زياد العيساوي
01/10/2009, 15h03
لقد كان الرائن على الأغنية الليبية ، حتى النصف الثاني من منتصف خمسينيات القرن المنصرم ، الطابع الشعبي بتنوع ألوانه ، نتيجة ًلاتساع الرقعة الجغرافية لبلادنا ، و اختلاف أقاليمها الساحلية و الجبلية و الصحراوية و شبهها ، فطال زمن هيمنة الغناء الشعبي في بلادنا لفترة طويلة ، على النقيض من بعض الأقطار العربية الأخرى ، التي نجح فنانوها الروّاد في النهوض بالأغنية لديهم ، بشق الطريق أمام الأغنية الحديثة عبر تجارب كثيرة و تمهيدها بأسلوب علمي ، عرف كيف يحافظ على الهوية العربية من الضياع ، بالحرص على الغناء على المقامات الموسيقية العربية المعهودة ، مع التطوير في الألحان ، و مدّها بروح الموسيقا الحديثة و تأثيث التخت الشرقي بعديد الآلات الموسيقية ، و محاولة فرز الغناء العربي من كل غناء دخيل ، كما أنهم قاموا بتهذيب الكلمات و العمل على إقصاء الكلمة الموغلة في العامية المنغلقة على ذاتها ، و تنميق المفردات ، باستحضار المفردة العربية الفصحى ، أو على أقل تقدير ، المشتركة بين الأقطار العربية كلها .
ففي الأصل ، كان الغناء العربي ، هو ذلك الغناء ، الذي لا يُسمَع من كلماته سوى الكلمة المستقاة من معاجم اللغة العربية ، قبل ظهور اللحن في الكلمة لا الموسيقا ، لكنْ بعد تشتت المسلمين و سقوط عاصمة الخلافة " بغداد " على يدي ( هولاكو ) سنة 1258 ميلادياً - أي قبل 751 سنة من سنتنا هذه - التي تلتها سنو الانحطاط الشامل ، و على الأصعدة جميعها ، و تشرذم العرب ، و تقوقعهم كجماعات في أقطار تفصلها الحدود الوهمية ، ما أدّى إلى تكريس ثقافة الفرقة و الانغلاق ، خصوصاً بعد خضوعهم للمستعمر الأوربي ، مع بداية القرن السابق ، لكنْ بعد تنامي الشعور القومي و حروب التحرير ضد هذا المستعمر البغيض ، و نيل أغلب هذه الأقطار العربية لاستقلالاتها ، غدا العرب يبحثون عن هويتهم الثقافية و الدينية و الفكرية المستلبة ، ما أسهّم فوراً من حيث الجانب الفني ، في بزوغ و سطوع أسماء لفنانين عرب كبار ، كان لهم فضل السبق في وضع لبنات الأغنية الحديثة ، و ليس على سبيل الحصر ، بل المثال ، أذكر منهم : " سيد درويش" و " الشيخ زكريا أحمد " و " رياض السنباطي " و " محمد القصبجي " و " محمد عبد الوهاب " و " فريد الأطرش " و التابعين لهم ، مثل " علي الشريف " و " منير مراد " و " كمال الطويل " و " محمد الموجي " و " الرحابنة " فكان لهؤلاء ، و لغيرهم ممّن لم آتي على ذكرهم - لأنّ القائمة تطول - التأثير الواضح على فناني بلادنا ، لا سيما أنهم كانوا على مسافة قريبة منا ، فأشرأبوا منهم التحديث الموسيقي ، و انعكس ذلك على أعمالهم لاحقاً .
