تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الدكتور عبد الحميد سليمان ـ المجموعه القصصيه


عبد الحميد سليمان
17/10/2008, 18h31
بسم الله الرحمن الرحيم
أخواننا وأعزاءنا
نتلمس طريقنا الي عوالمكم ونتحسس خطانا في دوحتكم
ولنا بعض من انتاج أدبي ثرنا به علي قيود الأكاديمية العلمية التي أرهقت أرواحنا خلال سني عمرنا الآفلة
ونود اسهاما في نشاطكم ان نرسلها
ولم تقبلها صفحة الرد هذه لانها تكاد تبلغ العشرين ورقة
وما نكتبه ونسير في دربه يسير في دربكم ويستظل بظلال رقيكم ورسالتكم الداعية الي الأصالة والعودة الي الجادة المستقيمة والهويات التي تناوشتها أنياب الأدعياء والأغبياء والأعداء
دلوني علي دربكم وسبيلي الي واحتكم
أخوكم عبد الحميد

عبد الحميد سليمان
20/11/2008, 19h37
أسماء


. . ارتفع ضوء الشمس متسللا من وهدة فى نافذة قاعة كبيرة توسدت فيها كرسيا ناعم السحنة غليظ المتئد وآذن ذلك بولوج لفحات ساخنة من وهجها ولهيبها سرعان ما ابتدرت ثم أوغلت .

. . صرفت همى إلى سجل ضخم من سجلات محكمة دمياط الشرعية لم تفتض صفحاته التى سطرت منذ نيف وثلاثمائة عام ، وردعت نفسا تاقت منى إلى أهلى وولدى وقد نأت بى وبهم أيام ومسافات . ثم انبجست مشاعر مستكنة فى نفسى وفاضت لتكلأ تلك الوثائق المتدافعة التى بادلت من أولاها جل اهتمامه وقصر عليها نفسه ووجده وأنفق سواد عمره وأعتقها من إسارها الذى تكأكأت عليه القرون ولها بوله وشوقا بشوق فلانت له ثم أسلمت له قيادها وباحت بدخائلها وأسرارها بعد أن هجعت إلى عينيه اللتين شغفتا بها وإلى يديه الحانيتين تربتان عليها .

. . هى المحبوبة المترعة بالحب والشوق المتلهفة لحبيبها المطمئنة لصادق شعوره وعميق وده فلا تضن عليه بمفاتنها وكنوزها البكر التى لم تستبحها يد من قبل ولم تنهبها عين .
. . رويدا تنساب الساعات وتنصرم اللحظات وتشخص بعض الحروف والكلمات وفجأة تستصرخنى وثيقة كادت أن تضطرم من أحداث أثقلتها قرون عددا وقد اهتبلت فرصة ربما لن تتكرر لها للانعتاق من إسارها واصطبرت لتحينها وترقبها بما لا نظير له من الصبر, ويزيدني أوارها إلى خانق المكان وقائظ اليوم ضراما إلي ضرام .

. . ( حضر إلى مجلس الشرع الشريف سيدى محمد أبو سليمان والشيخ على أبو سليم وشيخ العرب غلاب مشايخ قرية كفر سليمان وصحبتهم من أهالى الناحية المحترم عكاشة وابن أخيه عطية ورفعوا إليه قصته أنهى فيها عكاشة أن ابنته البكر الرشيدة أسماء المخطوبة لابن عمها الماثل فى مجلس الشرع المنيف دون أن يدخل بها أو يصيبها رغم عقده عليها وإصداق أبيها صداقها الشرعى حسبما تحرر فى دفتر وقائع النكاح والطلاق فى ناحية كفر سليمان البحرى الكائنة على الضفة الغربية لنهر النيل قبالة فارسكور والواقعة فى التزام فخر أمثاله الأمير على جوربجى مستحفظان قد اختفت منذ عشرين يوما دون أن يظهر لها أثر ، وقد تحراها مع نفر من أهله فى كل مكان دون أن يعثروا لها على جرة، وقد بلغهم ممن يطمئنون إلى صدقه وتدينه منذ يومين أنها لبثت مختفية عن الأنظار معظم تلك المدة فى بيت أرملة اسمها روض من كفر المنازلة المجاور ، كانت تعتاد القرية لتتسبب ببيع الأقمشة ثم لحقت الغائبة أسماء بمركب معاش ينقل المسافرين فى طريقها مقبّلة إلى ثغر بولاق المعمور .
. . والتمس الناهى وابن أخيه بعد أن أقره على حاله مشايخ الناحية الحاضرون معه إلى مجلس الشرع الشريف والمحفل المنيف أن يمكنا من إعادة أسماء إلى ربعها ومحل سكنها بالطريق الشرعى، وقد أجابهم إلى ذلك سيدنا قاضى قضاة الإسلام ، معدن الفضل والعلم والكلام ، مميز الحلال عن الحرام ، مؤيد شريعة سيد الأنام مولانا يحيى أفندى الحاكم الشرعى بثغر دمياط المحروس زيدت فضا يله ، وعليه أصدر الأمر الشريف الموجب لتحرير الحروف وتسطير الصنوف إلى كل واقف عليه وسامع له من ولاة الأمر والمتكلمين بالوجه البحرى وصوباشية البحر الضالعين بأمان المراكب النيلية فى بحر النيل المبارك بتحرى أسماء والتقصى والبحث عنها فى المراكب والمعاشات الصاعدة والمنحدرة فى نهر النيل المبارك وضرورة ضبطها والتقيد التام فى الفحص عنها وسرعة إحضارها بحيث لا يتأخر ذلك سوى مسافات الطريق لتعود إلى أهلها وسكنها وتستقر إلى من عقد عقدها وأمهرها صداقها ، والحذر ثم الحذر من المخالفة أو الإهمال أو العناد ، وكل من قصر فى ذلك وأهمل فى إجراء الشرع الشريف فلا يلومن إلا نفسه .
ولما تم الحال على هذا المنوال ، كتب ذلك ضبطا للواقعة ليراجع للاحتجاج به عند الاحتياج إليه وجرى ذلك وحرر فى السابع عشر من شهر صفر الخير سنة ثمانية وسبعين وألف من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام) .

. . قرأت الوثيقة فأوسعتنى وأثقلتنى هما إلى هم وشجنا إلى شجن، وشدتنى إليها حيث تداخلت فى نفسى الأزمنة والأشخاص والأمكنة ، فالقرية نفسها هى التى شهدت مولدى واندهاشاتى الأولى بعالمها وبيوتها ونخيلها وساحلها ومواردها التى تبدو مرافئ تركن إليها المراكب حين تمر صاعدة ومنحدرة من دمياط وإليها فى أشكالها وأنواعها المختلفة خالبة الألباب رائعة الصورة فريدة المنظر ، وهى القرية التى وسعت يفاعتى وشبابى ، وأكاد أجزم أن عز من رجالها ونسائها وعطوفها ودروبها وحقولها وسواقيها ودوابها من لا يستأثر فى نفسى وذاكرتى بمكان ورابطة وذكرى ، ووشت لى الأسماء التى ساقتها الوثيقة أن منهم أجدادا انحدرت منهم وانتسبت إليهم .

تدافعت الأسباب وتشابكت لتوحدنى شعورا وانفعالا وتفاعلا مع أسماء وأمها ، ووجدتنى أذوب فى الأحداث وآلامها التي ساقتها الوثيقة فتأخذ على نفسى أقطارها وتستشعر ما نكبت به تلك البائسة ومثيلاتها حين قضى لهن كئيب حظهن أن ينحرن على مذبح الزواج إلى من لا يطيقونه بغضا ونفورا وكرها يسوقهن إلى ذلك أعزاء وأحباء لم يروعهم ما راعهن ولم يخطر ببالهم أى قتلة يدفعون إليها بتلك الطيور الرقيقة من بناتهم وأعزائهم .

. . يموت الأحياء موتة واحدة وإن قتلوا فهى قتلة لا ثانية لها ، ولكنها حينئذ ألف موتة ومئات الآلاف من القتلات تهول كل تعسة اقتيدت إلى بائس مصيرها يسوقها من لا قلب له فيرحم ولا عزم له فيؤوب إلى من لا نخوة له فينأى ولا عزة فيأنف ، لقد أغفل نص غليظ القلب وحضور وشهود وولاة أمور وقضاة وعلماء دين آلام تلك النفس البائسة التى دلفت بهروبها إلى جحيم المجهول وأواره تستعر في لظاه ميتة كالأحياء وحية كالأموات ، لقد ذل ذلك الهول والمجهول كلهما لها وهانا وربما طابا حينما تخيلت نفسها وقد أوصد بينها وبين الحياة باب زوجية زائفة وراعها ما ينتظرها حين ينفرد إليها عطية وتمثلته وقد تلمظت عيناه وكشر عن أنيابه واكفهرت سحنته واشرأبت مخالبه وتهيأ ليمزق أوصالها ويلغ فى دمائها .

....انزوت أسماء إلى نفسها وذاب لحمها وذبلت نضارتها ولم تفلح فيوض دموعها ودموع أمها وتبدل أحوالهما فى إثناء عكاشة عن اغتيال وحيدته ونحرها ولم يرعو عطية وقد تجسد له مقتهن له وارتياعهن من سماع اسمه فما البال بمطالعته ورؤيته .

. .و توددت الأم لعكاشة وتحينت اللحظات وتوسلت الرضى وتحسست دخائل زوجها ودروب تحننه وتملق مشاعره ولم يروعها صدود نفس وتصلب رأى وسواد قلب ودوام إعراض وجلاء يأس فاندفعت تحاول وتحاول وتصبر وتصطبر فما تجد إلا قلبا أغلفا وعقلا أصما .

. . أى نحس وشؤم جره ذلك الفدان البائس الذى امتلكه عطية وأوصد تخيل عكاشة أيلولته إلى غير ابنته الباب دون أن يتحسس آلام وأحاسيس أسماء أولى الناس به وأرفقهن فاندفع ليأدها شابة يافعة ويسحقها زهرة يانعة ، وخوف تلصص الرقيب آنست الأم إلى من عرفها الناس بأنها الخالة روض بائعة الأقمشة التى كانت تلوذ إليها وتروى صداها وتكسر حدة جوعها بضنين من زاد بائس وساذج من شراب تجود به الأم عليها حين تسوقها إليها خطواتها المنهكة المرهقة المثقلة بما تحمل من أقمشة وأردية خشنة غليظة، وكانت أم أسماء قد استشعرت ودها وابتلت صدقها وخبرتها وإخلاصها غير مرة .

. . اندلعت دموع العجوز واستعبرت حين تسمعت الأمر من الأم واستكنهت السر ، ولمست مأساة أسماء وانفطار نفس أمها أوتارا حساسة فى قلبها طوت عليها جوانحها وأسدلت أستارها وأخفى رماد أيامها وميض نارها يوم أن سيقت إلى زوج اجتمعت له خصال السوء وسواد القلب والنفس فسامها سوء العذاب وطاب له ذلك واستعذب إذلالها وسحقها إلى أن أجهز الموت عليه مثلما أجهز هو على أرضه وبدد ثمنها على تعاطى الحشيش وتوسل رضي الغوازى والغواني اللواتي لم يدخر فى دأبه إليهن نفيسا ولا مرتخصا ولا صحة ولا قوتا ولا وقتا وألفته ساحات الموالد والأعياد يتفقدهن فيها ويلتمسهن بها إلى أن حمل ميتا إلى زوجة ترملت به قبل موته حين اقتيدت إليه زوجة ولا زوجة وسكنا ولا سكن ، فلم تفجع بموته ولم تألم وإن صادف ذلك فى خفى نفسها ودخيلة سرها غبطة بانعتاق من سجنها وانفكاك لأغلال إسارها ولم تهنأ بذلك إلا لحيظات ضئيلة إذ فجأتها رهبة وارتياع من شبح يجحظ في مقبلات الأيام لأعباء إعالة ورعاية لبنياتها الصغار اللواتي عز لديهن المعين وغاب الأنيس ، ولكن الخلاص من ذلك الطاغوت قد بعث راحة وبث عافية فى نفس المرأة وجسدها فاندفعت تتقاذفها القرى والدساكر لتتسيب فى بيع الأقمشة هازئة بوطأة الأيام وقسوة الحياة وشظف العيش فكل ذلك يهون ويعذب إن طاف بها طائف من ذكريات أيام سود وليال عجاف مضين ثقيلات وئيدات تحت طائلة باشق عتى ووحش لا يرعوى .

. . وأوعزت العجوز لأسماء وأمها أنه لا منجاة إلا بالهروب وأن أرض الله الواسعة لن تضيق بأسماء وأنها سوف تسعها في كوخها النائي على أطراف كفر المنازلة مع بناتها إلى أن تدبر لها أمر اللحاق بمركب معاش يقل المسافرين إلى القاهرة من دمياط وسوف يعينها على ذلك ويهيئ لها أمره نوتى يعمل على ذلك المركب حين قدومه إلى زوجته التى تقطن جارة لها آيبا من سفرته من القاهرة إلى دمياط ومتأهبا لكرة أخرى فى رحلات بدت رتيبة قدرية ، وحين آيست الأم المكلومة وابنتها من أوبة لقلب أبيها ونكوص عن غيه ونأيه وظلمه اخترقت الأم بابنتها سدول ظلام دامس ومغاليق دروب غير مطروقة مهتبلة غفلة من عكاشة وسرحة من سرحات عطية حتى أسلمت ابنتها لمصيرها عند العجوز ثم تعانقتا وقد تمازجت بينهما الأنات وانساحت العبرات وتوادعتا وداع من لا أمل له أو مظنة أمل في لقاء ، وقد أسلمتا أمريهما إلى المقدور لتنوء بما جثم عليهما من الهم والكرب القلوب الكسيرة الأسيفة التى فى الصدور ثم يثقلنى الهم والألم ويرهقنى فادح الخيال لما سوف تلاقيه أسماء فى رحلة لا تعرف لها هدفا ولا نهاية واستهول ما يتلمظ لها من ذئاب الطريق الذين ماتت منهم الأفئدة ووأدت الضمائر فما أفلتت منهم من غفل عنها المدافع والحامى فأى مصير ينتظر من عز لديها الأنيس ونأى عنها النصير ، ويتكأكأ إلى ذلك لهيب شمس توسدت صفحة السماء واخترقت وهدة النافذة الي مجلسي وجسمي المثقل وعيني المرهقتين, فتفيئا إلى سنة من نوم ثقيل وتتداخل الأزمنة في ذاكرتي مثلما تداخلت الأشخاص والأحداث والأمكنة .

. . هى هي شمس يوليو المتقدة وهى هى حقول كفر سليمان ولهيب صيفها وغليظ مشاعرها ، غير أن ربع قرن ونيف من السنين الوئيدة انصرمت بين طفولتي المنتهكة في فرقة مكافحة دودة ورق القطن وبين مجلسي هذا في دار الوثائق القومية بالقاهرة ، هو هو الألم والمكابدة ورازح الهم وإن تسربل فى ذلك الزمن البعيد القريب بالرعب من عقوبة أبى ضيف الذى أحيط بهالة من السطوة والجبروت والرهبة والنفوذ جثمت وأوغلت في نفوس صبية صغار آنذاك حين دهمهم قدومه ليعمل مشرفا أو بتعبير تلك الأيام المنصرمة خوليا على تلك الزمرة من بائسى الصبية الأطفال الذين راعهم رائع لم يدر بخلدهم واغتال براءتهم حين انتزعوا من رحابه طفولتهم وسذاجة حكاياهم وأحلامهم ليساقوا إلى تلك الفرقة زمرا فيصطرع على أجسادهم هزال لا يريم وهجير لا يرحم ويوسعهم ضربا وبطشا طاغ سليب الحس والفؤاد يهزأ بأنات المثقلين المنهكين من أولئك الأطفال بخيزرانته ولا يكترث بعطشهم وجوعهم ويرى فى نفسه متفضلا رحيما ومحسنا كريما إن سمح لهم يوما وقليلا ما كان يسمح بالانكفاء على ترعة أو مصرف أو قناة ليطفئوا غلتهم بماء اختلط بطين وطحالب وروث ، ولو أبصر كسرى أنوشروان من إيوانه أو الإسكندر المقدونى أوان صولجانه ما كان يتيه به أبوضيف من نفوذ وهيبة وسلطان وروع في نفوس أولئك التعساء لتواريا ضعة ولذابا خجلاً وحسدا لشحيح سلطانهم وهزيل مهابتهم ، وتدأب خيرزانة أبى ضيف وتعتاد الاختلاف إلى أجساد الصبية مرات ومرات فى اليوم الواحد هازئة بصرخاتهم غير عابئة بأى موضع نزلت أو جراح خلفت ، وغدا شبحه كابوسا يفجأ أولئك الأطفال فى نومهم مثلما يفجأهم فى يقظتهم ووعيهم ، وأُوسد قلب الرجل وصُمت آذانه فما عاد يلتفت إلى دموع صغير أوغل فى هيكله الضعف وتوسدت المخافة والترقب فى قلبه فلا ينازعان ، دون أن تصرف هذه الدموع مآقبه عن حتمية تقصى اللطع ودود القطن فما ينتظر المقصر ومسلم نفسه إلى الدموع والمنشغل بالقهر والألم عن ذلك العبء من الهول إن قصر أو غفل لأشد رعبا وأنكى مغبة ،ولم تدخر وسعا النخبة من أولئك الصبية الذين رفعهم أبو ضيف مكانا عاليا حين اختصهم بمسئوليات جسام بعد أن وسدهم مناصب الفرارين الذين كانوا رقباء على العمل يتحرون غفلات الصبية عن اللطع وتجمعات دود القطن فلم يألوا جهدا بعد أن حظوا بتلك المكانة عند أبى ضيف خولى الفرقة فقدمهم على رفاقهم فى الألم والبؤس وسلطهم عليهم يترقبون سقطاتهم وقد لذ لهم أن ينفثوا عن مكبوت قهرهم ودفين آلامهم ومعاناتهم على أترابهم وإخوانهم في البؤس والألم بعدما وسدهم أبو ضيف فى تلك المناصب العظام وخولهم الاضطلاع بتلك المهام والمسئوليات الجسام ... وحقا إن قسوة الخائفين إن توسدوا وغلظة الضعفاء إن تسيدوا أو سيدوا وظلم المقهورين إن أمكنوا أو تمكنوا ليس كمثلها قسوة ولا كغلظتها غلظة ولا نظير إيغالهم إيغالا .

والشراب بنى حبيت جدع أسمرانى ،
والشراب بنى حبيت جدع أسمرانى
والشراب بنى قالوا لى تخدى ابن عمك
قلت أهو منى
قالوا لى تخدى ابن خالك . قلت أهو منى
قالوا لى تخدى الغريب .. زغردت أنا وأمى
حبيت جدع أسمرانى .

. . ينساب صوت ناعسة ليبدد صمتا رتيبا وخشخشة لأوراق شجيرات القطن ووقع أقدام متهرئة هزيلة فى خطوط توسدت قمتها تلك الشجيرات ، ويتداعى الصوت إلى نفسى التى اختلط فيها وتشابك الزمان والمكان فينبه غافل وعيي إلى ديمومة الألم وكر التجربة وتكرارها فأسماء التي شغلتني بألمها الوثيقة التي أثارت مستكن آلامي قد تسمت في طفولتي بعزيزة التي جمعتني إليها في تلك الطفولة البائسة غيطان كفر سليمان وفرقة مقاومة دودة ورق القطن ومزجت بين نفسينا الصغيرتين مشاعر متبادلة من الإشفاق والرثاء فيألم أينا لصاحبه إن صعقته خيزرانه أبى ضيف ويهرع لمساعدته فى تقصى اللطع إلى أن يستفيق من بكائه ويقوى على آلامه ويتبادلان الأدوار وقد باتا أحرص على التجاور عند اصطفاف الفرقة ، ويصل الحال يهما إلى آفاق وآماد حين يدخر أحدهما لصاحبه حظا من نعناع أو حلوى العسلية إن جاد عليه الدهر بشيء من ذلك ونادرا ما كان يحنو فيجود .

. . سنوات قليل وتشب عزيزة عن الطوق وتأوى إلى البيت فلا تظهر لرجال غرباء أو أقرباء ولا تنفلت من عقال البيت إلا ظهر كل يوم لتحمل إلى أبيها فى حقله قليلا من زاد وماء وهى فى ذلك كله تترقب من بخطبها من أبيها وبتعبير أمها تنتظر عدلها إلى أن تسوقها خطاها ويقودها قدرها إلى لقيا نوتي غريب جنحت مركب يعمل بها إلي موردة من موارد القرية , وكأنها كانت تستشرف أيامها ومصيرها وقتما كانت تردد وتغنى مع ناعسة بالأمس القريب وتنزع إلى ذلك الجدع الغريب الأسمرانى فتزغرد هى وأمها حين تخير بينه وبين أبناء عمومة وخئولة فيرضى أهلها باختيارها .

....ما أسذج تلك الأحلام ، وما أنآها عن واقع عزيزة وقلب أبيها فتبتلي بما ابتليت به أسماء ويفدحها ما فدحها ويدهاها مادهاها حينما رأت نفسها تساق إلى جزار لا تطيقه من بنى جلدتها وأقربائها وتدرك ألا سبيل لنجاتها إلا أن تنكب طريق أسماء ويصدق منها العزم على الإفلات والإباق للانعتاق من مصيرها المحتوم بعد أن آيست أمها من تشفع أوصدت دونه القلوب والآذان ولم يغنها إشفاق ولم يجدها توسل ورجاء ، فما هان لجزارها الأول وهو أبوها عزم وما لانت له قناة فأوغل فى غيه واستكباره وتهيأ لسوقها إلى من ارتضاه .

. . أسلمت عزيزة قيادها ومصيرها بعد أن أسلمت قلبها إلى ذلك النوتي الغريب الذى تمازجت روحه ولاذت نفسه وهجع قلبه إليها حين نزل إلى القرية يوم أقلته إلى تلك القرية مركب جانحة وريح ساكنة ثم شغل بها فشغف بحبها واصطنع جنوحا زائفا لمركبه والتمسها حيث رآها من قبل وروى صدى قلبه من تلك القلة الفخارية التى توسدت رأس عزيزة وهى في طريقها إلى أبيها تحمل له طعام الغداء ساعتها أخذت بتلابيب قلبه ونفسه عذوبة الإجابة وإشراقةالوجه الوضىء فما عاد يدرى أى العطشين يحرقه ويؤرقه .

...أيام هزيلة سراع مضت ومضى معها التعلل بالتماس الماء وتوسل الكلام وعذوبة المشاعر وبليغ النظرات ، وتمر ليال ثقال بطاء على حبيبين طابت لمركب أحدهما ريح فأبعدت جسمين ولكنها صهرت قلبين , وتوشك تلك الأيام أن تسلم عزيزة إلى ما يهولها من مصير بين أنياب وأظافر سالم الذي تملقه أبوها ليزوجه ابنته طمعا فيما يرتقبه لابنته من رغد العيش وطيب الحياة ووفير ما تفيض به فدادين سالم المزدهرة , ثم ترعو الأيام قليلا فتألم لتلك البائسة فتسوق إليها حبيبها فيروى غلته ويشفى نفسه وقلبه الظمآن ، لكن دموع عزيزة تهوله وتعتصره آلامها حين راعته بما ينتظرها من مآل ، ثم تثور نفسه ونفسها إلى أن لا مناص من الخلاص ويتواعدان إلى حين يتسربل معها بسربال الليل فيحتويهما ويظلها إلى حيث لا عودة ولا إياب .

....ودون جدوى يجوب الأب وخلصاؤه القرى المجاورة باحثا مستقصيا تتقاذفهم الأماكن والدروب وتتفحصهم وجوه لم تألف لهم سمتا ولا رسما إلى أن يقعد اليأس من إدراكها أباها فيستكين ويستبد به القنوط إلي الاستسلام والركون ، ويسلمه ذلك إلى ملحاج من لوم وتأنيب يصيب به كل من يلقي من أهل وولد إلا نفسه التى نأى بها عن كل ذلك اللوم والتقريع .

....يأتى صارخا حازما صوت مدام نادية المشرفة على قاعة الباحثين فى دار الوثائق رادعة احدي العاملات التي تأخرت في إحضار ما طلبته من سجلات لمحكمة دمياط الشرعية فيعيدنى إلى وعيى وواقعى ويصرفنى إلى سجل جديد يستلب جل اهتمامى ويشغلنى عن كل ما يحيطنى وينقلنى إلى عالمه وما ينوء به من شخوص وأحداث وأيام وتتوحد معه نفسى مثلما يوغل فيه عقلى ، وتنساب الوقائع منه وتتراكض الأيام والسنون ، وأكاد أنسى أسماء وما آل إليه حالها ومصيرها فى رحلتها إلى المجهول .

....تجحظ العينان ويستنفر الوعى وتستنهض المشاعر حين أجدنى وجها لوجه مع ما كان يمر بخاطرى من خيالات وتخيلات لما صار إليه حال أسماء وما ادخرته لها الليالى من صروف وآلام حين تصدمني وثيقة تنعي إلي ضحيتها.

( صورة مكتوب صدر من قدوة العلماء والأعيان فخر القضاةالمعتمدين ، عين الوجهاء المكرمين مولانا مصطفي أفندى الحاكم الشرعى بالمحلة الكبيرة المحروسة زيدت فضايله على يد قدوة الأماجد والأشراف السيد أحمد أغا ، زيد قدره المكمل بالختم الشريف على العادة ، مضمونة أنه قد حضر إليه فخر الأماثل وقدرة الأماجد على كتخدا مستحفظان بالمحلة الكبيرة المزبورة حالا ومعه بعض أرباب الأدراك ومشايخ نواحى محلة زياد وطليمة والريس أبو العزم العرابى وابن أخيه الكحلاوى ريس مركب قياسة من أهالى كفر سليمان قبالة فارسكور والريس سعود البرمبالى ريس مركب معاش لنقل المسافرين وجمع من الصيادين من أهلى الناحيتين المشار إليهما من شهود الواقعة وأنهوا لمسامعه الشريف حفظها الله ، أن المركب القياسة رياسة أبى العزم العرابى كانت مقبلة فى طريقها إلى موردة مراكب الدمياطة على ساحل النيل المبارك فى المحلة الكبرى وذلك لتوسق حمولتها من الأرز الشعير وتعود به إلى دمياط واقتربت القياسة من جراء الماء المتدافع ودواماته من المركب المعاش ، وأوان ذلك أبصر الكحلاوى الغائبة أسماء ابنة خاله عكاشة من أهالى كفر سليمان وهى خالية إلى ظهر قمرات المركب المعاش الخلفية يمين الدفة وتأهب لنزول الكيك القارب الصغير المجرور خلف القياسة ليعود بها إلى أبيها وذلك لسابق علمه بهروبها فلما تيقنت منه صرخت ورفضته وتأهبت لتلقى بروحها فى البحر إن اقترب ، ولما دفعت موجة عاتية الكيك إلى جانب المركب المعاش هوت أسماء إلى الماء فتلقفتها دوامة من دوامات الفيضان ابتلعتها وغابت فيها عن الأنظار وشهد الريس أبو العزم على ذلك وأنهى أنه رأى الحال على ما قال الكحلاوى وشهد أبو زيد الطلخاوى وإسماعيل البندارى وغنام بن على الصيادون من أهالى محلة زياد وطليمة المجاورة لمحل الواقعة أنهم عاينوا أسماء وهى فوق الخن الورانى للمركب المعاش خلف القمرة الكبيرة بجوار الدفة وهى واقفة ثم حين ألقت بروحها فى البحر فجأة وبخاطرها دون أن يقربها أحد والتمس الرويسا والحاضرون منمولانا الحاكم الشرعىالفحص عن ذلك وإثباته على نحو ما جرت به العادة وشهادة شهوده حكما شرعيا وثبوتا مستوفيا برفع يد ومسئولية الريس سعود البرمبالى ريس المراكب المعاش عن أى دعوى أو تمحيص بخصوص الغارقة أسماء بنت عكاشة وخلو سبيله بالطريق الشرعى وأنها غرقت بقضاء الله وقدره والتمس الريس سعود حجة شرعية من مولانا بعدم معارضته أو الادعاء عليه ومنع ذلك منعا شرعيا مستوفيا مرعيا فأجابه لما سأل بعد أن ثبت لديه أبقاه الله ثبوتا شرعيا وأشهد على نفسه الكريمة بذلك مولانا أفندى المومى إليه وجرى ذلك وتحرر فى عاشر رمضان المعظم سنة ثمانية وسبعين من الهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم السلام ) .

. . مالت رأسى إلى المكتب وغرقت فى سبات وصمت عميقين وشدهت روحى إلى حيث ابتلع النيل أسماء وتمثلت نفسى مخاوفها واضطرابها فى رحلة هروب لا تعرف لها حدا ولا تملك فيها لنفسها دفعا وقد أسلمت نفسها ومصيرها إلى تصاريف الأيام والأقدار ، وخلتها وقد راعها ما جهدت نفسها للخلاص منه وما هان لديها من الخطر حين أدركت مغبة اقتراب ابن خالتها الكحلاوى وفداحة تخيلها لنفسها مقودة إلى من جهدت جهدها وبذلت أمنها وغاليها لدفع غائلته وتوقى صائلته وذلك حينما أبصرته وتيقنت منه وتحسبت لما سيؤول حالها إليه إن أمكن منها وأعادها إلى بلدها وأبيها وابن عمها فرخص لديها عمرها وطاب لها مصيرها فألقت بنفسها إلى فيضان متراكم متدافع من الماء والموج فابتلعها النهر وضن بها فأخفاها فى جوفه وذهبت إلى حيث لا يعود ذاهب .

....يأتى صوت مدام نادية مترفقا حانيا مشفقا على وقد استغرقت فى سبات وألم غبت بهما عن الوجود تنبهنى إلى أن الساعة قد جاوزت السادسة وأنه قد آن الأوان لإغلاق القاعة فأجيبها دون أن أعى فتشده وتبهت لغرابة ما أقول وتهز رأسها غير فاهمة ولا مدركة وعاجزة أمام تساؤل لبثت أرده بلا وعى مرات عددا وقد تمثلت فى قسمات وجهى أبلغ آيات الاعتصار والألم والروع ،
أكان عليها أن تغرق لتنجو ؟ أم كان عليها أن تنجو لتغرق ، أكان عليها أن تغرق لتنجو؟ أم كان عليها أن تنجو لتغرق، أكان عليها أن تغرق لتنجو؟؟؟؟؟ ...
أ د عبد الحميد سليمان
الدمام 20 من رمضان المعظم 1428

عبد الحميد سليمان
13/12/2008, 17h23
بهيجة


صباح الخير صبحنا ، رز ولبن طبخنا ... كلنا واصطبحنا

.. أشرق وجه الطفلة وتهللت أساريرها ثم اندفعت إلى حضن أمها بعد أن أنتشت بما غنته لها ، ودللتها به فأيقظها ذلك من صحبة الملائكة وأكل الأرز معهم فى بريء أحلامها إلى ما أعدته لها أمها من ساذج الطعام وشحيحه فى فطورها ، تخلل كل ذرة منه حنان وإشفاق لا حدود لهما .

. . . إن من أعظم تجليات الله سبحانه وتعالى وأسراره ذلك الحنو الذى يربط الأم بأبنائها ويعبر عن نفسه فى صورة أشكال لا تخطؤها أبصار الغافلين والنابهين على سواء ولا يكاد يفترق أو يختلف كثيرا بين سائر المخلوقات ، وما ذلك إلا آية من آيات الله تدل على أنه الواحد .

. . . يحنو بدا فى عينى الأم وصوتها وارتعاشات شفاهها وهى تقبل بهيجة وتكاد وتبتلع خدودها من عمق القبلات تثاءبت الطفلة مطمئنة راضية وادعة إلى وجه أمها وقبلاتها الوالهة .

. . . أدهشنى التأمل للموقف الرائع الذى لمس شغاف قلبى وتحسس أوتار الألم واللوعة والحسرة التى استقرت مستكنات فى نفس صبى حرم من أمه وهو دون السادسة حرمانا عاصفا مزلزلا مفاجئا اندفع به اندفاع البرق من دفيء ورحابة وحنو لا حدود لهم إلى هاجرة قائظة لا تأبه ولا ترحم ، واعتادت نفسه والانجذاب والاستغراق إلى مثيل ذلك الموقف وشبيهه بين بهيجة وأمها ، ينزع فيه إلى بئر غائضة ودوحة زائلة متغيرة .

. . . فى عزية نائية من عزب تفتيش كفر سعد فى صبيحة يوم من أيام ستينات القرن المنصرم لا أذكر لها حدا ولا عدا ، عاش بعض الفلاحين الذين جيء بهم إلى تلك النواحى قبل ذلك بسنين حين استصلحت الدولة قبل الثورة أراضى تلك النواحى وجاءت بالفقراء ومن لا يملكون أرضا والضائعين والخارجين على القانون والعاطلين ممن لا يحنو عليهم ويتعطف الأغنياء فيكلفونهم ولو بالشاق من العمل فيهرعون إليه لينفضوا عن كواهلهم عبء سخرية الساخرين ممن أصاب حظا من عمل وشحيح من أجر حين يتندرون عليهم ويتوجسون خيفة من يحسدهم ويتناصحون بينهم بحكمة بائسة ومثل بئيس سقيم ( اعمل بميلم وحاسب البطال ... ) وعند نيل المراد من رب العباد يهون الصعب ويسهل الوعر وتعذب لهم شمس يوليو وقيظها لا يثقلهم أو يفسد فرحتهم نأى حلم الظفر بقليل من القيلولة حتى لو اختلسوه اختلاسا واهتبلوه اهتبالا فى عفله من رقيب .

. . . سمع أولئك البؤساء صخب المنادين فى قراهم ، يزفون إليهم بشرى حلم الانتقال من بؤس أرهقهم وأثقلهم إلى بؤس جديد لا يعرفون له شكلا ولا طعما ولا طبيعة وحدود وإن حمل أملا بإدراك ما لن يجيء وعلل نفوسا شح لديها ما يخشى على ضياعه فى قرى ونواح تقاذفهم فيها أغنياؤها فغدت غريبة نائية عن مشاعرهم فبادلوها اغترابا باغتراب .

. . . وتقبلت سيارات النقل الكاميونات تحمل على ظهورها حشودا من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال وقليل من البط والدجاج والأوز وزراوى فخارية تحمل كنوزهم من المش الذى أرهقته السنون فى محبس لا يكاد تخرج منه إلا نقاط شحيحة ضنينة بأقدم بها أولئك البؤساء مختلطا إدامهم بما آنس إليها واطمأن به المقام من دود المش ، وأصاب بعض أولئك القادمين بيوتا بسيطة أعدت لهم أما سوادهم فكان عليه أن يقيم لنفسه كوخا من الطين والبوص والغاب الذى ضجت منه تلك النواحى .

. . . إلى بلاد فوق وهى الدقهلية والمنوفية وما علاها نسب أهالى قرانا أولئك القوم وإن ( ابتدعوا لهم اسما جديدا هو ( المعدمين أى الذين لا يمتلكون شيئا قل أو أوجل ) وعاش أولئك الجلبان إن صح استعارة ذلك المصطلح التاريخى فى حياتهم الجديدة مكانا الرتيبة المستدامة بؤسا وعوزا ، ورغم قواسم الفقر والتهميش والسذاجة التى جمعتهم حالا ووصفا ونفسا مع فقراء قريتنا وغيرها إلا أن تسمية هؤلاء الجلبان بالمعدمين كانت تعكس نزوعا إلى التماس تميز لا يمتلك حظا من واقع أو سبب ، أنتشى به من لا يكادون يفترقون عن أولئك القادمين من فلاحى القرى القديمة المعروفة بقرى خط البحر المثقلة والمنهكة على الضفة الغربية لفرع دمياط وعجبا أمر قوم يتحاسدون على حظوظهم البائسة ونصيبهم من الآلام والمحن .

. . . قضت ظروف العمل الذى وقع على عاتقى وانتقل بى إلى عالم ( الرجال قهرا وغصبا وانتزع منى طفولتى ليأدها وهى تحبو ، أن اعتاد تلك البيوت البائسة التى حنت على بهيجة وأمها وغيرهما ممن امتزجوا وتشابهوا بؤسا وألما وعوزا فضمتهم إلى صدرها ولم تنكر لهم جميلا فى القدوم إليها وإحيائها وتخضيرها وفى صبيحة كل نهار كل نهار وحين تغيب شمسه واستعذبت نفسى أن ترقب علاقة الأم بطفلتها وهى توقظها من نومها فى الصباح وحين يختلط نداءها مع نداءات جاراتها على الأطفال أن يهرعوا إلى نومهم ويمتزج ذلك كله بأصوات البط والأوز القافل من رحلة البحث عن طعامه فى القنوات والمراوى والترع إلى أعشاشه عند غروب شمس كل يوم إلى وحده عنها لا تريم .

. . . على غير عادتها وجدتها شاردة النظرات ذاهلة اللب تنزف دموعا ودما وتعتصر ألما وتئن أنينا مخيفا ومكتوما وتنشغل عما حولها من الناس والدواب والأشياء فلا تكاد تعى ، ثم تحاول أن تجفف دمعا يبدو أنه لن يرقأ وقهرا لن يمحى وتبدى تجلدا وتصبرا يذيب نياط القلوب يصبح معه فوادها وبكاءها أهون حالا وأقل خطرا واستمر بالأم ما دهاها فزادها شحوبا إلى شحوب وعجفا إلى عجف حتى بدت أقرب إلى الأموات منها إلى الأحياء .

