التقيت المتنبي فقال لي

[أحمد بارود]

رأيتني في زمان قديم فوق أرض ممتدة .. الناس فيها أحرار يتجولون بلا خوف ركبانا وراجلين .. يسجدون متى حان موعد العبادة أو لا يسجدون فكل الحياة تسامح وصفاء .... فجأة جاء زمان غيره وجاء أناس غرباء من بلاد بعيدة ينازعون أهل هذه الأرض على بركاتها ... أخذ الغرباء حصتهم منها تحت السطح نفطها الشهي فيما ظل ما فوق السطح من خيول وبعران حصة حق لأصحابها ... ثم جاء زمان بعده إذا بالرمال تتصلب تحت أخفاف الجِمال بعد أن شق شركاء البركات طرقا لهم في البيداء .. نفرت الجياد الأصيلة جافلة حتى من فرسانها بعد أن اختلطت عليها الكوفية العربية بالبرنيطة الدخيلة تحت أضواء عجيبة تسطع ، على غير العادة ، من غير نار فيبدو الوقت في وهجها شاذا عن تقويمه القمري المألوف .. استغرب البسطاء والفقراء .. قال بعضهم إن هذا من عمل الشيطان وقرأ آخرون " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس " وشهد آخرون أنهم قد رأوا في السماء أسرابا من طيور معدنية لها ضجيج مفزع أيقظ المتنبي من مثواه في الأطراف ... رأيت المتنبي يفرك جبينه بأصابعه النحيلة ... دعاني إليه وهمس لي ... يا ولدي .. أنا لم أمت بل قتلت قديما بينما اليوم سأموت بإرادتي واشهد أنت على ذلك ثم ناولني ورقة وقال أريد منك أن تنقل للناس عندكم هذا الاعتراف المتأخر ...

لا الخيل ولا البيداء تعرفني .. والليل يسطع بالأضواء للموسر

والسيف معطوب ملقى بلا معنى .. والرمح غاب فلا خبر ولا مخبر

أما القراطيس فهي صناعة عليا .. والشرق منخفض لا يعرف المصدر

غرب على غرب تحلو لكم دنيا .. وشرقكم ذاو قلم بلا دفتر

هذا أنا عار بلا أصل في بحرهم أرسو.. أبدا ولن أبحر

ملح البحار بغربهم يحلو .. وماء دجلة في صحرائكم مكدر

والليل اذ تشتد جلكته في غربهم نور .. ونهاركم أغبر

صرتم بقايا أمة هلكت .. لولا كتاب عزيز فقهه ثرثر

قلوبكم شتّى وعقولكم شتّى وبلادكم شتّى .. لولا توحدكم في الزي والمظهر

وأود لو ترغب أبرّئ ساحتي من أصلكم من لغوكم من كذبكم

من عدنان من قحطان .. ومن عمر ومن عنتر

يا ولدي

أنا أكبر كذّاب في التاريخ .. قد ضللني التهويم يوما في غير وادي الحقيقة

فيما أنا اليوم بعد أن رأيت عصركم أقدم لكم هذا الاعتراف .. صافحني الرجل بكفه الباردة النحيلة ثم ثوى ميتا للمرة الأولى