و على الرغم من الصعوبات ، التي كانت تقف حجرة عثرة أمام الفنان في ( ليبيا ) في العقود الستة المنفرطة ، إذا ابتغى أنْ يعلن عن نفسه ، خصوصاً من حيث الجانب الاجتماعي ، كما أنه كان يصعب على الفنان حينذاك ، أنْ يحاول مجرد المحاولة ، أنْ يخرج على الناس بلون جديد من الغناء ، غير الذي اعتادت أسماعهم التقاطه ، إلا أنّ الفنان الراحل " محمد صدقي " أصرّ صُحبة الملحن الكبير " يوسف العالم " على أنْ يخوضا غمار هذه التجربة الرائدة ، التي حدثت في الأقطار العربية الأخريات ، من حيث الفكاك من أسر الأغنية الشعبية ، التي قاما بما يجب عليهما تجاهها ، بيد أنّ لكليهما باعاً طويلاً في ميدانها ، الذي أمسى لا يتسع للجميع من كثرة ما يعجُّ به من أسماء لفنانين ليبيين ، فقد تناغم الاثنان مع أنغامها لفترة طويلة ، و قدَّما معاًَ و مع غيرهما من مطربين و ملحنين ، ما بوسعهما من غناء يأتي على شاكلتها ، فالفنان الملحن " يوسف العالم " الذي أعدُّه قيدوم التحديث الموسيقي ، كان يعي و بكل تأكيد ، بأنّ الغناء على أوزان الأغنية الشعبية ، سوف يحّدُّ من طموحه ، لأنّ في هذا الغناء ، تتعطل مهمة التلحين ، ذلك أنّ أنغامه ، تأتي على عدد معدود من الألحان الثابتة ، التي تـُركـّب عليها الكلمات و الأبيات الشعرية ، بطريقة اللصق و النسخ ، ما جعل جلَّ تركيز المتلقين في ( ليبيا ) - و حتى انقضاء فترة ليست بالقصيرة على ظهور أولى الأغنيات الحديثة ، حين تقييمه لأية أغنية – ينصب على الزجال لا الملحن ، و هذا أمر طبيعي ، فقد اعتاد تجمُّد الألحان ، التي أقرُّ بروعتها ، غير أنني أملُّ تكرارها دوماً ، و من ثم ، اعتاد أيضاً ، غياب عنصر الدهشة الذي توفره الحداثة و التجديد في التلحين .
أستطيع القول بأنّ المستمع الليبي ، لم يع ِدور الملحن ، إلا بعد أنْ ائتلفت جهود الشاعر و الزجّال الراحل " عبد السلام قادربوه " و الملحن " يوسف العالم " و المطرب الراحل " محمد صدقي " وقت إصدارهم لأول أغنية ليبية حديثة ، كانت زمن ظهورها في عام 1957 ميلادياً ، كما المولودة من رحم الأغنية الشعبية الكلاسيكية ، ففي خطوة جريئة من ثلاثتهم ، قدّموا للمستمعين الليبي و العربي ، أغنية ( طيرين في عش الوفاء ) التي دخلت اليوم ، عامها الثاني و الخمسين ، لتكون أماً لكل أغنية حديثة جاءت بعدها ، فمثلما استقبلها المستمع الليبي بكل ترحاب ، فقد حازت إعجاب المستمع العربي ، الذي قلّدها أطواق الياسمين و أساور الذهب و الفضة ، فرحة ًبميلادها ، خصوصاً في المحتفلات الفنية العربية ، إذ أنها حظيت بإشادة المنظمين لهذه المهرجانات ، فبالنسبة للتحديث الغنائي الحاصل لدينا منذ تلك الفترة ، يُعدُّ فوزاً و مكتسباً كبيرين للأغنية الليبية ، مقارنة مع أقطار عربية أخرى تأخر التحديث الموسيقي فيها ، كما دول الخليج مثلاً ، التي على الرغم من استعانتها بالفرق و الأطقم الموسيقية المؤلفة أعدادها من عشرات العازفين ، و اعتمادها التوزيع الموسيقي الحديث و تصوير الأغنيات بالطرق الحديثة ، إلا أنها ما زالت إلى يومنا هذا ، تقدّم غناءً يبتعد كل المسافة عن الغناء الحديث ، الذي يعتمد أصول الغناء العربي ، فما يعرض من غناء هناك و نراه على شاشاتنا ، لم يتحرّر من السلم الخماسي الأفريقي ، حتى في أعمال كبار فنانيهم و روّادهم ، الأمر الذي يعني – و الحال كذلك - مدى تفتق الذهنية الموسيقية المستقبلية لدى هؤلاء المبدعين الثلاثة .