. . . وتسلل الظلام وئيدا متثاقلا ووجدت بهيجة نفسها وحيدة لا تعيرها أمها ماعتادت من لهفة وتشوق وتخوف وحنو ، واستشعرت براءتها ضراوة ذلك الوحش الذى جثم على صدر أمها وأنشب أظفاره فى حياتهما واغتال ضعفهما وأخذت تجر أقدامها إلى منامها مودعة جنتها التى ما إن ألمت بها واستشعرت روعتها حتى روّعتها ثم لفظتها .
. . . تقدمت اصطنع الكلام مع أم سيد جارتها وصديقتها وأتوسل منها الخبر واستكنه الأسرار فأخبرتنى وهى حسيرة كسيفه أسيفة فى تألم موجع ولوعة صادقة ودمع سخيين أن عبد الموجود والد بهيجة قد أعرس إلى آمال بنت الشحات من عزبة الفؤادية واصطفى لها الحجرة البحرية وألقى بأم بهيجة ومتاعها البائس من صندوق الملابس وحمل الصوف والمرتبة إلى الحاصل وهو حجرة اكتفت من اسمها بجدران أربعة لا تدفع غائلة لقيظ صيف ولا صائلة ريح وزمهرير شتاء ، ولا تأبه لفضول متطفل أو ضال من زاحف أو ساع من الكلاب والضباع والذئاب والهوام بتلك والأدهى أنها قد تغوى أولئك وتستميلهم إليها ، فجعنى ما سمعت وأيقظ لوعة اليتم المستكنة فى نفسى وأوغل الألم والسواد فى هيكلى فأثقلنى وهدنى من حيث لا أدرى ، وتوحدت خاطرا وشعورا وغربة وقهرا مع يهيجة وأمها ، وملكنى انشغال لا ينازع بتلك الطامة الكبرى التى دهت تلك المرأة وعصفت بها وابنتها وهى التى لمست بحنوها على صغيرتها أهداب جنتى المفتقدة وأمى الراحلة إلى حيث لا لقاء فى تلك الدنيا الظلومة الغشومة القاسية ، ولم تتقاعس المصائب عن دولابها ودأبها وراسخ عاداتها فجمعن المصابينا ، وأوغلت الريب والظنون فى صدرى ونفسى عن قال تلك الأم المكلومة التى لا تملك لنفسها نفعا ولا لما بها دفعا تستشعر أن ما دهاها لا يعنى سوى فقد الزوج والعائل فى تلك الفيافى والبرارى التى نور فيها النصير ونأت الأهل وشح المعين .

. . . عبد الموجود عتيا بين بؤساء وبائس بين أقوياء ، لا يكاد يجد قوت يومه طعامه لا يعرف طريقه إلى الأطايب إلا إذ باحت له ترعة أو قناة ببعض أسرارها وجادت عليه بشارد من أسماكها ولا يكاد يعرف أن فى الكون فاكهة أكثر من بعض التمر أو القصب يصيب قليله إن ذهب إلى سوق الأربعاء ويكاد يتمنى أن يصيبه المرض وينقل إلى مستشفى المركز عله يصيب حظا من نفيس البرتقال ، وتنأى عنه تلك النزعات الموغلة المتفائلة فيضطر إلى متعة وحيدة لا يكاد يعرف غيرها وهى الشاى ومعسل حسن كيف .

. . . ما أبشع المقهورين والمثقلين حين ينفسون بعضا من رازح القهر ومستفحل البؤس الذى أنشب مخالبه فى أجسادهم المنهكة وحياتهم البائسة فاستسلموا له وغدا قدرا مقدورا على من يرمى به سوء وشؤم طابعله وحظه فيستظل بهاجرة طائلتهم .

. . . رضيت أم بهيجة بذلك البؤس وعاشت مع عبد الموجود قانعة بأهون الشرور مستكينة إلى المقدور ، لا تعلل نفسا بأمل فى انعتاق أو صلاح حال وتشده إلى السماء هامسة لنفسها متوجسة مضطربة خوف تحسس الرقيب وتحسب الحسيب .
رضينا بالهم والهم مارضاش بنا

. . . استحرت دموع الأم بعد استشعرت حنوا وتعاطفا صادقا من الصبى واطمأن قلبها وشعور لما بدا لها واستشعرته من صدق مشاعره وانجذبت نفسها إليه وقد أيقنت أن مشتركا كبيرا من الألم والغربة والبؤس جمع بينهما ، وصدق ظنها أنه يعانى قيما وقهرا ومسكنة تبدو جلية فى نظراته التائهة وشروده ونفسه المستكينة فسألته عن أمه فانبجست دموع لم يملك لها حبسا ولا إخفاء ، فنفست له البائسة عن مكنونها وآلامها وما دهاها ، واستخرت دموع المرأة واضطرب أنينها بأنين الصبى ومدت يدها المرهقة الخشنة فكفكفت دموعه وربتت عليه .

. . . تسربت بهيجة مهيلا تتسمع وتتحسس ما يعتصر أمها وذلك الصبى من لوعة وألم وما تنزفه أكبادها الحرى وقلوبهما الدامية واستشعرت الصغيرة الكهلة أن ما دهى أمها واقتحم عالمها وبرادها وهالها ينذر بموت أم وضيعة اهتمام وحنان ثم نأى فردوس لن يعود .

. . . تشعبت نفسى ألما على بهيجة وأمها وربط بينى وبينهما لوعة اليتم على اختلاف سحنته وقسماته وقسوته وقارب ذلك بين أرواحنا ، وأسرف عبد الموجود فى غيه وتلهه بآمال أمام المرأة المكلومة واستعذابهما أن يأمراها بأن توقد لهما نارا على الماء وتعد لهما عدة تطهر زائف يزيل أدرانا ظاهرة ويسكت عن أدران النفس وغلظتها وقسوتها ، وكان يستعذب أن يطلعها بغفلة مصطنعة عما استأثر به واعتصره من فضل الطعام أو جاء به من السوق الأربعاء الأسبوعية له ولآمال التى تجد فى ذلك متعة وتميزا لا يحد ، ويسرف الألم فى افتراس أم بهيجة ، وسحقها فتذوب وتزوى ويجف جلدها وينحنى ظهرها وتجحظ عيناها ويتداعى هيكلها كلما تاهت آمال بما أصابت من حظوة وموقع فى قلب عبد الموجود وأسرفت فى تدللها وقولهها ، وكلما ذابت ألما وحسرة تمادت آمال تثخنها جراحا واستعلاء وكيدا .

. . . طفلا كنت دون العاشرة حسبما سجل لى دفتر المواليد ، كهلا بما كنت أحمل من هموم وأنوء به من هموم لا تأبه بدفاتر المواليد وما تمسكت بقليله الملامح والقسمات وضنت به أن ينفلت من آيات طفولة مهدرة ونفس مقهورة مغتصبة ، حينما خيل لى أن ألتمس إلى نفس بهيجة وأمها بعضا من عون وأختلس لهن من شحيح ما أستطيع من طعام أهلى وإدامهم ، واستعذبت الأمر حينما لمحت طيف سعادة أقبل عليهما مترددا معانق ثم جبن فجفل قفارة من فراق غير وامق حين حملت لهما بعضا من حلاوة طحينية عرفت طريقها إلى يدى بعد لأى ونأى وصرعت ضنا نازعنى إلى نفسى وتخوفا من وعورة إدراك تلك المتعة صعبة المنال وبعد الشقة بينى وبين تكرار نوالها ، ثم تداولتنى وإياهما الأيام وأوسعتنا بركلاتها وآلامها التى اتخذت أشكالا لا جديدة وتسربلت بثياب عديدة ، وشغلتنى دورة الأيام وتقلبها وصفوف جديدة من العناء والقهر ووجوه وعوالم أخرى ونبت بينى وبينهما الأماكن والذاكرة .


. . . هل يورث البؤساء والمقهورون والمعذبون أبناءهم ما قاسوه وما اكتووا بلظاه ، أحتمية بشرية هى ودورة سرمدية وتوارث للألم والمكابدة ، ألا انعتاق من قبضة ذلك الوحش ، ألا مناص من تلك الدائرة الجهنمية ، تدافعت مشاعرى وفاضت آلامى وارتجفت دخائلى وانهمرت أسئلة تصعقنى واضطربت نبضات قلبى المنهك ونفسى المترعة بالألم والشجن وشغلنى ذلك عن اجتماع هام ينتظرنى فى دمياط حينما صدمت عينى ونفسى بيانات برزت على غلاف ملف شُغل صاحبه بقراءته وقد استوى على كرسيه قبالتى فى قطار الصباح

. . . مكتب الأستاذ أيمن محمد رجب المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة بدمياط
الاسم : بهيجة عبد الموجود المنسى
ضد زوجها : عبد العاطى إبراهيم عبد السلام
العنوان : عزية الحسينى ـ تفتيش كفر سعد
دعوى هجر زوجية ونفقة وتبديد منقولات ومصروفات الطفلة هنية عبد العاطى
جلسة ...........

عبد الحميد سليمان
23/12/2008, 21h16
بسم الله الرحمن الرحيم


أم فوزية


... ارتج على ابن العاشرة وحار عقله وذهبت به الظنون مذاهب عددا ,وتطلع من حوله مستغربا ما يري مما لم يعهده ولم يتوقعه,حينما أدارت أم فوزية وجهها عنه ولم تعن بما اعتادته معه من اهتمام وما يتلمسه لديها من حكاياها التي ترويها بألم ولوعة تجوب بابن العاشرة عوالم من الألم الشجي الذي يستعذبه ويتعذب به ,عن حياة العز والرفاه التي عاشتها في كنف أبيها وأمها قبل أن تدير لهم الأيام ظهرها وتذيقهم بأساءها وتسرف في غلظتها وقسوتها .

... ويتغلغل وقع حديثها في نفس الفتي وتدرك ذلك من قسمات وجهه التي تشي بمعتملات نفسه ,فتغويه به وقد تيقنت من رغبته وتشوقه وتشوفه واستعذابه للأمر واستغراقه فيه وتألمه الذي كانت تشي به ملامحه, لقد كانت تبدو له كمن ينتظر ذلك الحديث ويتحسسه ولا يتصنعه,وهاهي تنصرف عنه وتنشغل ولا تأبه للفتي الذي أصابه من جراء إعراضها واشتغالها عنه ألم ودهشة قاربتا الذهول .

... استعاد ابن العاشرة ذاكرة أيام قريبة تكاد لا تزيد عن شهور من تلك المنصرمات اللواتي لا تزال شاخصة ماثلة أمام عينيه وفي ذاكرته عندما كانت تقوم بما اعتادته من عمل في تجهيز وصناعة فضلات المواشي وجعلها دوائر ثم تطرحها إلي الأرض لصقا فتسعي إليها أشعة الشمس المتلمظة, وسرعان ما تتحول تلك الأقراص عن حالتها ولزوجتها ولونها إلي جفاف يجعلها وقودا مناسبا للنيران التي كانت تشتعل بها أفران ومواقد الطهي والخبز في قري دلتا مصر وصعيدها حتي أواخر ستينات القرن المنصرم ,ثم آنس ظنه بهذه الأرملة إلي أن شاغلا جللا قد صرفها عنه أو أن جنيا ممن اغتابتهم كثيرا في شائق حديثها إليه قد تربص بها كيدا واذهب منها لبا وعقلا, فبدت ذاهلة لا تكاد تعي ما حولها أو تكترث له .

... كانت أم فوزية تقوم علي هذا العمل عصر كل يوم في تثاقل وتباطؤ ووهن لا تخطؤه عين , وتستحث بضعفها وألمها وعذب حديثها ابن العاشرة فيجود عليها طائعا مستعذبا متألما بما أمكنه من مال أو طعام أو يدخر لها بعضا مما تحبه من الحلاوة الطحينية وقد يعينها علي ما أجهدها وأثقلها من عمل سعت إليه واغتبطت له حين أوكل إليها وضمنت به لها ولابنتها به ذلك النزر اليسير من الرزق الذي كانت تختلسه اختلاسا, فلا يعرف طريقه إلي جيب أخي زوجها المتلمظ المتوثب الذي لا يقنع بما تعطيه له من أجر أعمالها اليومية في الحقول لقاء إعالة عاجزة ضنينة شحيحة, وقد جعلها ذلك تتوجس وشاية الواشين وحسد الحاسدين ممن قد علم به من قريناتها ورفيقات رحلات عملها اليومية اللازمة الشحيحة البائسة ,التي كانت حينما تأتي مواسمها ويئن أوانها لا تعبأ فيها بموغل حر أو قارس برد وتقضي ساعتها الثقيلة البطيئة في تنقية الحشائش والغلت من حقول الأرز والقمح أوفي جمع القطن وغير ذلك مما اعتادته الغيطان والحقول واضطلعت به بائسات الريف والمترملات اللواتي انقطع شحيح أرزاقهن بانقطاع ورحيل أزواجهن غواية أو موتا أو إباقا أومرضا, لقد سعت أم فوزية إلي والد ابن العاشرة وتوسلت صامتة رضاه أثناء عملها في حقله وأبدت إخلاصا لم تخطؤه عيناه فارتقي بها ذلك إلي ما طمحت إليه وأضمرته من نوال ذلك العمل عصر كل يوم وضمنت بذلك قروشا وبعضا من لبن أو بقل أو شيئا مما يجود به الزرع والضرع فاستعانت به علي حوائج أيامها القائظة القاسية, وادخرت ما كان يتبقي منه لتجهيز وحيدتها حينما تهل شمس خاطبها ويقدم عدلها فتشرع آنئذ في تجهيزها وشوارها,بعد أن أيقنت أم فوزية أن سوف يعجزها ما يحتاجه الأمر وقد غاض لديها المعين وعز النصير وأنكر وتجاهل القريب .

... كانت فوزية صبية جميلة نضرة عاشت بعد موت أبيها مع أمها في كنف عم قاس,ألجأه إلي احتضان زوجة أخيه وابنتها خوف من لاذع ألسنة أهالي القرية التي تري في من يفعل ذلك متخليا عن لحمه ورحمه وواجبه ,ومثل أولئك يواجههم من الناس لوم وسخط وازورار,وما انفكت زوجته تتهمه وتتشكك في نواياه وتتوجس زواجه من أرملة أخيه بحجة حماية زائفة وصون عرض واجب ورعاية مغرضة لأسرة الراحل الحبيب,والرجل كان أعلم وأخبر بصولة زوجته ولا يدعي لنفسه قدرة علي مجابهتها ,مثلما كان يدرك أنه أعجز عن تحمل تبعات و معقبات زواج أو انسلاخ عن أرملة أخيه وابنتها, وهو من تقوم حياته ومعيشته علي العمل لدي أهالي القرية في الحقول بأجر يومي لا يكاد يقيم الأود ,فكيف يتجهيز وشوار ابنة أخ شاركه فقره مثلما شاركه اسمه وأبويه ومسكنه في حجرتين تعاونا في إنشائهما ومثلتا لهما حلما بعيد النوال وصعب المنال إلي أن أمكنا منهما .

... كانت أم فوزية تعي الأمر ورقة الحال وقسوته,وتتوجس المآل, فنهضت إلي اللحاق سريعا بمن كانت ترثي لهن من عاملات اليومية البائسات, وأبت عليها بقية من كبرياء وذكري ثراء حازه جدها وأطاح به أبوها في حياته الغابرة القصيرة التي استغرق الحشيش والأفيون سوادها وموجوداتها, بيد أنها أوصدت أبواب أوهامها وحزمت أمرها واستسلمت لمقدورها ,فردعت تلك الأطياف والهواجس بعد أن أيقنت أن أخا زوجها لن ينهض بما لا يطيق ,وإن ظل وجوده مظنة ردع وحماية من بطشة زوج أو تحيف حماة أو شقيقات لابنتها في مقبلات أيامها ,وأفزعها مجرد تخيل أيادي إحسان لأقرباء أو غرباء تمتد إليها بقليل من عون أو مدد, وراعها شبح نظرات المن وما قد يصبح تاريخا وتصنيفا مطاردا ملازما لايرعوي عن جلد لأبناء لابنتها وأحفادها في مجتمع يتناسي أهله أمورا كثيرة وتقفر ذاكرته بما يمس مصائره وتاريخه ويشحذ همم أفراده, ويدفع غائلة أعدائهم,لكنه يستنفر الذاكرة والوقت والجهد ليلمزمن أقبلت عليه الأيام بما كان عليه الآباء والأجداد تصغيرا لشأنه وتحقيرا لحاله وتقزيما لطموحه .

... تحسست جارتها وصديقتها عديلة أمرها وحالها فحفزتها إلي العمل وصحبتها إليه وساعدتها علي بداياته ,وكانت عديلة ممن يقصدهم أثرياء القرية ويخصونهم بالعمل لديهم لأمانتهم وإخلاصهم فنجت بذلك من قسوة أيام البطالة وكثيرا ما أدركت فضلا من طعام أو لحم أضحيات جاد به من عملت لديه في مواسم حصاد أو في أعياد وأفراح أو أتراح ,ولم تتردد أو تتقاعس أم فوزية حين عرضت عليها عديلة ذلك ولم يردعها طيف كرامة ضائعة أو أطلال غني جدها واستغناء أبيها ,بعد أن أيقنت ألا سبيل لاستعادت أيامها الخوالي , وقد أمكنت من وعيها نظرات سلفها أخو زوجها وامرأته عند تناول شحيح وساذج الطعام الذي يكاد لا يفارق الفول ومشتقاته ويندر فيه اللحم والطير حتي يصبح يوم نوالهما ,ذكري عزيزة وطائفا رائعا وظلا ظليلا في هاجرة معتاد البصل والفول والمش, ,كانت تلك النظرات تشي باللوم والكره وتكاد لولا الروادع تفصح وتبين, وأيقنت أم فوزية أن ما قد يجود به عملها في الحقول قد يحميها من سهام تلك النظرات وسيفها المسلط فلبت نصح عديلة وسعت بها ومعها إلي العمل فما ليس منه بد,أصبح جاثما متلمظا لا بد منه .

,اعتاد ابن العاشرة قدوم أم فوزية عصر كل يوم مثلما اعتادتها وألفتها ساحة الجرن و بهائم الدوار ودوابه ,ولمس فيها انزواء وحزنا دفينا,فاقترب منها وتحادث إليها وأمعن في ذلك متلمسا مستكنات ألآمها فباحت له بما تحسه وما ظنه بها, فاقتربت مشاعره منها ,لقد فعل فقدانه لأمه بنفسه الأفاعيل وأورثه رقة في القلب وحنوا ورحمة علي شبيهاتها وأترابها,وتحسس أخبارها وأحوالها واستثار ما أدرك وسمع مشاعره وأحاسيسه وعطفه وتعاطفه مع أم فوزية ,وطابت له واستعذبت نفسه رؤية انشراح أساريرها وانبساط قسماتها حينما كان يمنحها ما أمكن له أن يختلسه من مصروف أو حلوي مما كان يمده به أبوه او أعمامه وما يجود به أخواله المشفقين علي ميعته ويتمه, ففاض عليها بكثير من الملاليم وبعض من التعاريف وقليل من القروش ونادر من الحلوي .

... حكت له أم فوزية واسترسلت عن تقلب الأيام وتبدل الأحوال وعما كانت ترفل به في سنوات زواجها العشر الأولي من رغد وطعام ولحم وطير وما لم يبخل به أبوها عليها من لباس وزينة ,وكيف تقلبت بهم الأيام وما كان من صرعة أبيها حزينا كاسفا مغيب الوعي بعد أن باع ما ورثه عن أبيه من قراريط وأنفق ثمنه علي جلساته وجلسائه وأحواله في عالم الكيف وسحائب الحشيش والأفيون ,ثم موت أمها حسرة وألما ومرضا تاركة وحيدتها بلا عون أو سند فتلقفتها يد المرحوم وحجرته بعد أن رضيت به علي ضعة حاله,زوجا بعد أن وعي الخطباء والشباب أمرها وفقرها فصرفوا نفوسهم وعقولهم وقلوبهم إلي من يستدفئون بمالهم وجاههم, وأوغلت أم فوزية في بثها وحزنها وشجو ما تربصت به أيامها ,إلي نفسه وتلمست شغاف قلبه وعطفه وتألمه,واستعذب الفتي الحكي مثلما استعذب الألم وغدا ينتظرها كل يوم ويجهد في مساعدتها وتقديم العون لها ليستزيد من حكياها دون أن يعلم بأمرهما احد .

... ألح ابن العاشرة عليها سائلا عن سبب تلهفها واستدعائها لهمتها الغائبة في العمل واستغنائها عن مساعدته وانشغالها عنه,وحين بدا لها ألمه ولاحت بوادر غضبه ,تنبهت وخشيت مغبات ذلك ومعقباته ,فأجابته حين انتهت من غسل يديها وتأهبت للرحيل في صوت لا يكاد يسمع وعيناها تدور مخافة رقابة رقيب أو فجأة قادم : مفيش حاجة بس البطة اللي عندنا وقعت من السطح ولحقها عم إسماعيل بالسكينة قبل موتها ونفسي الحق نصيبي أنا وابنتي منها في عشائنا اليوم .... تدفق شلال الألم وتكاثف الدمع وتدافعت وتراكضت الأسئلة في نفس وعين وعقل ابن العاشرة, وحين استفاق كانت أم فوزية قد انطلقت إلي البلدة لا تلوي علي شيئ ..

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام 24من ديسمبر من سنة 2008الآفلة

عبد الحميد سليمان
29/12/2008, 20h54
بسم الله الرحمن الرحيم
غروب وهروب
00حدقت عيناها في فضاء عريض وبدت لا تعبأ بقتامة جو أو صرصر ريح وقارس برد وصراخ أطفال كانت تحمل منهم بيمينها من تحمل ويتشبث بأذيال ثوبها من يتشبث, وانصرف انتباهها عما حولها حتى بدت تمثالا شاخصا غادرته روحه إلي حيث تلتمس غايتها وتتحسس موئلها وعائلها, بعد أن خلا جسر الترعة من العائدين إلي بيوتهم من الفلاحين,الساحبين مواشيهم,الممتطين دوابا ناءت بأحمالها من الرجال والأطفال أو الحطب أوالبرسيم,إلي حيث تحتضنهم بيوت زانتها زرائب وخرائب بعد انصرام نهار منهك,قاس,بطئ0

000أقفرت الموردة من مرتاديها من نسوة وأطفال مع أفول شمس ذلك اليوم,وتقاطرت النسوة عائدات إلي بيوتهن في خطي سريعة,تتعجل عشاء ضنينا إلا من عذب حديث ودفيئ عاطفة وصادق بوح وموغل بؤس وحزن وشجن ,بعد أن غسلن أوانيهن وأزلن عن أبدانهم وأطفالهن كثيفا من تراب وطين, خلفه يوم شاق وسعي دائب لا يكل ,وهن يحملن من ماء الترعة ما ترتوي به غلة ليلهن وما يدخرنه ويحتجنه لساذج طعامهن,بعد أن أنفقن سحابة نهار يوم من أيامهن البائسات المتواترات الرتيبات,من شهر أمشير الذي أبي أن يأتي إلا بما اعتاده من ريح عاصف وبرد فاتك قارس يدأب فيتغلغل وغزير سيول,لا ترعوي أو تأبه بما تخلفه في بيوت وأسقف زائفة واهية عاجزة ,وأطفال ونسوة وشيوخ عز لديهم ما يعين علي متراكم الغوائل والبؤس,وما بقي لهم من معين علي صائلة مثل ذلك اليوم وأشباهه إلا وثير من قش يفترشونه ويتدثرون به ويتحلقون حوله فتنساب حكاياهم ويزيد تدانيهم فيسري في عروقهم دفء إنساني تكلؤه حرارة جادت بها نار حطب أو خشب أو قلاويح أذرة مما توسد مكانا عليا من بيوتهم المتدثرة أسقفها بأحمالها منه0

000في مثل ذلك التلاحم الإنساني المفعم,يفعل فعله شجي الحديث واستدفاء الأطفال بأحضان أمهاتهم وتداني الأمهات من أزواجهن وأولادهن تدان يجعلهم كيانات متعانقة متدافئة متسامرة متوحدة الأجسام والمشاعر,ويغدو ذلك دروعا سابغات وحصونا منيعات يدرؤون بها غائلة برد أمشير ودأبه وقسوته ووحشيته,ولو جادت الأيام بقليل من البطاطا,تصطلي بلظى راكية الموقد ,فان تلهفا للأطفال واصطبارا مصطنعا للكبار يكاد يصرف الانتباه عن ذلك الزمهرير وأفاعيله فيرتد عنهم كسيفا خزيا متأهبا متوعدا متوثبا0

000آذن الظلام بالسدول لكنه وأفاعيل برد أمشير لم يصرفا انتباه تلك الأم ولم يثنياها عن تحديق بدا بلا نهاية واستشراف يتوسل سدفة الظلام ألا تجيء ,واصطراع لعينيها مع عتمة لم تأبه لها أو ترحمها,فطفق طغيانها يتغلغل رويدا رويدا, لكنها كانت غافلة عن عيون ترمقها من بعيد,كانت ارقهما وأحناهماعينا صبي ناهزت أعوامه الثمانية,قابع خلف شجرة قريبة لا يأبه به ولا له أحد, ,وكانت أجرأهما وأخبثهما وأوقحهما عينان ما انفكتا تمعنان في المرأة فتكادان تنضيان ثوبها عنها,وتمعنان فتجحظان,وتعودان فتبرقان وتشدهان ثم تجحظان وتتلمظان,إن جذب طفل من أطفالها ممن تعلق بملابسها ورجليها ثوبها, متوسلا متضجرا من غلظة برد وانتظار بدا بلا نهاية, فالتصق جراء ذلك جسم تلك الأم الشابة بارعة الحسن سمهرية القوام بثوبها وأبان بعضا من امتشاق قامتها واعتدال قدها وحيويتها ,أو كشف قدما لها زانها خلخال من فضة علا قبقابا غليظا خشنا,قد من خشب التوت0

000أما الصبي فكان ينظر إليها فيذوب ألما لها وإشفاقا عليها ويتمني لو انقشع الظلام المتسارع المتكاثف عن زوجها عيسي وعن مهرته التي كانت تجر عربته الكارو وتحيا معه مثلما يحيي معها,فتقاسمه حياته واهتمامه وحنانه مع زوجته وأولاده ,ولا تدخر في خدمته وسعا,وكأنها تبادله عطاء بعطاء وحبا بحب, وحنانا بحنان وإشفاقا بإشفاق واصطبارا باصطبار0

00 ود الصبي الذي كانت عيناه تتحسسان عينا الأم الشابة وتستكنهان مشاعرها وقلقها وتخوفها غيبة عائلها ودرعها وأمانها ودافئها دون أن يدري الصبي سببا لاهتمامه وترقبه اليومي كي يري بريق عيني تلك الأم الشابة,الحاني المشفق المتوجس المروع ,المتوسل عودة عائلها منفقا يوما من أيامه الشاقة التي تتري,فتوسعه بؤسا إلي بؤسه وشحا وضنا إلي شحيح رزقه,ولا تدخر في كيدها قيظا ولا زمهريرا,ولا في صولتها تقلبا وتبدلا 0
000أتراهما توقد مشاعر,وإشفاق قد فعلا بنفس الصبي تلك الأفاعيل ونحيا به ذلك المنحي؟ أم سالف عرفان وحب لم تتكتمه تلك الأم الغريبة لأمه الراحلة,منذ أن أقبلت مع زوجها وعيالها إلي القرية من حيث لا يعرف احد,فأشفقت عليهم أمه ورأفت بهم وأفضت إلي زوجها بحالهم,فوسعتهم حجرة من طوب لبن في رحبة البيت حيث يقع الفرن الذي تعتاده أسرة الصبي وجيرانها وغدا بذلك ملاذا دافئا لأسمار الأمهات واجترار العجائز وأحلام الفتيات وتلصص الأطفال الملتمسين بعضا مما يكتوي بناره 0

000أتراه قد تنبه لتلك العينين المتلمظمتين فانزوي يرقب الأمر وقد اعتورته المخاوف علي تلك الأم وتربصت به الظنون؟ أم شجاه تحسسها عودة زوجها وحبيبها وعائلها فحرك أوتار قلبه واهتاج به مستكن شجنه ومتوسد لوعته ويتمه,وذكره بأبيه المنشغل المكلوم وبأمه الراحلة ودفيئ حضنها وعميق قلقها والتياعها وتشوفها عودة زوجها,ثم ارتياحها وذهاب روعها وخوفها واطمئنان نفسها واشراقة وجهها ورقيق ابتسامتها حين يلوح مقبلا جزلانا مرهقا ويجلس الي طعامه فيتوسد الصبي حجره, تكلؤه رحمة وحنو لايحدان,ويتنافس الوالدان في اختصاصه بأطايب طعامهما وروعة حنوهما؟

000ومافتئ صاحب العين الأخرى يرقب من مكان قصي فتجحظ عيناه ببريق الرغبة وتتلمظ أنيابه وتكاد تتحرك خطاه ويداه اللتان تودان لو انتزعتا هذه الأم وانفردتا بها وروتا غلته ونزقه وجموحه وأنهت ملاحقة ومتابعة لا تيأس ولا تمل ولا تريم, وتسفر بلا خجل عن نزقها وضعة غايتها وخسة مرامها,إن أمنت غفلة الرقيب ولومة اللائم0

000كان فوزي رجلا نزقا عتيا وضيعا لا يردعه أصل أو محتد ,و يخشاه الناس ويتحسبون لشراسته واستقوائه بمن يعمل في خدمتهم من أهل الإدارة والسيطرة ورجال الشرط والضبط,وكان يسرف في التودد لهم ويتحين أوامرهم وتلبية مطالبهم ورغباتهم حاسرا من كرامة مهدرة و نخوة غائضة ومروءة قاصية نائية, وكان يتلذذ بخدمتهم ويستعذب شتائمهم واستعلائهم حيث كان يمدهم بالشاي والقهوة ,ويرتب سهراتهم الخاصة ويغذوها بما يثري الجوزة والمعسل من الحشيش الأصلي والأفيون المعتق فيطلق ذلك سحائب الدخان الأزرق التي تحلق برؤوسهم وخيالاتهم إلي السماء,فتذوب آلامهم وكوامن ذلتهم وقهرهم وكبتهم لمشاعرهم إزاء جبروت رؤسائهم وكبرائهم واستعلائهم وإذلالهم الذي يوسع به كبيرهم صغيرهم ولا ينفكون يتناقلونه, وتمد لهم تلك السحابات الزرقاء حبال الوهم وتحلق بهم إلي عوالم غير مدركة و جنان زائفة,ولم يدخر فوزي وسعا ولا حيلة أو وسيلة لقود أو إخضاع أو استدراج أو قهر من راقت لسادته من نساء ليدفئوا بهن لياليهم ويشبعون نزواتهم ونزقهم وغرائزهم ,فصار بذلك مأمونا لديهم وحذاء طيعا لينا,تستمرئه أقدامهم وأمكنه ذلك من نفوذ واستقواء وغواية تأهبت لها وترقبتها نفسه وغرائزه وتحينته, فصار يروع من يروع ويتهدد من يتهدد,وذاع أمره وشخص خطره فتملقته العائلات الكبيرة وخشيته الصغيرة وانصاع له الغرباء ممن لفظتهم بلادهم وأنكرتهم قراهم فبادلوها جحودا بجحود ونكرانا بنكران فتركوها لتتقاذفهم القري والعزب فعاشوا حيث أمكن لهم شحيح الرزق,ولم يرتو ظمأ فوزي ولم تشبع رغبته ولم يردع كيده وازع أو ضمير أو حسيب ,وصار الناس يتهيبون صولته ويسترضونه ويخطبون وده وصارت العفيفات الشريفات تتجنبن طريقه وتتقين وقاحة عينيه0

00علي استحياء تناهي إلي أذن الصبي صوت عربة عيسي ضئيلا خافتا هزيلا يشق طريقه ويستبق فلول النور المتآكل أمام حجافل الظلام المتدافعة ,وأدرك صدق ما سمعه حينما أشرق وجه الأم الشابة وانفرجت أساريرها واطمأنت عيناها,فقفلت عائدة إلي حجرتها, وشرع الصبي بعينيه فأبصر فوزي مغادرا حانقا متوعدا حسيرا0

000ألف الصبي ذلك المشهد الذي يمتزج فيه الخوف بالإشفاق والأمل وبتغلغل فيه الوفاء والحب , بتهيؤ الشر وتوثب النزق,ووعي الخطر المحدق بهذه الأسرة المسكينة الغريبة ,ونمت مخاوفه وتوجسه متخيلا ما قد يرعوها من خطر فوزي وشراسته وآثم رغباته وغوايته واستطالته وسطوته,إلي أن أبصر الخفراء ورجال الشرط يقتحمون تلك الحجرة البائسة علي أهلها صبيحة يوم, فيأخذون بتلابيب عيسي وعربته ومهرته,دون أن يكترثوا لآيات الفزع والروع التي شخصت في قسمات وجوه ,وصرخات أم ,وروع وبكاء أطفال,وتألم وعجز جيران,وتوجس وتحسب عقلاء0

000تناهي الصراخ والألم والبكاء والعويل إلي سمع ونفس الصبي فصحت لديه مخاوفه وراعه ما يروعهم واسترجعت ذاكرته الغضة مشهد فوزي بالأمس القريب وقد اعترض طريق الأم الشابة أثناء قفولها من بعض الحقول والغيطان المتاخمة للقرية حاملة بعض ما جادت به الجسور وشواطئ الترعة من نبات السلق والحميض والسريس والدنيبة لتطعم به أولادها وزوجها وطيورها فأعرضت عنه وغره ضعفها ووحدتها ووحشة الطريق فامتدت يده إليها,ففزعت منه وأنذرته, وحين تهيأ لكرة أخري خلعت قبقابها الخشبي وقرعت به وجهه مزمجرة هادرة فانصرف مرعوبا صامتا متوعدا متوجسا متلفتا مخافة أن تفتضح هزيمته فتضيع صولته وهيبته 0
000انزوي الصبي حسيرا كسيفا وود لو امتلك قوة يردع بها هذا العتي الباغي,أو مالا يزود به هذه الأم وصغارها ,أو تنفذا يهرع به لإنقاذ عيسي من كيد يحاك له,لا تعرف عواقبه ومغبته ,ووعي الصبي أن إقصاء عيسي وسيلة دبرتها رغبات فوزي المتأججة ونفسه الوضيعة وهزيمته المنكرة, فانكفأ مهولا فزعا إلي أن هجعت عيناه الحائرتان الدامعتان إلي نوم عميق ثقيل,حتي بددته أصوات نسوة يودعن الأم الشابة ويتضرعن إلي الله أن ينتقم ممن ظلمها وكاد لزوجها وتربص بهم, وقد تشبث بها أطفالها وأثقل رأسها ما تحمل من متاع, فودعتهم باكية حزينة0000 اندفع إليها الصبي دامعا متجهما فزعا سائلا:إلي أين يا خالة؟ فربتت علي رأسه ومسحت دموع له لم ترقأ ,قائلة متعجلة مضطربة متلفتة : إلي حيث لا ندري ولا يدري فوزي 0

الأستاذ الدكتور/عبد الحميد سليمان
00 كفر سليمان البحري ليلة12من يناير الشاتية القارسة, لعام بقي من قرن منصرم0

عبد الحميد سليمان
15/01/2009, 17h21
بسم الله الرحمن الرحيم
السمهري والجامعي

000سمهريا وسيما رائعا حين أبصره للمرة الأولي, متوسدا مقعده, قبالته في مجلسه من قاعة الامتحان إبان سنوات تحصيله في كلية دار العلوم, حينها تأبط الجامعي شرا إذ استفزته وسامة زميله وأناقته وبادي اعتزازه بنفسه, لكن السمهري فجأه مبتدرا ومحييا ومسلما, بخفيض صوت وسكينة نفس, وبسمة متوددة تجلت فيها آيات من براءة وعفوية وصدق طوية, وبدا وكأنه قد استكنه معتملات نفس الجامعي ومعقبات رؤيته ومظانه, فسعي إليه ليذهب عن نفسه إعراضها وارتيابها, دون أن يردعه توجسه وتخوفه نفورا وإعراضا وشت به قسمات الجامعي,وبدت بوادره جلية متوثبة 0

000كان الجامعي قد اصطرعت عليه الأيام علي يفاعته فأثقلته,وجهدته وحدته بين عديد قومه وأهله ,الذين اعتبروه كلأ مباحا وسقطا من متاع ينهشون منه ما شاء لهم النهش ,ويعز نصيرهم إن استنصرهم وتوسل منهم سندا لا يأتي وعضدا لا يذب,وماعادوا يكترثون لعتاب معتب أو لوم لائم ,ولم يترفقوا بوهدة يتمه وفداحة اغترابه بين أهله, فبات أنأي عنهم قلبا ونفسا , بعد أن استخذوا في ملمات عديدة عن عون صغيرهم الذي أثقله عبئ حماية صغار أخوته من غوائل الطامعين واستطالة المستطيلين, لقد ترك ذلك خطوطه السود علي نفسه وقلبه وعقله, فغدا منطويا,حذرا,متوجسا,مرتابا,حنقا,معرضا,متمردا,متوثبا ,متصديا,هازئا0

