهددوا الخميسي بأشد العقوبات إذا وجه أي نقد للحركة, وفي اليوم نفسه, كتب الخميسي كلمته, وكلها مدح في حركة الجيش, ثم كتب في آخر سطر: يا مهلاّبية...يا! الأمر الذي يقطع بأنه لم يكن يمدح, بل كان يسخر من هذه الحركة, وفي الليل, حضر الضباط الثلاثة, والشر في أعينهم, وصرخوا في وجه الخميسي بالشتائم والتهديدات, وبكل قدرة الخميسي على التمثيل, أبدى استغرابه لتصرف الضباط وقال: لقد مدحت حركة الجيش مدحًا كاملا, ماذا تريدون بعد ذلك?).
(فقال له الضابط: هل هذا مدح أم مسخرة? ماذا تقصد بـ(يا مهلاّبيّة...يا?).
وأبدى الخميسي المزيد من الدهشة وقال: إيه حكاية يا مهلاّبية, يا التي تتحدثون عنها هذه? فألقى أحد الضباط بالجريدة في وجهه قائلاً: لماذا اختتمت كلمتك بهذه العبارة الساخرة?).
(وقال الخميسي: أنا لم أكتب أبدًا هذه العبارة, ولابد أن يكون قد تم وضعها بطريق الخطأ, إذ كان مكانها برنامج الراديو الذي تنشره الجريدة كل يوم, وفي هذا البرنامج كانت أغنية لمحمود شكوكو باسم يا مهلابية...يا! وهكذا أنقذ الخميسي نفسه من براثن الانتقام!).
ويدلنا الأستاذ يوسف الشريف على مقال مهم للخميسي يوضح موقفه من الديمقراطية منشور في مجلة (الكاتب) بتاريخ 15 أكتوبر 1952 بعنوان (بعض ما يريده الشعب) يقول فيه الخميسي:
http://www.alarabimag.com/arabi/data/2005/12/1/Art_71680.xml (http://www.alarabimag.com/arabi/data/2005/12/1/Art_71680.xml)
هذا العام تمر 86 سنة على ميلاد واحد من ألمع المثقفين العرب, الذين لعبوا أكبر دور في صياغة الوجدان القومي في مرحلة المد الثوري, وعلى الرغم من كثرة النصوص الانطباعية, التي تعرضت لموهبته ولمغامراته ولأثره ولأستاذيته, فإن سيرة حياته لاتزال بحاجة إلى تصوير دقيق, يتوازى مع ما حفلت به هذه الحياة من سعة وتنوع وتقلب.
وُلد الخميسي لأب ريفي من إحدى قرى الدقهلية (منية النصر), وأم حضرية من بورسعيد في 13/11/1920, وعاش طفولته الأولى مع والدته, متنقلاً بين مدينتي بورسعيد والسويس, ثم أعاده والده إلى حضانته في سن السادسة, حيث كان يقيم في قريته منية النصر, وألحقه بالمدرسة الابتدائية بالزرقا (وهي الآن عاصمة مركز جديد في محافظة دمياط), وهكذا اغترب مبكرًا من أجل الدراسة الابتدائية, فأتيحت له الخلوة بنفسه منذ سن السابعة, وكان يقضي لياليه في السير على شاطئ النيل, ويعود في نهاية الأسبوع إلى قريته ليقضي بعض الوقت مع والده وزوجته الأخرى, وتكوّنت له منذ طفولته شخصية متأملة تقدر الألم, وتعرفه, وتعطف على الآخرين, وكان على تعلقه بوالدته وشعوره بالوحدة في غيابها يستحضر صورتها وصورة حياته البهيجة في المدينة. وبدأ التعبير الفني بنظم المواويل الشعبية محاكيًا والده ومطربي الريف, وانتقل للدراسة في المنصورة الثانوية, وفيها شجعه الشاعر محمد بيومي على مراسلة الصحف لنشر إنتاجه الأدبي, ونشرت له (البلاغ) المصوّرة قصيدة (أزهار), كما نشرت له (الرسالة) و(الثقافة). وبدأ وعيه السياسي والأدبي ينمو وهو في المنصورة, ثم انتقل إلى القاهرة لينعم بحياة العاصمة الكبرى وما فيها من فرص مواتية, والتحق بمدرسة القبة الثانوية, وشارك في جماعة التمثيل بها, وارتبط بأجواء شارع محمد علي, واضطر إلى البحث عن مأوى في القاهرة يقضي فيه لياليه, حتى إنه كان ينام بعض الليالي في بعض المقاهي والحدائق, وهي التجربة التي عبّر عنها فيما بعد في قصة (النوم). عمل (هو والشاعر أحمد مخيمر) في كتابة المونولوجات والأغاني للملحنين والمطربين والمونولوجستات.