و قبل أنْ أباشر في الكلام عن سر نجاح هذه الأغنية ، دعوني بادئ ذي بدء ، أسطرُ لكم مفرداتها الفاتنات ، ثم سيكون ليّ عنها حديث آخر :
طيرين في عش الوفاء .. باتن سهارى كنهن ؟
من شوق بالماضي لفى .. و للا الهوى شاغلهن
و حيرتهن معايا .. في لوعة غلايا .. في ماضي بنيته
…
و كان الحب في ماضي زماني .. نار اتقيد .. و أوهاماً غريبة
نسمع بيه ما يوماً دعاني .. و لا شاكيت من قسوة لهيبه
برموشه رماني .. خللاني نعاني .. في سهوة لقيته
…
بعد الليل .. ما سهّر عيوني .. تشكي دوم .. مشغولة بحالي
و عاد الموح.. يوقد في ظنوني .. ظلم أيام .. ما فارق خيالي
و تاه القلب مرة .. و عاد معاه نظرة .. من غالي هويته
…
مال الورد .. فوق الغصن زاهي .. يوصف شوق .. في موّال غيّة
يوم شقيت .. بيه و كان لاهي .. زاد النار .. في دموعي الخفية
و سهّرني ليالي .. تايه دوم بالي .. نحلف ما نسيته ..
أما وقد طالعتم كلماتها و معانيها ، ماذا برأيكم ، لو قام ملحن آخر بتلحينها ، غير الأستاذ " يوسف العالم " ممّن كانوا على الساحة الفنية وقتذاك ؟ فبكل يقين ، كان سيقوم فقط بالإعداد الموسيقي لها ، و لقال في مطلعها : " في عش الوفاء طيرين باتن سهارى كنهن ؟ " أي لاستعمل آلية التقديم و التأخير ، التي درج عليها روّاد الأغنية الشعبية ، إذ يتمّ تفريغ الكلمات في القوالب اللحنية المُعدَّة سلفاً ، و بما يتناسب و يتماشى معها ، من دون أي جهد لأي ملحن ، لكون الشاعر ، هو من يُقدِّم على اختيار الوزن اللحني من ضمن ما يحمل في جعبته من ألحان شعبية ، عديدها مساو ٍ لستة عشر لحناً و كفى ، فالشاعر هو من يخبّر المطرب باللحن ، الذي يجب عليه الغناء عليه ، فيتعدى بذلك على المَهَمَة المُهـِّمة في الغناء ، و هي الجانب اللحني و الموسيقي ، الذي يجب أنْ يتولاه شخصٌ مُلـِّم بالموسيقا و أسرار التلحين ، كما فعل الأستاذ " يوسف العالم " في تلحين هذا العمل الجميل ، الذي قام فيه باستحداث أسلوب جديد في التوزيع الموسيقي ، الذي حشّده بكثير الجمل الموسيقية ، التي نفذتها مجموعة من الآلات الموسيقية ، برز في صدارتها صوت آلة ( الأكورديون ) بإحساس الفنان الكبير " سليمان بن زبلح " ؛ هذا فيما يتعلق باللحن ، أما فيما يتصل بالمفردات المنسوجة منها القماشة الحريرية لهذه الأغنية ، التي طرزها الشاعر الراحل " عبد السلام قادربوه " فقد كان لها دورٌ فاعلٌ أعمق الفعل ، في إنجاح هذه الأغنية ، لأنّ مهندسها و مُعمِّر بنيانها ( الشاعر ) أدرك هو الآخر كيف ينتقي الكلمة الدارجة التي يتكلمها و يستوعبها الناس من واقع حياتهم اليومية ، و أبدع بإضفاء الصور القلمية البديعة ، و باختيار الحدوثة الدرامية ، و إسقاط إبطالها على كل حبيبين كانت لهما التجربة عينها ، مراعياً في ذلك ، كونه يعيش في مجتمع محافظ لا يسمح بأنْ يسمع كلاماً في الغناء ، ينفلت من ضوابط الحشمة و يتجاوز الخطوط الحمراء ؛ أما عن السرّ الكامن خلف نجاح هذه الأغنية و تميّزها ، فهو يعود إلى صوت المطرب الليبي الراحل " محمد صدقي " .