000فعل ذلك فعله في الجامعي فبات من دأبه ومستقر عادته, أن يمعن النظر في عيون من يخالط أو يعرف في وهلة تعارفه الأولي بهم ,متحسسا مطوياتهم ودخائلهم ,متوسلا سبر أغوارهم,ولطالما وقته تلك الفراسة,وأسعفته وكفته, فطفق يجزم انه يستهدي بها, ليتقي غائلة الطامعين وأدعياء الصداقة وزائفي الحنان والرحمة, ولم تخذله يوما نظراته تلك,العميقة المستشرفة المستكنهة,إلي عيون بدت غادرة متلمظة,وأخري ناعمة خبيثة بعيدة الأغوار لا تسبرها خبرة أعمار,أو عميق تجاريب, وبات يسيرا عليه إن رأي عيونا قلقة مضطربة متوجسة أن يدرك أن وراءها ميراثا ثقيلا من القهر والفزع والروع, أنشب أظفارها فيها,فما عادت تملك لنفسها منه انعتاقا أو فكاكا, وبدا ملازما,لا ينفك عنها ولا تنفك عنه, مهما أوتيت من جاه أو صالت من صائلة أو حازت من مال0

000تكاثفت الفراسة في الجامعي حتي انه ليميز عن غيره, من اكتوي باليتم صغيرا,مهما بلغ من الكبرعتيا, وكان حاديه إلي ذلك وهاديه, موغل يتمه وقديم ألمه وانكساره,وبات لا ينبئك مثله خبير,ذلك أن فاجعة اليتم لا ترقأ مهما تطاول الأمد وتبدلت السنون وتغيرت الأحوال,وأوعي الناس تحسسا لها من ربي يتيما فالمصائب كعادتها يجمعن المصابينا, لقد تلمس الجامعي في عيني زميله شيئا من ذلك واستشعر انكسارا خفيا,وألما مطويا,تسترا خلف قامة سمهرية ممشوقة,وجبهة مرفوعة وأنفة بادية ,ونبالة واعتزاز نفس 0


00 0حين شد السمهري علي يده,استنهض الجامعي متراكم خبراته في استكناه العيون واستبطان النفوس وأهلها التي كانت تأنس نفسه بها إلي نفوس ووجوه فتطمئن حينا,وتتوجس أخري أحايين كثيرة, وبدأت كلمات شاردات تتلمس طريقها إلي شفاههما,علي تحذر واستحياء عن مرتقب الامتحان ومتوقعه,وما يحذره كلاهما منه,وما يتمنيانه من انعتاق من طائلة عامهما الدراسي الثقيل الشاق البطيء,من أواخر سبعينات القرن المنصرم,وأملهما في إياب مشوق يثوب به الجامعي إلي ضعاف أخوته الذين خلفهم في قريته من دمياط في دلتا مصر ,ويجوز به السمهري شائك دروبه التي أثقلها وأنهكها هول الاحتلال ومخالبه وزبانيته,إلي أعزائه في موطنه في خان يونس من فلسطين الأسيرة0

000أمعن الجامعي نظرا إلي عيني صاحبه, فشغل بذلك عما عداه,وبدا لا يكاد يعي ما يسمع,أو يدور حوله,حين فجعه وقلقل همه الذي قلقل الحشا, تعانق الألم والأمل, والكبرياء والانكسار,ونجاد القوة المصطرعة مع وهاد الوحدة والضعف0

000 في هاتين العينين رأي من ذلك عجبا,فوقر في قلبه وأنست نفسه الي أن مثل تلك العينين, يرفدهما قلب ينوء بأحمال ثقال وأحلام عراض,ألقت بيفاعة العمر وميعة الشباب ونزق المرحلة خلف ظهرها,و أثقلت الفؤاد بالسواد,وألقت بأطيافها علي وضاءة وجهه التي جهدت جهدها لتدرأ كهولة مبتدرة وشيخوخة متأهبة0

000آذن ذلك بحوارات ومساجلات ومقاربات ومباعدات تقاربا فيها فاتفقا واختلفا فلم يفترقا ,وتواصلا فتلاحما شعورا وصدقا, وأبت أنات فيروز وأنينها وشجنها وانكسارها وتوسلها طيف من لن يجئ إلا أن تنكأ جراحهما فتذيبهما وتصهر ذواتهما,فأفضي كلاهما لصاحبه بآلامه وآماله0لقد ترفعا بالصداقة الفتية فسمت بهما,وتمازجا بها فانصهرا وغدا كلاهما لأخيه كنفسه التي بين جنبيه0

وإخوان تخذ تهموا دروعا000فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهموا سهاما صائبات000فكانوها ولكن في فؤادي
******
تحذر من صديقك كل يوم 000وبالأسرار لا تركن إليه
سلمت من العدو فما دهاني000سوي من كان معتمدي عليه
******
ربما يرجو الفتي نفع فتي 000 خوفه أولي به من أمله
رب من ترجو به دفع الأذي000 سوف يأتيك الأذى من قبله

000لطالما درسا في دار العلوم آيات من عبر التاريخ ونذره عن أولئك الذين قلبوا ظهر المجن لأصدقاء أمسهم وشركاء آلامهم فغدوا أمضي عليهم حساما وأوغل إيلاما, وأنكي خطرا وأشد عتيا ولم يرقبوا فيهم إلا ,ولا ذمة, ولطالما استنفرت عقليهما وأثقلت أذنيهما ورانت علي قلبيهما,أشعار وأمثال وحكم ومواعظ ,متوجسة منذرة,تدأب فلا تكل وتسعي فلا تمل, عن تقلب الصديق وغدره ,وتبشر بخيانته ونأيه وخذلانه ونكوصه وكيده, فتتهدد بذلك كل صداقة ,وتوجس جراءه كل صديق من صديقه,لقد درسا ذلك فوعوه ووثقا به واطمأنا إليه, لكنهما حين خبراه كذباه فأطاحا به وراء ظهرانيهما 0

000 أزرت تلك الصداقة بادعاءات الأيام وزائفات روايات التاريخ وافتراءات الشعر وأفك الشعراء, ولم ترعو الأيام التي استثارها ذلك التلاحم الإنساني الفريد ,واستنفرها واهتاجها ,فأوجفت عليه خيلها وركابها, وغرها أنها قد ألفت خيانات المحبين وتقلبات الأحوال ,فأصلت انصهار وتلاحم السمهري والجامعي بجمرات ولظي التجاريب, لكنها
صدمت فذهلت ,وخاب سعيها, وأدبر ظنها, ثم كرت كلمي موتورة ,متلمظة حانقة ,لكنها آبت يائسة مخزية0

000كان ذلك بابا واسعا ومدخلا رحيبا ولجه كل منهما إلي سويداء صاحبه, فتوسد منه مكانا عليا لا يبرحه مهما تنازعته الأحداث والشخوص وتبدلت به الأحوال, وتكأكأت عليه العقود,والسنوات من الافتراق البدني التي نافت علي الثلاثين, و بدوره آيس افتراق الأبدان وتقاذف الأيام ووعثائها,من النيل من ذلك التوسد والتربع, اللذين كانا يمعنان ما أمعنت الأيام ويزيدان ما زادت دون أن ينطويا كما انطوت غائلة الافتراق, آو يأفلا كما أفلت,وما انفكت صورة السمهري ووضاءة وجهه ومستكن ألمه المنصهر بشموخه الذي يشي بغير حاله في مخيلة الجامعي وواعي ذاكرته وسويداء قلبه,وان ظن أن صاحبه أعجز من أن يكن له مثلما يحمل من محبة خالصة نقية من غوائل المنفعة ووضاعتها ,أو أن تلك الدواهي التي ما انفكت تتري علي فلسطين وأهلها والتي تخاذل فيها الشقيق واستيأس النصير, فغر ذلك الذئب اللئيم فتوحش واستأسد ولم يعد يتوجس لومة لائم ولا نخوة قريب أوبعيد,قد صرفت السمهري و شغلته فأنسته0

000لقد تقطعت السبل وتناءت المسافات وعزت الأخبار وفعلت الأحداث أفاعيلها فحالت بينهما,دون أن تأبه لصادق ود وعميق حب وحافل ذاكرة ,أو مشترك تاريخ وتواصل جغرافية,أولوثاقة أصل وأرومة محتد وتجذرعرق0

00 لم تبرح صورة السمهري نفس الجامعي وذاكرته,ثم أطبقت عليه من أقطارها هواجسه ومخاوفه وتوجسه,وذهبت به كل مذهب ,حين أبصر وتلظي بما ابتليت به غزة من بلاء الاحتلال وجبروته الذي غرته الأماني وسوء ما آل إليه حالها بعد حصار قاس لايرحم ولايريم , عز خلاله النصير والمعين,ونأت القواعد من الرجال, بعد أن اطمأنت نفوسهم إلي الذل واستمرأته حتي استعذبته,دون أن يردعها رادع من نخوة أو آبق من شعور, أو بقية من ضمير, وأوسعت المخاوف الجامعي وتناوشه التوجس حينما اشتد الكرب فشخصت الهواجس واتقدت ذاكرة العمر لتمتزج بذاكرة التجربة وقسوة الألم واستفحاله,وتواترت فتكاثفت سود الأخبار وإيغال من لا يرحم,وتداعي وتواطؤ من لم ينس آلام الماضي وانكساراته وهزائمه,من الذين اجتمعت إلي نفوسهم خسة الطبع وفساد النفس وغواية الضعف,وخبرة تحسس مواطن القوة وتوسلها,ومظان الفائدة واهتبالها0وتأصل النهز وتمكن الغل والشر0

000أعجز الحال الجامعي وأثقلته الهموم واختلفت عليه آيات الروع والوهن ,حين تداعت الأنباء عن جولة عتية متجبرة وحشية متلمظة تتعشق الولوغ في الدماء فلا ترتوي لها غلة,وتدأب ولا تأبه فتتوغل ولا تتردد أو ترعوي,ولا يزيدها صمت الصامتين وتوجس الخائفين وقعود القاعدين وإيعاز الموعزين إلا ضراوة وشراسة ,فغدت تمخر في دماء الأطفال وأشلاء الرجال والنساء وأطلال البيوت والعمائر دونما كلل أو ملل أو تحسب لحسيب او ترقب لرقيب0

000تراكض قلق الجامعي علي السمهري, الذي نأت به الأيام وأخفته سدول الأمكنة والأزمنة, واصطرعت الهموم علي نفس الجامعي فأثقلت قلبه ,واعتورته الآلام وتناوشته المخاوف, فعن له أن يتحسس أخباره ويتوسل أنباءه,علي شبكة الانترنت,عله يستضئ ببصيص من خبر, يستبصر به إلي أين انتهت بصديقه الأحداث وآلت إليه الأيام0وكان ممن ينفق بعض كبيرا من وقته في مطالعة تلك البحار التي لا حدود لها من المعارف المتنوعة علي جهاز الكمبيوتر وطفق لا يكف عن ذلك, منذ أمكنه الإبحار في لجب بحاره والرسو في مراسيها0

000 لحيظات أو ثوان انتقلت بالجامعي من استرخاء يائس مستسلم إلي شعلة من نشاط ,واضطرام لبركان من مستكن المشاعر, لقد جحظت عيناه حتي كادتا تخرجان وهما تستحلفان الكمبيوتر مزيدا من الأنباء عن السمهري, وتتوسلانه ثم تستحثانه بعضا من جوده وفيضا من فيضه, بعد موغل ضن ومعتاد بخل, فرأف بحاله ورق له, وان تنازعه ضنه ومتأصل طبعه فبدأ يلقي للجامعي بشحيح الأخبار مما لا يروي له غلة ولا يشفي صدي نفسه,وكأنه آلي علي نفسه الا يسرف في عطائه حتي لا يظن به الغفلة ,ويطمع منه في أريحيه غابرة,ولم يقنع الجامعي وأشعله ما يلقي به الكمبيوتر إليه من شحيح الأخبار,وظلا يصطرعان أيهما اصبر علي غائلة صاحبه,حتي ضجر الكمبيوتر وتخوف علي نفسه من مصطرع لا يروعه وقت أو جهد, فآثر السلامة و الانعتاق من غائلة الجامعي التي بدت لا ترحم ولا تكف أو تيأس ,والقي برقم هاتف السمهري إلي مفتقده عله يرفع عنه يده ويكف دأبه ويثني عزمه,بعد أن يروي صدي نفسه ويشفي غلتها, فكان له ما رامه, فانعتق من إسار الجامعي وارتهانه,الذي فجأه حينما أخرسه بغير ما اعتاده من تأذن له واصطبار عليه, حتي يطوي سجلاته ويطمئن إلي استعادة حاجاته وأدواته0

000لحيظات سجلتها ساعة الحائط في حجرة الجامعي ولكنها مرت ثقيلة بطيئة مترددة تكاد تفتك بأوتار قلبه التي اشتد أوارها وخفقانها واضطرابها,حتي جاءه صوت لم ينسه لحيظة ,ولم يغترب عن أذنه هنيهة واحدة, فامتزج البكاء بالفرحة ,واختلط الألم بالأمل, والإيناس بالاستيئاس, وتدافعت وأسرفت العيون بدمها ودموعها التي لم ترقأ, و تحشرجت كلمات السمهري وهو يلوم حبيبه علي إهماله رسالة أودعها رقم هاتف من دمياط ألقي إليه به الكمبيوتر ذات يوم ,حين اعتاد أن يتحسس منه خبرا أو طيفا للجامعي, وخطر له أن يهاتف صاحبه عله يهديه إلي حبيبه الجامعي الذي افتقده,وجاءه صوت من وعده خيرا,لكنه لم يحر بعد ذلك ردا, فاصطرعت في نفسه المخاوف علي حبيبه الجامعي , وظن به ظن سوء وتحول وتبدل ونكران عهد وود, في زمن ألف تحول الرجال وترخص الغلاة ,وراجت فيه بضاعة النفاق و الافك والأراجيف, وتوسد التناسي والتغافل والجحود0

000 تعانقا علي بعد المسافة وتباكيا,وتغافرا فتسامحا, وتواعدا وكلاهما لا يريد أن ينهي لقاء بدا ضربا من محال,وحال دونه ردح طويل من الزمن,وبدا الحديث بلا نهاية,ثم فجأتهم صاعقة مزلزلة وانفجار مروع, فجن جنون الجامعي وهو يضرب هاتفه حينا ويتوسله أحيانا, ويصطرخ لاعنا زاعقا ثم يتلهف متوددا متملقا مستحلفا,دون أن يرق له التليفون أو يرأف بحاله,وكأنه أضمر كيده فلم يجبه ولم يرحه0000 ظل الجامعي يضرب دون كلل أو يأس أو ملل, ولامجيب ,يضرب ويضرب ويضرب ويعود ليضرب ويضرب,ثم يضرب ويضرب ويضرب 000

الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد سليمان

مساء الجمعة في مستهل اسود لسنة2009م

عبد الحميد سليمان
15/01/2009, 17h23
بسم الله الرحمن الرحيم
السمهري والجامعي

000سمهريا وسيما رائعا حين أبصره للمرة الأولي, متوسدا مقعده, قبالته في مجلسه من قاعة الامتحان إبان سنوات تحصيله في كلية دار العلوم, حينها تأبط الجامعي شرا إذ استفزته وسامة زميله وأناقته وبادي اعتزازه بنفسه, لكن السمهري فجأه مبتدرا ومحييا ومسلما, بخفيض صوت وسكينة نفس, وبسمة متوددة تجلت فيها آيات من براءة وعفوية وصدق طوية, وبدا وكأنه قد استكنه معتملات نفس الجامعي ومعقبات رؤيته ومظانه, فسعي إليه ليذهب عن نفسه إعراضها وارتيابها, دون أن يردعه توجسه وتخوفه نفورا وإعراضا وشت به قسمات الجامعي,وبدت بوادره جلية متوثبة 0

000كان الجامعي قد اصطرعت عليه الأيام علي يفاعته فأثقلته,وجهدته وحدته بين عديد قومه وأهله ,الذين اعتبروه كلأ مباحا وسقطا من متاع ينهشون منه ما شاء لهم النهش ,ويعز نصيرهم إن استنصرهم وتوسل منهم سندا لا يأتي وعضدا لا يذب,وماعادوا يكترثون لعتاب معتب أو لوم لائم ,ولم يترفقوا بوهدة يتمه وفداحة اغترابه بين أهله, فبات أنأي عنهم قلبا ونفسا , بعد أن استخذوا في ملمات عديدة عن عون صغيرهم الذي أثقله عبئ حماية صغار أخوته من غوائل الطامعين واستطالة المستطيلين, لقد ترك ذلك خطوطه السود علي نفسه وقلبه وعقله, فغدا منطويا,حذرا,متوجسا,مرتابا,حنقا,معرضا,متمردا,متوثبا ,متصديا,هازئا0

000فعل ذلك فعله في الجامعي فبات من دأبه ومستقر عادته, أن يمعن النظر في عيون من يخالط أو يعرف في وهلة تعارفه الأولي بهم ,متحسسا مطوياتهم ودخائلهم ,متوسلا سبر أغوارهم,ولطالما وقته تلك الفراسة,وأسعفته وكفته, فطفق يجزم انه يستهدي بها, ليتقي غائلة الطامعين وأدعياء الصداقة وزائفي الحنان والرحمة, ولم تخذله يوما نظراته تلك,العميقة المستشرفة المستكنهة,إلي عيون بدت غادرة متلمظة,وأخري ناعمة خبيثة بعيدة الأغوار لا تسبرها خبرة أعمار,أو عميق تجاريب, وبات يسيرا عليه إن رأي عيونا قلقة مضطربة متوجسة أن يدرك أن وراءها ميراثا ثقيلا من القهر والفزع والروع, أنشب أظفارها فيها,فما عادت تملك لنفسها منه انعتاقا أو فكاكا, وبدا ملازما,لا ينفك عنها ولا تنفك عنه, مهما أوتيت من جاه أو صالت من صائلة أو حازت من مال0

000تكاثفت الفراسة في الجامعي حتي انه ليميز عن غيره, من اكتوي باليتم صغيرا,مهما بلغ من الكبرعتيا, وكان حاديه إلي ذلك وهاديه, موغل يتمه وقديم ألمه وانكساره,وبات لا ينبئك مثله خبير,ذلك أن فاجعة اليتم لا ترقأ مهما تطاول الأمد وتبدلت السنون وتغيرت الأحوال,وأوعي الناس تحسسا لها من ربي يتيما فالمصائب كعادتها يجمعن المصابينا, لقد تلمس الجامعي في عيني زميله شيئا من ذلك واستشعر انكسارا خفيا,وألما مطويا,تسترا خلف قامة سمهرية ممشوقة,وجبهة مرفوعة وأنفة بادية ,ونبالة واعتزاز نفس 0


00 0حين شد السمهري علي يده,استنهض الجامعي متراكم خبراته في استكناه العيون واستبطان النفوس وأهلها التي كانت تأنس نفسه بها إلي نفوس ووجوه فتطمئن حينا,وتتوجس أخري أحايين كثيرة, وبدأت كلمات شاردات تتلمس طريقها إلي شفاههما,علي تحذر واستحياء عن مرتقب الامتحان ومتوقعه,وما يحذره كلاهما منه,وما يتمنيانه من انعتاق من طائلة عامهما الدراسي الثقيل الشاق البطيء,من أواخر سبعينات القرن المنصرم,وأملهما في إياب مشوق يثوب به الجامعي إلي ضعاف أخوته الذين خلفهم في قريته من دمياط في دلتا مصر ,ويجوز به السمهري شائك دروبه التي أثقلها وأنهكها هول الاحتلال ومخالبه وزبانيته,إلي أعزائه في موطنه في خان يونس من فلسطين الأسيرة0

000أمعن الجامعي نظرا إلي عيني صاحبه, فشغل بذلك عما عداه,وبدا لا يكاد يعي ما يسمع,أو يدور حوله,حين فجعه وقلقل همه الذي قلقل الحشا, تعانق الألم والأمل, والكبرياء والانكسار,ونجاد القوة المصطرعة مع وهاد الوحدة والضعف0

000 في هاتين العينين رأي من ذلك عجبا,فوقر في قلبه وأنست نفسه الي أن مثل تلك العينين, يرفدهما قلب ينوء بأحمال ثقال وأحلام عراض,ألقت بيفاعة العمر وميعة الشباب ونزق المرحلة خلف ظهرها,و أثقلت الفؤاد بالسواد,وألقت بأطيافها علي وضاءة وجهه التي جهدت جهدها لتدرأ كهولة مبتدرة وشيخوخة متأهبة0

000آذن ذلك بحوارات ومساجلات ومقاربات ومباعدات تقاربا فيها فاتفقا واختلفا فلم يفترقا ,وتواصلا فتلاحما شعورا وصدقا, وأبت أنات فيروز وأنينها وشجنها وانكسارها وتوسلها طيف من لن يجئ إلا أن تنكأ جراحهما فتذيبهما وتصهر ذواتهما,فأفضي كلاهما لصاحبه بآلامه وآماله0لقد ترفعا بالصداقة الفتية فسمت بهما,وتمازجا بها فانصهرا وغدا كلاهما لأخيه كنفسه التي بين جنبيه0

وإخوان تخذ تهموا دروعا000فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهموا سهاما صائبات000فكانوها ولكن في فؤادي
******
تحذر من صديقك كل يوم 000وبالأسرار لا تركن إليه
سلمت من العدو فما دهاني000سوي من كان معتمدي عليه
******
ربما يرجو الفتي نفع فتي 000 خوفه أولي به من أمله
رب من ترجو به دفع الأذي000 سوف يأتيك الأذى من قبله

000لطالما درسا في دار العلوم آيات من عبر التاريخ ونذره عن أولئك الذين قلبوا ظهر المجن لأصدقاء أمسهم وشركاء آلامهم فغدوا أمضي عليهم حساما وأوغل إيلاما, وأنكي خطرا وأشد عتيا ولم يرقبوا فيهم إلا ,ولا ذمة, ولطالما استنفرت عقليهما وأثقلت أذنيهما ورانت علي قلبيهما,أشعار وأمثال وحكم ومواعظ ,متوجسة منذرة,تدأب فلا تكل وتسعي فلا تمل, عن تقلب الصديق وغدره ,وتبشر بخيانته ونأيه وخذلانه ونكوصه وكيده, فتتهدد بذلك كل صداقة ,وتوجس جراءه كل صديق من صديقه,لقد درسا ذلك فوعوه ووثقا به واطمأنا إليه, لكنهما حين خبراه كذباه فأطاحا به وراء ظهرانيهما 0

000 أزرت تلك الصداقة بادعاءات الأيام وزائفات روايات التاريخ وافتراءات الشعر وأفك الشعراء, ولم ترعو الأيام التي استثارها ذلك التلاحم الإنساني الفريد ,واستنفرها واهتاجها ,فأوجفت عليه خيلها وركابها, وغرها أنها قد ألفت خيانات المحبين وتقلبات الأحوال ,فأصلت انصهار وتلاحم السمهري والجامعي بجمرات ولظي التجاريب, لكنها
صدمت فذهلت ,وخاب سعيها, وأدبر ظنها, ثم كرت كلمي موتورة ,متلمظة حانقة ,لكنها آبت يائسة مخزية0

000كان ذلك بابا واسعا ومدخلا رحيبا ولجه كل منهما إلي سويداء صاحبه, فتوسد منه مكانا عليا لا يبرحه مهما تنازعته الأحداث والشخوص وتبدلت به الأحوال, وتكأكأت عليه العقود,والسنوات من الافتراق البدني التي نافت علي الثلاثين, و بدوره آيس افتراق الأبدان وتقاذف الأيام ووعثائها,من النيل من ذلك التوسد والتربع, اللذين كانا يمعنان ما أمعنت الأيام ويزيدان ما زادت دون أن ينطويا كما انطوت غائلة الافتراق, آو يأفلا كما أفلت,وما انفكت صورة السمهري ووضاءة وجهه ومستكن ألمه المنصهر بشموخه الذي يشي بغير حاله في مخيلة الجامعي وواعي ذاكرته وسويداء قلبه,وان ظن أن صاحبه أعجز من أن يكن له مثلما يحمل من محبة خالصة نقية من غوائل المنفعة ووضاعتها ,أو أن تلك الدواهي التي ما انفكت تتري علي فلسطين وأهلها والتي تخاذل فيها الشقيق واستيأس النصير, فغر ذلك الذئب اللئيم فتوحش واستأسد ولم يعد يتوجس لومة لائم ولا نخوة قريب أوبعيد,قد صرفت السمهري و شغلته فأنسته0

000لقد تقطعت السبل وتناءت المسافات وعزت الأخبار وفعلت الأحداث أفاعيلها فحالت بينهما,دون أن تأبه لصادق ود وعميق حب وحافل ذاكرة ,أو مشترك تاريخ وتواصل جغرافية,أولوثاقة أصل وأرومة محتد وتجذرعرق0

00 لم تبرح صورة السمهري نفس الجامعي وذاكرته,ثم أطبقت عليه من أقطارها هواجسه ومخاوفه وتوجسه,وذهبت به كل مذهب ,حين أبصر وتلظي بما ابتليت به غزة من بلاء الاحتلال وجبروته الذي غرته الأماني وسوء ما آل إليه حالها بعد حصار قاس لايرحم ولايريم , عز خلاله النصير والمعين,ونأت القواعد من الرجال, بعد أن اطمأنت نفوسهم إلي الذل واستمرأته حتي استعذبته,دون أن يردعها رادع من نخوة أو آبق من شعور, أو بقية من ضمير, وأوسعت المخاوف الجامعي وتناوشه التوجس حينما اشتد الكرب فشخصت الهواجس واتقدت ذاكرة العمر لتمتزج بذاكرة التجربة وقسوة الألم واستفحاله,وتواترت فتكاثفت سود الأخبار وإيغال من لا يرحم,وتداعي وتواطؤ من لم ينس آلام الماضي وانكساراته وهزائمه,من الذين اجتمعت إلي نفوسهم خسة الطبع وفساد النفس وغواية الضعف,وخبرة تحسس مواطن القوة وتوسلها,ومظان الفائدة واهتبالها0وتأصل النهز وتمكن الغل والشر0

000أعجز الحال الجامعي وأثقلته الهموم واختلفت عليه آيات الروع والوهن ,حين تداعت الأنباء عن جولة عتية متجبرة وحشية متلمظة تتعشق الولوغ في الدماء فلا ترتوي لها غلة,وتدأب ولا تأبه فتتوغل ولا تتردد أو ترعوي,ولا يزيدها صمت الصامتين وتوجس الخائفين وقعود القاعدين وإيعاز الموعزين إلا ضراوة وشراسة ,فغدت تمخر في دماء الأطفال وأشلاء الرجال والنساء وأطلال البيوت والعمائر دونما كلل أو ملل أو تحسب لحسيب او ترقب لرقيب0

000تراكض قلق الجامعي علي السمهري, الذي نأت به الأيام وأخفته سدول الأمكنة والأزمنة, واصطرعت الهموم علي نفس الجامعي فأثقلت قلبه ,واعتورته الآلام وتناوشته المخاوف, فعن له أن يتحسس أخباره ويتوسل أنباءه,علي شبكة الانترنت,عله يستضئ ببصيص من خبر, يستبصر به إلي أين انتهت بصديقه الأحداث وآلت إليه الأيام0وكان ممن ينفق بعض كبيرا من وقته في مطالعة تلك البحار التي لا حدود لها من المعارف المتنوعة علي جهاز الكمبيوتر وطفق لا يكف عن ذلك, منذ أمكنه الإبحار في لجب بحاره والرسو في مراسيها0

000 لحيظات أو ثوان انتقلت بالجامعي من استرخاء يائس مستسلم إلي شعلة من نشاط ,واضطرام لبركان من مستكن المشاعر, لقد جحظت عيناه حتي كادتا تخرجان وهما تستحلفان الكمبيوتر مزيدا من الأنباء عن السمهري, وتتوسلانه ثم تستحثانه بعضا من جوده وفيضا من فيضه, بعد موغل ضن ومعتاد بخل, فرأف بحاله ورق له, وان تنازعه ضنه ومتأصل طبعه فبدأ يلقي للجامعي بشحيح الأخبار مما لا يروي له غلة ولا يشفي صدي نفسه,وكأنه آلي علي نفسه الا يسرف في عطائه حتي لا يظن به الغفلة ,ويطمع منه في أريحيه غابرة,ولم يقنع الجامعي وأشعله ما يلقي به الكمبيوتر إليه من شحيح الأخبار,وظلا يصطرعان أيهما اصبر علي غائلة صاحبه,حتي ضجر الكمبيوتر وتخوف علي نفسه من مصطرع لا يروعه وقت أو جهد, فآثر السلامة و الانعتاق من غائلة الجامعي التي بدت لا ترحم ولا تكف أو تيأس ,والقي برقم هاتف السمهري إلي مفتقده عله يرفع عنه يده ويكف دأبه ويثني عزمه,بعد أن يروي صدي نفسه ويشفي غلتها, فكان له ما رامه, فانعتق من إسار الجامعي وارتهانه,الذي فجأه حينما أخرسه بغير ما اعتاده من تأذن له واصطبار عليه, حتي يطوي سجلاته ويطمئن إلي استعادة حاجاته وأدواته0

000لحيظات سجلتها ساعة الحائط في حجرة الجامعي ولكنها مرت ثقيلة بطيئة مترددة تكاد تفتك بأوتار قلبه التي اشتد أوارها وخفقانها واضطرابها,حتي جاءه صوت لم ينسه لحيظة ,ولم يغترب عن أذنه هنيهة واحدة, فامتزج البكاء بالفرحة ,واختلط الألم بالأمل, والإيناس بالاستيئاس, وتدافعت وأسرفت العيون بدمها ودموعها التي لم ترقأ, و تحشرجت كلمات السمهري وهو يلوم حبيبه علي إهماله رسالة أودعها رقم هاتف من دمياط ألقي إليه به الكمبيوتر ذات يوم ,حين اعتاد أن يتحسس منه خبرا أو طيفا للجامعي, وخطر له أن يهاتف صاحبه عله يهديه إلي حبيبه الجامعي الذي افتقده,وجاءه صوت من وعده خيرا,لكنه لم يحر بعد ذلك ردا, فاصطرعت في نفسه المخاوف علي حبيبه الجامعي , وظن به ظن سوء وتحول وتبدل ونكران عهد وود, في زمن ألف تحول الرجال وترخص الغلاة ,وراجت فيه بضاعة النفاق و الافك والأراجيف, وتوسد التناسي والتغافل والجحود0

000 تعانقا علي بعد المسافة وتباكيا,وتغافرا فتسامحا, وتواعدا وكلاهما لا يريد أن ينهي لقاء بدا ضربا من محال,وحال دونه ردح طويل من الزمن,وبدا الحديث بلا نهاية,ثم فجأتهم صاعقة مزلزلة وانفجار مروع, فجن جنون الجامعي وهو يضرب هاتفه حينا ويتوسله أحيانا, ويصطرخ لاعنا زاعقا ثم يتلهف متوددا متملقا مستحلفا,دون أن يرق له التليفون أو يرأف بحاله,وكأنه أضمر كيده فلم يجبه ولم يرحه0000 ظل الجامعي يضرب دون كلل أو يأس أو ملل,ولامجيب,يضرب ويضرب ويضرب ويعود ليضرب ويضرب,ثم يضرب ويضرب ويضرب 000

الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد سليمان

مساء الجمعة في مستهل اسود لسنة2009م

عبد الحميد سليمان
24/02/2009, 19h06
البطل


. . طويلا عريض المنكبين شامخا معتدا بقوته الجسدية لا يخفى بساطه الفكر ولا سذاجة الروح ولا يداريهما فهو لا يفتعلهما ولا يتبرأ منهما ولا يدور بخلده أمرهما ، هو كما خلقه الله لا تحمل نفسه عبئا أكثر من مشاغله اليومية البسيطة المرتبطة دوما بعمله كأجير عند الأخوال أو من يستأجره من غيرهم ، أمه المسنة هى موئله ومرجعيته وعالمه وعائلته .

. . لا يكاد يعرف أهله من أعمام وأبناء عمومة أو يصل أحدا من عائلته فهم على قلة عددهم ورقة حالهم وتقلبهم فى البلاد لهثا وراء لقمة عيشهم تتقاذفهم القرى والموردات التى ترسو فيها مراكبهم النيلية الشراعية البسطة الهزيلة إما التماسا لحاجة أو طعام أو بيعا للعدس أو الملح أو الأرز أو العسل أو القلل والأزيار وغيرها من الفخار الذى يجد طريقه إلى بيوت الفلاحين والقرويين ، وهم يخرجون فى رحلتهم الموسمية التى تنهب شهورا طويلة من أعمارهم يبيعون ويشترون ولا يكادون يرزقون فإن عادوا فى موسم الجفاف إلى القرية اختطفتهم بيوتهم الهزيلة التى بدت غريبة عن عيونهم مثلما بدوا غرباء عنها ، ويلبثون بتلك البيوت لا يكادون يبرحونها وكأنهم يعتصرون أيامهم تلك القليلة مع الأبناء والزوجات ويشحنون من ذلك دواخلهم وأنفسهم بما يقتاتون عليه من ذكريات وحنين وشوق فى رحلاتهم المتواصلة المحتومة عبر النيل .

. . . لا أدرى سببا جازما لانقطاع الصلة والتواصل بين صاحبنا وبين أهله لأبيه وانخراطه فى عالم أخواله ومحيطهم ، تفصل بينه وبين انتمائه لأعمامه آماد وآماد فالقرية كانت تقع على ضفة النيل وتعرف افتراقا حرفيا جر علها افتراقا اجتماعيا حيث سوادها من الفلاحين وقليلها من المراكبية النوتية وهم رغم وحدة المكان وعمومية الفقر ومخالب البؤس التى أنشبت أظافرها فى أجسادهم ونفوسهم دون أن ترعى لأحدهم مكانا أو تميزا لا يتعارفون ولا يتصاهرون ولا يتواصلون إلا فيما ندر دون أن ينكر فريق على غيره حالا ولا يرى لنفسه طولا ولا افتخارا .

0 . عزنى إدراك سبب زواج والدته من أبيه وكيف اخترقا تلك الحجب البائسة التى فصلت بين جماعتين كانتا أدعى إلى التقارب والتلاقى والتداخل وهل ثمة ما يجمع مثل أولئك القوم أكثر إيغالا وتأثيرا من الفقر والبؤس ورقة الحال وبراءة القلب وسذاجة الحلم، لا أدرى ولكنى أراه لا يلتفت إلى ذلك ولا يثير له انتباها فليس ثمة ما يدفعه إلى التماس أهله وتقصى أعمامه وعائلته فهو قد نشأ يتيما لا ينزع إلا إلى أمه التى وجدت نفسها غريبة وحيدة تواجه ووليدها غربة النفس والذات بعيد أن نعى الناعى زوجها الذى هوى من أعلى شراع المركب قرب دجوة وهو فى طريقه إلي القناطر مع إخوة له يمتطون مركبا هزيلا ضعيفا مترددا جبانا ان لاح له شبح من عاصف ريح أو نذير من مطر أو تراكم لموج متدافع.

. . كان غريبا أن تحس تلك الأرملة هذه الأحاسيس وهى التى لا يفصلها عن أهلها وإخوتها من الفلاحين الذين يسكنون نفس القرية سوى دقائق معدودة لا يهولها فيهن وعر من الطريق أو حئول من بشر ، ولكن فواصل نفسية عميقة ليس لها من سبب ظاهر هى التى فرقت بين عالم المراكبية وعالم الفلاحين فى تلك القرية النائمة على ضفة النيل .

. . صبيا كنت آنذاك تصطرع فى نفسى مشاعر الطفولة وأحاسيسها وبشائر الصبا ونذره ، ألتمس الأشياء والأشخاص والأفكار وأنشد القدوة والنموذج المثالى , وأفرغ فاهى مع عوالم وشخوص جديدة آنس فيها ظلالا لما تعلقت به نفسي الطفلة من صور وشخوص لأبطال وشجعان بهرتنى حكاياتهم وطرائفهم وقدرتهم حينما كنت آنس إلى بعض العجائز من أهلى و الأكبر منى سنا من أبناء عمومتي ,ويخلب لبى ونفسى حكايات وقصص أحتسيها منهم ومن أبى وأعمامى عن الزير سالم أبى ليلى المهلل وعنترة بن شداد وأبو زيد الهلالى سلامة والعلام والسلطان حسن الهلالى وزيد العجاج بن فاضل والتبع اليمانى وأدهم الشرقاوى وغيرهم ، إلى أن فجئتنى الأيام بما لم يخطر لي على بال وما انصرفت إليه نفسى عما سواه حينما رأيت عمى يأخذ طريقه مع بعض من صديقه عصر يوم قائظ فى أوائل السينات من القرن المنصرم يتيهون فى جلابيب من البوبلين إلى محطة السكة الحديد فى القرية ليستقلوا القطار فى طريقهم إلى مولد سيدى أبى المعاطى بدمياط فتعلقت به وبكيت أرتجيه أن يسمح لى بصحبته مختلطا دمعى بقسمى أن لن أزعجه أو أكلفه مالا يطيق من ماله القليل أو وقته الثمين أو متعته التى يرتقبها ويتحسب لها منذ انقضائها عاما بعد عام ويستشرف الأيام والأحلام ويتعجل الوقت حتى تعود كرة الأيام ودورة الليالى فيهرع إلى المولد يغمرة إحساس مفعم بالتشوق والفرح لا يكدره ولا يزعجه إلا ألم وخوف من لحظة آتية لا ريب فى قدومها ولا مناص عنها حينما تنصرم ليلة المولد كأنها خاطر جال فى النفس سريعا ثم ذاب فغاب ,ويعود إلى القرية صباحا يسعى إلى أن يبدد حزنه وشجنه لانقضاء المولد وبطء الليالى القادمات بحكاياته وقصصه لأترابه وإخوته عما شاهد فى دمياط ومولد سيدى أبى المعاطى من غرائب وعجائب وما تذوق من نادر الطعام وطيب الإدام ، ويفغر كثيرهم فاهه عجبا مما يسمع ، ويشفق قليلهم ممن عبر أسوار القرية وعالمها المحدود إلى دمياط أو فارسكور مرة أو بعض مرة على أولئك حينما يتخيلونهم وقد اقتحموا عالم المدينة بلا خوف ولا وجل وإن خالط خوفهم كثير من إعجاب وقليل من حسد ,
00طويت الجوانح من عمى وأصحابه على شوق دفين وأمل بعيد أن يستعيدوا تلك الساعات الخوالى التى انصرمت بهم وغافلتهم بلا رحمة لتنزوى وتترك فى نفوسهم أروع الذكرى وأبعد الأمل فى كر التجربة والرحلة مرة أخرى إلى المدينة ورؤيتها وأهلها والتمتع بخبزها الفينو وطعميتها التى حفرت لنفسها مكانا عليا فى نفوسهم واستأثرت بحظ كبير من نفوسهم وذكرياتهم . أذكر كيف كنت أعتصر الدمعات وأفتعل الألم وأبدع فى التوسل والتزلف كلما أحسست رقة فى قلب عمى يعبر عنها لمعان وحنان خفى يفيض ويفيض يغزوه ويكلأه أمل ورجاء فى نفسى أن أصحبه إلي هذا العالم المجهول الرائع الذى طالما سمعت به ونزعت إليه نفسى إلى أن تحقق لى الأمل والمراد من رب العباد .

