المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أم فوزية ـ إهداء إلي بلدياتي وأخي الأديب الدكتور أنس ومدام ناهد والأستاذ رائد


عبد الحميد سليمان
23/12/2008, 20h16
بسم الله الرحمن الرحيم


أم فوزية


... ارتج على ابن العاشرة وحار عقله وذهبت به الظنون مذاهب عددا ,وتطلع من حوله مستغربا ما يري مما لم يعهده ولم يتوقعه,حينما أدارت أم فوزية وجهها عنه ولم تعن بما اعتادته معه من اهتمام وما يتلمسه لديها من حكاياها التي ترويها بألم ولوعة تجوب بابن العاشرة عوالم من الألم الشجي الذي يستعذبه ويتعذب به ,عن حياة العز والرفاه التي عاشتها في كنف أبيها وأمها قبل أن تدير لهم الأيام ظهرها وتذيقهم بأساءها وتسرف في غلظتها وقسوتها .

... ويتغلغل وقع حديثها في نفس الفتي وتدرك ذلك من قسمات وجهه التي تشي بمعتملات نفسه ,فتغويه به وقد تيقنت من رغبته وتشوقه وتشوفه واستعذابه للأمر واستغراقه فيه وتألمه الذي كانت تشي به ملامحه, لقد كانت تبدو له كمن ينتظر ذلك الحديث ويتحسسه ولا يتصنعه,وهاهي تنصرف عنه وتنشغل ولا تأبه للفتي الذي أصابه من جراء إعراضها واشتغالها عنه ألم ودهشة قاربتا الذهول .

... استعاد ابن العاشرة ذاكرة أيام قريبة تكاد لا تزيد عن شهور من تلك المنصرمات اللواتي لا تزال شاخصة ماثلة أمام عينيه وفي ذاكرته عندما كانت تقوم بما اعتادته من عمل في تجهيز وصناعة فضلات المواشي وجعلها دوائر ثم تطرحها إلي الأرض لصقا فتسعي إليها أشعة الشمس المتلمظة, وسرعان ما تتحول تلك الأقراص عن حالتها ولزوجتها ولونها إلي جفاف يجعلها وقودا مناسبا للنيران التي كانت تشتعل بها أفران ومواقد الطهي والخبز في قري دلتا مصر وصعيدها حتي أواخر ستينات القرن المنصرم ,ثم آنس ظنه بهذه الأرملة إلي أن شاغلا جللا قد صرفها عنه أو أن جنيا ممن اغتابتهم كثيرا في شائق حديثها إليه قد تربص بها كيدا واذهب منها لبا وعقلا, فبدت ذاهلة لا تكاد تعي ما حولها أو تكترث له .

... كانت أم فوزية تقوم علي هذا العمل عصر كل يوم في تثاقل وتباطؤ ووهن لا تخطؤه عين , وتستحث بضعفها وألمها وعذب حديثها ابن العاشرة فيجود عليها طائعا مستعذبا متألما بما أمكنه من مال أو طعام أو يدخر لها بعضا مما تحبه من الحلاوة الطحينية وقد يعينها علي ما أجهدها وأثقلها من عمل سعت إليه واغتبطت له حين أوكل إليها وضمنت به لها ولابنتها به ذلك النزر اليسير من الرزق الذي كانت تختلسه اختلاسا, فلا يعرف طريقه إلي جيب أخي زوجها المتلمظ المتوثب الذي لا يقنع بما تعطيه له من أجر أعمالها اليومية في الحقول لقاء إعالة عاجزة ضنينة شحيحة, وقد جعلها ذلك تتوجس وشاية الواشين وحسد الحاسدين ممن قد علم به من قريناتها ورفيقات رحلات عملها اليومية اللازمة الشحيحة البائسة ,التي كانت حينما تأتي مواسمها ويئن أوانها لا تعبأ فيها بموغل حر أو قارس برد وتقضي ساعتها الثقيلة البطيئة في تنقية الحشائش والغلت من حقول الأرز والقمح أوفي جمع القطن وغير ذلك مما اعتادته الغيطان والحقول واضطلعت به بائسات الريف والمترملات اللواتي انقطع شحيح أرزاقهن بانقطاع ورحيل أزواجهن غواية أو موتا أو إباقا أومرضا, لقد سعت أم فوزية إلي والد ابن العاشرة وتوسلت صامتة رضاه أثناء عملها في حقله وأبدت إخلاصا لم تخطؤه عيناه فارتقي بها ذلك إلي ما طمحت إليه وأضمرته من نوال ذلك العمل عصر كل يوم وضمنت بذلك قروشا وبعضا من لبن أو بقل أو شيئا مما يجود به الزرع والضرع فاستعانت به علي حوائج أيامها القائظة القاسية, وادخرت ما كان يتبقي منه لتجهيز وحيدتها حينما تهل شمس خاطبها ويقدم عدلها فتشرع آنئذ في تجهيزها وشوارها,بعد أن أيقنت أم فوزية أن سوف يعجزها ما يحتاجه الأمر وقد غاض لديها المعين وعز النصير وأنكر وتجاهل القريب .