فبرأيي الخاص الذي أحتفظ به لنفسي ، لكني أود أن أطلعكم عليه ، أرى أنّ الملحن في عمله الغنائي ، كما المخرج في البرامج المرئية ، فهو من يستلم النص المكتوب من الشاعر ، و يقوم ، بتصوير معانيه و مفرداته ، أما المطرب ، فهو كما الممثل في العمل الدرامي المرئي ، لكونه هو من يقوم بإيصال العمل الغنائي إلى المتلقي ، هذا إذا احتكم على الأدوات ، التي يجيء في طليعتها الصوت الحسن ، و مثل هذا الصوت ، هو ذاك الصوت الذي يتوافر على معايير الجمال كلها من دون استثناء و لا نقصان ، من سلامة في النطق و عرض في المساحة ، و قدرة على التعبير ، و صراحة في الملامح ، و التمكن من الغناء على الطبقات الصوتية الثلاث ( المنخفضة و المتوسطة و العالية ) و هذه الأشياء المتعلقة بالصوت الحسن ، متحصّلة و متوافرة إلى حدٍّ بعيدٍ في صوت المطرب الراحل " محمد صدقي " الذي امتاز ببحة مليحة تلقائية ، كانت تزيّن غناءه ، من دون تعمُّد و لا ترصُّد ؛ فبأدائه لهذه الأغنية الحديثة البكر ، وضع هذا المطرب حجر الزاوية للأغنية الحديثة في ( ليبيا ) و جعل المطربين من مجايليه ، و ممّن جاؤوا بعده ، يتسابقون نحو هذا اللون الجديد من الغناء ، الذي سيتيح لهم إظهار ملكاتهم الصوتية الرفيعة ، بالتحرر من عقال القوالب الكلاسيكية اللحنية المعمول بها قبل ذلك ، فظهرت بعدها مباشرة أغنية حديثة أخرى منافسة لها ، بصوت الفنان الكبير " محمد مختار " التي نغـّمها له الملحن الذي يقف وراء كل عمل حديث " يوسف العالم " و هي أغنية ( يا عين ليش دمعتك ؟ ) و أعمال الملحن الراحل " كاظم نديم " و الموسيقار الكبير " محمد مرشان " أطال الله في عمره .
و بعد إطلاقه لهذه الأغنية ، ازدادت المسؤولية على كاهله ، لأنّ أي نجاح لأيِّ فنان ، يجعله دائماً يبحث عن الجيد و الجديد ، و قد كان أهلاً لهذه المسؤولية ، حيث إنه أتبع عمله هذا بكثير الأغنيات الحديثة ، كأغنيته ( هذه الأرض هي العرض لنا ) للملحن " سالم بشّون " و أغنية ( هلّت ليالي العيد ) للشاعر " مسعود بشّون " و للملحن " إبراهيم أشرف " و أغنية ( ظلمتك معايا ) و ( و كيف نوصفك ؟ ) للملحن الراحل " حسن عريبي " و غيرها من أغنيات و مواويل ، بيد أنه كان يتقن أداء هذا الضرب من ضروب الغناء العربي الصحي ( الموال ) .