. . أخذ عمى بيدى مع وعد بتكرار تلك الصحبة إن وفيت بما وعدت به من عدم تكدير تلك الرحلة ولزوم الصمت والطاعة والالتصاق الدائم به حتى لا تضل قدماى فى ذلك التيه إلى المجهول من العوالم والأشخاص والصور .

. .و دون ذلك الحشد من البشر والملاهى والمنشدين والسحرة والعوالم والقرادتية وبائعى السوبيا والعرقسوس وروائح الطعمية والفول والترمس والزلابية والبوظة وغيرها بقى فريد شوقى وبطولاته وقوته فى مواجهة محمود المليجى وغيره من الأبطال فى فيلم سواق نص الليل هم العالم السحرى الذى دلفت إليه وانساحت فيه نفسى وتمثلت فى أهله نماذج البطولة والقوة التى ما برحت خيالى صورا ورؤى لا تعرف طريقها إلى الواقع الذى تجسد وتمثل أمامى حتى كدت أتحسسه وأمسكه بيدى فى فريد شوقى الذى دانت له الأبطال وخر لصولته عتاة الرجال , وظلت من بعده سينما اللبان بدمياط تحتل مكانا بكرا عليا في ذاكرتي تعتلج إليه ويخفق لها قلبى وتتسارع دقاته كلما مررت عليها أو جالت صورتها فى خاطرى .

. . آذنت تلك الساعات الفارقة فى عالمى المستهل الجديد بعلاقة واقتراب من صاحبنا الذى كان الأقرب شبها وجسما بفريد شوقى ، ولما حدثته افتعلت كرما وأريحية زائفة حينما وجدته جالسا فى القيلولة تحت شجرة يلتمس خلالها ظلالا واهنة قريبا من حقلنا فأسرعت إليه بقلة الماء فشكرنى وحادثته فأصغى إلى فى اهتمام وشكر عميق فشجعنى ذلك على أن أقدم له زرا من القثاء كنت قد احتفرت له أخدودا ضمه إلى الأرض إخفاء له عن أعين المتلصصين والمتشوفين على نحو ما رأيت من فعل غبر واحد .

. . ازدرد صاحبنا الماء البارد الذى ذهب بروعته طعم القثاء ورغيفا من الخبر الجاف تناثرت على استحياء بعض من قطرات المش على أطرافه ، ودشن ذلك لحديث وأحاديث وصداقة طويلة وأخذت أنهل من قصصه عن الأفلام وسينما النيل بفارسكور التى يعتادها كل أسبوع وكنت أخاله وهو يتحدث عن فريد شوقى أنه قد انسكب فيه وتماثل معا فتناسخا روحا وجسدا . ومثل تلك الصداقة الناشئة التى كانت تقتحم بى عالم الكبار والأبطال ما كان لى أن أهدرها أو يهتبلها منى الوقت وتبعدنى عنها نوازع الطفولة وأتراب الصبا ، واقتربت إلى صاحبنا وعالمه وأصدقائه رويدا رويدا وتحينت إلى ذلك الفرص للتحبب إليهم بما كنت أختلس لهم من قطع الجبن أو قليل من أرغفة الخبز أو ثمار ضنينة إلى أن دفعوا إلى كتابا أقرأ لهم فيه بطولات الإمام على كرم الله وجهه فى حروبه فى اليمن ضد رأس الغول البطل المهول كما عنون لذلك الكتاب ليفتح لى ذلك عوالما جديرة دلفت منها إلى ساحات وساحات وارتدت منها آفاقا وفضاءات سحرية رائعة .
. . دارت الأيام وتقلبت بى وبهم ودخلت الجامعة وانقطع سبيلى عن هذه النخبة التى تختص بمعان جديدة بائسة لمفهوم النخب إلى أن فوجئت بصاحبنا وبعض رفاقه يهرعون إلى حينما قدم إلى قريتنا أحد المتنفذين من أصحاب السلطان والجاه راجين منى أن أكتب التماسا لهم أدفع به إلى ذلك المسئول يلتمسون فيه زيادة عرض أفلام فريد شوقى فى التلفزيون الذى حل بالقرية فأقام أحوالا وهدم أحوالا واقتحم بهم عوالم وأهوال ، كان ذلك الجمع يمخر عباب ثلاثينيات عمره وأن ظلوا يتلمسون ويحاكون فريد شوقى فى ملابسه ومأثوراته ويتخذون من عناوين الأفلام تعابير وجملا لازمة لا تضل طريقها إلى ألسنتهم ولا يستغربها من يداخلهم ويعاشرهم , , وأصغيت لهم في اهتمام زائف وتفهمت همومهم وأمانيهم ومسعاهم ودوافعهم على سذاجة ذلك ، دون أن أفجعهم فى عالمهم وأفجأهم بما اتسع لى وبى من مدارك وعوالم وأقنعتهم بأنه سوف أكتب ذلك الالتماس إلى مدير التليفزيون بالقاهرة وأسلمه له يدا بيد فانصرفوا وقد اطمأنت نفوسهم واطمأنوا إلي أنهم قد وفقوا في إدراك مبتغاهم من مسعاهم .

. . شغلتنى الدنيا وأهلها وانصرمت سنون عددا وإن ظلت ذكرى ساحة البراءة والعفوية التى رتع فيها صاحبنا وأترابه فى قلبى وذاكرتى وقد توسدت تلك الذكريات من عقلى مقاما قصيا بعد أن تكالبت عليه هموم الحياة وتنوع وسعة الخبرات والمعارف والعوالم والشخوص وتبدل الأحوال والأولويات , إلى أن زرت قريتى بعد أن نأت بى وبها الأيام والآماد فسألت عن صاحبنا فنبئت بأنه يجهد مع الموت بعد أن دهي بمرض عضال , فأسرعت إليه وكنت لم أره من عشرين عاما أو يزيد فلما أبصرته مسجى على فراشه هالنى أن أرى شبحا واهنا ضعيفا يصطرع في جسده ونفسه المرض والبؤس والفاقة والوحدة كل منهما يدأب إلى أن يستأثر منه بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر .
. . اعترتنى رعدة واعتصرنى إشفاق وألم حين رأيته على حاله هذا يكاد لا يبين على سرير الموت وآثرت أن أيقظ فى نفسه كوامن عالمه وذكرياته التى أعلم مداها وكنهها ومكانها فى قلبه ونفسه عله يأنس بها ويستظل بها من هاجرة المرض ومخاوف النهاية فقلت له مشجعا شد حيلك يا بطل سوف تشفى إن شاء الله وتعود فريد شوقى من جديد فجاءنى صوته بعيدا وئيدا واهنا خافتا

ومضى كطا ااااااااااااا العمر 00عليه العوض يا أستاذ00000

عبد الحميد سليمان
23/03/2009, 21h04
المرسى

مسرعاً إلى حديقة منزلى ، مجتهدا فى تسميدها وريها والعناية بها على ضآلة حجمها وساذج خطري وخطرها ، أرقبه من حيث لا يرانى وأستكنه دخائله ومستكناته دون جدوى . عفيف النفس مترفعا حين يكون الترفع لمثله انتحارا وخطبا جليلا ، إن حمل إليه أحد أولادى كوبا يتيما من الشاى رأى فى ذلك عبئا واهتماما لا داعى لهما ، وتشى نظراته الخجولة المستكينة إلى الأرض بصدقه ، وبدا الأمر أدهى وأمر, ساعة أن لوحت له بقليل من زاد أو طعام يومها تبدت سافرة آيات الألم المكبوت وسورة الغضب الدفين حين شغلت به وأرقت لرقة حاله وكثير عياله وكبريائه فأوعزت إليه أن بعضا من حبوب وزيوت قد تركتها له خلف باب المنزل فاندفع يسبقنى بها إلى باب شقتي وألقى بها شاكرا داعيا وانطلق لا يلوى على شيء كأنما يطارده هول عظيم .

. . .شائع لدي سواد الناس أن الأنفة وليدة المال وربيبة السطوة والدور والمكانة ولكنها فى المرسى لا سند لها ولا ظهير فالعوز والبؤس والمرض وشحة الأهل وندرة النصير تصطرع على جسد منهك وروح مترعة بالألم والوحدة ,وبعيدا عن أشلاء تلك المعركة تنأى الأنفة فلا ينازعها فى نفسه منازع ولا يغيض لها فى قلبه بئر ولا في ضميره معين، وحينما حل ميعاد أجر هزيل أدهشتنى ضآلته وسذاجته حينما سألته عما يريده لقاء تلك المهمة التى كان يختلف إليها عصر كل يوم ولا يتقاعس عنها ولا يضطرب له موعدها ، سولت لى نفسى أن أزيد ذلك الأجر لقليل خطر تلك الزيادة على جيبى واستقرار حالى ، ولفضول ملح فى نفسى يجهد لاختبار الرجل وهاجسا يتشكك فى تلك الأنفة ويود أن يبتلى صدقها ومعدنها0
إن مما لا مراء فيه أن للمال سطوته وسلطانه على نفوس تركع له ولأهله وتتبذل وتترخص دون أن يمنعها أو يردها بعض من حياء أو قليل من كبرياء أو ما قد تكنز من مال وما تحوز من سلطان ، فما البال بالمتضورين جوعا وفقرا والرازحين مرضا وألما وبؤسا لا يكترث بهم مكترث ولا يتحسب لإنسانيتهم متحسب ولا يتوجس لغضبتهم متوجس .


كأن الرجل قد قرأ ما وسوست به نفسى وما تشوف له ظني وأسعفه إلى ذلك حساسية زائدة وكبرياء أصيلة أوغلتا فى نفسه إيغالا لا يزعزعه مزعزع ولا يهوله خطب ولا يغويه إغواء ، وفى انكسار ورقة وبلا تلهف عد النقود ثم أخذ ما ارتضيناه آنفا من أجر وقبله ثلاثا ثم رفعه إلى رأسه ورد ما زاد عنه إلي جيبي دون أن يبدو على قسماته أدنى درجات التلجلج أو التردد أو المراجعة أو التصنع أ و الادعاء 0

. . (بارك الله لك فى مالك يا أستاذ وأعانك على حالك إحنا بخير والحمد لله)
00أخرسني صدقه وأفحمني مقاله واندفعت لا ألوى على شيء وأنا فى عجب من أمره ودهشة من مفارقة جمعت في نفس واحدة أرفع درجات الكبرياء والنبل والترفع والتعفف إلى أقسي صور الفقر والفاقة والعوز .

. . . يسكن المرسى فى دور أرضى من منزل قديم استأجره من صاحبه وانتظم فى سداد إيجاره بدرجة لا تنتظر تسويفا ولا تتعلل بعلة ولا تكترث بخطب وإن جل ، وأصبح اندفاعه إلى صاحب المنزل أمرا وعادة لا ينفك عنها ولا تتقاعس هى عنه ,فما إن يتحسس راتبا هزيلا بلا تلهف يتقاضاه عن حراسة مؤسسة حكومية فى المدينة ، لا يسمح لنفسه بالتريث أو مجرد التفكير فى ولوج بيته والجلوس إلى طعامه الهزيل البائس وإنما يهرع إلى صاحب المنزل كى يعطيه إيجارا أثقل كاهله وأرهق نفسه، ولا يستسيغ مبررا إن التمس الرجل فى مكانه ولم يجده وإنما يدأب فى بحثه وتطوافه وسعيه حتى يلقاه ويلقى إليه بما رزح على صدره من هم الإيجار ومخافة التعريض ومغبة اللوم .

على أن مستوى أرفع من العفة والزهد والكبرياء أدركه المرسى فى نفسى حاسما ما كان يخامرنى وتوسوس به نفسي من ظنون وتشكك فى صدق الرجل وتساؤلات عن سر ذلك وحظه من الصدق أو الادعاء ,داحضا كل ما كان يتناهى إلى سمعى من لمز وتعريض بماضى الرجل حينما ألقى به عاثر حظه فى أحابيل بعض من تجار المخدرات وهو يتلمس طريقه إلى سنوات صدر الشباب ، وعجيبة هى ذاكرة أهل قريتى الجمعية التى لا تتشبث إلا بالسقطات ولا تنفك عن الزلات ولا تشفع لديها المكرمات ,لقد كنت أفتعل المواقف وأسترق السمع لبعض أهل قريتى ومقالاتهم حول هذا البائس الذى اقتحمت شخصيته عقلى واستثارت دفين ألمى ومشاعرى فما تناهى إلى إلا ما يستنهض الظنون وتعتصم إليه التخرصات والريب .

. . لكن نفسي لم تركن إلى شيء من هذا ولم تأنس لمقالة سوء أو كثير لمز ولا لبقية من توجس وحرص كان تتباعد وتتثاقل خطواتها فى ضميرى وعقلى إلى أن حملتنى أقدامى المثقلة من طين ووحل إلى شارع جانبى مظلم فى ليلة باردة عاصفة صاخبة من ليالى شهر رمضان يصحبنى الشيخ بشر رفيق عمرى وزميلى فى جمعية طاهرة النية صافية الطوية جمعتنا إلى أصدقاء وزملاء آلو على أنفسهم أن يبذلوا الوسع فى تحسس آلام المكلومين والمقهورين واليتامى والأرامل والمرضى بما كانوا يجودون به من قليل زادهم ومالهم ، وما كان يحنو به بعض من أهل القرية والمعارف من خارجها فيختلسونه اختلاسا من قوتهم وقليل زادهم ويدفعون به إلى جماعة بيت المال كما وسمت نفسها أو أسماها الناس فيتفقدون به من أرهقتهم الحاجة وثقلت عن البوح بها أنفسهم ، وقصت بهم منازلهم مثلما قصت أحوالهم فلم يحفل بهم محتفل ولم يكترث لهم مكترث ، ونأت عنهم قلوب القادرين مثلما اعتادتهم عقولهم وعيونهم فغدوا يرونهم فى الطرقات ويرون عيالهم وحالهم فلا يتنبه لهم متنبه ولا يضطرب لحالهم فؤاد ولا يستثار شعور .

. . . طرحت اسم المرسى على زملائى فاندفعوا يتلاومون على نسيانه ويرونه بائسا لا يفطن إليه فطين ولا يعن لخاطر محسن أو كريم وقد تجلى فيه وصف القرآن الكريم لأولئك الذين يحسبهم الجاهلون أغنياء من التعفف وهم فى وحدتهم ووهدتهم لا يسألون الناس إلحافا ، وأجمع رفاقى على عوزه الذى تخفيه نفس قانعة وكرامة مستكنة ، واندفعت وصاحبى إلى الرجل لا نلوى على شيء ولا نعبأ بليل أو برد أو مطر ونخوض فى وحل الحارات المظلمة لا يروعنا ما ران على ملابسنا وأجسامنا منه ولا نلتفت إلى شيء يصرفنا عن غايتنا وإن جل .

. . . مرحبا ومهللا ومستغربا ، انتفض المرسى لاستقبال أولئك الذين قدموا إليه لسبب يجهله واقتحموا رتيب ليله وقارس وحدته ، وهمسنا فى إذنه بما تحمس له إخواننا فى ببيت المال نابذين توجسا متوقعا منه ومظنة بادية جهدنا لدفعها عن كون ذلك إحسانا منا إليه فلعله يقبل تلك الأعطية إذا علم أنها من مجهولين لا يعبأون بمعرفة من صار إليه عطاؤهم ، فيفسح ذلك فسحة لمن لا ترقأ عفته ولا يرحمه كبرياؤه ،

قبل الرجل رأسينا ودموعه تتخلل شعيرات لحيته التى جثمت عليها آيات الفقر والمرض والكبرياء إلى كر الغداة ومر العشي فأشابوها ، وربت على أكتافنا رافعا يديه العجفاوتين إلى السماء ،

( أعانكم الله وجعله فى ميزان حسناتكم ، إن فى القرية من هو أمس منى حاجة وأشد عوزا فاجهدوا جهدكم إليه), واندفع إلى داخل بيته موصدا بابه وحاسما أى تردد أو تشكك أو سبيل لإقناع .

. . . تركناه ذاهلين أو كالذاهلين بعد أن قرعنا عليه بابه مرارا دونما جواب أو مظنة جواب ، وتواثبت إلى أذهاننا صور لكثيرين نعدهم من الأثرياء والأغنياء إن قارنا حالهم بحال المرسى وهم يتزلفون ويتحننون ويتقربون إلينا متسترين حينا وصادعين بشكواهم أحيانا ,لا يتورعون عن تكرار سؤالهم عن ميعاد توزيع هبات بيت المال وقد أقفرت نفوسهم ونضب حياؤهم وانطلقت ألسنتهم فما عاد يزعجهم قليل من كبرياء أو شيء من خجل ولا يثقلهم تعفف أو ادعاء به, لقد استراحت إلى ذلك نفوسهم وغلقت أبوابها واعتادت حالها واستمرأته وغدا لديهم انتزاع ما لا يستحقونه والتسربل بسربال العوز والفقر والازدراء ,بنظرات الاستنكار أمورا سهلة وثمنا بخسا يهون إلى متعة الظفر وانتزاع المراد والمرتجى ، ولو اطلعت على أحدهم حين يظفر بقليل مال أو طعام نسوقه إليه ضجرا من إلحاح وقح ، أو إشفاقا على كرامة ضائعة مهددة, ونفس شرهة شائهة ,لرأيته منبسط الأسارير جذلانا يكاد يتعثر فى خطواته المتلهفة المتسارعة وكأنه قد قنص لنفسه ما عز نواله وندر مثاله وطمى فضله ونفست قيمته ,إنها نفوس دربت على القنص ومشاعر اطمأنت إلى الاهتبال وأزرت بكل ما يتعلق به المرسى وأمثاله وتشربته نفوسهم وقلوبهم من تعـفف وكبرياء مستكن 0

00( إن تاه أصل الفتى فعله يدل عليه )

. . . أثار ذلك المثل الذى سمعنه صغيرا في مجلس أبي ووعيته كبيرا تساؤلات ملحاحة حتى هجعت إلي إن ما رأيته من المرسى وما أحسسته واطمأنت له نفسى وركن إليه عقلى وقلبى أن مثله لا ريب منحدر من أصل عريق ومحتد كريم ,فتحسست أخبار أهله فعز لديهم ما يشفى غلتى ويروى ظمأ نفسى ووجدتهم لا يختلفون عمن خالطت من بؤساء قريتى وإن بزوهم رقة في الحال وضآلة فى العديد وندرة فى النصير والسند واجتمعوا إلي عوز وبؤس لا تخطئه عين كليلة ,ورثوه من آباء وأجداد فما انفكوا عنه ولا انفك عنهم .

. . . وأبت إلى نفسى أو آبت إلى وما كدت آيبا ، وقرعتني وقرعتها على سذاجة ما ذهبت إليه وهزاله ، ماذا عنته تلك النفس وركن إليه العقل فى فهمه الساذج لكرامة الأصل وعراقة المحتد؟ , أهو الغنى الزائل أم المجد الضائع ؟، أولم يورث الكثير من الأغنياء أولادهم وأحفادهم وذراريهم مع ما خلفوه من عروض وأموال طبائع الاستغلال والاهتبال والقنص وعبادة الدرهم والدينار والتزلف والترخص لأهل الحظوة والثراء والسلطان وابتذال النفس والكرامة والشرف؟ أوليس فى سبيل المزيد مما يعين علي التسلط على الأدنياء والترفع والاستعلاء على المسحوقين والتوسد على البؤساء والاستغلال البشع لحاجاتهم وبؤسهم , يهون الصعب ويسهل الوعر ويرتخص كل غال ؟.

. . . أولم يورث الكثير من الفقراء أولادهم وأحفادهم وذرا ريهم نفوسا مستكينة وقلوبا خانعة وشخصيات شائهة فما طمحت منهم نفس للانفلات من بائس المصير وما تمردت علي ذلك الواقع الأليم المرير , وما ملكت ذكاء قلب واتقاد عقل وعزة نفس وتوق وتطلع إلى انعتاق ؟ إنما استمرأت مصيرها وألفته واطمأنت إليه وقنعت بفتات من قوت وضئيل من كرامة يجود بها سادة جمعوا إلى سلطانهم وتسلطهم وثرائهم ,نفوسا قاسية وضمائر خربة وقلوبا غلفا ومشاعر ميتة وعقولا صرفت جل جهدها لإبقاء ذلك الحال وتكريس المآل حتى بدا الأمر قدرا محتوما وقضاء مبرما ، عجب لا ينتهى وحيرة لا ترعوى تجد فى طلب معين ذلك الكبرياء والتعفف وذكاء النفس الذين اطمأنوا وتوسدوا قلب المرسى ولم يعد يفزعه قلق أو تمرد أو حقد أو تطلع وإنما أسلم الرجل للمقدور نفسه وأمره .

( اسمع يا بني فقير الدنيا غنى الآخرة )

00تعليق سمعته صغيرا من عجوز بائس لا يكاد يجد الطعام طريقه إليه وإن وجده استغلظ وشح فلا يكاد يسد رمقا ولا يروى غلة فى أيامه التى تترى حتى بدت قريبة من نهايتها وكلها ذات غلظة وقسوة ومسغبة ،

0 استوي ذلك العجوز فى جلسته وتخلى عن قرفصائه وحملقت فيّ عيناه اللتان لا تكادان تغفلان عن شباك ساذجة ، وكأنه ما ألقى بها إلى الترعة إلا لتنذر ضالة الأسماك من مغبة صيدها ولا تنال إلا ممن أسرف فى غروره وأمعن فى تقحمه واستهتاره واستهزأ بتلك الشباك فاقتحمها بلا ترو فاهتزت وتلعثمت وساعتئذ تندفع إليها يدان عيل صبرهما وعينان لم تغفلا عنها لحظة واحدة . تلك هما يدا الشيخ العجوز الذي يستحيل عند ذلك شابا مفعما, ففقد مثل تلك الفرصة نذير بضياع جهد وخيبة مسعى وإيغال جوع.

كانت حكايات العجوز لاتكاد تنتهي, وشغلي بها لايرعوي عن بؤساء يضربون فى الأرض على غير هدى فيجدون خاتما متآكلا صدئا فلا يكادون يمسكون به حتى تملأ الأفاق جلبة ودخان يخرج بعدها مارد من الجان وعفريت من عفاريت سيدنا سليمان يفسح يديه وصدره تمثلا لأمر ذلك المحظوظ ( شبيك لبيك عبدك وملك يديك ، مر تطاع واطلب تجاب ).


ينفس ذلك الشيخ عن آلامه ويتخيل ويترقب آمالا لن تأتى , وحين يصيبه اليأس من انتظار مالا يجيء وتجف آبار حكاياه للصبى المتلهف له السابح في عالمه ,يبادره مستكينا مستسلما إلى ما استقر فى روعه واطمأنت إليه نفسه من فقر الدنيا وحتميته ويبلغ به اليأس منتهاه ويموت أمله ، فى اعتدال الميزان إلا فى الآخرة مع تخوف ساذج من استمرار ذلك فى العالم الآخر .


. . . وثبت حكمة الشيخ إلى ذاكرتى بعد أن كادت تأتى عليها سنوات خلت وهموم تداعت فأرهقت وأثقلت ، وقنع إليها عقلى ووثقت نفسى وقد جادت عليها بتعليل ذلك الرضى والاستسلام للواقع المر الذين لا يكدرهما قليل حقد ولا وميض تمرد أو غيظ فى نفس وعقل المرسى ، وأردف ذلك وشد أزره ما رأيت ولمست من ظاهر صلاحه ونأيه بلسانه ومجلسه عن السوء وأهله واستيئاس رفاقه القدامى من أوبته إليهم وزاد يقينى ما تنبهت له وبه من اختلافه إلى مصلى صغير يهجع إلى ضفة النهر ولا يكاد يعتاده أحد فبت وقد آنس إلى ذلك التفسير عقلى وقلبى الذين استفاقا مما أرهقهما من رغبة دفينة وتساؤلات لحوحة فى استكناه تلك الشخصية والنفسية التى ندر فيها ائتلاف البؤس والفقر إلي التعفف والكبرياء .


على غير عادته وسحنته وحال غير حالته التى ألفتها منه ، أقبل المرسى ظهيرة يوم قائظ كأن شمسه توسدت الأرض والرؤوس فألهبتهم بأشعتها الحارقة , يلوذ الناس منها ببيوتهم أو تحت أشجار عتاق لا تدخر ظلا ولا يبخل حفيف أوراقها بخجول من أنسام رقاق شحاح تكاد تنهبها الطيور التي آوت إليها ولا يكاد ينفلت الي المستلقين على ظهورهم ,الجالسين تحت تلك الأشجار من تلك الأنسام إلا القليل .

00أبصرت هيكلا آدميا متداعيا مضطربا فى خطواته , تشى هرولته من بعيد بأن شياطين الدنيا ووحوشها قد اندفعت إليه وأن شرا مستطيرا يجد خلفه فى طلبه ، كان ذلك الهيكل هو المرسى الذى هالنى أمره فهرعت إليه فألقى بنفسه فى صدرى باكيا كسيفا وقد ملك عليه الذعر والرعب كل مملك وسد عليه كل مسلك .

الحقنى يا أستاذ ، استرنى الله يستر عرضك ، طفى النار اللى فيه، ما ليش بعد الله إلا أنت .

. . . تناديت على ولدى صارخا أن يغيثنى بقارورة ماء بارد وشيء من سكر وماء لأنقذ به مسكينا بدا أقرب إلى الموت منه إلى الحياة .

(اهدأ يا مرسى ، كل عقدة ولها عند الكريم حلال ، اصبر وما صبرك إلا بالله ، لا تيأس من رحمة الله ، ماذا دهاك ، أفصح يا مرسى )

. . . ازدرد الرجل الماء ازدرادا وبث الماء المحلى بالسكر قليلا من عافية فى جسده ولعله قد أنعش لديه بعض الأمل حين أحس بصادق مشاعرى وتعاطفى معه فاندفع يروى ما دهاه ونكب به صبيحة هذا اليوم ، حين تفقد مخزن المعدات كدأبه قبل أن ينهى نوبة حراسته فراعه اختفاء عدد من تلك المعدات اهتبلها اللصوص حين آنسوا قبيل الفجر غفلة وسنة من نوم اجتهدتا إلى المرسى بعد أن سرى فى جسمه دفء نار هزيلة جادت بها قطع من لحاء الشجر استعان بها ليدفع غائلة برد قارص تكاد تتجمد من حدته الموجودات على اختلافها .

صعق الرجل لهول الأمر وتراكضت إلى ذهنه ونفسه ذكرياته الأليمة وقت أن تلقفته صفعات وركلات رجال الشرطة حين فجأوه ورفاق السوء من تجار المخدرات ومدمنيها فى ليلة كالحة ولت عددا ورسخت فى نفسه وقلبه سوادا وكمدا وألما ، وحين شرد عقله إلى ما ينتظره وذويه من اضطراب الحال وضيعة العائل والمعين وما يتلمظ لهم من مخالب الفاقة وبطشة العوز والحاجة تداعى هيكله إلى الأرض مغشيا عليه فهرع إليه الأستاذ الشربينى مدير المؤسسة وبعض أخيارها ليستجلوا الأمر ويستبينوه .

لا تحسبن الموت موت البلى إنما الموت سؤال الرجال
كلاهمـا مـوت ولـكن ذا أفظع من ذا لذل السؤال

. . تمثلت موت الرجال الذى أجمل الشاعر أسبابه واستشعرت ما يبدوا مصيرا محتوما ينتظره وهولا يرتقبه لما بلوته من عفة الرجل وترفعه وكبرياءه ، وكان الأستاذ الشربينى قد لمس ذلك عديدا وعجب من ترفع الرجل ونأيه عن التزلف الذى اعتاد سماعه من كبار الموظفين قبل صغارهم حين لم يلتمس يوما إلى عقله ولا إلى قلبه طريقا يدلف بها إلى واحة الحوافز والبدلات والإكراميات التى ذلت لولوجها أعناق الرجال وهان المرتقى الوعر عن مسغبة واضطرار أو خسة نفس وشراهة طبع ، لقد نأى المسكين بنفسه ووجهه وانزوى عن ذلك كله وأشباهه ومظانه نأيا لا يترك مجالا لشك أو تشكك .
. . . اسمع يا مرسى أعلم قدر أمانتك وبراءتك ، ولكنى لا حيلة لى فى الأمر ، سوف أمهلك يومين لشراء ما سرق من المعدات بنفس نوعها ومواصفاتها وإن تأخرت فلا مناص أمامى من إبلاغ الشرطة والنيابة والجهات الرسمية .
. . . وقعت كلمات الأستاذ الشربينى الآسية القاسية على مسامع ذلك الحطام المتداعى فاتقدت لهولها نيران نفسه وأجهزت على كل ما اعتصمت به من كبرياء وترفع وعزة نفس ، وعز على ذاكرته المعين والصديق وضاقت عليه بما رحبت أرض توسد أركانها ,اللصوص والمنافقون وآكلوا مال اليتامى والمرتشون وسدت على أصحاب النفوس الكريمة أقطارها ، وساقته أقدامه المتداعية إلى منزلى على نحو تتفطر له القلوب 0

طفى النار اللى فيه يا أستاذ ، استرنى يسترك ربنا دنيا وآخرة ، ليس لى بعد الله إلا أنت.

. . . هدأت من روع المرسى وبدأت من فورى مصطحبا صديقى بشر رحلة ثقيلة كئيبة إلى قلوب وعقـول وهمم من نعرف من أهل القرية,ودلفنا إلى دروب القرية وحاراتها وقد صح لدينا أن الأمر جد مختلف وأن نفوسنا وأسماعنا قد تصفع بتعليقات وردود وإعراض وأن بعضا من كبريائنا واعتزازنا قد يراق دون بلوغ غايتنا .

(يا أساتذة الرجل قد حن إلى سهرات الماضى وعبق الحشيش وخدر الأفيون فباع هذه العهدة ، يا أساتذة أنتم أكبر وأوعى من أن تنطلى عليكم تلك التمثيلية .. سلام عليكم )

قذفنا الرجل بتلك الكلمات فندمت ندما شديدا وأسفت حين خاطبت نفسه الميتة وقلبه الصدأ الذى درب على الرشا والتلهف إلى العطايا والإكراميات وغدا مكتبة ودرجه فاغرين متلمظين لا يوصدان ,يترقبان كل من ألقت به ظروفه إلى ذلك المبنى الذى يقله وأمثاله ,لقد اعتاد الناس أمره مثلما اعتاده هو ولم يعد يثير حفيظة ولا يستنهض انتباه ولا انتقادا ولا يستصرخ عتبا أو لوما .

. . . مقطب الجبين مكفهر الأسارير مكبوت الغيظ بدا الحاج إسماعيل الجار للمرسى سكنا ,الأنأى شعورا ,المزدرى نظرا, حين جهدنا لبيان ما حل بالرجل واسترقاق قلبه واستثارة إنسانيته .

(يا رجاله أنا عامل اللازم مع المرسى وأولاده ولا حاجة لى بمن يستحثنى ، تفضلوا)

، لامنى رفيقى على تهورنا بطرق باب ذلك الرجل الذى طبقت شهرة ضنه وبخله دروب وفجاج قريتنا وإن آثر الرجل أن يردف ذلك كله بكذب لا مراء فيـه وادعاء ظالم زائف .
. . ها هو المعلم الغيطانى فلنهرع إليه ، استحثنى صديقى ليقطع على ترددا وإحجاما لم يستفيقا من صدمة ما سمعا من جار السوء واجتمعا إلى انطباعات سابقة ارتكنت إلى مقالات الناس التي رسمت صورة وشخصية الرجل في ظني والتي استقرت علي قسوة الغيطانى وكيفية اقتناصه ثرواته الطائلة ، وأوصد ذلك الأبواب بين قلبى وبين الغيطانى الذى جمع إلى ذلك سحنة مخيفة وانبساط سريرة غائب .

(خير إن شاء الله يا أساتذة ) ،

,عيى لسانى عن البوح أو الوصف قنوطا ويأسا من أن يتأثر الغيطاني بما نقول أو يأبه له ,فانبرى رفيقى الذى قذف بى وبنفسه إلى ما لا نحب سماعه وشرح الأمر فى كلمات مقتضبة وصوت منهك متعب ...اضطرب وجه الغيطانى الضخم واعترته رعشة بدت ناصعة صريحة جلية وتبدلت سحنته ولمعت عيناه وتلعثمت كلماته .

. (لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وإنا لله راجعون)

, وفى ذبالة ضوء شاردة من شباك منزل مجاور رأيت دموعا تنهمر من عينى الرجل ويده تندفع إلى حافظته حيث تدافعت الأوراق المالية أم مئذنة ذات المائة جنيه وبدا الرجل وكأنه لن يتوقف عن العد ، الله واحد ، ليس له ثان ، العدد ثلاثة ، أربعة ، خمسة ... ثلاثة آلاف وخمسمائة... صرخت كفاك يا أخي هذا إلى ما توفر لدينا يكفى ويزيد ، ماذا أقول لك ، رعتك عين الله التى لا تنام وسترك وأولادك سترا لا ينكشف وفى عناق باك حار التحم جسدانا واختلطت دموعنا وأناتنا 0

أوتعى يا بشر ؟، أو تصدق ما ترى وتسمع ؟، أخرسنى الموقف واتساع البون وبعده بين ما توقعت وتوجست, وما رأيت من الرجل ورهافة حسه ورقة مشاعره ، واندفعت كلماتى وخواطرى إلى نفسى لوما وتقريعا علي تسرعي ورعونة ظني ,وضلال خبرتى بالرجال والقلوب رغم سنوات عمرى الطويلة وما وخط رأسى من شعيرات بيض .


سويعات قليلة مضت حتى ألفيتنى ورفيقى عند الأستاذ الشربينى نحمل بديلا عما سرق من معدات وأدوات هرعنا إلى شرائها من المدينة على عجل واندفعنا بها إلى المؤسسة لا نلوى على شيء ،وتهللت أسارير الأستاذ الشربينى ودع الله لنا بالستر واقترح علينا ألا نتلكأ دون الإسراع إلى المرسى لنذهب عنه روعه وندفع ألمه فحمدنا له ذلك وتحمسنا له ، وفى طريقنا إلى السيارة ، قفل الأستاذ الشربينى عائدا على مكتبه بعد أن تراكض إليه سكرتيره ليخبره أن رئيس نيابة كفر سعد على التليفون ينتظره ، ارتبنا وتكاثفت ظنوننا ومخاوفنا من دهياء جديدة أو خطر قد يفسد علينا وعلى المرسى ما ينتظره من فرج وفرحة وزوال هم وانقشاع غم .


. . . اسمعوا يا أساتذة رئيس النيابة أخبرنى أن أمامه عصبة من اللصوص, اعترفوا وأرشدوا عن غنائمهم ومنها المعدات التى كانت فى عهدة المرسى وقد أوفدت من يتسلمها من قسم الشرطة ,فلنسرع إلى المرسى نزف إليه البشرى ونسوق إليه طمأنينته الضائعة ثم نعيد المعدات إلى بائعيها والثمن إلى أهله الذين تبرعوا به ، لقد صدقنى ظنى وحدسى ويقينى من براءة المرسى .. هلم سريعا يا رجال...