وتعرف سنة (1938) على أحمد رامي في دار الكتب, وعلى محمد فتحي في الإذاعة, حيث درّبه على كتابة التمثيليات الإذاعية وإخراجها, وبدأ يمارس العزف على جهاز البيانو النقالي, ويصاحب الفرق الموسيقية لهذا الغرض. ثم تعرف على أحمد المسيري, وكان صاحب فرقة مسرحية شعبية جوالة ذائعة الصيت, وتعاقد معه, وتشرّب منه الإجادة والتجويد في كل أركان العمل الفني, فقد كان المسيري -كما صار الخميسي فيما بعد - فنانًا شاملاً يجيد التأليف المسرحي, والغنائي, والتمثيلي, الإخراج, والتلحين, والتطريب, والماكياج, والديكور, والإدارة, فضلاً عن النجارة, والكهرباء, والحرف المساعدة للعمل الفني, وكان مسرح فرقة المسيري ارتجالي الطابع, مع تطعيم الأحداث بالواقع والعادات, وقد مارس الخميسي من خلال هذه الفرقة (ومثيلاتها) التعبير الفني المطلق, كما مارس فنون المسرح, الذي يتغير نصه كل ليلة, ولايزال بعض نتاج الخميسي في هذه الفترة متاحًا من خلال بعض ألحانه الشعبية المسجلة, التي قدمها شكوكو, وشفيق جلال, وسعاد مكاوي, وثريا حلمي, فضلاً عن بعض أغاني الأفراح والمناسبات, التي لاتزال تتردد.
وقد ارتقى الخميسي من ممثل صغير في هذه الفرقة إلى نجمها الأول, وقد نمت هذه التجربة في شخصيته ملكات اليقظة,وسرعة البديهة نتيجة اضطراره للتجاوب على المسرح مع زملائه من الممثلين التلقائيين, وفضلاً عن هذا, فقد تفجّرت موهبته في إتقان تأليف المسرحيات والمسلسلات الإذاعية, كما صُقلت مواهبه في الإخراج, والموسيقى, والتلحين, وكتابة الشعر, وفي هذه الفرقة توثقت علاقة الخميسي بنجار الفرقة, ودفع به إلى ساحة التمثيل وغناء المونولوجات الخفيفة, وكان هذا النجار هو محمود شكوكو, الذي كان يتهيّب التجربة, فشجعه الخميسي, واختار له زيه التقليدي وتمثاله...إلخ. وعاش الخميسي هذه الفترة مع الفرق الجوالة, ولعله شكّل بنفسه بعض هذه الفرق.