غير أنني ، أعدُّ أهم محطتين مرّ بهما ، هما تدشينه لمشروع الأغنية الحديثة في بلادنا ، الذي أوضحته لكم بعاليه ، و ثانيهما ، ما اختاره لنفسه في أواخر عمره الفني ، حينما قدّم للمستمع ، السيرة النبوية في شكل مطوّر و مغاير للذي تُقدّم به في الزوايا الصوفية و المساجد حين الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، حيث إنه انتقل بهذا الإنشاد الصوفي إلى بلاتوهات الإذاعة ، فكانت خطوة مباركة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زيـاد الـعـيـسـاوي
Ziad_z_73@yahoo.com
ففي الأصل ، كان الغناء العربي ، هو ذلك الغناء ، الذي لا يُسمَع من كلماته سوى الكلمة المستقاة من معاجم اللغة العربية ، قبل ظهور اللحن في الكلمة لا الموسيقا ، لكنْ بعد تشتت المسلمين و سقوط عاصمة الخلافة " بغداد " على يدي ( هولاكو ) سنة 1258 ميلادياً - أي قبل 751 سنة من سنتنا هذه - التي تلتها سنو الانحطاط الشامل ، و على الأصعدة جميعها ، و تشرذم العرب ، و تقوقعهم كجماعات في أقطار تفصلها الحدود الوهمية ، ما أدّى إلى تكريس ثقافة الفرقة و الانغلاق ، خصوصاً بعد خضوعهم للمستعمر الأوربي ، مع بداية القرن السابق ، لكنْ بعد تنامي الشعور القومي و حروب التحرير ضد هذا المستعمر البغيض ، و نيل أغلب هذه الأقطار العربية لاستقلالاتها ، غدا العرب يبحثون عن هويتهم الثقافية و الدينية و الفكرية المستلبة ، ما أسهّم فوراً من حيث الجانب الفني ، في بزوغ و سطوع أسماء لفنانين عرب كبار ، كان لهم فضل السبق في وضع لبنات الأغنية الحديثة ، و ليس على سبيل الحصر ، بل المثال ، أذكر منهم : " سيد درويش" و " الشيخ زكريا أحمد " و " رياض السنباطي " و " محمد القصبجي " و " محمد عبد الوهاب " و " فريد الأطرش " و التابعين لهم ، مثل " علي الشريف " و " منير مراد " و " كمال الطويل " و " محمد الموجي " و " الرحابنة " فكان لهؤلاء ، و لغيرهم ممّن لم آتي على ذكرهم - لأنّ القائمة تطول - التأثير الواضح على فناني بلادنا ، لا سيما أنهم كانوا على مسافة قريبة منا ، فأشرأبوا منهم التحديث الموسيقي ، و انعكس ذلك على أعمالهم لاحقاً .