تسارعت أقدامنا تقطع حارات ضيقة وتخترق أزمة ملتبسة شائكة ونختصر المسافات والزمن وتتلهف الوصول ، وبدا منزل المرسى فى واحدة من تلك الحارات وقد اختفى مدخله وراء قليل من نسوة توشحن السواد ، فاتجهنا إلى المنزل فى تلهف نتوسل الخبر ونستكنه النبأ، فجاءنا صوت خفيض واهن ، البقاء لله يا أفندية ، المرسى انتقل إلى رحمة الله0

أ0د عبد الحميد سليمان
الدمام 00في غرة رجب الفرد الحرام 1427ه

عبد الحميد سليمان
09/04/2009, 21h21
أبو حيان الدمياطي


الجزء الأول

0000في سياحاته في بحار المعرفة, وأيام درسه الجامعي بكلية الآداب في جامعة القاهرة في ساحات مكتباتها وردهاتها وقاعاتها وشيوخها, وجد الدمياطي عجبا وأدرك جللا حين فجأه وراعه ذلك الفيلسوف المسلم الفذ,أبو حيان التوحيدي, ورويدا رويدا توسد منه أقطار نفسه واستبد بقلبه بعد أن سلب لبه واسترق عقله فشغله عن عداه ونهره عمن سواه, لقد بهره التوحيدي,عبقريا شامخا لا يعبأ بوزير أو أمير, ولا يكترث لمهيب أو جليل,طموحا,لا تثنيه كئود نجاد أو سحيق وهاد,فخورا يري لنفسه من السمو والتعاظم والعلو والمكنة مالا يراه فيه غيره, متعاليا لا ترغم أنفه لراغم وإن علا ولا لجبار وإن ذاع سؤدده,واستقر توسده 0

000انبهر الدمياطي بازدراء التوحيدي لعلماءُ وفلاسفة وكتاب ممن عرف فضلهم واتبعت خطاهم ,لكنهم عند التوحيدي لم يكونوا غير طلاب علم يجهدون فلا يدركون فيدعون ويتزلفون,وحين تعوزهم الحجة وتلجئهم الضرورة يستعينون علي عجزهم بالتملق والمداهنة والتصنع والتجاهل حينا والتعالم أحايين عددا ,ولايرعوون عن تصعير الخدود وتهيئة الأقفية وترويضها إذا اقتضت الحاجة أو استدعي الموقف ,الأمر الذي ينأي بنفسه عنه كل ذي نفس شامخة وباع طويل وعطاء وفير جزيل,,أما التوحيدي فقد أعجزه كبرياء نفسه وعبقرية عقله عن أن يتكيف مع واقع مريض ومجتمع سقيم تروج فيه بضاعة أدعياء العلم والمنافقين والمتوسلين والوضعاء ودناءة السوقة وتسفل السفلة,واجتهد ساعيا,باحثا عن مكانة وعلياء رأي نفسه أولي بهما وأجدر, فأجهده بحثه وخاب فأله ,وانكفأ أمله0

000 تأجج قلب أبي حيان حين اصطرعت حاجات نفسه مع كبريائه الذي وقف عقبة كأداء أمام طموحه ودأبه لتغيير واقعه المتدني وشح حالته وفاقته وازورار مجالس الوزراء والأمراء والوجهاء عنه, ومهيلا جالت حاجات نفسه الدنيا,الملحاحة القاسية جولتها وصالت صولتها , فشرعت قدماه تتحسس خطواتها الأولي بطيئة متثاقلة مترددة إلي تلك المجالس بعيد أن كبحت جماح تعاليه,وجنوح عقليته الفذة وأراقت كبرياءه المستكن الأصيل0

000كان التوحيدي لا يملك سبباً لرزقه وسبيلا لثرائه وانتزاع مكانته المهدرة الضائعة,سوي عبقرية الأديب وبحار من المعرفة خاض غمارها
وطابت له ريحها فامتاح ما وسعته قدرته من كنوزها وللآلئها ودرها، ,لقد أثخنته حاجاته فاضطر تحت وطأة الضرورة وغلظتها, إلي شيء من مداهنة أصحاب التوسد والنفوذ والثراء, سعيا لنوالهم وعطائهم, لكنه لم يدرك من ذلك شيئا مما كان يصبو إليه بعد أن أقصي أنفته ربيبة كبريائه, وأراق’مكرها,آملا ماءها ليفسح ساحات نفسه أمام مقتضيات الحاجة المذلة , لكن تلك النفس الهادرة سرعان ما استعرت نارها واندفعت حمم بركانها, حين أيقنت أن بحار التدني لا تدرك,ومعين فنونها وصورها لا ينضب ,وأغوارها لا تسبر, ونهم سادتها لا يشبع ,بعد أن أغراهم بذلك امتطائهم الآمن المستقر لظهور الذين خبروا عباب الذل وطابت لأشرعتهم ريحها,واستكنت نفوسهم واطمأنت لها وبها, فانتفضت نفسه, برمة ناقمة ثائرة ساخطة, فاستغربته مجالس النفاق ثم لفظته,فتقاذفته أقدام وأحذية المتنفذين ونبذته ساحات المتوسدين إلي العراء وهو سقيم, ,فأوسعته سخرية الساخرين من المستمرئين ,الراقصين, اللاعبين علي كل الحبال,الآكلين علي كل مائدة , الموطئين أكنافهم عن ذلة لازمة ملازمة ووضاعة متأصلة ,اللاعقين لكل حذاء,الذين حسدتهم تلك الأحذية ونفست عليهم انتزاعهم لدورها واستئثارهم بمكانتها ومواضعها, فاستعرت بدورها غيرة وحقدا وغلا, جراء ما لا يباري من مرونتهم ونعومتهم وطاعتهم واستخذائهم,واستنفرت قوتها واستنهضت غلظتها حين كان ممتطوها يوسعون بها أدبارهم ووجوههم ,وأمعنت فيهم حانقة غائلة ,لكنها ارتدت كسيفة خزية حسيرة’, أمام ظاهر رضاءهم ودائم استعدادهم وزائف ابتساماتهم0

000لقد صرع بخل البخلاء ونفاق المنافقين وسخائم الحاسدين, أحلام التوحيدي وحاجاته,فزاده ذلك ضراما إلي ضرام وإباقا إلي إباق, وما إن لفظته ساحاتهم حتى انبري يذم فعالهم ويلمز أخلاقهم ويهزأ بسلطانهم ويستقصي عوراتهم ويقتفي زلاتهم ونقائصهم ويهتك أسرارهم ويستبيح مستكنات نقائصه0

000أوغل التوحيدي ففعل بهم الأفاعيل وأهدر كراماتهم واقتص من تعاظمهم,وظن أنه ناج بذلك, لكنهم لم يكفهم أن أنشبوا فيه مخالب إعراضهم, فتهدده ماحق خطرهم, وأدرك عارفوا قدره فداحة ما ينتظره,وهول ما يتلمظ له من شر وكيد ,فآثر فطناؤهم السلامة , فأعرضوا عنه,ونأت عنه ساحاتهم ووجوههم ,واستبق أراذلهم إلي كيده تزلفا وتوددا, وأشفق عليه من اكتوي بمثل ما اكتوي به,لكنه اصطبر علي ذلك فأضمر غيظه,ووأد حنقه,وصرع تمرده ,لكنه اعتبر حنق التوحيدي وغضبه وثورته وتمرده صرخة لأمثاله من المظلومين وبوح بأنات المكلومين,

000مضي التوحيدي طريدا وحيدا منبوذا جائعا,لا يدري أذكي أريب هو أم غبي مغرور؟ واشتعلت نفسه واتقدت مستكناته فصبت لظاها علي أروع ما فاضت به عبقريته وجادت به قريحته من ذخائر مؤلفاته فأشعل فيها النار ضنا بها أن ينالها ويفيد منها ,مجتمعات وأقوام لم ير منها إلا آيات الجهل والازورار والإعراض والاحتقار والإذلال ,وأفلت من هول ذلك المصير بعض مما ازدانت به القريحة العربية وتباهت واستطالت به الحضارة الإسلامية كالإمتاع والمؤانسة والهوامل والشوامل وغيرها ,لتترك مأساة التوحيدي وكل توحيدي جذعة متقدة دائمة لاتريم,وحشا لا فكاك من أنيابه ومخالبه,وداءُ عضال لا برء منه ولا شفاء,وسوسا ينخر فلا يشبع ولا يقنع في عقل الأمة وروحها وهيكلها رغم اختلاف الأماكن وتبدل الوجوه وانصرام الأيام وفيض الدروس والعبر وافتضاح الخلل وعموم الزلل0

000لم يفت ذلك في نفس الدمياطي ولم يوهن حبه وإعجابه بأبي حيان التوحيدى ولم يألو صعلوك العرب وثائرها الأشهر عروة بن الورد جهدا في عون التوحيدي, وإبقائه علي مكانه ومكانته في نفس الدمياطي,وكان لعروة دالة ومنزلة لا تنافس في قلبي التوحيدي والدمياطي, الذين جمعهما إعجاب لا يحد بابن الورد حين صرف نفسه وجهده ولم يدخر وسعه وأنفق عمره,علي الإقتصاص للمغبونين المظلومين من ظالميهم ومستغليهم وانتزاع ما أمكن له من أموالهم وعروضهم وأمنهم ,ليعيدها إلي مستحقيها وأهلها,وعلي ذلك ذاع شعره الذي ناء بثقل نقمته وسخطه علي مجتمعه وبيئته وأدرانهما فغدا شاعرا فذا وصعلوكا فريدا في تاريخ شعراء العربية ومتمرديها عبر تاريخها الطويل ,لقد أ’خذ الدمياطي مثلما أ’خذ التوحيدي بعروة الناقم الثائر الهازئ وهو يقول:


ذريني للغنى أسعى فإني000 رأيت الناس شرُّهم الفقير‏


وأبعدهم وأهونهم عليهم0000 وإن أمسى له كرمُ وخِير‏


ويُقْصيه النديُّ وتزدريه 00000حليلته وينهرُه الصغير‏


وتَلقى ذا الغنى له جلال00000 يكادُ فؤادُ صاحبه يطير‏


قليلٌ ذنبه والذنب جَمٌّ 000000ولكنّ للغنى ربّ غفور


000لم يألو عروة جهده فألف بين قلبي وعقلي الرجلين, شريكي بؤسه وعوزه,ورفيقي تمرده وحنقه, فتوحدا به ومعه في الرأي والرؤية,وجمعهم الموقف والمسلك والثورة علي نكد الدنيا وتسيد الأراذل وانزواء العباقرة الشوامخ,وزاد يقين الدمياطي بما ذهب إليه عقله واطمأنت نفسه من نهج ,حين أبصر جوهر الإسلام ونصاعة رؤيته وسمو فكرته حيث لا يتمايز الناس بانتماء ولا محتد ولا عرق وإنما يتمايزون بتقواهم ودورهم فلا عنصرية مقيته ولا استعلاء أصم أجوف ,بهره توسد بلال وأبو ذر وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وعمار بن ياسر في قلوب وعقول الرسول والمسلمين مثلما توسد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن معاذ ,وهو ما لم يدرك قليله أثرياء قريش وسادتها ,ومثلما راع زمن الرخاء العباسي أبا حيان التوحيدي ,ارتاع من قبله عروة ابن الورد زمن الجاهلية ,راعت الدمياطي سبعينات القرن المنصرم روعا بقيت أسبابه شامخة حاسرة,جاسرة, وقحة,لا ينال منها نائل ولا تكترث لطائل من فكر أو طرح ولا تتغير أو تتبدل وإنما تسرف في غيها ونزقها, فمريدوها دائما كثر وفاهموها والسالكون طريقها يزيدون ولا ينقصون ويدأبون لديدنهم ومذهبهم ولغتهم ولا يرعوون ولا تستثيرهم أو تنغص أفكارهم وقلوبهم قيمة ,ولا تنكأ ضمائرهم شرعة مهما كانت أو منهجا وإن علا,فبدا التدني والتزلف والتملق والتنكر والجحود والذاتية المفرطة القاصرة المتنكرة ,والتعالي الذي إلا إلي إجادة الإنحاء والاستخذاء, والرضي واستحباب الإمتطاء,ومنافسة الأحذية,لقد أصبح ذلك كله ثقافة مجتمع وسمات جمهرة شخوص الوطن0

000في ساحات آداب القاهرة ,تواترت تساؤلات الدمياطي وحواراته مع أساتذته وزملائه عن أبي حيان التوحيدي,وذاع بينهم نزوعه السافر إليه واقتفاؤه أثره وتمنطقه بمنهجه ,وباحت فأفصحت إيماءاته إليه واحتجاجاته بأقواله ,حتي لقبه بأبي حيان الدمياطي, أحد أساتذته ممن أكثر لجاجتهم وأسرف في جدالهم انتصارا لشخص التوحيدي وثقافته ورؤيته, فشاع ذلك بين أساتذته وأشياخه ورفاقه وزملاؤه ورضيت به نفسه, فاستقرت تلك التسمية في العقول واعتادتها الألسنة,ومثلما كان التوحيدي، الذي لم يكن يملك سوى أدبه وعلمه, غاضباً علي عصره، ساخطاً على أهله ,ناقماً على واقع فاسد يعلي المنافق ويزري بالشريف,حتي لو كان عبقريا فذا, كان الدمياطي يسير علي درب رفيقه ونهجه,فلا يكاد يبرحه, لقد غدا ثورة مستعرة ، وتمردا لا يريم.

000ذهل ابو حيان الدمياطي حين صدمته نهاية التوحيدي وما ساقه تبريرا لحرقه نفائسه حين قال (كيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً فما صح لي من أحجهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ. لقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة، والعامة، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم).

000علي أن الدمياطي الذي رأي مآل صاحبيه وعاقبة أمرهما التي كانت خسرا وضيعة, أوعزت له نفسه ووقر في قلبه واستقر في عقله أن رفيقيه قد تكلفا عمرهما ولم تفلح عبقريتيهما وهمتيهما وعلو نفستيهما في قضاء حاجات حياتيهما والرقي بهما إلي ما يرونه جديرا بهما وأولي لهما من المكانة والتوسد والثراء والرفعة ,وراعه مصيرهما بعد أن أشفق علي ولوجوهما ديارا غير مرحبة ولا آبهة لهما أوبهما,فعل ذلك بنفس وعقل أبي حيان الدمياطي الأفاعيل وخيل له غرور عقله ومرونة لازمة مسعفة ملبية نداء حاجته ومقتضيات شدائده ,وتأقلم مع واقعه ,ربي ودرب عليهم, أنهما كان عليهما أن يدورا مثلما دار الناس وأن مآلهما وليد عجز عن فهم وقلة حيلة وانغلاق عقل وبطيئ فكر, واستقرت رؤيته واطمأنت نفسه إلي ما ذهبت إليه وانتوي أمورا ومنهجا في مقبلات أيامه يثبت لنفسه فيه أنه أحصف عقلا وأسع خبرة وأكثر دربة وأقدر مهارة,ليصل إلي ما تطمح إليه نفسه من توسد وتمكن وغني ,وبعد ذلك فلتذهب الأكمة وما وراءها إلي الجحيم0 --الي القاء مع الجزء الثاني

عبد الحميد سليمان
09/04/2009, 21h21
أبو حيان الدمياطي


الجزء الأول

0000في سياحاته في بحار المعرفة, وأيام درسه الجامعي بكلية الآداب في جامعة القاهرة في ساحات مكتباتها وردهاتها وقاعاتها وشيوخها, وجد الدمياطي عجبا وأدرك جللا حين فجأه وراعه ذلك الفيلسوف المسلم الفذ,أبو حيان التوحيدي, ورويدا رويدا توسد منه أقطار نفسه واستبد بقلبه بعد أن سلب لبه واسترق عقله فشغله عن عداه ونهره عمن سواه, لقد بهره التوحيدي,عبقريا شامخا لا يعبأ بوزير أو أمير, ولا يكترث لمهيب أو جليل,طموحا,لا تثنيه كئود نجاد أو سحيق وهاد,فخورا يري لنفسه من السمو والتعاظم والعلو والمكنة مالا يراه فيه غيره, متعاليا لا ترغم أنفه لراغم وإن علا ولا لجبار وإن ذاع سؤدده,واستقر توسده 0

000انبهر الدمياطي بازدراء التوحيدي لعلماءُ وفلاسفة وكتاب ممن عرف فضلهم واتبعت خطاهم ,لكنهم عند التوحيدي لم يكونوا غير طلاب علم يجهدون فلا يدركون فيدعون ويتزلفون,وحين تعوزهم الحجة وتلجئهم الضرورة يستعينون علي عجزهم بالتملق والمداهنة والتصنع والتجاهل حينا والتعالم أحايين عددا ,ولايرعوون عن تصعير الخدود وتهيئة الأقفية وترويضها إذا اقتضت الحاجة أو استدعي الموقف ,الأمر الذي ينأي بنفسه عنه كل ذي نفس شامخة وباع طويل وعطاء وفير جزيل,,أما التوحيدي فقد أعجزه كبرياء نفسه وعبقرية عقله عن أن يتكيف مع واقع مريض ومجتمع سقيم تروج فيه بضاعة أدعياء العلم والمنافقين والمتوسلين والوضعاء ودناءة السوقة وتسفل السفلة,واجتهد ساعيا,باحثا عن مكانة وعلياء رأي نفسه أولي بهما وأجدر, فأجهده بحثه وخاب فأله ,وانكفأ أمله0

000 تأجج قلب أبي حيان حين اصطرعت حاجات نفسه مع كبريائه الذي وقف عقبة كأداء أمام طموحه ودأبه لتغيير واقعه المتدني وشح حالته وفاقته وازورار مجالس الوزراء والأمراء والوجهاء عنه, ومهيلا جالت حاجات نفسه الدنيا,الملحاحة القاسية جولتها وصالت صولتها , فشرعت قدماه تتحسس خطواتها الأولي بطيئة متثاقلة مترددة إلي تلك المجالس بعيد أن كبحت جماح تعاليه,وجنوح عقليته الفذة وأراقت كبرياءه المستكن الأصيل0

000كان التوحيدي لا يملك سبباً لرزقه وسبيلا لثرائه وانتزاع مكانته المهدرة الضائعة,سوي عبقرية الأديب وبحار من المعرفة خاض غمارها
وطابت له ريحها فامتاح ما وسعته قدرته من كنوزها وللآلئها ودرها، ,لقد أثخنته حاجاته فاضطر تحت وطأة الضرورة وغلظتها, إلي شيء من مداهنة أصحاب التوسد والنفوذ والثراء, سعيا لنوالهم وعطائهم, لكنه لم يدرك من ذلك شيئا مما كان يصبو إليه بعد أن أقصي أنفته ربيبة كبريائه, وأراق’مكرها,آملا ماءها ليفسح ساحات نفسه أمام مقتضيات الحاجة المذلة , لكن تلك النفس الهادرة سرعان ما استعرت نارها واندفعت حمم بركانها, حين أيقنت أن بحار التدني لا تدرك,ومعين فنونها وصورها لا ينضب ,وأغوارها لا تسبر, ونهم سادتها لا يشبع ,بعد أن أغراهم بذلك امتطائهم الآمن المستقر لظهور الذين خبروا عباب الذل وطابت لأشرعتهم ريحها,واستكنت نفوسهم واطمأنت لها وبها, فانتفضت نفسه, برمة ناقمة ثائرة ساخطة, فاستغربته مجالس النفاق ثم لفظته,فتقاذفته أقدام وأحذية المتنفذين ونبذته ساحات المتوسدين إلي العراء وهو سقيم, ,فأوسعته سخرية الساخرين من المستمرئين ,الراقصين, اللاعبين علي كل الحبال,الآكلين علي كل مائدة , الموطئين أكنافهم عن ذلة لازمة ملازمة ووضاعة متأصلة ,اللاعقين لكل حذاء,الذين حسدتهم تلك الأحذية ونفست عليهم انتزاعهم لدورها واستئثارهم بمكانتها ومواضعها, فاستعرت بدورها غيرة وحقدا وغلا, جراء ما لا يباري من مرونتهم ونعومتهم وطاعتهم واستخذائهم,واستنفرت قوتها واستنهضت غلظتها حين كان ممتطوها يوسعون بها أدبارهم ووجوههم ,وأمعنت فيهم حانقة غائلة ,لكنها ارتدت كسيفة خزية حسيرة’, أمام ظاهر رضاءهم ودائم استعدادهم وزائف ابتساماتهم0

000لقد صرع بخل البخلاء ونفاق المنافقين وسخائم الحاسدين, أحلام التوحيدي وحاجاته,فزاده ذلك ضراما إلي ضرام وإباقا إلي إباق, وما إن لفظته ساحاتهم حتى انبري يذم فعالهم ويلمز أخلاقهم ويهزأ بسلطانهم ويستقصي عوراتهم ويقتفي زلاتهم ونقائصهم ويهتك أسرارهم ويستبيح مستكنات نقائصه0

000أوغل التوحيدي ففعل بهم الأفاعيل وأهدر كراماتهم واقتص من تعاظمهم,وظن أنه ناج بذلك, لكنهم لم يكفهم أن أنشبوا فيه مخالب إعراضهم, فتهدده ماحق خطرهم, وأدرك عارفوا قدره فداحة ما ينتظره,وهول ما يتلمظ له من شر وكيد ,فآثر فطناؤهم السلامة , فأعرضوا عنه,ونأت عنه ساحاتهم ووجوههم ,واستبق أراذلهم إلي كيده تزلفا وتوددا, وأشفق عليه من اكتوي بمثل ما اكتوي به,لكنه اصطبر علي ذلك فأضمر غيظه,ووأد حنقه,وصرع تمرده ,لكنه اعتبر حنق التوحيدي وغضبه وثورته وتمرده صرخة لأمثاله من المظلومين وبوح بأنات المكلومين,

000مضي التوحيدي طريدا وحيدا منبوذا جائعا,لا يدري أذكي أريب هو أم غبي مغرور؟ واشتعلت نفسه واتقدت مستكناته فصبت لظاها علي أروع ما فاضت به عبقريته وجادت به قريحته من ذخائر مؤلفاته فأشعل فيها النار ضنا بها أن ينالها ويفيد منها ,مجتمعات وأقوام لم ير منها إلا آيات الجهل والازورار والإعراض والاحتقار والإذلال ,وأفلت من هول ذلك المصير بعض مما ازدانت به القريحة العربية وتباهت واستطالت به الحضارة الإسلامية كالإمتاع والمؤانسة والهوامل والشوامل وغيرها ,لتترك مأساة التوحيدي وكل توحيدي جذعة متقدة دائمة لاتريم,وحشا لا فكاك من أنيابه ومخالبه,وداءُ عضال لا برء منه ولا شفاء,وسوسا ينخر فلا يشبع ولا يقنع في عقل الأمة وروحها وهيكلها رغم اختلاف الأماكن وتبدل الوجوه وانصرام الأيام وفيض الدروس والعبر وافتضاح الخلل وعموم الزلل0

000لم يفت ذلك في نفس الدمياطي ولم يوهن حبه وإعجابه بأبي حيان التوحيدى ولم يألو صعلوك العرب وثائرها الأشهر عروة بن الورد جهدا في عون التوحيدي, وإبقائه علي مكانه ومكانته في نفس الدمياطي,وكان لعروة دالة ومنزلة لا تنافس في قلبي التوحيدي والدمياطي, الذين جمعهما إعجاب لا يحد بابن الورد حين صرف نفسه وجهده ولم يدخر وسعه وأنفق عمره,علي الإقتصاص للمغبونين المظلومين من ظالميهم ومستغليهم وانتزاع ما أمكن له من أموالهم وعروضهم وأمنهم ,ليعيدها إلي مستحقيها وأهلها,وعلي ذلك ذاع شعره الذي ناء بثقل نقمته وسخطه علي مجتمعه وبيئته وأدرانهما فغدا شاعرا فذا وصعلوكا فريدا في تاريخ شعراء العربية ومتمرديها عبر تاريخها الطويل ,لقد أ’خذ الدمياطي مثلما أ’خذ التوحيدي بعروة الناقم الثائر الهازئ وهو يقول:


ذريني للغنى أسعى فإني000 رأيت الناس شرُّهم الفقير‏


وأبعدهم وأهونهم عليهم0000 وإن أمسى له كرمُ وخِير‏


ويُقْصيه النديُّ وتزدريه 00000حليلته وينهرُه الصغير‏


وتَلقى ذا الغنى له جلال00000 يكادُ فؤادُ صاحبه يطير‏


قليلٌ ذنبه والذنب جَمٌّ 000000ولكنّ للغنى ربّ غفور


000لم يألو عروة جهده فألف بين قلبي وعقلي الرجلين, شريكي بؤسه وعوزه,ورفيقي تمرده وحنقه, فتوحدا به ومعه في الرأي والرؤية,وجمعهم الموقف والمسلك والثورة علي نكد الدنيا وتسيد الأراذل وانزواء العباقرة الشوامخ,وزاد يقين الدمياطي بما ذهب إليه عقله واطمأنت نفسه من نهج ,حين أبصر جوهر الإسلام ونصاعة رؤيته وسمو فكرته حيث لا يتمايز الناس بانتماء ولا محتد ولا عرق وإنما يتمايزون بتقواهم ودورهم فلا عنصرية مقيته ولا استعلاء أصم أجوف ,بهره توسد بلال وأبو ذر وخباب بن الأرت وصهيب الرومي وعمار بن ياسر في قلوب وعقول الرسول والمسلمين مثلما توسد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن معاذ ,وهو ما لم يدرك قليله أثرياء قريش وسادتها ,ومثلما راع زمن الرخاء العباسي أبا حيان التوحيدي ,ارتاع من قبله عروة ابن الورد زمن الجاهلية ,راعت الدمياطي سبعينات القرن المنصرم روعا بقيت أسبابه شامخة حاسرة,جاسرة, وقحة,لا ينال منها نائل ولا تكترث لطائل من فكر أو طرح ولا تتغير أو تتبدل وإنما تسرف في غيها ونزقها, فمريدوها دائما كثر وفاهموها والسالكون طريقها يزيدون ولا ينقصون ويدأبون لديدنهم ومذهبهم ولغتهم ولا يرعوون ولا تستثيرهم أو تنغص أفكارهم وقلوبهم قيمة ,ولا تنكأ ضمائرهم شرعة مهما كانت أو منهجا وإن علا,فبدا التدني والتزلف والتملق والتنكر والجحود والذاتية المفرطة القاصرة المتنكرة ,والتعالي الذي إلا إلي إجادة الإنحاء والاستخذاء, والرضي واستحباب الإمتطاء,ومنافسة الأحذية,لقد أصبح ذلك كله ثقافة مجتمع وسمات جمهرة شخوص الوطن0

000في ساحات آداب القاهرة ,تواترت تساؤلات الدمياطي وحواراته مع أساتذته وزملائه عن أبي حيان التوحيدي,وذاع بينهم نزوعه السافر إليه واقتفاؤه أثره وتمنطقه بمنهجه ,وباحت فأفصحت إيماءاته إليه واحتجاجاته بأقواله ,حتي لقبه بأبي حيان الدمياطي, أحد أساتذته ممن أكثر لجاجتهم وأسرف في جدالهم انتصارا لشخص التوحيدي وثقافته ورؤيته, فشاع ذلك بين أساتذته وأشياخه ورفاقه وزملاؤه ورضيت به نفسه, فاستقرت تلك التسمية في العقول واعتادتها الألسنة,ومثلما كان التوحيدي، الذي لم يكن يملك سوى أدبه وعلمه, غاضباً علي عصره، ساخطاً على أهله ,ناقماً على واقع فاسد يعلي المنافق ويزري بالشريف,حتي لو كان عبقريا فذا, كان الدمياطي يسير علي درب رفيقه ونهجه,فلا يكاد يبرحه, لقد غدا ثورة مستعرة ، وتمردا لا يريم.

000ذهل ابو حيان الدمياطي حين صدمته نهاية التوحيدي وما ساقه تبريرا لحرقه نفائسه حين قال (كيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين عاماً فما صح لي من أحجهم وداد، ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ. لقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة في أوقات كثيرة، إلى أكل الخضر في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة، والعامة، وإلى مالا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحبه الألم).

000علي أن الدمياطي الذي رأي مآل صاحبيه وعاقبة أمرهما التي كانت خسرا وضيعة, أوعزت له نفسه ووقر في قلبه واستقر في عقله أن رفيقيه قد تكلفا عمرهما ولم تفلح عبقريتيهما وهمتيهما وعلو نفستيهما في قضاء حاجات حياتيهما والرقي بهما إلي ما يرونه جديرا بهما وأولي لهما من المكانة والتوسد والثراء والرفعة ,وراعه مصيرهما بعد أن أشفق علي ولوجوهما ديارا غير مرحبة ولا آبهة لهما أوبهما,فعل ذلك بنفس وعقل أبي حيان الدمياطي الأفاعيل وخيل له غرور عقله ومرونة لازمة مسعفة ملبية نداء حاجته ومقتضيات شدائده ,وتأقلم مع واقعه ,ربي ودرب عليهم, أنهما كان عليهما أن يدورا مثلما دار الناس وأن مآلهما وليد عجز عن فهم وقلة حيلة وانغلاق عقل وبطيئ فكر, واستقرت رؤيته واطمأنت نفسه إلي ما ذهبت إليه وانتوي أمورا ومنهجا في مقبلات أيامه يثبت لنفسه فيه أنه أحصف عقلا وأسع خبرة وأكثر دربة وأقدر مهارة,ليصل إلي ما تطمح إليه نفسه من توسد وتمكن وغني ,وبعد ذلك فلتذهب الأكمة وما وراءها إلي الجحيم0 --الي القاء مع الجزء الثاني

عبد الحميد سليمان
29/04/2009, 04h47
00أقفرت أيام الدرس الجامعي وغاض ماؤها العذب,وولت بحبوحتها ورحابتها بعدما كان أبو حيان الدمياطي يتحري توليها ويتحرق شوقا إلي انتهائها ,لقد جهد جهده للتغافل عن غائلة أيامه القادمة في قريته التي درج فيه وأحبته دروبها وحاراتها ومصاطبها وخبرته حقولها وأجرانها وأشجار توتها وترعها وسواقيها ,وأنكرت عليه ذكاءه وتوثبه وطموحه قليل بيوتها وشوارعها, وازدرته قلوب وعيون بعض أهلها0

000في قريته تلك كانت تنتظر أمه وأختاه ويتلهفون ويترقبون عودة الأستاذ من القاهرة تزينه أكاليل غار النجاح والتخرج وتحدوه آمال عراض لتلك الأسرة البائسة في واسع عطاءه المرتقب ونواله المرتجي وتوسده المنتظر ,عاد الأستاذ كما كن ينادينه منذ صغره حين تعلقت آمالهن في الانعتاق به من قيود الحاجة وذل الفاقة والعوز والضعة, ولم يجل بخاطره ولا خاطرهن ديمومة أيام انكفائهن علي ضني حاجاتهن وقليل أرزاقهن وهول عوزهن واقتطاعهن ما أمكن لهم من شحيح ذلك وعسيره لمد الأستاذ في غربته بالقاهرة بجنيهات,مؤلمات,قليلات شحيحات,نادرات,بطيئات عزيزات المنال,مكلؤة بمطويات خبز وقليل بيض وأرز, ونادرا ما تكللت تلك الزوادات بذكر من البط ما انفكت أمه عن دس الأذرة في فمه والتنقيب له عن طعامه العزيز المسمن من جوع من تلك القواقع والطحالب التي كانت تتحراها فتفجأها في مكامنها وجحورها علي جسور الغيطان والحقول والترع والقنوات,وتجلب معها ما أمكن لها من سائغ حشائش الغلت والدنيبق والسعد وورد النيل وغيرها من تلك الحشائش التي كانت تعلن عن نفسها وعن تمردها حين تنبت بلامعين وبلا هدف في الحقول, إلا أن تقض مضاجع أولئك البؤساء من الفلاحين الذين كان يرهقهم تقصيها لاقتلاعها وإنقاذ زراعاتهم وملاذاتهم وحلمهم الوحيد في أقوات عامهم الآتي من خطرها وجرأتها0

00علي أن ظهور مثل تلك الحشائش الضارة النافعة كان مؤذنا بأرزاق وفرجات كروب لعيون مترقبة متأهبة لأولئك الذين لا ملاذ لهم من ضروريات أيامهم وحاجاتهم إلا بعملهم في الحقول لتنقيتها من تلك الآبقات من النباتات التي كانت تتحدي طموح نباتات الأرز والقمح والأذرة,وكأن هؤلاء البؤساء قد قضي لهم ألا يرتزقون إلا علي تلك المكروهات المؤلمات من الأعمال التي يستأجرون لتحريها واقتلاعها,وقد يذهب غيظ أولئك الفلاحين والأجراء من عمال وعاملات اليومية,رضوخ للمقدور وتمتع بشجي تلك الأحاديث الشائقة والقصص المؤلمة والآمال الآفلة والتنبيه الذكي بالحب والاهتمام الذي كان يتوامأ به شباب وشابات من بؤساء عمال اليومية حبن يتحينون غفلة رفقاء بؤسهم ,أو خولي العزبة أو صاحب الحقل ,لكم شهدت حقول الأرز والقمح فصول حب صادقة لاهبة بائسة وعذوبة كلمات ودفيئ عون ورحمة ورقيق ايماءات ,إبان اصطفاف أولئك الأنفار حسبما عرفهم الناس به وارتضوه لأنفسهم من وصف وتسمية وتصنيف, لمواجهة غائلة وعشوائية وتمرد وانفلات تلك النباتات التي لم يخل وجودها من فوائد, وأجواء مواجهتها من روعة,لكم أشعلت تلك النباتات الآبقة المتمردة لهيب حب وأحيت آمالا ,وأنشأت زيجات,وأبدعت أطفالا سرعان ما احتوتهم وابتلعتهم تلك الصفوف والحقول,ولطالما أفسحت أبواب رزق للبائسات الفقيرات العائزات,ومثل شركاء عوزهن وشقائهن كانت أم الأستاذ وأختاه يتلهفونها , ويتملقونها0

000عاد الأستاذ وما أدراك ما عودة الأستاذ, لقد كانت في مخيلة أمه وأختيه مؤذنة بانبلاج فجر وزوال هم وتفريج كرب وسعة رزق, وواعدة بغد ليس كمثله غد وأيام تنفض ركام سود لياليهن الماضيات البطيئات الثقيلات المحوجات المذلات, لقد توحد الأمل في نفس الأم الصابرة الساعية المقاتلة وبناتها اللواتي أعجزهن فقرهن وشحيح جمالهن وصرف عنهن عيون وقلوب شباب ما كانوا ليثقلوا كواهل أيامهم بتلك البائسات الفقيرات فأعرضوا عنهن إلي أتراب لهن حزن مالا أو قراريط من الطين أو جمالا أخذا, وتعلقت آمالهن بعودة الأستاذ الظافرة الواعدة المحلقة بهن إلي وضع جديد ومكانة منتظرة,ولطالما أفزعتهن مخافات الحسد المنتظر وموجبات الضغن الآتيات من أولئك الذين شاطروهم عوزهم وقهرهم وضعة أحوالهم أو من أولئك الذين استعملوهن في حقولهن من أثرياء القرية وسادتها الذين كان أولادهم أعجز من أن يجاروا الأستاذ ذكاء وتوثبا وعزما فتعثرت بهم دروبهم أمام شائك الامتحانات إلي أن أجهزت امتحانات الثانوية العامة الهائلة المهولة,علي من استمر يركض في مضمار سباقاتها منهم, وبقي الدمياطي فردا فذا تحرسه دعوات أم رءوم وأخوات حانيات مشفقات لم تنقطع أو تمل, وأشفقت عليهن وتحسست توجساتهن بعض نظيرات البؤس والحاجة اللواتي كان تفوق الأستاذ يبشرهن بثلمة في أبواب موصدة دونهن ودون آمالهن في دورة الأيام وتداولها بين الناس0

000عاد الدمياطي إلي قريته الغافية علي ضفاف النيل جنوب دمياط, تكلؤه آمال من لا آمال لهن وأحلام من لا أحلام لهن إلا به وفيه, لكن مستكنات ومخاوف وهواجس تغابي عنها ودأب علي تغافلها ردحا من زمنه وخفيت علي أولئك البؤساء, من مقبلات لياليه وأيامه, قد ولي زمان تغافله عنها,وانفلت عقال إسارها, فجحظت جلية متغلغلة في صدره ونفسه,لكنها سرعان ما ارتدت علي أعقابها لتعد عدتها لكرتها القادمة وصولتها الحاسمة, حين آب إلي عقله الذي آنس إلي وصف الشاعر لمقبلات الليالي الغامضات المنذرات بأنهن من الزمان حبالي مثقلات يلدن كل عجيبة ,لقد استوعبت نفسه ذلك فوعته ,وحسم عقله أمره متمترسا وراء تجاريب شخوص قرأ سيرها أو خالطها إبان سنوات عمره المنصرمة بالجامعة,سواء لأفذاذ أو لسفلة وإن توسدت تجربة أبي حيان التوحيدي نفسه واحتساها عقله حتي الثمالة عقله,و استقوي بها عزمه,لقد وعي تلك التجربة حين لم تفلح عبقرية التوحيدي في درء جوعه ودفع عوزه,وهاله مآل اعتزازه بنفسه,والقي باللائمة عليه إذ رآه مبالغا معتدا, وهزيلا متوددا مضطربا متملقا فما أغني عنه هذا ولا صان ماء كرامته ذاك,واطمأن رأي الدمياطي,إلي أن الأمر كان ينبغي ألا يجري علي ماجري عليه عند أبي حيان الذي بالغ في رأيه صعودا ُثم بالغ تدنيا,وعظم وقع مبالغته آبقا متمردا مغلظا ومستغلظا0