وفي سنة1940 أتيح له أن يتعرف بشاعر القطرين خليل مطران, حيث عرف مستوى آخر من الحياة, ومن التجديد الفني في الشعر والإبداع الرومانسي, والعمل من أجل الخير, وارتقت قدرات الخميسي واهتماماته على يد مطران وعلى يد مَنْ عرفهم بعده من الأدباء والمفكرين, وبخاصة سلامة موسى, وإبراهيم ناجي, وكامل الشناوي, الذي اختار له لقب (القديس) وروّج له, وارتبط معه بصداقة عمر, ثم عرف محمد عودة الذي ارتبط معه أيضًا بصداقة عمر, ثم الأخوين مصطفى أمين وعلي أمين وموسى صبري, وانتقلت جلساته إلى الفيشاوي وغيرها من مقاهي القاهرة, كما عرف حفني باشا محمود, واختاره كامل الشناوي محررًا أدبيًا لأخبار اليوم, ومنها انتقل بعد بضعة شهور إلى صحيفة (الكتلة) صحيفة حزب مكرم عبيد, وفيها اقتصر على نشر إبداعاته ونقده.
كانت بداية عمله في الإذاعة المصرية (1938-1960), وعمل في استوديو مصر (1944).
وترك وظيفته في الإذاعة المصرية (1947) للعمل في إذاعة الشرق الأدنى, وكانت تبث من يافا, وفي تلك الإذاعة عمل الخميسي مؤلفًا للبرامج والتمثيليات, ومخرجًا ومذيعًا وممثلاً, وقد زامل هناك سامي داود, وعميد الإمام, والسيد بدير, وناصر الدين النشاشيبي, وكانت الإذاعة تذيع أيضًا أحاديث للأساتذة: العقاد, والمازني, ومحمد مهدي الجواهري.
الكاتب الشاعر
وتوج الخميسي نشاطه في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات بإشرافه على صفحة فنية يومية في جريدة (المصري) وفيها كتب عمودًا يوميًا بعنوان (من الأعماق), ونشر في هذه الصفحة إبداعات كثيرة ومتنوعة للجيل الصاعد وقتها, وكان إنتاج يوسف إدريس القصصي ضمن ما نُشر في هذه الصفحة تباعًا, وقد تنبأ له بمستقبله الذي تحقق. وقد رشحه للعمل في (المصري) صديقه وابن بلده زكريا الحجاوي (1914-1975), وقد كان مديرًا لتحريرها, وفيها زامل محمود عبدالمنعم مراد, وحسن فؤاد, وعثمان العنتبلي, وعبدالرحمن الشرقاوي, وسعد مكاوي, وعبدالرحمن صادق, وتعرف إلى الجناح اليساري في الوفد بزعامة محمد مندور, وعزيز فهمي, ومصطفى موسى, وعبدالمحسن حمودة. كما نشأت علاقة حميمة بينه وبين أحمد أبو الفتح, حتى أنه أطلق اسم أحمد على ابنه. وشهدت (المصري) منافسته مع سعد مكاوي, الذي كان ينشر حلقات روايته الشهيرة (السائرون نيامًا), وفي المقابل نشر الخميسي (ألف ليلة وليلة) في حلقات ممتعة استمرت أكثر من عام تحت عنوان (ألف ليلة وليلة الجديدة), بأسلوب جديد راعى الاختصار وعدم الإخلال, وتجنب لوازم العمل القديم من السجع والبذاءة وألفاظ الجنس, وقد نشرت في سلسلة كتب للجميع بعد ذلك. كذلك خاض الخميسي معركة عنيفة مع محمد التابعي حول الموسيقى والطرب والمفاضلة بين محمد عبدالوهاب وأم كلثوم. وفي بابه (من الأعماق) استأنف نشر إبداعاته من الشعر والقصة, وترجمة الأعمال الأدبية لموباسان, وتشيكوف, مما جمعه فيما بعد في كتابه (يوميات مجنون). كما نشر مقالات نقدية ومقالات عُني فيها بالتذوق ونشر الوعي الموسيقي. وفي هذه الفترة نشر الخميسي (1951) كتابه (المكافحون). وقد قدم في هذا الكتاب سيرة حياة عدد من المكافحين من أجل وطنهم, مثل عبدالله النديم, وجمال الأفغاني, وعمر مكرم.