و على الرغم من الصعوبات ، التي كانت تقف حجرة عثرة أمام الفنان في ( ليبيا ) في العقود الستة المنفرطة ، إذا ابتغى أنْ يعلن عن نفسه ، خصوصاً من حيث الجانب الاجتماعي ، كما أنه كان يصعب على الفنان حينذاك ، أنْ يحاول مجرد المحاولة ، أنْ يخرج على الناس بلون جديد من الغناء ، غير الذي اعتادت أسماعهم التقاطه ، إلا أنّ الفنان الراحل " محمد صدقي " أصرّ صُحبة الملحن الكبير " يوسف العالم " على أنْ يخوضا غمار هذه التجربة الرائدة ، التي حدثت في الأقطار العربية الأخريات ، من حيث الفكاك من أسر الأغنية الشعبية ، التي قاما بما يجب عليهما تجاهها ، بيد أنّ لكليهما باعاً طويلاً في ميدانها ، الذي أمسى لا يتسع للجميع من كثرة ما يعجُّ به من أسماء لفنانين ليبيين ، فقد تناغم الاثنان مع أنغامها لفترة طويلة ، و قدَّما معاًَ و مع غيرهما من مطربين و ملحنين ، ما بوسعهما من غناء يأتي على شاكلتها ، فالفنان الملحن " يوسف العالم " الذي أعدُّه قيدوم التحديث الموسيقي ، كان يعي و بكل تأكيد ، بأنّ الغناء على أوزان الأغنية الشعبية ، سوف يحّدُّ من طموحه ، لأنّ في هذا الغناء ، تتعطل مهمة التلحين ، ذلك أنّ أنغامه ، تأتي على عدد معدود من الألحان الثابتة ، التي تـُركـّب عليها الكلمات و الأبيات الشعرية ، بطريقة اللصق و النسخ ، ما جعل جلَّ تركيز المتلقين في ( ليبيا ) - و حتى انقضاء فترة ليست بالقصيرة على ظهور أولى الأغنيات الحديثة ، حين تقييمه لأية أغنية – ينصب على الزجال لا الملحن ، و هذا أمر طبيعي ، فقد اعتاد تجمُّد الألحان ، التي أقرُّ بروعتها ، غير أنني أملُّ تكرارها دوماً ، و من ثم ، اعتاد أيضاً ، غياب عنصر الدهشة الذي توفره الحداثة و التجديد في التلحين .
أستطيع القول بأنّ المستمع الليبي ، لم يع ِدور الملحن ، إلا بعد أنْ ائتلفت جهود الشاعر و الزجّال الراحل " عبد السلام قادربوه " و الملحن " يوسف العالم " و المطرب الراحل " محمد صدقي " وقت إصدارهم لأول أغنية ليبية حديثة ، كانت زمن ظهورها في عام 1957 ميلادياً ، كما المولودة من رحم الأغنية الشعبية الكلاسيكية ، ففي خطوة جريئة من ثلاثتهم ، قدّموا للمستمعين الليبي و العربي ، أغنية ( طيرين في عش الوفاء ) التي دخلت اليوم ، عامها الثاني و الخمسين ، لتكون أماً لكل أغنية حديثة جاءت بعدها ، فمثلما استقبلها المستمع الليبي بكل ترحاب ، فقد حازت إعجاب المستمع العربي ، الذي قلّدها أطواق الياسمين و أساور الذهب و الفضة ، فرحة ًبميلادها ، خصوصاً في المحتفلات الفنية العربية ، إذ أنها حظيت بإشادة المنظمين لهذه المهرجانات ، فبالنسبة للتحديث الغنائي الحاصل لدينا منذ تلك الفترة ، يُعدُّ فوزاً و مكتسباً كبيرين للأغنية الليبية ، مقارنة مع أقطار عربية أخرى تأخر التحديث الموسيقي فيها ، كما دول الخليج مثلاً ، التي على الرغم من استعانتها بالفرق و الأطقم الموسيقية المؤلفة أعدادها من عشرات العازفين ، و اعتمادها التوزيع الموسيقي الحديث و تصوير الأغنيات بالطرق الحديثة ، إلا أنها ما زالت إلى يومنا هذا ، تقدّم غناءً يبتعد كل المسافة عن الغناء الحديث ، الذي يعتمد أصول الغناء العربي ، فما يعرض من غناء هناك و نراه على شاشاتنا ، لم يتحرّر من السلم الخماسي الأفريقي ، حتى في أعمال كبار فنانيهم و روّادهم ، الأمر الذي يعني – و الحال كذلك - مدى تفتق الذهنية الموسيقية المستقبلية لدى هؤلاء المبدعين الثلاثة .