000 أيام سريعة جال خلالها الدمياطي في دروب قريته,واثق الخطي, مشرق الوجه, عالي الهامة,ماض قدما يخاله الظان أنه ما عاد إلي القرية علي حالته تلك إلا متدثرا بمال كثيرا كافأته به الجامعة تقديرا لعبقريته وتمكنه,ثم شاءت الأيام هازلة هازئة أن تبدد قليلا من قلقه وتوجسه منها فحملت له خطاب تعيينه مدرسا للفلسفة في المدرسة الثانوية الوحيدة بالمدينة المجاورة,لتشرق الآمال في نفوس أمه وأختيه, بعد أن تلقفت أيديهم جنيهاته راتبه الأول الإثني عشر,لكن تلك الآمال العراض سرعان ما تبخرت مع الحاجات الأولي اللازمة للأستاذ, وجاء ذلك الراتب الهذيل واعتاد المجيء تباشير كل شهر, فما ارتوت به غلة الحاجات الدائمات للدمياطي,وما جد علي أمه وأختيه إلا أن الأستاذ أمرهن أمرا لازما ملزما بألا يسرحن مع الأنفار حفاظا علي كرامته وصونا لكبريائه ومكانته, وما كن ينتزعنه من أجر,سد مسده بالكاد راتب الأستاذ الذي لا يكاد يسمن من هزال ولا يغني من فاقة, ويتواري خزيا ضئيلا حقيرا أمام غائلة حاجات لا ترعوي أو تمل0

000 أدرك الدمياطي أن أوان استيعاب تجاريبه واستخدامها لدفع ما ليس منه بد, والإجهاز علي واقعه الضروس قد آن, ووثبت شخصية التوحيدي وتجربته إلي الصدارة في نهجه المزمع الجديد ,وإن تنمرت لها وتأبطت بها شرا,أبيات كان صاحبها يوسف الشربيني صاحب كتاب (هز القحوف في شرح شادية أبي شادوف) أقرب مكانا وزمانا وحالا من الدمياطي ,ذلك أنه عاش في قرية شربين المجاورة القريبة في سنوات القرن السابع عشر الميلادي, في بيئة شبيهة قاتلة أجهزت علي أحلامه في الارتقاء والثراء بعد أن أجازه شيوخه في الجامع الأزهر فما أغني عنه علمه وما كسب, فبات أكثر صرامة وأوضح منهجا ,وأبين رؤية, وأحزم أمرا,من التوحيدي ,الذي ما فتئت تجربته موئلا أصيلا ومعينا وواعظا دائبا للدمياطي ولم يوغل فيها ذلك الا قليلا, وسجلت أبيات سافرت وقحة غير مواربة نهج الشربيني ومستقر رأيه, في سفره الموسوم بهز القحوف الذي يشي عنوان بحمله الدنيء , المتسفل, ذلك النهج وتلك الرؤية والمعالجة والأسلوب, حين قال لائما غيره ممن أخذت عليهم كرامته كل مأخذ, وظن أنها مانعته من الفاقة والذل فما زادته إلا ذلا وتضورا,وأوسعه لوم الشربيني,واستغباه واستجهله بقوله مزريا,لائما,واصفا, ناصحا:
كان والله تقيا صالحا 0000منصفا عدلا وما قط اتهم
كان لا يدري مداراة الورى 000ومداراة الورى أمر مهم

ثم استتبع ذلك بشرح منهجه متفاخرا وقحا مزريا باللائمين,غير آبه بأحد جل أو قل شأنه, وسجله شعرا جليا واضحا لا يحتمل تأويلا ولا يطيق لبسا حين قال:


فطورا تراني عالما ومدرسا 000وطورا تراني فاسقا فلفوسا


وطورا تراني في المزامر عاكفا000وطورا تراني سيدا ورئيسا


مظاهر انس إن تحققت سرها0000 تريك بدورا أقبلت وشموسا


000استدعي الدمياطي وعيه وحزم أمره وبادر إلي التصدي لواقعه المؤلم, وروع مآله الذي طالما استنفر لمواجهته ذاكرته ووعيه وذكائه, ,لقد بدأ طريقه للمواجهة حين جهد إلي ما أوغل فيه زملاء له في المدرسة من الدرس الخاص للتلاميذ وكانت لهم في دفعهم لطلب ذلك وإدراكه أساليب وفنون كثيرة متعددة مقنعة متهددة مستنزفة, وبات الرضوخ لها هما وبلاء وقدرا محتوما,لقد حاول الدمياطي فما أمكن له, ذلك أن الفلسفة علم ومادة غير ذات خطر لا تروع إلا بنادر مما يروع التلاميذ وآباءهم وذويهم من مدلهم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغير ذلك, فوئدت تجارته البائرة الكاسدة, وما أورثته الفلسفة وتضلعه فيها وعمره الذي أنفق أخطره في تحصيلها وإعلاء شانها ,إلا حسرة ولوعة وندم وفاقة وضئيل أهمية وساذج خطر0

000فجأ الأستاذ أمه وأختيه بأنه سوف يتقدم لخطبة زكية,فذعرت أمه ودهشت أختاه من تخيل زواج أخيهن ومعقد أملهن بتلك الفتاة التي جمعت إلي دمامتها وسوء خلقتها وخلقها جبروت أخوة لها,شاع بخلهم قرينا لثرائهم,وذاع توسدهم رديفا لاستغلالهم و بهظهم غيرهم, لقد كانوا ممن ذمهم القرآن وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور كونهم إذا كالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, وعلي هذا كانت اليوميات التي تقضيها أمه وشقيقاته وغيرهم في أرض أشقاء زكية الواسعة هما ثقيلا وألما فادحا, لا يلجئهم إليه إلا روع الجوع وغائلة الحاجة0
000أخبر الأستاذ أمه وأختيه أن ميراث زكية من أبيها سوف يكون خير شفيع لها إلي عقولهم وأسلك سبيلا إلي قلبه ثم قلوبهن,وأنه سوف يقتنص ذلك سهلا هنيئا مريئا ,فمثله لا يرد لمثلها التي فارقتها نضارة الشباب مع ما فارقها من سني العمر, ورضحت أمه وأختاه كارهين متوجسين,وان اعتادوا أن مقالة الأستاذ حتم لا يناقش ومقدور لا يرد0

000 توجه الدمياطي لأخوة زكية الذين استمهلوه متوجسين حذرين إلي أن يجتمعوا إلي كبيرهم الغائب, بعدما يئوب من المدينة, وحين جاءهم أجمعوا أمرهم سريعا أن الأستاذ ما جاءهم إلا طريد فاقته وضعة أهله,وصريع طمع,وأن عليهم أن يتثاقلوا قليلا حتى إذا اضطرم أمره وكاد ينفلت من شراك أعده لهم فقنصوه به, قبلوا طلبه متأففين كارهين متمانعين راغبين,مضمرين أن زواجها هم يزاح وعبئ يلقي,وكاهل يتخفف ولن يكلفهم الأمر شيئا,لأنهم سيتعللون عن تجهيز أختهم بما ينبغي علي أمثالهم وما يناسب ثرائهم, بالرغبة في عدم إحراج الأستاذ الذي لا يملك إلا غرفة يشاطر بها أمه وأختيه في بيتهم الهزيل, وسوف يتخففون من لومة عيون الصامتين , بتلك الأقفاص المغطاة بقماش أبيض المحمولة علي صهوة حميرهم المزدانة ببرادع من الصوف الثمين الذي لا يطيق ثمنه إلا أكابر القرية وأثريائها,الواعدة بعطاء من الطعام والفاكهة والحلوي ,حين يمخر موكبهم المعلن المتشدق بها عباب أزقة القرية ويتحسس مجالس أهلها ليقنعهم بكرم الأخوة ووفائهم لأبيهم الراحل وأختهم, فتخرس لذلك ألسنتهم وترعوي ظنونهم عن مقالات شائعة متواترة أن تلك الأسرة وغيرها من أثرياء القرية وخاصتها لا يورثون نساؤهم حتى لايئول ثرائهم وتراثهم إلي غريب من غيرهم0

000دارت الدائرة علي ما أضمر الجميع وسرعان ما شهدت ساحة منزل الأستاذ توأما يحبو ويكاد يجأر بشكواه من فاقة الأب وضن الأخوال ,وغير بعيد من هذا كله كانت جنيهات راتب الأستاذ تعلن انصرامها السريع مع أيام شهره الأولي,ولم يجد الدمياطي بدا من أن يتحسس أبواب رجال السياسة والإدارة والنفوذ والسلطان علهم يفيئون عليه ببعض مما أفاءه عليهم شياطين أفكارهم وانتهازيتهم وزورهم ونفاقهم, وترددت خطواته عليهم ثم اعتادته مجالسهم, ,لكن ما لم يغب عن خاطر أولئك الأبالسة هو غايات الدمياطي وخطورته,فأجمعوا أمرهم أن يتقبلوه ويفسحوا له موائدهم ومجالسهم وزائف اهتمامهم,علي أن يعلنوا ذلك ما أمكنهم للناس حتى يخلعوا عن الدمياطي كل ما يتوهم فقراء القرية والقرى والعزب المجاورة من مكانته ومهابته وتقدير لنبوغه وفصاحته ومنطقه وعلمه, فإذا ما نضوا عنه تلك الثياب تركوه عاريا ضائعا فاقدا لما قد يتهددهم من خطر عقله وذرب لسانه الذي بهت به ألباب من سمعه حينما كان يتصدي للحديث في الندوات أو يرتقي المنابر في الجمعات0
000 أجمعوا أمرهم وكان ذلك أسلوبا مجربا لديهم ونمطا معتادا لدرء خطر المتوثبين الأذكياء الطامحيين المتهددين الذين كان يغيب عنهم أن دون ذلك المرتقي الوعر مهارات وملكات وسبل لا يعرفها الدمياطي وأمثاله,وهم أغبي من أن يدركوها أو يتقنوها0

000بات الدمياطي منبتا لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي,وقهره يأسه حينما صرعه إياب أمه وأختيه إلي العمل باليومية,ورفض رجال ومندوبي بعثات التعاقد مع المدرسين لبلدان الخليج حيث أحلام الثراء والرخاء,قائلين في ازورار عجيب, وإعراض غير آبه واستعلاء وشموخ وأنفة لا تحد(تخصصك غير مطلوب عندنا)00سارت الأيام بالدمياطي كئيبة مميتة قاتلة واشتد أورارها عليه ,فطفق يبحث ويألم فلم يجد كتبا له ليحرقها مثلما فعل التوحيدي,فاستسلم و تقاذفته الأيام مثلما تقاذفته الخطوب والآلام000وأترك لخيال قارئي العزيز ميدان التكهن بمصير الدمياطي ومآله فسيحا ثريا فطنا0

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام القائظة اللاهبة/ فجر الأربعاء28من ابريل 2009م

عبد الحميد سليمان
29/04/2009, 04h47
00أقفرت أيام الدرس الجامعي وغاض ماؤها العذب,وولت بحبوحتها ورحابتها بعدما كان أبو حيان الدمياطي يتحري توليها ويتحرق شوقا إلي انتهائها ,لقد جهد جهده للتغافل عن غائلة أيامه القادمة في قريته التي درج فيه وأحبته دروبها وحاراتها ومصاطبها وخبرته حقولها وأجرانها وأشجار توتها وترعها وسواقيها ,وأنكرت عليه ذكاءه وتوثبه وطموحه قليل بيوتها وشوارعها, وازدرته قلوب وعيون بعض أهلها0

000في قريته تلك كانت تنتظر أمه وأختاه ويتلهفون ويترقبون عودة الأستاذ من القاهرة تزينه أكاليل غار النجاح والتخرج وتحدوه آمال عراض لتلك الأسرة البائسة في واسع عطاءه المرتقب ونواله المرتجي وتوسده المنتظر ,عاد الأستاذ كما كن ينادينه منذ صغره حين تعلقت آمالهن في الانعتاق به من قيود الحاجة وذل الفاقة والعوز والضعة, ولم يجل بخاطره ولا خاطرهن ديمومة أيام انكفائهن علي ضني حاجاتهن وقليل أرزاقهن وهول عوزهن واقتطاعهن ما أمكن لهم من شحيح ذلك وعسيره لمد الأستاذ في غربته بالقاهرة بجنيهات,مؤلمات,قليلات شحيحات,نادرات,بطيئات عزيزات المنال,مكلؤة بمطويات خبز وقليل بيض وأرز, ونادرا ما تكللت تلك الزوادات بذكر من البط ما انفكت أمه عن دس الأذرة في فمه والتنقيب له عن طعامه العزيز المسمن من جوع من تلك القواقع والطحالب التي كانت تتحراها فتفجأها في مكامنها وجحورها علي جسور الغيطان والحقول والترع والقنوات,وتجلب معها ما أمكن لها من سائغ حشائش الغلت والدنيبق والسعد وورد النيل وغيرها من تلك الحشائش التي كانت تعلن عن نفسها وعن تمردها حين تنبت بلامعين وبلا هدف في الحقول, إلا أن تقض مضاجع أولئك البؤساء من الفلاحين الذين كان يرهقهم تقصيها لاقتلاعها وإنقاذ زراعاتهم وملاذاتهم وحلمهم الوحيد في أقوات عامهم الآتي من خطرها وجرأتها0

00علي أن ظهور مثل تلك الحشائش الضارة النافعة كان مؤذنا بأرزاق وفرجات كروب لعيون مترقبة متأهبة لأولئك الذين لا ملاذ لهم من ضروريات أيامهم وحاجاتهم إلا بعملهم في الحقول لتنقيتها من تلك الآبقات من النباتات التي كانت تتحدي طموح نباتات الأرز والقمح والأذرة,وكأن هؤلاء البؤساء قد قضي لهم ألا يرتزقون إلا علي تلك المكروهات المؤلمات من الأعمال التي يستأجرون لتحريها واقتلاعها,وقد يذهب غيظ أولئك الفلاحين والأجراء من عمال وعاملات اليومية,رضوخ للمقدور وتمتع بشجي تلك الأحاديث الشائقة والقصص المؤلمة والآمال الآفلة والتنبيه الذكي بالحب والاهتمام الذي كان يتوامأ به شباب وشابات من بؤساء عمال اليومية حبن يتحينون غفلة رفقاء بؤسهم ,أو خولي العزبة أو صاحب الحقل ,لكم شهدت حقول الأرز والقمح فصول حب صادقة لاهبة بائسة وعذوبة كلمات ودفيئ عون ورحمة ورقيق ايماءات ,إبان اصطفاف أولئك الأنفار حسبما عرفهم الناس به وارتضوه لأنفسهم من وصف وتسمية وتصنيف, لمواجهة غائلة وعشوائية وتمرد وانفلات تلك النباتات التي لم يخل وجودها من فوائد, وأجواء مواجهتها من روعة,لكم أشعلت تلك النباتات الآبقة المتمردة لهيب حب وأحيت آمالا ,وأنشأت زيجات,وأبدعت أطفالا سرعان ما احتوتهم وابتلعتهم تلك الصفوف والحقول,ولطالما أفسحت أبواب رزق للبائسات الفقيرات العائزات,ومثل شركاء عوزهن وشقائهن كانت أم الأستاذ وأختاه يتلهفونها , ويتملقونها0

000عاد الأستاذ وما أدراك ما عودة الأستاذ, لقد كانت في مخيلة أمه وأختيه مؤذنة بانبلاج فجر وزوال هم وتفريج كرب وسعة رزق, وواعدة بغد ليس كمثله غد وأيام تنفض ركام سود لياليهن الماضيات البطيئات الثقيلات المحوجات المذلات, لقد توحد الأمل في نفس الأم الصابرة الساعية المقاتلة وبناتها اللواتي أعجزهن فقرهن وشحيح جمالهن وصرف عنهن عيون وقلوب شباب ما كانوا ليثقلوا كواهل أيامهم بتلك البائسات الفقيرات فأعرضوا عنهن إلي أتراب لهن حزن مالا أو قراريط من الطين أو جمالا أخذا, وتعلقت آمالهن بعودة الأستاذ الظافرة الواعدة المحلقة بهن إلي وضع جديد ومكانة منتظرة,ولطالما أفزعتهن مخافات الحسد المنتظر وموجبات الضغن الآتيات من أولئك الذين شاطروهم عوزهم وقهرهم وضعة أحوالهم أو من أولئك الذين استعملوهن في حقولهن من أثرياء القرية وسادتها الذين كان أولادهم أعجز من أن يجاروا الأستاذ ذكاء وتوثبا وعزما فتعثرت بهم دروبهم أمام شائك الامتحانات إلي أن أجهزت امتحانات الثانوية العامة الهائلة المهولة,علي من استمر يركض في مضمار سباقاتها منهم, وبقي الدمياطي فردا فذا تحرسه دعوات أم رءوم وأخوات حانيات مشفقات لم تنقطع أو تمل, وأشفقت عليهن وتحسست توجساتهن بعض نظيرات البؤس والحاجة اللواتي كان تفوق الأستاذ يبشرهن بثلمة في أبواب موصدة دونهن ودون آمالهن في دورة الأيام وتداولها بين الناس0

000عاد الدمياطي إلي قريته الغافية علي ضفاف النيل جنوب دمياط, تكلؤه آمال من لا آمال لهن وأحلام من لا أحلام لهن إلا به وفيه, لكن مستكنات ومخاوف وهواجس تغابي عنها ودأب علي تغافلها ردحا من زمنه وخفيت علي أولئك البؤساء, من مقبلات لياليه وأيامه, قد ولي زمان تغافله عنها,وانفلت عقال إسارها, فجحظت جلية متغلغلة في صدره ونفسه,لكنها سرعان ما ارتدت علي أعقابها لتعد عدتها لكرتها القادمة وصولتها الحاسمة, حين آب إلي عقله الذي آنس إلي وصف الشاعر لمقبلات الليالي الغامضات المنذرات بأنهن من الزمان حبالي مثقلات يلدن كل عجيبة ,لقد استوعبت نفسه ذلك فوعته ,وحسم عقله أمره متمترسا وراء تجاريب شخوص قرأ سيرها أو خالطها إبان سنوات عمره المنصرمة بالجامعة,سواء لأفذاذ أو لسفلة وإن توسدت تجربة أبي حيان التوحيدي نفسه واحتساها عقله حتي الثمالة عقله,و استقوي بها عزمه,لقد وعي تلك التجربة حين لم تفلح عبقرية التوحيدي في درء جوعه ودفع عوزه,وهاله مآل اعتزازه بنفسه,والقي باللائمة عليه إذ رآه مبالغا معتدا, وهزيلا متوددا مضطربا متملقا فما أغني عنه هذا ولا صان ماء كرامته ذاك,واطمأن رأي الدمياطي,إلي أن الأمر كان ينبغي ألا يجري علي ماجري عليه عند أبي حيان الذي بالغ في رأيه صعودا ُثم بالغ تدنيا,وعظم وقع مبالغته آبقا متمردا مغلظا ومستغلظا0

000 أيام سريعة جال خلالها الدمياطي في دروب قريته,واثق الخطي, مشرق الوجه, عالي الهامة,ماض قدما يخاله الظان أنه ما عاد إلي القرية علي حالته تلك إلا متدثرا بمال كثيرا كافأته به الجامعة تقديرا لعبقريته وتمكنه,ثم شاءت الأيام هازلة هازئة أن تبدد قليلا من قلقه وتوجسه منها فحملت له خطاب تعيينه مدرسا للفلسفة في المدرسة الثانوية الوحيدة بالمدينة المجاورة,لتشرق الآمال في نفوس أمه وأختيه, بعد أن تلقفت أيديهم جنيهاته راتبه الأول الإثني عشر,لكن تلك الآمال العراض سرعان ما تبخرت مع الحاجات الأولي اللازمة للأستاذ, وجاء ذلك الراتب الهذيل واعتاد المجيء تباشير كل شهر, فما ارتوت به غلة الحاجات الدائمات للدمياطي,وما جد علي أمه وأختيه إلا أن الأستاذ أمرهن أمرا لازما ملزما بألا يسرحن مع الأنفار حفاظا علي كرامته وصونا لكبريائه ومكانته, وما كن ينتزعنه من أجر,سد مسده بالكاد راتب الأستاذ الذي لا يكاد يسمن من هزال ولا يغني من فاقة, ويتواري خزيا ضئيلا حقيرا أمام غائلة حاجات لا ترعوي أو تمل0

000 أدرك الدمياطي أن أوان استيعاب تجاريبه واستخدامها لدفع ما ليس منه بد, والإجهاز علي واقعه الضروس قد آن, ووثبت شخصية التوحيدي وتجربته إلي الصدارة في نهجه المزمع الجديد ,وإن تنمرت لها وتأبطت بها شرا,أبيات كان صاحبها يوسف الشربيني صاحب كتاب (هز القحوف في شرح شادية أبي شادوف) أقرب مكانا وزمانا وحالا من الدمياطي ,ذلك أنه عاش في قرية شربين المجاورة القريبة في سنوات القرن السابع عشر الميلادي, في بيئة شبيهة قاتلة أجهزت علي أحلامه في الارتقاء والثراء بعد أن أجازه شيوخه في الجامع الأزهر فما أغني عنه علمه وما كسب, فبات أكثر صرامة وأوضح منهجا ,وأبين رؤية, وأحزم أمرا,من التوحيدي ,الذي ما فتئت تجربته موئلا أصيلا ومعينا وواعظا دائبا للدمياطي ولم يوغل فيها ذلك الا قليلا, وسجلت أبيات سافرت وقحة غير مواربة نهج الشربيني ومستقر رأيه, في سفره الموسوم بهز القحوف الذي يشي عنوان بحمله الدنيء , المتسفل, ذلك النهج وتلك الرؤية والمعالجة والأسلوب, حين قال لائما غيره ممن أخذت عليهم كرامته كل مأخذ, وظن أنها مانعته من الفاقة والذل فما زادته إلا ذلا وتضورا,وأوسعه لوم الشربيني,واستغباه واستجهله بقوله مزريا,لائما,واصفا, ناصحا:
كان والله تقيا صالحا 0000منصفا عدلا وما قط اتهم
كان لا يدري مداراة الورى 000ومداراة الورى أمر مهم

ثم استتبع ذلك بشرح منهجه متفاخرا وقحا مزريا باللائمين,غير آبه بأحد جل أو قل شأنه, وسجله شعرا جليا واضحا لا يحتمل تأويلا ولا يطيق لبسا حين قال:


فطورا تراني عالما ومدرسا 000وطورا تراني فاسقا فلفوسا


وطورا تراني في المزامر عاكفا000وطورا تراني سيدا ورئيسا


مظاهر انس إن تحققت سرها0000 تريك بدورا أقبلت وشموسا


000استدعي الدمياطي وعيه وحزم أمره وبادر إلي التصدي لواقعه المؤلم, وروع مآله الذي طالما استنفر لمواجهته ذاكرته ووعيه وذكائه, ,لقد بدأ طريقه للمواجهة حين جهد إلي ما أوغل فيه زملاء له في المدرسة من الدرس الخاص للتلاميذ وكانت لهم في دفعهم لطلب ذلك وإدراكه أساليب وفنون كثيرة متعددة مقنعة متهددة مستنزفة, وبات الرضوخ لها هما وبلاء وقدرا محتوما,لقد حاول الدمياطي فما أمكن له, ذلك أن الفلسفة علم ومادة غير ذات خطر لا تروع إلا بنادر مما يروع التلاميذ وآباءهم وذويهم من مدلهم الرياضيات والفيزياء والكيمياء وغير ذلك, فوئدت تجارته البائرة الكاسدة, وما أورثته الفلسفة وتضلعه فيها وعمره الذي أنفق أخطره في تحصيلها وإعلاء شانها ,إلا حسرة ولوعة وندم وفاقة وضئيل أهمية وساذج خطر0

000فجأ الأستاذ أمه وأختيه بأنه سوف يتقدم لخطبة زكية,فذعرت أمه ودهشت أختاه من تخيل زواج أخيهن ومعقد أملهن بتلك الفتاة التي جمعت إلي دمامتها وسوء خلقتها وخلقها جبروت أخوة لها,شاع بخلهم قرينا لثرائهم,وذاع توسدهم رديفا لاستغلالهم و بهظهم غيرهم, لقد كانوا ممن ذمهم القرآن وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور كونهم إذا كالوا علي الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون, وعلي هذا كانت اليوميات التي تقضيها أمه وشقيقاته وغيرهم في أرض أشقاء زكية الواسعة هما ثقيلا وألما فادحا, لا يلجئهم إليه إلا روع الجوع وغائلة الحاجة0
000أخبر الأستاذ أمه وأختيه أن ميراث زكية من أبيها سوف يكون خير شفيع لها إلي عقولهم وأسلك سبيلا إلي قلبه ثم قلوبهن,وأنه سوف يقتنص ذلك سهلا هنيئا مريئا ,فمثله لا يرد لمثلها التي فارقتها نضارة الشباب مع ما فارقها من سني العمر, ورضحت أمه وأختاه كارهين متوجسين,وان اعتادوا أن مقالة الأستاذ حتم لا يناقش ومقدور لا يرد0

000 توجه الدمياطي لأخوة زكية الذين استمهلوه متوجسين حذرين إلي أن يجتمعوا إلي كبيرهم الغائب, بعدما يئوب من المدينة, وحين جاءهم أجمعوا أمرهم سريعا أن الأستاذ ما جاءهم إلا طريد فاقته وضعة أهله,وصريع طمع,وأن عليهم أن يتثاقلوا قليلا حتى إذا اضطرم أمره وكاد ينفلت من شراك أعده لهم فقنصوه به, قبلوا طلبه متأففين كارهين متمانعين راغبين,مضمرين أن زواجها هم يزاح وعبئ يلقي,وكاهل يتخفف ولن يكلفهم الأمر شيئا,لأنهم سيتعللون عن تجهيز أختهم بما ينبغي علي أمثالهم وما يناسب ثرائهم, بالرغبة في عدم إحراج الأستاذ الذي لا يملك إلا غرفة يشاطر بها أمه وأختيه في بيتهم الهزيل, وسوف يتخففون من لومة عيون الصامتين , بتلك الأقفاص المغطاة بقماش أبيض المحمولة علي صهوة حميرهم المزدانة ببرادع من الصوف الثمين الذي لا يطيق ثمنه إلا أكابر القرية وأثريائها,الواعدة بعطاء من الطعام والفاكهة والحلوي ,حين يمخر موكبهم المعلن المتشدق بها عباب أزقة القرية ويتحسس مجالس أهلها ليقنعهم بكرم الأخوة ووفائهم لأبيهم الراحل وأختهم, فتخرس لذلك ألسنتهم وترعوي ظنونهم عن مقالات شائعة متواترة أن تلك الأسرة وغيرها من أثرياء القرية وخاصتها لا يورثون نساؤهم حتى لايئول ثرائهم وتراثهم إلي غريب من غيرهم0

000دارت الدائرة علي ما أضمر الجميع وسرعان ما شهدت ساحة منزل الأستاذ توأما يحبو ويكاد يجأر بشكواه من فاقة الأب وضن الأخوال ,وغير بعيد من هذا كله كانت جنيهات راتب الأستاذ تعلن انصرامها السريع مع أيام شهره الأولي,ولم يجد الدمياطي بدا من أن يتحسس أبواب رجال السياسة والإدارة والنفوذ والسلطان علهم يفيئون عليه ببعض مما أفاءه عليهم شياطين أفكارهم وانتهازيتهم وزورهم ونفاقهم, وترددت خطواته عليهم ثم اعتادته مجالسهم, ,لكن ما لم يغب عن خاطر أولئك الأبالسة هو غايات الدمياطي وخطورته,فأجمعوا أمرهم أن يتقبلوه ويفسحوا له موائدهم ومجالسهم وزائف اهتمامهم,علي أن يعلنوا ذلك ما أمكنهم للناس حتى يخلعوا عن الدمياطي كل ما يتوهم فقراء القرية والقرى والعزب المجاورة من مكانته ومهابته وتقدير لنبوغه وفصاحته ومنطقه وعلمه, فإذا ما نضوا عنه تلك الثياب تركوه عاريا ضائعا فاقدا لما قد يتهددهم من خطر عقله وذرب لسانه الذي بهت به ألباب من سمعه حينما كان يتصدي للحديث في الندوات أو يرتقي المنابر في الجمعات0
000 أجمعوا أمرهم وكان ذلك أسلوبا مجربا لديهم ونمطا معتادا لدرء خطر المتوثبين الأذكياء الطامحيين المتهددين الذين كان يغيب عنهم أن دون ذلك المرتقي الوعر مهارات وملكات وسبل لا يعرفها الدمياطي وأمثاله,وهم أغبي من أن يدركوها أو يتقنوها0

000بات الدمياطي منبتا لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي,وقهره يأسه حينما صرعه إياب أمه وأختيه إلي العمل باليومية,ورفض رجال ومندوبي بعثات التعاقد مع المدرسين لبلدان الخليج حيث أحلام الثراء والرخاء,قائلين في ازورار عجيب, وإعراض غير آبه واستعلاء وشموخ وأنفة لا تحد(تخصصك غير مطلوب عندنا)00سارت الأيام بالدمياطي كئيبة مميتة قاتلة واشتد أورارها عليه ,فطفق يبحث ويألم فلم يجد كتبا له ليحرقها مثلما فعل التوحيدي,فاستسلم و تقاذفته الأيام مثلما تقاذفته الخطوب والآلام000وأترك لخيال قارئي العزيز ميدان التكهن بمصير الدمياطي ومآله فسيحا ثريا فطنا0

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام القائظة اللاهبة/ فجر الأربعاء28من ابريل 2009م

عبد الحميد سليمان
06/05/2009, 18h36
تاريخ أهمله التاريخ


نموذج تاريخي منسي فريد لمعالجة الفقر والانحراف الإداري والسياسي في مصر



إسماعيل باشا


1107هـ/1695م الي1109هـ/1697م



000ذاع الفساد الإداري في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي في مصر العثمانية, واستقر ولم يعد هناك من يلوم أو ينتقد حينما أوصد الرقيب المفترض والحسيب المرتجي, أبوابه وأذنيه وقلبه فلم يعد يعبأ بكبير ولا بصغير وبدهي أن الصراعات على النفوذ واصطناع الأحلاف ومطاردة المعارضين المعترضين وانصراف الباشوات عن إيجاد حلول جذرية للمشكلات لم يكن سوى أحد وجهي المشكلة على حين تكفلت الطبيعة بالوجه الآخر من المشكلة إذ أن قصور النيل في السنوات المختلفة قد أثر كثيراً على دخول الملتزمين وذلك إلى جانب بهظ ملتزمي الباطن وغيرهم الناس بالحمايات والضرائب غير الرسمية مما أدى إلى عجز كثير منهم عن الوفاء بما عليه من أموال وفر البعض الآخر من الالتزام لانعدام الفائدة وتحول الأمر إلى غرم وخسارة مع ما لذلك من تأثير مباشر على الفلاحين والحرفيين الذين كانوا يكتوون بنار مثل تلك المغارم والمظالم وبلغت المأساة ذروتها سنة 1106 هـ / 1693 م , حيث صورها القينالي بقوله ( في أواخر سنة ستة ومصر وبلادها شراقى قفراً لم طلع في غيطان حشيشية خضراً يأخذوه بحجة مال السلطان مصطفى خان .. ) ([1] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn1)) .

000وكان من نتائج ذلك القصور في فيضان النيل أن ارتفعت أسعار الحبوب ارتفاعاً كبيراً ووجد لوبي التجار العاملين في تجارة الحبوب ومن استمالوه إليهم وارتبط معهم بمصالح مشتركة من المماليك وكبار رجال الأوجاقات الفرصة سانحة لتحقيق المزيد من الأرباح وحاول كوجك محمد باش أوده باشي ([2] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn2)) بمقتضى منصبه الذي يخوله حق الإشراف على الأسعار وضبطها ,التصدي لذلك ورغم إخلاص الرجل ونبل مقصده وحزمه إلا أن الذين وجدوا في قصور النيل فرصتهم للوصول إلى أرباح طائلة أفزعتهم ذلك ودبروا أمرهم بليل حيث اغتيل الرجل وذهب ضحية توجهه الإصلاحي ,وتغلغل لوبي المصالح, والصراع الفقاري القاسمي ,وأعقب ذلك سريعا تضاعف أسعار الحبوب فور ذيوع نبأ اغتياله لتبدأ أحداث مجاعة بشعة تعرض لها سكان مصر من ريف وحضر وهاجر أهل الريف إبانها إلى القاهرة هرباً من المجاعة وعزت الأقوات وأكلت الناس القطط وأجساد الموتى وانتشر في أعقاب ذلك طاعون أودى بأعداد ضخمة ([3] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn3)) .

وفي معرض تناوله لتلك الأحداث ذكر أحمد شلبي أن سبب تلك المجاعات والمشاكل الاقتصادية ذلك الفراغ الذي تركه قتل كوجك محمد وذلك بقوله ( لو أراد الله ولم يقتل لم يكن هذا الأمر من هتك الأعراض وبيع الناس أولادهم وهجاجهم إلى يومنا هذا لأنه لما اجتمعت أرباب الغلال والوكلا وتعطفوا خاطره وعملوا له الدراهم التي لها صورة ,امتنع وقال لهم هذا أمر لم يكن مع وجودي على قيد الحياة .. ) ([4] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn4)) ,وقد وصفه القينالي بقوله : ( كان رجل خير طيب النفس لم يقبل الرشوة وهو على صلاح وتقوى كان قبل ذلك في الانكشارية ولم يرضه قليل من العدل .. ) ([5] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn5)) ولم تجد الدولة العثمانية حلاً لذلك إلا بإرسال إسماعيل باشا لإنقاذ ذلك الوضع المتردي ووضع حلول عملية لمشاكل مصر المالية والإدارية والاقتصادية .

000أدى تفاقم الأوضاع الداخلية في ولاية مصر على نحو ما أسلفنا إلى أن تعهد الإدارة المركزية العثمانية في استانبول إلى أحد رجالها الأكفاء بمهمة إصلاح النظام المالي والإداري وضبط الأمور وإعادة الانضباط داخل الإدارة وعناصرها إضافة إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتعويض الأموال التي تأخرت من جملة ما كان على ولاية مصر أن ترسله إلى الخزينة السلطانية في استانبول مما أصطلح على تسميته بأنه (إرسالية الخزينة) وكانت الدولة آنذاك في أمس الحاجة لذلك لاشتداد صراعاتها العسكرية ([6] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn6)).
وقد وقع اختيار الإدارة المركزية في استانبول على إسماعيل باشا والي الشام للقيام بتلك المهمة ورغم أن الرجل لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة فإنه كان على كفاءة إدارية كبيرة , وكان قد استدعى إلى استانبول لمناقشة أوضاع ولاية مصر العامة وما بها من مشكلات وبحث سبل حلها وقد أصدرت الإدارة المركزية في استانبول من القرارات ما يحدد مهمة إسماعيل باشا في مصر ويمكن من تنفيذها ويعطي مهمته الغطاء الرسمي اللازم لنجاحها والقبول بما تتخذه من إجراءات ولذلك جاء ومعه في هذا الخصوص عدة خطوط شريفة وأوامر سلطانية تخوله إجراء الإصلاحات المناسبة ([7] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn7)) واتخاذ ما يلزم لإتمام إرسالية الخزينة الواجب إرسالها سنوياً من مصر وما من شأنه إصلاح الخلل الإداري والاقتصادي وقد استقبل الرجل بمظاهرة من الجوعى والفقراء والمتضررين الذين اشتد بهم الكرب خاصة وأن القاهرة كانت قد أصبحت غاية يقصدها كل أهالي البلاد المقفرة والمتضررة من المجاعات وقصور فيضان النيل فلما استقر في الديوان وسأل عن ذلك أمر بالنداء في شوارع القاهرة في إجراء غير مسبوق أن على هؤلاء جميعاً أن يقصدوا إذا كان الغد ميدان ( قراميدان ) ([8] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn8)) .
ويقول أحمد شلبي بن عبد الغني في تناوله لتفاصيل ذلك ( فلما كان الغد نزل الباشا إلى قراميدان فأتت خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الله فأمر الوزير بتوزيعهم على الصناجق والملتزمين بمصر كل إنسان على قدر حاله وبحسب مقامه بحضرتهم جميعاً وأخذ لنفسه ولأعيان دولته ألف نفس وعين لهم من الخبز والطعام ما يكفيهم صباحاً ومساءً إلى أن انقضى الغلا .. ) ثم تصدى لخطر الوباء بأن أمر بتكفين ودفن الموتى من الفقراء وصرف في ذلك مبلغ 625.000 نصف فضة ( بارة ) وذلك لضخامة أعدادهم ([9] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn9)) .

وقد أسهمت تلك الإجراءات في صناعة شعبية إسماعيل باشا ومكانته عند الأهالي إضافة إلى إنشاءاته الخيرية وأوقافه والمدرسة التي أنشأها وأوقف عليها وعلى طلابها ومدارسها وكل ذلك كان من ماله الخاص وقد كلفت تلك الإجراءات غير المسبوقة لإسماعيل باشا قبولاً كبيراً لدى الناس وكانت محل تقدير لديهم خاصة أن النيل في أعقاب إسماعيل باشا قد عاود عطاءه فاستقرت الأسعار وتبدلت أحوال الناس وعاد الرخاء فاستبشر الناس بهذا الرجل وأحبوه وقد عبروا عن ذلك بأسفهم الشديد حينما عزل وتوجه إلى بغداد للمهمة الجديدة التي أولتها له استانبول وما أصابه إسماعيل باشا في قلوب الناس اجتمع إلى ما حققه من نجاح إداري تمثل في أدائه كل التزاماته المالية تجاه الخزينة السلطانية وتجاه الحرمين الشريفين وتجاه رواتب الجنود والأوقاف وغير ذلك دون أن يحدث عجز في أي جهة على عكس معظم الباشوات السابقين له واللاحقين به ([10] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn10)) .