... كانت فوزية صبية جميلة نضرة عاشت بعد موت أبيها مع أمها في كنف عم قاس,ألجأه إلي احتضان زوجة أخيه وابنتها خوف من لاذع ألسنة أهالي القرية التي تري في من يفعل ذلك متخليا عن لحمه ورحمه وواجبه ,ومثل أولئك يواجههم من الناس لوم وسخط وازورار,وما انفكت زوجته تتهمه وتتشكك في نواياه وتتوجس زواجه من أرملة أخيه بحجة حماية زائفة وصون عرض واجب ورعاية مغرضة لأسرة الراحل الحبيب,والرجل كان أعلم وأخبر بصولة زوجته ولا يدعي لنفسه قدرة علي مجابهتها ,مثلما كان يدرك أنه أعجز عن تحمل تبعات و معقبات زواج أو انسلاخ عن أرملة أخيه وابنتها, وهو من تقوم حياته ومعيشته علي العمل لدي أهالي القرية في الحقول بأجر يومي لا يكاد يقيم الأود ,فكيف يتجهيز وشوار ابنة أخ شاركه فقره مثلما شاركه اسمه وأبويه ومسكنه في حجرتين تعاونا في إنشائهما ومثلتا لهما حلما بعيد النوال وصعب المنال إلي أن أمكنا منهما .

... كانت أم فوزية تعي الأمر ورقة الحال وقسوته,وتتوجس المآل, فنهضت إلي اللحاق سريعا بمن كانت ترثي لهن من عاملات اليومية البائسات, وأبت عليها بقية من كبرياء وذكري ثراء حازه جدها وأطاح به أبوها في حياته الغابرة القصيرة التي استغرق الحشيش والأفيون سوادها وموجوداتها, بيد أنها أوصدت أبواب أوهامها وحزمت أمرها واستسلمت لمقدورها ,فردعت تلك الأطياف والهواجس بعد أن أيقنت أن أخا زوجها لن ينهض بما لا يطيق ,وإن ظل وجوده مظنة ردع وحماية من بطشة زوج أو تحيف حماة أو شقيقات لابنتها في مقبلات أيامها ,وأفزعها مجرد تخيل أيادي إحسان لأقرباء أو غرباء تمتد إليها بقليل من عون أو مدد, وراعها شبح نظرات المن وما قد يصبح تاريخا وتصنيفا مطاردا ملازما لايرعوي عن جلد لأبناء لابنتها وأحفادها في مجتمع يتناسي أهله أمورا كثيرة وتقفر ذاكرته بما يمس مصائره وتاريخه ويشحذ همم أفراده, ويدفع غائلة أعدائهم,لكنه يستنفر الذاكرة والوقت والجهد ليلمزمن أقبلت عليه الأيام بما كان عليه الآباء والأجداد تصغيرا لشأنه وتحقيرا لحاله وتقزيما لطموحه .