و قبل أنْ أباشر في الكلام عن سر نجاح هذه الأغنية ، دعوني بادئ ذي بدء ، أسطرُ لكم مفرداتها الفاتنات ، ثم سيكون ليّ عنها حديث آخر :
طيرين في عش الوفاء .. باتن سهارى كنهن ؟
من شوق بالماضي لفى .. و للا الهوى شاغلهن
و حيرتهن معايا .. في لوعة غلايا .. في ماضي بنيته
…
و كان الحب في ماضي زماني .. نار اتقيد .. و أوهاماً غريبة
نسمع بيه ما يوماً دعاني .. و لا شاكيت من قسوة لهيبه
برموشه رماني .. خللاني نعاني .. في سهوة لقيته
…
بعد الليل .. ما سهّر عيوني .. تشكي دوم .. مشغولة بحالي
و عاد الموح.. يوقد في ظنوني .. ظلم أيام .. ما فارق خيالي
و تاه القلب مرة .. و عاد معاه نظرة .. من غالي هويته
…
مال الورد .. فوق الغصن زاهي .. يوصف شوق .. في موّال غيّة
يوم شقيت .. بيه و كان لاهي .. زاد النار .. في دموعي الخفية
و سهّرني ليالي .. تايه دوم بالي .. نحلف ما نسيته ..
أما وقد طالعتم كلماتها و معانيها ، ماذا برأيكم ، لو قام ملحن آخر بتلحينها ، غير الأستاذ " يوسف العالم " ممّن كانوا على الساحة الفنية وقتذاك ؟ فبكل يقين ، كان سيقوم فقط بالإعداد الموسيقي لها ، و لقال في مطلعها : " في عش الوفاء طيرين باتن سهارى كنهن ؟ " أي لاستعمل آلية التقديم و التأخير ، التي درج عليها روّاد الأغنية الشعبية ، إذ يتمّ تفريغ الكلمات في القوالب اللحنية المُعدَّة سلفاً ، و بما يتناسب و يتماشى معها ، من دون أي جهد لأي ملحن ، لكون الشاعر ، هو من يُقدِّم على اختيار الوزن اللحني من ضمن ما يحمل في جعبته من ألحان شعبية ، عديدها مساو ٍ لستة عشر لحناً و كفى ، فالشاعر هو من يخبّر المطرب باللحن ، الذي يجب عليه الغناء عليه ، فيتعدى بذلك على المَهَمَة المُهـِّمة في الغناء ، و هي الجانب اللحني و الموسيقي ، الذي يجب أنْ يتولاه شخصٌ مُلـِّم بالموسيقا و أسرار التلحين ، كما فعل الأستاذ " يوسف العالم " في تلحين هذا العمل الجميل ، الذي قام فيه باستحداث أسلوب جديد في التوزيع الموسيقي ، الذي حشّده بكثير الجمل الموسيقية ، التي نفذتها مجموعة من الآلات الموسيقية ، برز في صدارتها صوت آلة ( الأكورديون ) بإحساس الفنان الكبير " سليمان بن زبلح " ؛ هذا فيما يتعلق باللحن ، أما فيما يتصل بالمفردات المنسوجة منها القماشة الحريرية لهذه الأغنية ، التي طرزها الشاعر الراحل " عبد السلام قادربوه " فقد كان لها دورٌ فاعلٌ أعمق الفعل ، في إنجاح هذه الأغنية ، لأنّ مهندسها و مُعمِّر بنيانها ( الشاعر ) أدرك هو الآخر كيف ينتقي الكلمة الدارجة التي يتكلمها و يستوعبها الناس من واقع حياتهم اليومية ، و أبدع بإضفاء الصور القلمية البديعة ، و باختيار الحدوثة الدرامية ، و إسقاط إبطالها على كل حبيبين كانت لهما التجربة عينها ، مراعياً في ذلك ، كونه يعيش في مجتمع محافظ لا يسمح بأنْ يسمع كلاماً في الغناء ، ينفلت من ضوابط الحشمة و يتجاوز الخطوط الحمراء ؛ أما عن السرّ الكامن خلف نجاح هذه الأغنية و تميّزها ، فهو يعود إلى صوت المطرب الليبي الراحل " محمد صدقي " .