وقد قال الدمرداش واصفاً إنجازات إسماعيل باشا الإدارية والاجتماعية ومكانته لدى المصريين ( أرسل أحضر حسن أفندي الروزنامجي عمل حسابه مغلق مالاً وغلالاً وتراقي ومعتاد ولم تأخر عليه شيء من بقايا ولا غيرها كتب له قائمة وصنجها وأعطاها له ضلع عليه فروه سمور,ولما عرفت أعيان مصر سناجق وأغوات وزعيم مصر أتوا تماماً وركبوا قدامه وصارت الخلق تدعي له من بيته إلى باب النصر وساداتنا العلما وقفوا له بالغورية ودعوا له بالسلامة التامة .. ) ([11] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn11)) .

أما القينالي فقد انفرد بنقل تحسر أهل مصر وتأسفهم على رحيل إسماعيل باشا ولمزهم من تسبب في ذلك كالسلطان والبكوات المماليك والأوجاقات التي تآمرت عليه لما عاينوه وأحسوه من كفاءته وإنسانيته بقوله ( أتت كامل الصناجق والأغوات واختيارية السبعة بلوك طلعوا قدامه وتأخروا أهل مصر علماً وتجار ورعية يدعون له الله تبارك وتعالى يكفيه غدر السلطان ومكر الشيطان ويحرم من حرمنا منك ) ([12] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftn12)) , ولم يودع أهل مصر أحداً ممن تولى منصب الباشا بمثل ما ودعوا به إسماعيل باشا سواء من السابقين أو اللاحقين به .

00000 صفحات من التاريخ المصري الذي لا يعرف عن قصد أو عن جهل,
مهداة إلي أهل منتدي سماعي طرب وأخص الأخ الكريم الدكتور انس البن ومدام ناهد والأستاذ رائد والأستاذ أبي زهده00أما الشاعر الوطني المخلص طارق العمري فقد كانت إشعاره عن الحرف وما آل إليه حال أهلها وتعليقات الأخوة والأخوات دافعي الأساس إلي اقتطاع ذلك النذر اليسير من كتاباتي التاريخية والمشاركة مستفزا العقول والقرائح لتفحص كل هذا ودلالاته ونتائجه وتخيل الحلول الناجعات له000مع شكري وتقديري واحترامي
الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان


[1] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref1) ) القينالي – مجموع لطيف يشتمل على وقائع مصر القاهرة من سنة 1100 هـ إلى آخر تاريخ المجموع سنة 1152 هـ المكتبة الوطنية بفينا – cod – arabe 391 – his 38 ص 8 – 9 .

[2] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref2) ) في الأصل تعني كلمة أوده تعني( غرفة ) ولكنها كانت هنا تعني كتيبة أو قوة من أوجاق الانكشارية قوامها 100 جندي وقائدها يعرف بلقب ( أوده باشي ) وكل 10 كتائب من ذلك تكون وحدة عسكرية تسمى ( البلك ) ويرأس ( باشا الأوضباشية ) الجميع , أما( أوضباشي) البوابة فهو أحد العاملين تحت رئاسة الوالي أو الزعيم الذي كانت توكل إليه مسئولية الأمن في مصر القديمة وبولاق والقاهرة ,وعموماً فإن هناك لبسا في مسئوليات القائمين على هذا المنصب لأن الأحداث تظهر تصدي كوجك محمد للارتفاع في الأسعار وتلك المسئولية كانت من ضمن مسئوليات آغا أوجاق الإنكشارية ( مستحفظان ) غير أن ظروف الصراع على النفوذ بين كوجك محمد ومنافسيه على زعامة الأوجاق, جلبي خليل ومصطفى كتخذا القازدغلي في تلك الفترة تظهر أن كوجك محمد قد انتزع تلك المسئولية آنذاك من آغا مستحفظان .
أحمد شلبي بن عبد الغني – المصدر السابق ص 175 – 176 – 185 – 191 .
Holt : studies in the history of the near East ( the career of kucuk Mohammed ) London – 1962 – pp. 245 – 249 .
-عبد الحميد حامد سليمان – نظم إدارة الأمن في مصر العثمانية – مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة – عدد 57 – 1992 م ص 62 : 59 .

[3] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref3) ) الدمرداش – المصدر السابق – ص 56 – 62 .

[4] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref4) ) أحمد شلبي بن عبد الغني المصدر السابق ص 189 – 191 .

[5] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref5) ) القينالي – المصدر السابق ص 7 – 8 .
الجبرتي : تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار – دار الجيل – بيروت ج 1 ص 138 .

[6] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref6) ) لمزيد من التفاصيل حول النشاط العسكري العثماني في أوروبا وآسيا في تلك الفترة يرجع إلى :
محمد فريد بك -تاريخ الدولة العثمانية تحقيق إحسان حقي – دار النفائس ,بيروت سنة 1981 ص 303 : 310
-يلماز أوزتونا – تاريخ الدولة العثمانية – استانبول سنة 1988 – الناشر مؤسسة فيصل التمويل ص 529 : 569 .
-ليست لدينا معلومات عن أصل الرجل ودوره فيما قبل ولايته للشام ثم مصر وكان قد تولى باشويه الشام سنة 1104 هـ / 1691 م ثم عزل في نفس العام وأعيد إلى منصبه مرة أخرى وأخضع شريف مكة بعد خلاف بينه وبين الإدارة المركزية واتخذ إجراءات لضبط الأخلاقيات العامة في دمشق ثم نقل إلى مصر وعين مكان عثمان باشا السلحدار 1107 هـ / 1694 م فتقلد باشويه مصر في 27 صفر سنة 1107 هـ / 1694 م واستمر بها لمدة سنتين حيث عزل في 15 ذو الحجة سنة 1109 هـ / 1696 هـوحين وصل إلى مصر كانت الأزمة والمجاعة على أشدها فبادر بإجراءات عملية هامة للتصدي لها ,وعلى المستوى الشخصي ضرب القدوة أمام الأثرياء من الصناجق والباكوات والمماليك وغيرهم حين طلب منهم أن يقوم كل واحد منهم بإعالة عدد من الفقراء كل على قدر استطاعته وأخذ لنفسه ألفا منهم وعين لهم من الطعام والشراب ما يكفيهم إلى أن انقضت الأزمة في إجراء غير مسبوق, وتوالت إجراءاته للتصدي لتلك الأزمات وعلاجها ووضع النظام المالي الجديد الذي نحن بصدد دراسته وحقق به نجاحاً كبيراً دونما ظلم على الأهالي أو ممالأة لأصحاب النفوذ وكان طبيعياً أن يجدوا في ذلك خطراً عظيماً على مصالحهم وأن يدبروا أمرهم بليل للتخلص من إسماعيل باشا ولذلك حين وقع خلاف بنيه وبين القاسمية فتحالفوا مع الأوجاقات على عزله إلا أن الدولة العثمانية كانت قد أعدت له مهمة أخرى حيث أمرته بالتوجه لقيادة حملة عسكرية لنجدة حسن باشا والي بغداد الذي كان في احتكاك عسكري دائم مع إيران وكانوا آنذاك قد تهددوا بغداد نفسها وأرادت الدولة دعم الجند العسكري العثماني بإرسال ستة من الباشوات على رأسهم إسماعيل باشا والتقوا في حلب متجهين إلى بغداد ولكن الإدارة المركزية لأسباب غير معلومة كانت تضمر الغدر لإسماعيل باشا إذ أرسلت خطاً شريفاً إلى حسن باشا بغداد تأمره بقتل إسماعيل باشا عند وصوله إليه ومصادرة أمواله ولكن أحد المتعاطفين معه من أتباع حسن باشا علم بذلك فأرسل ورقة خالية من التوقيع لإسماعيل باشا يخبره فيها بما ينتظره من مصير ففر الرجل ليلاً والتجأ إلى حكام إيران الذين أجاروه وعينوه حاكماً على أحد الأقاليم واستقبل بها استقبالاً حسناً وظل بها عدة سنوات حتى مات وقيل مات مسموماً ولجأ ولداه إلى استعطاف الإدارة المركزية في استانبول فأجاروهما وعملا في خدمتها وحين خرج هذا الرجل من مصر ودعه أهلها كما لم يودعوا أمثاله وأظهروا من الحب والتقدير والألم لرحيله ما ينبئ عن المدى الذي وصلت إليه علاقته بالأهالي في شعبية غير مسبوقة .
إبراهيم حليم – تاريخ الدولة العلية العثمانية المعروف بكتاب التحفة الحليمة – الناشر مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت .
محمد بن جمعة المقار – الباشات والقضاة في دمشق – جزء ضمن كتاب ولاة دمشق الذي حققه ونشره الدكتور صلاح المنجد – دمشق سنة 1949 ص 48 – 49 .
الدمرداش – المصدر السابق ص 92 – 93 .
القينالي – المصدر السابق ص 10 : 20 .
الملواني – المصدر السابق ص 217 : 223 .

[7] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref7) ) الدمرداش – المصدر السابق ص 72 – 73 .
-القينالي – المصدر السابق ص 10 .

[8] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref8) ) هو الميدان الممتد أسفل سور القلعة ومكانه الحالي منطقة المنشية وميدان صلاح الدين أسفل القلعة بقسم الخليفة .
الملواني – المصدر السابق هامش رقم ( 1 ) ص 168 .

[9] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref9) ) أحمد شلبي بن عبد الغني – المصدر السابق ص 197 – 199 .
القينالي – المصدر السابق ص 11 .
الملواني – المصدر السابق ص 217 – 218 .

[10] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref10) ) من الباشوات الذين حدث لديهم عجز في حسابهم الختامي عن مدد ولايتهم قبل إسماعيل باشا وصودرت أموالهم وحبسوا مصطفى باشا سنة 1035 هـ / 1624 م , محمد باشا الشريف سنة 1058 هـ / 1647 م , إبراهيم باشا الشيطان سنة 1073 هـ / 1662 م وممن حدث لهم ذلك بعد إسماعيل باشا حسن باشا أرنؤط سنة 1109 هـ / 1697 م محمد باشا النشنجي سنة 1141 هـ / 1724 م .
-الدمرداش – المصدر السابق ص 139 – 152 .
-أحمد شلبي بن عبد الغني المصدر السابق ص 160 – 540 .

[11] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref11) ) الدمرداش – المصدر السابق ص 91 – 92 .

[12] (http://www.sama3y.net/forum/newthread.php?do=newthread&f=165#_ftnref12) ) القينالي – المصدر السابق ص 20 .

علاء قدرى
15/07/2009, 00h16
(البطل )
رحلة فى عالم اديبنا د عبد الحميد ؛الثرى والذى يدهشنا بمشاهدات واقع عالمه الخاص ؛باسلوب قصصى فريد ؛ لا يمل القارئ منه طرفة عين؛ ما ان نبدا بقراة اسطر قليلة حتى ندخل فى هذا العالم المدهش ؛ وكاننا نشاهد فيلما سينمائيا ملئ بجميع عناصر الابهار ؛ مجموعة اشخاص مهمشين ممن جعلتهم الحياة فى اقصى ركن فيها ؛ لا يحلمون الا حين تضن عليهم الحياة بالاقوات ؛ ؛فيقتاتون بالحلم ؛ وما عساه ان يفعل لهم ؟؟ هم ابطال يصارعون اهوال الجوع و الفقر ؛ لا بالاناشيد ولا بالغناء ؛ لكن بكل قطرة من دمائهم ؛ نماذج اهملها التاريخ لكثرتهم ووفرتهم ؛ وقلة حيلتهم ؛ سوى بعض من الادباء جعل الله لهم بصيرة يرون بها ما لا يراه الاخرون ؛ يرون واقعهم ؛ و احلامهم ؛ وسذاجة الفكر النقى ؛ حين نقترب من عالمهم البسيط ؛ نكتشف فيهم نقاء السريرة ؛ و بساطة الحلم ؛ وسذاجة التامل ؛ ورغبة البقاء والعيش رغم مرارته
هم ابطال من طراز فريد ؛ يصارعون غولا اسمه التعالى؛و التجاهل؛ شكرا لك اديبنا ؛ اهديت لنا فصلا مهملا على مسرح الحياة ؛ فالذاكرة الان لا تتسع الا للاعبى الكرة ؛ و الراقصات؛ وتفاهات افرزها الواقع عن عمد ؛ متناسيا ابطال تزخم بهم الحياة ؛
وتكاد تضيق بهم ذرعا......

عبد الحميد سليمان
01/11/2009, 20h33
بسم الله الرحمن الرحيم
أحبائي وأعزائي00عذرا علي الغياب فليس عن تثاقل او تكاسل أو قلي وإنما شغل بما ينشغل به أمثالنا من كد العيش ووطأة الهم وضيعة العمر وإباق الشباب00سلامي اليكم جميعا وها هي الصفحات الأولي من (المتسحبون1 ) علي أمل أن تحوز رضاكم وقبولكم ان شاء الله تعالي


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــ

بسم الله الرحمن الرحيم


00اوغل ظلام الليل واشتد البرد القارس وتدافعت موجات الأمطار المتكاثفة المنسالة الكاسحة التي ما كانت تهدأ إلا لتعود غليظة ثقيلة, ثم ترأفت السماء بمن أثخنتهم , فأذهبت ريح سموم عاتية,صولة المطر والبرد لكنها لم تتقاعس عن سوالفها فكادت تطيح بإسماعيل الذي تشبثت بتلابيبه زوجته وصغاره فزاده ضعفهم وهنا إلي وهنه وعجزا إلي عجزه وما أسعفه أخواه وأبناؤهم,علي فتوة شبابهم وميعة صباهم إذ صرفهم عن الاهتمام بهم ما لم يفرق بينهم جميعا من داهم الريح العاصف,التي كادت تقتلعهم جميعا وتتقاذفهم الي حيث تريد, لكنها نظرت إلي تشبثهم ورقة حالهم وآيات ضعفهم وفاقتهم ورعبهم مرتسمة علي وجوههم فرقت قليلا لهم,حين عاينت فزعا خط خطوطه السود علي قسمات وجوه, تكأكأت عليها الدنيا وادلهمت لها الأيام ,لقد بدا ذلك الفزع جاحظا وقحا متحفزا,مستهينا بما جهد إليه الريح العاصف والمطر الكاسح والبرد القارس وما ساقوه من هول ,فمنذ متي كان الفزع علي سواء,

000لقد مثلت سطوة وجبروت الأمير إبراهيم كتخدا مستحفظان ملتزم كفر سليمان البحري فزعا ليس كمثله فزع وهولا لا يدانيه هول, لقد فدحت بقدومه قريتهم تلك القابعة المكلومة علي ضفة النيل الذي رفدته بدموعها ودموع أهلها وفاضت عليه بمعين لا ينضب من من دموعها المنسكبة الدامية من مآقييها,حسرة وأسي علي أبنائها الذين اغتالت أمانهم وسكينتهم في رحابها ظلمة الظالمين وبشاعة المتسلطين من أولئك الملتزمين المستقوين ومن خالطهم وتبعهم ودار حيثما داروا من خفراء وعسكر ومشدات وكبراء وكتاب وصيارفة وإمام مسجدها الوحيد ومأذونها,لقد تكالبت قواهم واشرأبت حرابهم طمعا في غنائم وعطايا وإعفاءات علي أجداث أهليهم وحطامهم وآلامهم,أو خوفا وسعيا للإفلات من مصير يعلمون فداحته,أو ضنا بتميز قبيح علي بني جلدتهم وإخوانهم قد يعصف به جبروت الملتزم الذي صحبه جنوده وخلصائه ومن يأتمرون بأمره الذي كان عليهم أن ينصاعوا له وهو قائد فرقة مستحفظان العسكرية بالإقليم والقائم علي أمنه أو بالأحري الممتطي لأمنه وأمن أهله, لقد آتاه منصبه المتدثر بانشغال الباشا في القاهرة عن كبح طائلة المستطيلين أو تحالفه معهم وتقاسمهم جميعا مائدة الأيتام الذين لا يرثي أو يكترث بهم أو لهم أحد ,

00لم تعهد كفر سليمان من ذي قبل مثل تلك العرايس الخشبية التي نصبت أمام المسجد وعند الشونة المقفرة ليصلب عليها المتمردون أو العاجزون أو المتقاعسون عن دفع ماعليهم لولاة أمورهم حسبما وسمهم إمام المسجد , الذي أفلت بما سولت له به نفسه من لومة ضميره,وهل هناك أسوغ عقلا وأقل كلفة وأربح نتيجة,من لومة الطائر الذبيح علي سذاجته وتجرؤه علي غشيانه الأشجار والسكن إلي ما صنعه واعتاد اللواذ اليه من الأعشاش التي روعها وروع عصافيرها وبلابلها, صياد قناص قادر باطش ,اقتاد معه الحق والرحمة والنخوة أساري راضخين طيعين يقلبهم كيفما شاء له قلبه وسول له عقله واشتهت خزائنه, لقد كان علي الأشجار أن تلفظ ساكنيها وربائبها,ويهرع إليه أهلها خاضعين,شاكرين, داعين مهللين مكبرين غير عابئين بما سيعجزهم من جديد الضرائب والعوايد والفرد والإتاوات والكلف والغرامات التي تمنطقت بمنطق جديد وتسربلت بسرباليها القديم والجديد,دون أن تـابه أو تقدر أو تخجل في سعيها الجديد الدءؤب كي تمتص باقيات وضنينات عافيت فلاحيها وموجوداتهم ,

000كانت كفر سليمان البحري قرية وارفة الظلال ترفل في خضرتها علي ضفاف النيل وتنهل من سلسبيله,ومثلما كانت تجود عليه بمصلياتها المستظلة المحتمية بدعوات أهليها في صلواتهم وبشجرات الصفصاف و التوت والجميز والتين والموز العتيقة,كانت زهرات بناتها ونسائها يعتدنه ليغترفن من منهله الثر السلسبيل,وكن يستأمننه علي أعراضهن وحرمة أجسادهن وشرفهن حين كن يتخففن من ملابسهن إن أمن المتلصص الرقيب أو تسترا بتلابيب الظلام المنسدل الحافظ الأمي,كان النيل لهذه القرية أليفها وسندها وحبيبها وراعيها وقلبها الذي تسري مياهه ويفيض خيره في شرايينها ,فيضفي علي وجهها رونقا وشبابا ليس له نظير,ومثلما كان يجود عليها بمائه كان يكلؤها بفيض لا يتوقف ولا يحد من الشبار والبلطي والشيلان والسردين النيلي والقراميط والبوري والحنشان وحمير السمك سيئة الحظ بتسمية لايد لها فيها ولا مناص منها , ولم تستشر فيها ,وأني لها ذلك فمصائر الأشياء والجمادات كانت كمصائر الناس قدرية لا فكاك منها, لكن تلك التسمية لم تصرفها عن روعتها ولم تترك أثرا علي طعمها الفريد, وما انفكت أفران كفر سليمان تفيض بمشوياتها من رائع فيوض السمك النيلي التي تلتحف بخبز ليس له نظير في روعته وطعمه,لم يتقاعس عن منافسة الأسماك في تنوعها وتفردها فكان منه فطير الأرز والكوماج والرقاق والأبابير والمفرود اللين الطري والسن الثري الغني والمشلتت وصواني اللبن الممتزج فيها الخبزالمحمص في السمن البلدي بثري اللبن الجاموسي وووو00,

000كانت الأيام تمضي بكفر سليمان علي خبر حال حين كانت تجتاز هادئة هانئة سنوات عقودها المتوالية في القرن 17 الميلادي,لقد جادت أرضها بخيراتها وبادلت أحبابها ورعاتها وحماتها وأبناءها الذين كرسوا جهدهم وعشقهم لها ووسعتهم وحفظتهم وأكرمتم أحياءا وأمواتا, نعم بادلتهم حبا بحب وودا بود وعطاء بعطاء وسخاء بسخاء, ويجزم أحدهم أن الزرع في الحقول يهتز فرحا وبهجة حين يهل عليها هو وإخوانه , الذين يلبثون رابعة نهارهم فيها إلي أن يودعوها علي أمل لقاء يترقب متعجلا انصرام الليل وإطلالة الفجر وتباشير الصباح , حينها كان عطاء الأرض وخيراتها يستبقي لأهلها فيوضا من الحبوب والفاكهة والخضار بعد أن يدفعوا ما عليهم للملتزمين من ضرائب وعادات وكلف ثابتة ,ولم يروعهم يوما جحفل سنجق دمياط وجلاوزته , لقد استظل ريف مصر آنذاك بعدالة حكامها, وتصديهم لمن يفكر في بهظ فلاحيها ,الذين كانوا لايضنون بضيافة أو إطعام,يقدمونه عن كرم نفس وطيبة قلب, لمن يعمل يعتادها اويمر عليها من العسكر أو رجال الإدارة والمرسالجية الذين يستظلون بظلها في رحلتهم بين القري أو في طريقهم من دمياط إلى شربين والمنصورة والقاهرة ,وهي لا تختصهم بخيرها وإنما يستظل بفيئها ويتزود من عطائها كل من يلوذ بها من الفقراء وعابري السبيل والكتبة والخفراء والنوتية والحواة والقراداتية والغوازي والموواوية وشعراء الربابة وكل من استظل بظلها وتنسم عبيرها0

علاء قدرى
02/11/2009, 20h41
عودا حميدا الاديب د عبد الحميد سليمان ؛ انتظرناه طويلا لاثراء نفوسنا المتعطشة لقراءة صادق الادب ؛ وتاريخ حق ؛ لاولئك الذين شكلوا معالم تاريخنا يوما ما دون ان يذكروا على صفحاته كثيرا ؛ فللوجوه المهمشة ان تعمل لياكل غيرها ؛ وان تكد ليستريح اخرين ؛ كعمال المسرح ؛ هم يمهدونه ؛ ليلعب غيرهم ؛ ويعلوا صوتهم ؛ ويذكروا احياءا و امواتا ؛ اما من هم خلف الكوليس ؛ فهم ناس الظل ؛ لا يابه لهم احد ؛ رغم انهم ابطال الرواية الحقيقين ؛ كما ذكرهم الاديب (يحيي حقى ) فى( كومبارس)
اقول ان الله قد قيد قلما اديبا بليغا لتلك البقعة من ارض الله (كفر سليمان)لكى يرد للوجوه ملامحها ؛ وللهامات هيئتها ؛ ويعيد صياغة ما صنعوه ؛ وما عانوه ؛ بريشة فنان اديب انسان اسمه (د عبد الحميد سليمان)
فاذا كانت مقدمة الاستهلال بهذا القدر العبقرى من اختيار المفردات ؛ ورائحة ذكيه لزمن فات ؛ فكيف تكون الباقية ؟ انا اعلم يقينا ان (المتسحبون) درة يتيمة ؛ يسعد برؤيتها كل من يقراها ؛ لان التاريخ الحق يكتبه الاديب لا المؤرخ .
وانتم شهود على ما رايتموه فى ذلك الزمن الذى يشبه الحلم بكل ما يحمله من مرارات كثيرة ؛ و قليل من الراحة ...
فمرحبا بعالمكم الذى يصاغ بصورة اروع ما تكون من قلب مبدع اصيل يحلق بعيدا بعيدا بمفرداته و اسلوبه وتمكنه ؛ لكى يعيد للادب الحق مكانته ؛ وللمهمشين حقهم .

عبد الحميد سليمان
04/11/2009, 19h57
بسم الله الرحمن
أخي الحبيب أشكر لك سرعة اهتمامك الرائع وعمق ما تكتبه 00ولن أجاملك حين أقول انك أنك كنت وراء البدء في كتابة المتسحبين فالأفكار واسعه والمشغلات كثيرة,واحساس بندرة من يقرأ لي تأففا أو ايثارا للسلامة أو الستر أو ردا غير مباشر علي ما قد يظن من تجاهلي لأعمال البعض وأنا أبرأ الي الله والي نفسي من كل ذلك فما الأمر سوى أنني مهموم بكثير من البحوث والدراسات والاشراف الأكاديمي وهذه هو ايميلي لك ولمن يشاء من أهل المنتدي لأرسل له آخر ما انتهيت من كتابته وهي دراسة بعنوان(الاستيطان الاسرائيلي في القدس-سطوة الايديولوجيا وترويض التاريخ)سوف القيها ان شاء الله في مؤتمر دولي بالهيئة المصرية العامة للكتاب في 15 نوفمبر القادم ان شاء الله --لقد أرهقتني وأضنتني وأنا اسعي لدحض التزوير التاريخي والتلفيق والغرور والسكوت المشين والتسطيح المقصود وافتقاد النصير00هذا دور لا أستطيع أن أغفر لنفسي تجاهله ولا أطيق ثقل الاحساس بالهروب من مسئوليته 00أخي علاء هذا هو الايميل قارسل الي لأرسله لك لتكون من أول قارئيه وأنت به أولي وبوعيه وبفهمه أقدر00هكذا تمر أيامي ووحدتي غريبا وحيدا بلا أنيس أو رفيق ,وحين اطل سريعا علي منتدي سماعي تكون اطلالة صاد كاد يقتله الظمأ علي بئر عذبة في صحراء حياته المدلهمة يعتادها حين يرهقه دأبه وسعيه في تلك الفلاة بلا نصير او معين00أخي الحبيب ,كأني أقدم عذري واعتذاري لك ولأخي النبيل الحبيب الدكتور أنس وزوجه الطيبة مدام ناهد والي أعزاء شاركوني وقرأوا لي من قبل ثم عزفوا عن ذلك انشغالا او اهمالا أعيذهم منه لمن لم يرد عليهم ولم يحتف بهم مثلما احتفوا به فلربما ظنوا به كبرا أو غرورا أو تعال أعاذنا الله واياكم واياهم من تلك الآفات التي علي كل واحد منا أن يتحسسها ويتصدي لها فهي باب شرلايغلق وثلمة عقل ونفس لا تبرأ وآية للضعف الفكري وفساد العقل والنفس00عذرا أعزائي رائد عبد السلام وأبي زهده وسعد الشرقاوي وطارق العمري وعفاف سليمان وكل أهل المنتدي00هذا هو الايميل لمن أراد أن يراسلني مباشرةMAYAKESHK@HOTMAIL.COMوهوباسم (مباشرةMAYAKESHK@HOTMAIL.COMوهوباسم) حفيدتي حتي لا يطيح بي خيال المتخيلين ولا تو جسس المتوجسين00بارك الله فيكم وأعدكم جميعا باتمام المتسحبين(1) واستكمال سلسلة تنا قش قضايا بالغة الأهمية والخطورة واعدا ان شاء اللله بالجديد الجديد00حييتم ووقيتم وسلم الله عليكم ورحمته وبركاته

عبد الحميد سليمان
28/01/2010, 05h41
بسم الله الرحمن الرحيم


المتسحبون



.. أوغل ظلام الليل واشتد برده القارس وتدافعت موجات الأمطار المتكاثفة المنسالة الكاسحة التي ما كانت تهدأ إلا لتعود غليظة ثقيلة, ثم ترأفت السماء بمن أثخنتهم, فأذهبت ريح سموم عاتية,صولة المطر والبرد لكنها لم تتقاعس عن سوالفها فكادت تطيح بإسماعيل الذي تشبثت بتلابيبه زوجته وصغاره فزاده ضعفهم وًهنا إلي وهنه وعجزا إلي عجزه وما أسعفه أخواه وأبناؤهم,علي فتوة شبابهم وميعة صباهم إذ صرفهم عن الاهتمام بهم ما لم يفرق بينهم جميعا من داهم الريح العاصف,التي كادت تقتلعهم جميعا وتتقاذفهم إلي حيث تريد, لكنها نظرت إلي تشبثهم ورقة حالهم وآيات ضعفهم وفاقتهم ورعبهم ,مرتسمة علي وجوههم فرقت قليلا لهم ,حين عاينت فزعا وهولا خط خطوطه السود علي قسمات وجوههم التي تكأكأت عليها الدنيا وادلهمت لهم الأيام ,لقد بدا ذلك الفزع جاحظا وقحا متحفزا, بعد أن جهد إلي استنفاره الريح العاصف والمطر الكاسح والبرد القارس ,كان فزعا ليس كمثله فزع, ومنذ متي كان الفزع علي سواء ,لا تختلف ولا تتنافس ولاتتباين ولاتتجدد أو تتبدل أو تبتدع ,مذاهبه وصوره ,ذلك لا يعلمه ولا يعيه ويصطلي به,إلا أمثال أولئك المهمشين المنبوذين المطحونين,الذين تركلهم وتلفظهم قلوب وعقول ونفوس وأقدام وساحات المتوسدين المتمكنين الذين لا يطوف بخيالهم مجرد طيف تبدل الأيام وهاجس دورتها وتحولها.

... دهت كفر سليمان البحري وتوابعها بقدوم الأمير إبراهيم كتخدا مستحفظان إليها ملتزما جديدا,وبما سبقته إليها من أنباء قسوته وجبروته و سطوته ووقائعه مع قري التزامه التي كانت تتناقل فصولها ومصائر ضحاياها ألسنة الناس في القري والعزب والنجوع, كان ذلك القدوم الأشأم روعا وفزعا ليس كمثليهما روع أو فزع ,فالرجل كان متمترسا وراء صولة موقعه ومنصبه,وكثافة مريدي حظوته وسالكي طريقهم إلي لعق حذائه إلي أن يتمكنوا من إقصاء ذلك الحذاء وانتزاع حظوته لدي ممتطيه,و لاريب أنهم سوف يصلون إلي ما سعوا إليه مهما توسل الحذاء القديم واستجدي البقاء وترقق لقدم إبراهيم كتخدا مذكرا بإخلاصه وطاعته وولائه وصادق بلائه,إنهم أطري منه جلدا وأنعم ملمسا وأقل كلفة وأبخس ثمنا, ولن يتقاعسوا في تنافسهم وإلحاحهم وإستجدائهم رضا قدمي إبراهيم كتخدا, الأعلم والأدري بتباين الحظوظ والملكات حتي في عالم الأحذية ودنيا الجلود,وتنوع الدور,وهو الأمهر في استخدامها وفقما تقتضيه حاجاته وما تعوزه ظروفه,إن منها ما تقتضيه جولاته ممتطيا صهوة جواده بين جنوده وجاويشيته,ومنها ما ينتخبه لامتطائه حين لقائه بباشوات مصر وكبرائها في القاهرة,ومنها ما لا يجد بديلا عنه حين يلوذ إلي الخلاء ليتخلص مما يتخلص منه الناس,ورغم تنافس تلك الأحذية وتكايدها,إلا أنها متراضية مجتمعة متفقة علي ألا تأبه لملامة لائم صارخ أو صادع,ولا لإعراض صامت مستنكر قلبه,راضية قسماته,مضطرمة دخائله, لقد وعت تلك الأحذية ما ينتظرها لقاء جهدها وتفانيها, من دور أو منفعة أواستقواء ينسي الناس ضعفها وهوانها ووضاعتها ويعلي خسيستها,وإن أرقها وشغلها طيف وهاجس استبدالها بأحذية أدني مكانة وأقل طموحا,وأكثر جهدا وأطوع نفسا وأطري جلدا,ساعتها يشتد دأبها وتمعن في تملقها وترخصها سعيا لاستبقاء ذبالة من نفوذ,اقتنصته من أحذية ذوات أدوار أكبر وأهم,وهل يستوي من يمتطي عند لقاء الأكابر والوجهاء بمن يظل رابضا أمام أماكن قضاء الحاجات لا يقلقه لزومها,ولا يزعجه كريه رائحتها, ولا يستثيره نجسها وضعة حالها,إنها تلزم دورات المياه وبولها وبرازها ولا تبارحها وتعتادها وتألفها,وتسرف فلا تكاد تألف غيرها,هكذا اعتادت تلك الأحذية أقدام إبراهيم كتخدا مستحفظان وأمثاله وأضرابه وأشباهه ونظائره وخبرتها وتمرست عليها,وما أبخس ما كانت تطمح إليه لقاء ذلك وما تطمع فيه من القنص أو الاستقواء والاستطالة علي الضعفاء من أهليها وبني جلدتها,لقاء مزيد من الإنحاء والخنوع والخيانة, والهوان والضعة .

.. كان التزام الرجل بكفر سليمان البحري وتوابعها, داهية دهت بها وفزعا راعها ليس كمثله روع, وهولا لا يدانيه هول, لقد فدحت بقدومه تلك القرية المكلومة القابعة علي ضفة نهر النيل الغربية فرفدته بدموعها ودموع أهلها وفاضت عليه بمعين لا ينضب من مآقيها,حسرة وأسي علي أبنائها الذين اغتال أمنهم وسكينتهم,ظلم الظالمين وبشاعة المتسلطين من أولئك الملتزمين المستقوين المتنفذين ومن خالطهم وتبعهم ودار حيثما داروا من خفراء وعسكر ومشدات وكبراء وكتاب وصيارفة وإمام مسجدها الوحيد ومأذونها, أولئك تكالبت قواهم وتلمظت أنيابهم واستعرت أطماعهم في نوال غنائم وقنص عطايا وإعفاءات من السادة الجدد, دونما اكتراث بأجداث أهليهم وحطامهم وآلامهم, وبعضهم دفعه إلي ذلك جبن مستكن وذاكرة مترعة مثقلة بمصائر بائسة لأولئك الآبقين علي الذل,المتشبثين بحقهم في البقاء في بلادهم والتمتع بخيرها,الثائرين لكراماتهم, المنافحين عن أعراضهم ودينهم وإخوانهم,الذين تمثل فيهم جليا واضحا قول الجواهري الشاعر:



يُطاق تقلبُ الأيام فينا.. وأما أنْ نَذلَّ فلا يُطاق


,ودائما ما كان تلوك ألسنة أولئك السفلة ,هذيل أمثال وحكم قديمة بالية تفلسف الرضي بالذل وتؤدلج الخنوع والخضوع وتضفي عليه قدسية زائفة وحكمة مضللة, وتسرف في التذكير بمصارع السابقين من آباء وأجداد رفضوا الظلم والخنوع وأنفوا من الذل والقهر والخضوع, فقاوموا وتصدوا ولم يحنوا هاماتهم ولم تستذل نفوسهم فكانت عاقبة أمرهم خسرا وقتلا وهولا وتعذيبا,دونما غائث أو معين أو متململ أو متضجر,من أهل وشركاء ألم وقرناء بؤس, أولئك ردعهم خوفهم وسعيهم للإفلات من مصير أيقنوا فداحته,وقليلهم ضن بتمايز قليل وضيع,علي بني جلدته وإخوانه فأمن أن يعصف به جبروت ذلك الملتزم الذي صحبه جنوده ومنافقوه ومن يأتمرون بأمره فهو قائد فرقة مستحفظان العسكرية بالإقليم,والقائم علي رياسته,الممتطي لأمنه وأمن أهله,الذي توسد منصبه متدثرا بعطاء لا ينقطع واسترضاء واستمالة لا تتماهل ولا تتراخى أو تبخل ,تصدع لأوامر الباشا في القاهرة وتتلمس حاجاته وتتحسس فتستبق أحلامه,وتقيه مغبة الإفصاح,لقاء ذلك كان الباشا وكبار متنفذي القاهرة يغضون الطرف عن الاضطلاع بواجبهم في كبح طائلة المستطيلين المتسربلين بسرابيل الحكم, ويتغاضون عن كل ما يقترفه حلفاءهم ورجالهم وإن عظم خطره وفاح خبثه,لقد تقاسم أولئك اللئام موائد الأيتام الذين لم ولن يرثي أو يكترث بهم أو لهم أحد.


