المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجسر


Tarek Elemary
09/08/2009, 10h59
الجسر


========

جلس على مكتبه الصغير فى زاوية الغرفة التى تجمعه بزملاء العمل الأربعة بمقر الشركة الإستثمارية الكبيرة، محبط ... خرج لتوه من مكتب مديره الذى كال له من صنوف التبكيت و اللوم ما يسم بدن الخنزير دون أن يقنع أحدهما الآخر بشئ، الشركة تتعرض لخسائر يقيناً ليس هو السبب منفرداً فى ذلك و هو الذى طالما كان سبباً مباشراً و وحيداً فى أرباحٍ ليست بالقليلة، لم تكن المرة الأولى فى السنة الحالية، و هو من كان يُنظر إليه بحسدٍ من زملائِه من كثرة ما يغدقه عليه مدراؤه من ثناءٍ و مديحٍ سابقاً، وقتما كان الأمل يحدوه لتحقيق أحلامه فى عيشٍ رغدٍ و مستوى تعليمٍ مرموق لولديه اليافعين و إبتسامته البراقة لم تكن لتفارق وجهه الحنطى البشرة و ملامحه الشرقية التى لا تخلو من مسحة وسامة.
بلغ الخماسة و الأربعين منذ شهرٍ تقريباً، شرد ذهنه طويلاً مسترجعاً شريط حياته الرتيب خلال السنتين الماضيتين، آلمَتْه نظرة الزملاء الشامتة أكثر من سياط ألفاظ مديره المهينة، بدى كأنه يكتشف هذا الرابط المفاجئ و المؤلم فى ذات الآن ... كل جنبات حياته أصابها العطب، العمل، الأهل، الجيران، الأصدقاء، حتى بيته لم يسلم من التوتر، و حار عقله فى التوصل لنتيجة ... أيُهما أثَّر فى أيِهما.
عاد لبيته منهك القوى خائر الهمة كأنه شبح رجلٍ مهزوم، نظرت إليه زوجته بألمِ المحب المشفق تكاد تخفيه بغلاف من إعتاد الأمر، على الأقل فى الآونة الأخيرة.
تذكرها فجأة، لم تجمعهما غرفة مغلقة منذ أمد لم يستطع تذكره، يااااه لهذا الحد بعدت المسافة بينهما و هما العاشقان الذين لم تخمد جذوة الشوق بينهما السنين!
حاول ملاطفتها، لبت نداءه طاعةً لا شوقاً بل يمكن القول أنها أشفقت عليه مما هو فيه، إستسلمت له فلم يستطع، حاولت و حاول و النتيجة كما هى، لم تكن هذه المرة الأولى فجن جنونه، إنتفض يكتم غيظه، لملم شأنه و خرج من الغرفة يدور فى جنبات، الشقة لم يستطع البقاء أكثر و خرج يهيم فى الشارع قاصداً الجسر فوق النيل، يقف دائماً فى منتصفه، لماذا الآن ينتبه لكونه لم يعبره يوماً سيراً على الأقدام و هو الذى كثيراً ما عزم على ذلك، و يعود دوماً بعدما يقف فى منتصفه بعضاً من الوقت.
عاد فى ساعةٍ متأخرة من الليل و وجدها تنتظره صامتة، دخلت غرفتها ففراشها حين إطمأنت لعودته و تركته، وفى الصباح إكتشفت أنه قضى ليلته فى غرفة المعيشة.
ذهب لعمله بقايا إنسان، ذهنه تتصارعه أفكار متضاربة، تعبث به الأوهام و الحقائق التى لم يستطع التفريق بينهما، لم يستطع تحمل نظرات زملائه التى يحسها كاشفةً لما يخفيه، إلى هذا الحد هو مفضوح السر، قرر فجأة العودة للمنزل دون أن يستأذن رب عمله.
فى شقتها بكت زوجته لحاله و ما آل إليه و تفتق ذهنها عن لوم نفسها لأهمالها زينتها و أناقتها و استراحت لتلك النتيجة و قررت أن تفاجئه بصورتها القديمة الجديدة التى طالما تغنى لها بها قبل أن يصبه ما هو عليه من تغير، إستعدت و تزينت و تعطرت، سمعت صوت الباب يفتح هرعت خارج غرفتها ليتفاجأ بها على حالتها، تمالكته حالة هستيرية عندما رأى علامات الدهشة على وجهها، جرى نحو غرفتهما بغضب، ثم نحو المطبخ فبقية الغرف و هو لا يرى أمامه، عاد إليها ينتفض و هى مذهولة مرعوبة ألجمتها حالته، مد يده حول رقبتها يخنقها و هو يصرخ هو مين؟ هو فين؟
لم يفيق إلا و هى جثةً هامدة بكامل زينتها بين يديه، لم يشعر بنفسه سوى و هو فى منتصف الجسر الذى لم يعبره يوماً، لم يطل الوقوف هذه المرة، و قفز فى وسط النهر من فوق الجسر فلم يظهر له أثر، جرى المارة ينظرون مفجوعين يرددون لا حول و لا قوة إلا بالله.

تمت