وصبيحة إلغاء معاهدة (1936), كتب الخميسي (أكتوبر 1951), في بابه (من الأعماق) بالمصري مقالاً ناريًا كان مما جاء فيه:
(كان أمس زئيرًا راعدًا, وطوفانًا من الحماس الغامر, وشمسًا مشرقة باهرة الأضواء. الزئير ألفته صرخات الملايين بسقوط الاستعمار ومعاهدة 1936 واتفاقيتي 1899, وطوفان الحماس كان ينصب من قلوب الملايين تمجيدًا لهذه الخطوة الباسلة, التي قطعت بها الحكومة العلاقة بين مصر الضحية وإنجلترا الغاصبة المفترسة. كان أمس يومًا خالدًا كفن فيه المصريون ماضي الاحتلال, وأهالوا عليه التراب, كان عيدًا مجنون الأفراح, القيد انكسر, فانطلقوا أيها المواطنون إلى أرض الحرية, ولا تدعوا للغاصبين فرصة أخرى. اغسلوا جراحكم, وقفوا صفًا واحدًا باسلاً تحت شمس الحياة).
وفيما بعد الثورة, بدأ الخميسي علاقته بحركة الجيش بالتحفظ الشديد, منطلقًا من ثقافته وتجربته, وقد روى أحمد أبو الفتح في مقال له في الوفد (1999) بعض ما صور به موقف الخميسي وتخوّفه من الديكتاتورية فقال:
(أذكر أن الخميسي كان في الشهور الأولى من الحركة سريع الحساسية, مما سيحل بمصر على يد الديكتاتورية, وكان ينشر كلمته يوميًا في جريدة (المصري), وأخذ من آن لآخر يوجه اللوم بأسلوبه اللولبي إلى مَن انخدعوا في حركة الجيش, وفي يوم من الأيام, حضر إلى مبنى جريدة (المصري) ثلاثة من ضباط الجيش, وهددوا الخميسي بأشد العقوبات إذا وجه أي نقد للحركة, وفي اليوم نفسه, كتب الخميسي كلمته, وكلها مدح في حركة الجيش, ثم كتب في آخر سطر: يا مهلاّبية...يا! الأمر الذي يقطع بأنه لم يكن يمدح, بل كان يسخر من هذه الحركة, وفي الليل, حضر الضباط الثلاثة, والشر في أعينهم, وصرخوا في وجه الخميسي بالشتائم والتهديدات, وبكل قدرة الخميسي على التمثيل, أبدى استغرابه لتصرف الضباط وقال: لقد مدحت حركة الجيش مدحًا كاملا, ماذا تريدون بعد ذلك?).
(فقال له الضابط: هل هذا مدح أم مسخرة? ماذا تقصد بـ(يا مهلاّبيّة...يا?).
وأبدى الخميسي المزيد من الدهشة وقال: إيه حكاية يا مهلاّبية, يا التي تتحدثون عنها هذه? فألقى أحد الضباط بالجريدة في وجهه قائلاً: لماذا اختتمت كلمتك بهذه العبارة الساخرة?).
(وقال الخميسي: أنا لم أكتب أبدًا هذه العبارة, ولابد أن يكون قد تم وضعها بطريق الخطأ, إذ كان مكانها برنامج الراديو الذي تنشره الجريدة كل يوم, وفي هذا البرنامج كانت أغنية لمحمود شكوكو باسم يا مهلابية...يا! وهكذا أنقذ الخميسي نفسه من براثن الانتقام!).
ويدلنا الأستاذ يوسف الشريف على مقال مهم للخميسي يوضح موقفه من الديمقراطية منشور في مجلة (الكاتب) بتاريخ 15 أكتوبر 1952 بعنوان (بعض ما يريده الشعب) يقول فيه الخميسي:
http://www.alarabimag.com/arabi/data/2005/12/1/Art_71680.xml (http://www.alarabimag.com/arabi/data/2005/12/1/Art_71680.xml)