... لم تعهد كفر سليمان البحري من قبل,مثل تلك العرايس الخشبية التي نصبها رجال الملتزم وجلاوزته,في الساحة الواسعة أمام المسجد وعند الشونة المقفرة, ليصلب عليها ويجلد المتمردون العصاة والعاجزون أو المتقاعسون,عن دفع المال الميري وخلافه,لولاة الأمور حسبما وسمهم إمام المسجد,الذي جزم بحرمة ذلك وأن مقترفيه يستحقون أبشع عقوبة وأبلغ روع,ردعا لأمثالهم وحفظا للمال العام الذي تعانق مع المال الخاص, في عقله ومستكنات نفسه ورفات ضميره, إلي أن ذابا في وله وانصهار وعشق,وباتا رفيقي درب ومصير, لقد كافأه إبراهيم كتخدا مستحفظان وجلاوزته فأعفوه,من الضرائب علي كتابة وتسجيل عقود البيوع والمعاملات والأنكحة ووقائع الطلاق التي كان يكتب حججها ويقيدها في دفاتره,ويتقاضي عنها رسوما نقدية وهدايا عينية مما تنبت الأرض,من فومها وعدسها وبصلها وقثائها وأرزها وقمحها وبطيخها وشمامها,وما تضج به الأسطح من أبراج حمامها وعتيق أوزها وبطها وطيورها الشمرت البداري,ومايجود به النيل والترع وقنوات حقول الأرز من قراميطها وشبارها وحنشانها وبوريها وشيلانها وسردينها وبلطيها و حمير سمكها وجمبريها ,وووو...الخ, حتي ليكاد ذلك العالم العلامة والبحر الفهامة,والباب الذي لا يقرب الجنة متقرب ولا يطؤها واطئ,إلا عبر تزكيته ودعائه,يشارك الناس في أرزاقهم وأقواتهم وموجوداتهم, وحين أبلي ذلك العالم النحرير والفيض المتدفق الغزير,بلاءه غير الحسن وحان قطاف يانع ثمار سعيه الآثم الوضيع,أُعفِى من الضرائب والكلف والفرد والإتاوات التي كانت تثقل كواهل أولي رحمه وبني جلدته وبلدته,والتي كان عليه أن يدفعها مثلهم عن عدد هزيل من الأفدنة,يزرعها له أخوته, وغدا الإمام بعد تلك المكرمات الغائثات العارفات بقدر أهل العلم,المساقات حسب زعمه والزعم دائما مطية للكذب,من فيوض أرزاق الله التي يختص بها عباده الزاهدين التائبين اللائذين, فولاة الأمور وخلفاء الله في الأرض علي عباده,ما جادوا عليه بها استرضاءً ولا استرقاقا وإنما عن تقدير عميق للدين وأهله ورجاله...هكذا كان أمثال إمام السوء يقنعون أنفسهم الميتة وقد وأدوا صولة ضمائرهم ولومها, تلك الضمائر التي عصف بها وأذهب ريحها صمت الصامتين وإطراء المنتفعين ونهج الساعين المرجفين,وانزواء المتوجسين المرتجفين, وهل هناك أسوغ منطقا وأقل كلفة وأربح نتيجة وأسترعيبا,وأمكن لهروبهم وتنصلهم مما يرونه ويعاينوه وُيدبر علي مسامعهم,من ذلك التبرير الزائف الكاذب الوضيع,ولم يشفع لدي العالم النحرير,القطب الرباني,السراج المنير, أو يستثير نخوته الآفلة وغضبته البائدة المنعدمة,أن كبار قريته وصغارها كانوا لا يتقاعسون عن تقبيل يده, ولا يتأففون ولا يضجرون من الترجل عن دوابهم حين مرورهم به أو مروره بهم إكبارا للدين وأهله والقائمين عليه,ويسرف بعضهم فيخلع نعليه حتي يمر محييا ومهللا ومكبرا,حين يراه متوسدا مجلسه علي مصطبة المسجد أو ماشيا في ردهات وحواري القرية,أو متربعا في أحد الأجران,ولا يعود إلي حذائه أو بلغته أو حدوته الجلدية الغليظة أو قبقابه الخشبي التليد, إلا بعد أن يجاوزه أو يجاوز مجلسه,أو يحول بينهما حائل من بيت أو دوار,أو عريش,أو أذرة أو أشجار سامقات, لقد سولت للرجل نفسه المريضة وأنانيته المتخاذلة ,أن القوم إنما يكبرونه عرفانا بفضله وتقديرا لريادته, فمثله وريث للأنبياء ورديف للصالحين,وردع حاسما قاطعا طائفا طاف بخاطره يوما ما مترددا خائفا مذكِرا منبها الي أنهم لا يقدمون علي ذلك إلا احتراما وحبا وولاء لدينهم وليس له أو لغيره,وطاعة لقرآنهم وسنة حبيبهم الذين ألزموهم بتقديرهم ورفع درجاتهم وطاعتهم فهم ولاة أمور المؤمنين ومعدن الفضل واليقين.

... تمترس إبراهيم كتخدا مستحفظان ملتزم كفر سليمان البحري وتوابعها كفر المنازلة الجديد وعزبة اللوزي وكفر يوسف والسياحات والمستباعد والبرية,وراء خيله ورجله ومنصبه وسطوته ,تكلؤه دعوات الإمام وأحكامه ومبرراته,لتغتال ظهور ورقاب وكرامة الفلاحين البسطاء البؤساء ,سياطه وعرايسه الخشبية التي كان يصلبون عليها ,دون أن يترقق قلبه أو قلب من معه,لآهات الأمهات المكلومات علي فلذات الأكباد,ولا زفرات النسوة العاجزات اللواتي يغتالهن مشهد رجالهن,دروعهن من عاديات الدهر,وهم يصلبون ويجلدون ويسحقون, ولا تستثيره ولا حتي تلفت انتباهته صرخات وآنات وانكسارات أولئك المثقلين المرهقين المخذولين ولا دماؤهم ولا دموعهم .

... وما انفك إمام السوء يسوغ ويبرر, ويستغرقه الدور وتهوله مغبات الإباق, فيسرف علي نفسه ويصب جام غضبها الماكر المتنصل الرعديد,علي تلك الطيور الذبيحة,التي يتهمها أمام آلهته وسادته بالمكر والخبث والمُطل, وإن لاح له طيف ندم أو شبح خوف من انتقام السماء ودورة الأيام والليالي الحبالي المثقلات بكل عجيبة, أو ذّكـره أمر بربه وبفادح جرمه وبشاعة تبريره وتسويغه, هرع إلي لوم الطيور الغفل السذج المجترأة علي غشيان الأشجار والسكني إلي أعشاشها, فعنده أن الأشجار عليها أن تلفظ ساكنيها وربائبها,حين يروعها ويروع أفراخها,ويخرس شدو بلابلها,قانص قادر باطش, يقتاد الحق والرحمة والنخوة أساري راضخين طيعين يقلبهم كيفما شاء له قلبه, وسول له عقله واشتهت خزائنه وظمأت نفسه... وعند إمام السوء وجوب أن يهرع خلفه كل من يأتم به من أهل قريته, صاغرين خاضعين طائعين شاكرين, داعين مهللين مكبرين ,غير عابئين بما سيثقل كواهلهم ويتهدد كراماتهم وحياتهم , وما سيعجزهم به إبراهيم كتخدا وأمثاله ونظائره, من فادح الضرائب والمغارم وهائل المضافات والبراني والحلوان,ومعجز العوايد وظالم الفرد والإتاوات والكلف والعونة,اللواتي تمنطقت بمنطق هزيل وتسربلت بسرباليها القديم والجديد,دون أن تتحسب أو ترحم أو تأبه أو تخجل,في سعيها الجديد الدءوب لامتصاص أرزاق الناس وعوافيهم وموجوداتهم , ولا ضير عند إبراهيم كتخدا ملتزم كفر سليمان البحري وتوابعها من ذلك ومن أبشع منه, فهو يعي أن سادته ورعاته وحماته وقادته في القاهرة, لا يغفرون ولا يتسامحون ولا يستعتبون.

... كانت كفر سليمان قرية وارفة الظلال ترفل في خضرتها علي ضفاف النيل وتنهل من سلسبيله,ومثلما كانت تجود عليه بمصلياتها المستظلة المحتمية بدعوات أهليها في صلواتهم وبشجرات التين والموز والصفصاف والتوت والجميز العتاق,كانت زهرات بناتها ونسائها يعتدنه ليغترفن من منهله الثر السلسبيل,وكن يستأمننه علي أعراضهن وحرمة أجسادهن وشرفهن فيتخففن من ملابسهن إن أِمن تلصص المتلصصين وترقب المترقبين, أو حين يتسترن بتلابيب الظلام المنسدل الساتر الأمين, كان النيل لهذه القرية أليفها وسندها وحبيبها وراعيها وقلبها الذي تسري في شرايينها مياهه ويغمرها بفيوضه وخيره,فيضفي علي وجهها رونقا وشبابا ليس لهما نظير, ومثلما كان يجود عليها بمائه السلسبيل وطميه الثري الأصيل,كان يكلؤها بعطاء لا يتوقف ولا يحد من الشبار والبلطي والشيلان والسردين النيلي والقراميط والبوري والحنشان وحمير السمك سيئة الحظ بتسميتها التي لا يد لها فيها ولا مناص لها عنها, فمنذ متي اختارت الناس أوالموجودات أسماءها أو استُشيروا فيها,وأني لهم ذلك فالأسماء كالمصائر قدرية لا فكاك منها,لكن تلك التسمية لم تصرف حمير السمك عن روعتها ولم تترك قليل أثر علي طعمها الفريد,وما انفكت أفران كفر سليمان تفيض بمشوياتها من رائع تلك الأسماك النيلية التي كانت تلتحف بخبز ليس له نظير في روعته وطعمه,لم يتقاعس عن منافستها في تنوعها وتفردها, فكان منه فطير الأرز,والكوماج والرقاق والأبابير والمفرود اللين الطري ,والسن الثري الغني والمشلتت وصواني اللبن الممتزج فيها الخبز المحمص في السمن البلدي بثري اللبن الجاموسي وووو..,

... هكذا كانت الأيام تمضي بكفر سليمان علي خير حال,وهي تجتاز هادئة هانئة سنوات عقودها المتوالية في القرن 16 الميلادي,حين جادت أرضها بخيراتها وبادلت أحباءها ورعاتها وحماتها وأبناءها الذين كرسوا جهدهم وعشقهم لها فأكرمتهم أحياءًوأمواتا, ووسعتهم وحفظتهم,وبادلتهم حبا بحب,وودا بود,وعطاء بعطاء,وسخاء بسخاء,ويجزم أحدهم أن الزرع في الحقول يهتز فرحا وبهجة حين يهِل صاحبه عليه, ليلبث رابعة نهاره فيه إلي أن يودعوه علي أمل لقاء يترقب متعجلا انصرام الليل وإطلالة الفجر وتباشير الصباح,حينها كان عطاء الأرض وخيراتها يستبقي لأهلها من الحبوب والفاكهة والخضار ما يزيد عن كفاياتهم فيسعون به فقراءهم وأقرباءهم ومن يحل بساحاتهم ويستظل بظلهم ويتنسم عبيرهم عن كرم نفس وطيبة قلب, ولا يضنون باستضافة من يعتادهم أو يمر عليهم من العسكر أو رجال الإدارة والمرسالجية الذين يستظلون بظلهم في رحلتهم بين القري أو في طريقهم من دمياط إلى شربين والمنصورة والقاهرة,وهم لا يختصونهم بأريحيتهم وكرمهم لجليل مكان أولئك الجنود وأرباب الوظائف والمكانات ولا لفادح خطرهم وإنما عن أريحية نفس وكرم محتد ,وآية ذلك أنهم كان يشاركهم فيأها ويتزود بعطائها,كل من كان يلوذ بكفر سليمان من المراكبية الذين حطت مراكبهم بساحلها أو سكنت عنها الريح فغدت حبيستها ورهينة رضاها وحنوها,وغيرهم من فقراء وفقهاء وعابري سبيل وكتبة وخفراء ونوتية وحواة وقرداتية وغوازي ومواوية زجالين,وصييتة ومنشدين,وأرباب صاجات وغاب ونايات ودفوف,وشعراء رباب رواة بطولات أبي زيد الهلالي سلامة وتابعه أبي القمصان وقصص أبنائه مخيمر وشبان وأبناء شقيقاته مرعي ويحيي ويونس ,وحلفائه دياب بن غانم والسلطان حسن بن سرحان وأخته الجازية والخفاجي عامر وحبيبته ناعسة الأجفان وأعدائه,الزناتي خليفة وأمثاله,وحكايات ثارات الزير سالم وبكائياته,التي لم تشفع لديها بحور دماء البكريين قتلة أخيه كليب,والتبع اليماني وسيف اليزل أبطال ومحرري اليمن من قبضة الفرس,وقاهري الروم البيزنطيين ,ذات الهمة وابنها عبد الوهاب وأبو عبد الله البطال,وعنتروعبلة,وقيس وليلي وجميل بثينة,وأزجال وحكم ابن عروس, وغير ذلك من فيوض لا حدود ولا نهاية لها,كانوا يصدحون بها في ساحات كفر سليمان ودروبها وأزقتها وحواريها,ومياتمها وموالدها ومواسمها,وأفراحها وطهور صبيانها,آنذاك كان أهل هذه القرية يدفعون ماعليهم للملتزمين من ضرائب وعادات وكلف ثابتة,دون أن يروعهم يوما ما,جحفل سنجق دمياط وجلاوزته,سنوات وأيام كان ريف مصر إبانها يستظل بعدالة الحكام,وتصديهم لمن يفكر في بهظ فلاحيه وظلمهم والافتئات عليهم.

... رحم الله الشاعر الذي أبدع أيما إبداع حين رأي الأيام الجميلة الطيبة تمر سريعا, فتخلي الذاكرة والعمر لسنوات الألم ووقائع العذاب,وتغدو تلك الأيام الآفلات ,حلما لا ينال وأملا لا يتحقق,وألما لا يرعوي أو يكف,وحسرة لا تنقضي,ودمعا لا يرقأ:



مرت سنون بالوصال وبالهنا.. فكأنها من قصرها أيام.

ثم انثنت أيام هجر بعدها ..فكأنها من طولها أعوام.

نعم انقضت تلك السنون وأهلها .. فكأنها وكأنهم أحلام.


,لقد بدأ العام رائعا جميلا,لكنه كان يخفي في تلابيب مقبلات أيامه ولياليه سوادا وغلظة وقسوة,ووقائع وكوارث عابسات قالحات ضنينات, ومصائب جائحات,لقد ترأف ذلك العام بالناس في بداياته فجهد في دفع ذلك ومنعه,إلي أن أعجزه الأمر وأقعده الهول, فانزوت أيامه الطيبات كليمات باكيات ليواجه أهالي كفر سليمان البحري شقا رحى لا يرحمان,كانت أسرعهما مقتضيات حوائجهم وأقوات ذويهم وحقوقهم في حصائل عرقهم وثمرات كدهم من حقولهم وبساتينهم التي توارثوها عن آباء لهم وأجداد جاءوا إلي تلك الدوحة العذراء علي ضفة النهر الغربية منذ أن استقرت سبله ولان مجراه,وطاب له سكناه, وكأنهم تآلفوا مع النيل فتحابوا وتعاشقوا,وتواعدوا فتصاهروا,وتلازموا فتصابروا, وتمازجوا فتوحدوا وتذاوبوا,إلي أن دهتهما تلك الدهياء المظلمة ,التي تفردت علي سابقاتها بعرائس إبراهيم كتخدا الخشبية وجلاوزته وسياطهم وكرابيجهم,وعصيهم,وغلظة قلوبهم وقسوتهم وموت مشاعرهم.

... ابتُلي إسماعيل وأخوته بما ابتُلي به قرناؤهم وجيرانهم وأقاربهم,الذين لم ترحمهم سنتهم العجفاء من سني النيل التي ابتلي بمثلها أجدادهم أيام يوسف الصديق عليه السلام,وماذا عساهم يفعلون وهم من لم يأل جهدا,أو يدخر وقتا أو راحة,ولم يصرفه صارف من صروف أيام تداعت عليهم قاصمات فاتكات حاسمات, لكن إسماعيل والذين معه علي جلل ما وسعهم لم يشغلهم شاغل عن العناية بقراريط أرزهم,محصولهم الرئيس وقوتهم وساتر حالهم,وحين استغلظ ضن النيل بمائه, وتعطلت سواقيهم وجفت آبارهم, طفقوا يحملون شحيح الماء علي ظهور ودوابهم وظهورهم, فما أغني عنهم ذلك شيئا,وخلا الجو وطاب الأمر لحشائش الغلت والدنيبة والسِعد والحندقوق والزفون,فاستوحشت واستأثرت يقليل الماء,وجهدت شجيرات الأرز البائسات اللواتي ترأفن بدموع إسماعيل وأخوته وتذكرن سابق عطائهم وحدبهم عليهن فترأفن بهم وأشفقن علي صغارهم وتوجسن غائلة جوع لا يرحم وطائلة جبار لا يعبأ,وعز لديهن أن يحرموهم من عطائهن اللواتي أبصرنه شحيحا هزيلا,لا يقي ولا يكاد يغيث,وكاد الجرن أن يبكي حال إسماعيل وإخوته ومواسم حصاد وأفراح آفلات, كان ساحتها, إبانها كان ذلك الجرن يتباهي مثلما تتباهي أجران القرية بفيوض من الأرز,أبي الرجال الذين أذروها إلا أن يزينوها بألواحهم ومذاريهم وأدواتهم, فجمعوها في أهرامات اسطوانية ورسموا عليها بألواحهم ومذاريهم وأدواتهم لوحات رائعات, وهم يكبرون ويهللون قبل أن يفيض عليهم صاحب الجرن بأجرهم العيني من الأرز الذي يكفيهم عامهم القادم ويزيد,ويمتد الفرح بأولئك الفلاحين,فلا يردون سائلا ولا صاحب عادة, فكان الحلاقون والبياطرة ونجاروالسواقي, والقياسون ومشايخ الطرق الصوفية وبائسوها واللائذون بها,وشيوخ الكتاتيب وقارئو القرآن ومرابعو الترع وبروجية المصارف وحفاروها وخفراؤها وكتبة أحوالها وفقراؤها ومتسولوها وعابروها, وضعاف أراملها ومرضاها, وأرباب العادات والعاهات كل أولئك وغيرهم كانوا يدلفون إلي الأجران فيرتزقون من خيرها ويدعون لأصحابها بدوام الرزق والبركة والستر الذي لا ينكشف.

... نعم انقضت تلك السنوات الطيبات وهاهي سنة من السنين السود التي أعقبتها ورافقتها مجاعات وأوبئة كانت تخلي قري كاملة من أهلها يهلك منهم من هلك ويرحل من وسعه الرحيل إلي حيث تسعهم قري أخري كانت بمفازة من ذلك الهول الفاجع,ووسعت أهلها خزائن الطين الأسطوانية الطويلة الحافظة بذخائرها ومدخرها من الحبوب,قمحا وأذرة وأرزا وشعيرا وبصلا وثوما,لقد كاد جرن إسماعيل وأخوته أن يكون قفرا يبابا إلا من قليل من الأرز جهدت به الأرض ما وسعها الجهد ,فلا يكاد يروي غائلة ولا يرقأ جوعا,وخال الرجل وأخوته أن إبراهيم كتخدا وجلاوزته سوف يرفعون عنهم سطوتهم وسياطهم ويعفونهم مما اعتادوه في الأعوام المنصرمة من نهبهم لما كانت تثمره الحقول والغيطان والبساتين, فأني لهم ذلك وقد عزت محاصيلهم ونفقت مواشيهم وطيورهم وما بقي لهم من ذلك إلا ما ادخرته السماء منها حتي لا تذوي أو تنقضي وتبيد.

... كان ظن إسماعيل وأخوته وأضرابه,حلما بعيد المنال,حيث لم يغن الحال إبراهيم كتخدا وكلابه, الذين أوعزوا إليه أن الفلاحين هنا ,أكثر الناس لؤما ومكرا وتحسبا وأغناهم مالا ومتاعا وأنهم يدخرون ذلك في سراديب عميقة, تنوء فيها صفائحهم بشتي العملات الذهبية والفضية,من دوكات وريالات ذهبية بوطاقة وأسدية, وبارات وأنصاف فضية سليمانية, وأن مخابئها تظل أسرارا لا يعرفها غيرهم,وفيها ما يكفيهم ويزيد من مدخرات سنينهم الفائتات ,للوفاء بحق الملتزم ورجاله الواجب,فاستشاط الرجل غضبا واستحضر إمام السوء وبعض معاونيه ومنتفعيه وخائفيه من مشايخ القرية وأعيانها,وسألهم عما أٌوعز به إليه ,من مكر ولؤم فلاحي كفر سليمان,فتمتموا وأبهموا ثم انبري إمام السوء مؤكدا في خبث وضعة لا يباريه فيه أحد,أنه لا يتهمهم ولا يبرؤهم,فأقسم إبراهيم كتخدا ليصلبن علي عرائس الخشب كل من يتأخر عن سداد كيلة واحدة من الأرز, أو نصف فضة من النقود, وسوف ينتزع نساء وأطفال كل من يهرب أو يأبق ويتمرد,ولن يوقفه في سبيل ذلك أمر حتي لو مات أهل القرية ونساؤهم أجمعين.

... تواترت تلك الكلمات وتناهي صدي تلك الغضبات إلي الناس في كل مكان فهالهم وأفزعهم و باتوا في هم وروع جاثم علي قلوبهم وصدورهم لا يريم,وحين عاينوا مصارع بعض من عُجل بهم أيقنوا أن لابد مما ليس منه بد,وألا نجاة لهم إلا بالتسربل بظلام الليل الدامس والتماس الأمن والنجاة في فلوات البراري الموحشات القاتلات الفاتكات العامرات بالفواتك والزواحف والقوارض والهوام, الجاثمات غربي الفرع الشرقي للنيل المنسوب إلي دمياط, والممتدة إلي نهايات بحيرات غربي الاسكندرية.

... أرخي الليل سدوله وأوغل الظلام فأجمع إسماعيل وأخوته أمرهم أن يتركوا بيوتهم وحقولهم سريعا هربا من مصير أسود وغائلة لا ترحم, قبل أن يفطن إبراهيم كتخدا وجلاوزته فيسعون لمنعهم أو يرتهنون بعضا منهم فلا يهرب الآخرون,واستعاد إسماعيل أبيات كان أبوه يرددها عليه وعلي جلسائه و صغاره في قيلولتهم حين تسعهم ظلال شجرة التوت العجوز فتفيئونها ويتناول غداءهم, ويروون من قلل الماء الباردة المعلقة علي جذعها صداهم:



و إذا خشيت تعذرا في بلدة..فاشدد يديك بعاجل الترحال
واصبر على غِيَر الزمن فإنما..فرج الشدائد مثل حل عقال


...استرجع إسماعيل تلك الأبيات علي أخوته,علي حين قبعت نساؤهم خارج المندرة وقد تشبثت بهن صغارهم ,يرقبن واجفات حسيرات يائسات عاجزات مشفقات,ولم يمهل إسماعيل أخاه عطيه وهو يستمهله أياما حتي يري ماذا عساه أن يحدث,فنهره متمثلا حكمة والده ,استيقانا منه بمصير مرعب وهول مفزع ,فبيتهم من البيوت التي كانت متهمة دوما بالستر والغني,لعفتها وأمانتها وكرمها ومتدفق عطائها الذي لا يرد مسكينا ولا مريضا ولا سائلا خاوي الوفاض,وأعز إلي النساء أن يجمعن ضروريات الملابس وأن يعددن أطفالهن لليل البرية القارس الطويل ,وأمر أخوته أن يحملوا علي حميرهم ما أمكن لهم من متاع وطعام,وأنبأهم أن وجهتهم قرية الخاشعة في حفير شهاب الدين فبها بعض من أقاربه ,وأن طريقهم إليها لن يكون المسلوك المألوف من السبل والدروب وإنما عبر البرية التي لن يتتبعهم فيها متتبع ولا يفجأهم مفاجئ مطارد, مخافة الأفاعي والحشرات والذئاب ,ولا يعرف مسالكها إلا من خبرها وبلاها, وأنبأهم إسماعيل أنه سلكها مع بعض من معارفه يوما ما,وصولا إلي عزبة ميت زنقر ,وهناك دفعوا مبلغا كبيرا حلوانا لبعض اللصوص الذين أقاموا في بريتها مقابل استعادة مواشيهم المسروقة.

.... لم يتوان القوم وسرعان ما احتوتهم البرية وأخفاهم غابها وذهب نعيق بومها ونعيب غربانها ونقيق ضفادعها, بأصواتهم ,واستغرقهم ليلها الطويل أياما عديدة كلت فيها جهودهم وتغضنت وجوههم واكفهرت قسماتهم,ورزح الهم علي صدورهم فلم يستثن منهم صغيرا ولا كبيرا ولا رجلا ولا امرأة, حتي باتوا علي أعتاب قرية الخاشعة,فأمرهم إسماعيل أن يلبثوا بأطراف البرية الي حين ينتصف الليل, فلا يراهم أحد حين يدلفون إليها,فلطالما سمع إسماعيل إبان جلساته في أعطاف أبيه صغيرا في مجالسه مع نظرائه في المصلاة الوادعة ,علي ضفة ترعة الساحل عمن كانت تتلي أسماؤهم في المساجد أو يطوف بها منادي القرية زاعقا صارخا منوها بوجوب عدم استقبال كل متسحب من قريته أو متاواته وإيوائه وأن من أوي واحدا منهم ولم يبلغ ملتزم القرية ومتكلميها وولاة أمرها به فلا يلومن إلا نفسه.

... لبث القوم نهارا باردا ثقيلا يستخفون بشجر الطرفة وأعواد الغاب والبوص والبردي حتي إذا جن الظلام واختلط,واستكنت الخاشعة وأهلها في سبات عميق وصمت مطبق تحسست أصابع إسماعيل باب أبي بدير ابن عمه الذي نهض متثاقلا متشككا فما ألف أن يعتاده أحد من القرية في هذا الليل البهيم,وفتح الباب فأبصر أشباحا متضورة من الإرهاق والألم والخوف وتحسس ملامحهم وقسماتهم فعرفهم ووسعهم صدره وقلبه مثلما,وسعهم بيته وأهله وشحيح قوته ورزقه من أرضه وصيده,ولبثوا معا إلي أن جرت في النهر مياه جديدة.


( صدر هذا الفرمان المطاع الواجب القبول والإتباع من ديوان مصر المحروسة خطابا إلى حاكم ولاية البحيرة سليمان بيك والي ذو الفقار بيك حاكم ولاية الغربية دام عزهما,وإلى أقضي قضاة المسلمين وأولي ولاة المؤمنين,معدن الحق واليقين,مولانا قاضي ولاية البحيرة ومولانا قاضي ولاية الغربية,دام فضلهما,والي المتسلمين وقيام المقامات,والمتولين, والصوباشية والجوربجية, والسدادرة والعسكر وغفرا الأدراك وقيام مقامات البلاد ومشايخ العربان ومشايخ البلاد وجميع المتكلمين بها, نعلمهم أن قري وعزب نواحي براري حفير شهاب الدين والحامول وبيلا والبرلس وبلطيم قد تسحبت إليها جموع من العاصين والهاربين من أغراب وفلاحين من قري خط البحر كفر سليمان البحري وتوابعها وكفر البطيخ وميت أبوغالب وكفرها والسوالم والأحمدية وغيرها,الواقعة جنوب ثغر دمياط المحروس,وتسبب ذلك فى تعطل زراعاتهم وفلايحهم والقيام بما عليهم من المال الميرى وأن أمير اللواء إبراهيم كتخدا مستحفظان قابودان ثغر دمياط المحروس دام عزه وملتزم نلك النواحي,قد قدم عرض حال شرح فيه أنه تأخر عليه وعلي الملتزمين بتلك النواحي من باطنه مال ميرى كثير,وأن السكان والرعايا المقيدين بسجلات التزام القري المزبورة قد باتوا قليل ,بعد أن تسحب كثيرهم,فبموجب ذلك أصبحت تلك البلاد خاربين, وبموجبه طلب منا فرمانا,أن كل من يدخل نواحي براري حفير شهاب الدين والبرلس وبلطيم والحامول وبيلا وبلقاس وبسنديلة وبهوت وكفرها,ولم يتقيد فى سجل البلدة التي يضبط فيها,يقبض عليه وعلي كل من معاه, كبيرا وصغيرا وشيخا وامرأة وطفلا,ويقيدون في سلاسل الحديد علي وجوه التنكيل والهوان والإذلال, ردعا لأمثالهم,ويخرج بهم صوباشية وجوربجية ومشدات وغفرا من النواحي التي يضبطون بها,علي وجوه البت والسرعة ليعودوا إلي بلادهم لمحاكمتهم والقصاص منهم وزراعة فلايحهم,حتي لا يتأخر أو يضيع مال السلطان,الذي لابد أن يطلع ولو من بين الضفر واللحم, وبعد قيد الفرمان يكون ِإجهار المناداة في كل النواحي المذكورة,أن كل من يعارض الحكام المذكورين ويتاوي أحد من أولئك المجرمين أو يتحامى به, فلا يلومن إلا نفسه,كون أن بعضهم جمع لموم من المتسحبين العصاة وأولاد الليل وأهالي البراري, من الخاشعة وبلقاس وبسنديلة وبهوت وكفرها ,ودليلهم وكبيرهم هو إسماعيل أبو سليمان وأخوته وعطا الله أبو عامر وأخوته وشحاته الزهداني وأخوته من أهالي كفر سليمان البحري المذكورة بجملة حوالي ستماية نفر خياله ومشاة لموم ,رمحوا على قرية كفر سليمان المذكورة وقت الفجر وقصدوا خرابها والانتقام من إبراهيم كتخدا مستحفظان ملتزمها وتابعه محمد جوربجي قايم مقام ورجالهم, كونهم قبضوا علي جماعة من فلاحي كفر سليمان وضربوهم بالعدة والكرباج لتأديبهم لأنهم تأخروا عن سداد ماعليهم من ميري وبراني وخلافه, فنفذ فيهم أمر الله وماتوا تحت الضرب فى أواخر شهر شعبان سنة تاريخه أدناه, وفر الملتزم المذكور الي ثغر دمياط, وقتل إسماعيل أبو سليمان من الفلاحين المتسحبين العصاة واللموم التي رمحت معه ,قايم مقام الناحية محمد جوربجي وثلاثة وعشرين من العسكر العثمانلية وخمس مشدات,وحرقوا موجودات الوسية وغيطها, وثلاثة وعشرين كوم دريس ومائتين فدان قمح وكسروا ثمانية عشر ساقية وسحبوا من الدوار ألفا ومائتين وثمانين رأس غنم ومائة وخمسين جاموسة وخمسين فحل جاموس وستين ثور بقر وخمسة عشر جملا ومصاغ ونحاس وفرش ومليوس,وخلافه معين ذلك كله بقائمة بعلم الذاهب والمنهوب,وعليه بعمل بذلك علي وجوه السرعة والحسم والإبرام, كون إن قايم مقام مصر هو الذي كتب هذا الفرمان فحال وصوله إليكم تعملوا اللازم بدون تقاعس أو تسويف والاعتماد فى ذلك على الكف المفخم والختم المكرم فى سادس ربيع الآخر سنة ستة وتسعين ومائة وألف من الهجرة ..) .............

الأستاذ الدكتور/ عبد الحميد سليمان

الدمام 28/1/2010م

د أنس البن
05/02/2010, 09h43
أستاذنا القدير وصديقنا العزيز الدكتور عبد الحميد بك سليمان
لا أخفيك سرا أنى قرأت هذا النص الأعجوبه "المتسحبون" مرات ومرات , وهو بحق أعجوبه بداية من عنوانه الذى تم اختياره بعناية فائقه بحيث أنه يستحيل استبداله بمرادف لغوى آخر , حتى ذلك الفرمان العجيب وكأنى أستمع إليه سماعا بصوت مولانا الشيخ عبد الرحمن الجبرتى ,وليس نصا مقروءا لمولانا الدكتور عبد الحميد سليمان فى سماعى ,
المهم قرأت النص مرات باستمتاع عجيب كما أسلفت وكأننى أستعيد قصيدة أم كلثوم المحببة الى نفسى كيف مرت على هواك القلوب أو مايعرف بهوى الغانيات , وفى كل مرة أشعر أنى أستمع اليه للمرة الأولى , كذلك المتسحبون , وأعترف أنه كان عصيا أن يهضمه عقلى القاصر ووجدانى من المرة الأولى , كان أشبه بوجبة طعام مليئة بكل صنوف الدسم والمتبلات والمقبلات يتوسطها دكر من البط العتيق المحشو بخلطة الفريك والمكسرات والزبيب ,,,,,
أدعو أحبابنا أرباب الأدب والشعر الى تلك المائدة العامره الثرية لغة وتاريخا وسردا وبما تحويه من معان وفلسفات لعل أروع مافيها لغة الأحذية التى وردت بشكل عابر فى بداية النص , وإن كنت أتمنى من أديبنا الكبير راجيا منه أن يضع تلك الفقرة خلف البروجكتور الإبداعى وأنا على ثقة أنه سيخرج علينا نص إبداعى فلسفى كبير
وبعد ..... فأنا لم أكتب بعد شيئا حول هذا النص الفريد الدسم , وأستسمح أستاذنا الدكتور عبد الحميد سليمان فسحة من الوقت أكتب بعدها مايليق بهذا الإبداع ,
لكنى أدعو أخواى سيد أبو زهده ورائد عبد السلام , وأختاى عيون المها ورغد اليمينى , وحبيبى المهندس محمد على , وكل سماعى مهتم بالأدب الرفيع ............
لقراءة متأنية فاحصة لهذا العمل الرائع بكل مايحويه من دلالات تاريخية وسياسية ولغوية وفلسفية واجتماعيه

أحييك على إبداعك يا أستاذنا وأكرر اعتذارى عن التأخير والتقصير

abuzahda
05/02/2010, 10h13
:emrose:أستاذنا الدكتور عبد الحميد سليمان:emrose:

هذه درةٌ تالية تنضدّها بعقد هداياك :emrose:لآل البن الكرام:emrose: (بلدياتك)
،


أخذتني إلى أجواء رائعة أستاذنا جمال الغيطاني : الزيني بركات

حيث الوقوف المتمرّس بين التأريخ الموثق و القصّ

فلا يجير أحدهما على الآخر

،
ربما - أيضاً - ما استحضر ، الزيني بركات ، لمخيلتي ....
زمن الأحداث

بينما تبقى لغتك المتفردة بعبق التراث ، رايةً تلوح على هامة نصوصك

،

و كما تفضل سيّدي الدكتور أنس
أدعوا الأحبة إلى قراءةٍ متأنيّة لمزيدٍ من المتعة

،

لا حـُرمنا إبداعك سيّدي



.

عبد الحميد سليمان
05/02/2010, 19h04
بسم الله الرحمن الرحيم
عزيزي الحبيبين المبدعين الكريمين,الأديب الكبير والمعطاء المفضال الإنسان,الدكتور أنس,والأديب الموهوب القابض علي وطنه المستغرق رغم البعد والإغواء والشغل بتفاصيل وطنه وملامحه المتوسدة في سويداء قلبه وضميره الأستاذ سيد أبو زهده000 أعزائي وأحبائي اللذين شغلني غيابهم شغلا كبيرا واستمطرني الدعاء فلهجت به عل الله الرحيم أن يفرج كربهم ويشفي أبدانهم ويرفع عنهم ,ويسترهم ويسترنا جميعا بستره الذي لا ينكشف00مدام ناهد و عفاف سليمان و عيون المها والأحباء الأعزاء الأدباء الموهوبون علاء قدري وطارق العمري ورائد عبد السلام وتلك الوجوه النيرة التي شرفت أيما شرف بلقائها في واحة الدكتور أنس بك البن في الجمالية وكل أولئك الأدباء والنقاد الذين تستريح نفسي ويهدأ خاطري كلما قرأت عنوانا جديدا وإبداعا رائعا لهم في صفحات هذا المنتدي الفذ الفريد,وليعذرني الجميع عن قلة تفاعلي وأقسم جاهدا أنني ماشغلني عنكم سوي همومى الثقال خاصها وعامها, 000عزيزيّ الأديبين الكريمين أشكر لكما طيب تعبيركما وتواصلكما وحساسيتكما الأدبية والإنسانية ونباهتكما التي استكنهت ما في هذا النص من دلالات ومعان, نعم أخوي الكريمين أرأيتما أبخس بضاعة وأتعس حظا وأسوأواقعا ومصيرا ,من شعوب يتواتر عليها الهم المعاد المتكرر دونما تبدل أو تحول أو تغيير وإن حاولت أسماء وألفاظ وأجواء أن تقطع هذا الهم عن تواتره التاريخي من ذاكرة شعوبنا العربية وفي الطليعة منها شعبنا الحبيب وأهلنا, ترويضا له علي الهم وشغلا عن العلاج وقتلا للروح وسعيا الي تغييب وعيه وصرفه عن مستكن ألمه وثنيه عن الانتفاض لتغيير واقعه, عزيزي الحبيبين الا تعيدان معي قراءة المثل المصري البسيط (الدار دار أبونا والغرب يطردونا) والقاعدة المنطقية التاريخية أن التاريخ لا يعيد نفسه الا علي الأغبياء والضعفاء وليست ولن تكون أمتنا من الأغبياء ومستمرئي الذل ومعتادي الخنوع والتخلف ,إن تلك الأمة هي التي قادت العالم من وهدة العصور الوسطى وزيف الأساطير وقسوة الطغاة الي آفاق العلم ورحابة المستقبل وجنة الحرية والمساواة والعدل 0أوليست قضية كفرسسليمان البحري وأشباهها ومثيلاتها في القرن السابع عشروالثامن عشر0 والتاسع عشر والعشرين , هي مشكلتهم في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ,من هنا أخوي الكريمين جاء هذا النص وأجزم صادقا أن هذا الموضوع قد تكرر كثيرا في وثائق تاريخ مصر التي عاينتها وقرأتها وضمّنت بعضها في كتاب لي سوف أصدر منه نسخة بالعربية قريبا إن شاء الله في منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان(العلافات بين قري الدلتا في مصر في القرنين 17و18الميلاديين"دراسة وثائقية لظاهرة العنف" )وأزعم أن مثل هذا الدراسات غير مسبوقة علي الاطلاق وسوف ترون فيها العجب العجاب من سيرة هذا الشعب الأبي الذي صورته زيفا وكذبا أقلام عديدة غربية جائرة زائفة مغرضة خبيثة, وعربية ساذجة جاهلة حائرة ملتاثة بأنه قد استمرأ الذل والخنوع حتي غديا أليفين وصنوين له,لايبرحانه ولا يبرحهما, 00يبقي شكري الجزيل ولا أخفيكما أن مثل هذا المستوي الر فيع من الفهم والتفاعل يفعل بي الأعاجيب ويد فعني الي أن أنفق جل وقتي وأدخر شيئا من همتي الي مزيد من الابداع الادبي والكتابة فبارك الله فيكم أجمعين00وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته00أحوكم عبد الحميد سليمان