فبرأيي الخاص الذي أحتفظ به لنفسي ، لكني أود أن أطلعكم عليه ، أرى أنّ الملحن في عمله الغنائي ، كما المخرج في البرامج المرئية ، فهو من يستلم النص المكتوب من الشاعر ، و يقوم ، بتصوير معانيه و مفرداته ، أما المطرب ، فهو كما الممثل في العمل الدرامي المرئي ، لكونه هو من يقوم بإيصال العمل الغنائي إلى المتلقي ، هذا إذا احتكم على الأدوات ، التي يجيء في طليعتها الصوت الحسن ، و مثل هذا الصوت ، هو ذاك الصوت الذي يتوافر على معايير الجمال كلها من دون استثناء و لا نقصان ، من سلامة في النطق و عرض في المساحة ، و قدرة على التعبير ، و صراحة في الملامح ، و التمكن من الغناء على الطبقات الصوتية الثلاث ( المنخفضة و المتوسطة و العالية ) و هذه الأشياء المتعلقة بالصوت الحسن ، متحصّلة و متوافرة إلى حدٍّ بعيدٍ في صوت المطرب الراحل " محمد صدقي " الذي امتاز ببحة مليحة تلقائية ، كانت تزيّن غناءه ، من دون تعمُّد و لا ترصُّد ؛ فبأدائه لهذه الأغنية الحديثة البكر ، وضع هذا المطرب حجر الزاوية للأغنية الحديثة في ( ليبيا ) و جعل المطربين من مجايليه ، و ممّن جاؤوا بعده ، يتسابقون نحو هذا اللون الجديد من الغناء ، الذي سيتيح لهم إظهار ملكاتهم الصوتية الرفيعة ، بالتحرر من عقال القوالب الكلاسيكية اللحنية المعمول بها قبل ذلك ، فظهرت بعدها مباشرة أغنية حديثة أخرى منافسة لها ، بصوت الفنان الكبير " محمد مختار " التي نغـّمها له الملحن الذي يقف وراء كل عمل حديث " يوسف العالم " و هي أغنية ( يا عين ليش دمعتك ؟ ) و أعمال الملحن الراحل " كاظم نديم " و الموسيقار الكبير " محمد مرشان " أطال الله في عمره .
و بعد إطلاقه لهذه الأغنية ، ازدادت المسؤولية على كاهله ، لأنّ أي نجاح لأيِّ فنان ، يجعله دائماً يبحث عن الجيد و الجديد ، و قد كان أهلاً لهذه المسؤولية ، حيث إنه أتبع عمله هذا بكثير الأغنيات الحديثة ، كأغنيته ( هذه الأرض هي العرض لنا ) للملحن " سالم بشّون " و أغنية ( هلّت ليالي العيد ) للشاعر " مسعود بشّون " و للملحن " إبراهيم أشرف " و أغنية ( ظلمتك معايا ) و ( و كيف نوصفك ؟ ) للملحن الراحل " حسن عريبي " و غيرها من أغنيات و مواويل ، بيد أنه كان يتقن أداء هذا الضرب من ضروب الغناء العربي الصحي ( الموال ) .
غير أنني ، أعدُّ أهم محطتين مرّ بهما ، هما تدشينه لمشروع الأغنية الحديثة في بلادنا ، الذي أوضحته لكم بعاليه ، و ثانيهما ، ما اختاره لنفسه في أواخر عمره الفني ، حينما قدّم للمستمع ، السيرة النبوية في شكل مطوّر و مغاير للذي تُقدّم به في الزوايا الصوفية و المساجد حين الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، حيث إنه انتقل بهذا الإنشاد الصوفي إلى بلاتوهات الإذاعة ، فكانت خطوة مباركة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زيـاد الـعـيـسـاوي
Ziad_z_73@yahoo.com