... تحسست جارتها وصديقتها عديلة أمرها وحالها فحفزتها إلي العمل وصحبتها إليه وساعدتها علي بداياته ,وكانت عديلة ممن يقصدهم أثرياء القرية ويخصونهم بالعمل لديهم لأمانتهم وإخلاصهم فنجت بذلك من قسوة أيام البطالة وكثيرا ما أدركت فضلا من طعام أو لحم أضحيات جاد به من عملت لديه في مواسم حصاد أو في أعياد وأفراح أو أتراح ,ولم تتردد أو تتقاعس أم فوزية حين عرضت عليها عديلة ذلك ولم يردعها طيف كرامة ضائعة أو أطلال غني جدها واستغناء أبيها ,بعد أن أيقنت ألا سبيل لاستعادت أيامها الخوالي , وقد أمكنت من وعيها نظرات سلفها أخو زوجها وامرأته عند تناول شحيح وساذج الطعام الذي يكاد لا يفارق الفول ومشتقاته ويندر فيه اللحم والطير حتي يصبح يوم نوالهما ,ذكري عزيزة وطائفا رائعا وظلا ظليلا في هاجرة معتاد البصل والفول والمش, ,كانت تلك النظرات تشي باللوم والكره وتكاد لولا الروادع تفصح وتبين, وأيقنت أم فوزية أن ما قد يجود به عملها في الحقول قد يحميها من سهام تلك النظرات وسيفها المسلط فلبت نصح عديلة وسعت بها ومعها إلي العمل فما ليس منه بد,أصبح جاثما متلمظا لا بد منه .

,اعتاد ابن العاشرة قدوم أم فوزية عصر كل يوم مثلما اعتادتها وألفتها ساحة الجرن و بهائم الدوار ودوابه ,ولمس فيها انزواء وحزنا دفينا,فاقترب منها وتحادث إليها وأمعن في ذلك متلمسا مستكنات ألآمها فباحت له بما تحسه وما ظنه بها, فاقتربت مشاعره منها ,لقد فعل فقدانه لأمه بنفسه الأفاعيل وأورثه رقة في القلب وحنوا ورحمة علي شبيهاتها وأترابها,وتحسس أخبارها وأحوالها واستثار ما أدرك وسمع مشاعره وأحاسيسه وعطفه وتعاطفه مع أم فوزية ,وطابت له واستعذبت نفسه رؤية انشراح أساريرها وانبساط قسماتها حينما كان يمنحها ما أمكن له أن يختلسه من مصروف أو حلوي مما كان يمده به أبوه او أعمامه وما يجود به أخواله المشفقين علي ميعته ويتمه, ففاض عليها بكثير من الملاليم وبعض من التعاريف وقليل من القروش ونادر من الحلوي .

... حكت له أم فوزية واسترسلت عن تقلب الأيام وتبدل الأحوال وعما كانت ترفل به في سنوات زواجها العشر الأولي من رغد وطعام ولحم وطير وما لم يبخل به أبوها عليها من لباس وزينة ,وكيف تقلبت بهم الأيام وما كان من صرعة أبيها حزينا كاسفا مغيب الوعي بعد أن باع ما ورثه عن أبيه من قراريط وأنفق ثمنه علي جلساته وجلسائه وأحواله في عالم الكيف وسحائب الحشيش والأفيون ,ثم موت أمها حسرة وألما ومرضا تاركة وحيدتها بلا عون أو سند فتلقفتها يد المرحوم وحجرته بعد أن رضيت به علي ضعة حاله,زوجا بعد أن وعي الخطباء والشباب أمرها وفقرها فصرفوا نفوسهم وعقولهم وقلوبهم إلي من يستدفئون بمالهم وجاههم, وأوغلت أم فوزية في بثها وحزنها وشجو ما تربصت به أيامها ,إلي نفسه وتلمست شغاف قلبه وعطفه وتألمه,واستعذب الفتي الحكي مثلما استعذب الألم وغدا ينتظرها كل يوم ويجهد في مساعدتها وتقديم العون لها ليستزيد من حكياها دون أن يعلم بأمرهما احد .

... ألح ابن العاشرة عليها سائلا عن سبب تلهفها واستدعائها لهمتها الغائبة في العمل واستغنائها عن مساعدته وانشغالها عنه,وحين بدا لها ألمه ولاحت بوادر غضبه ,تنبهت وخشيت مغبات ذلك ومعقباته ,فأجابته حين انتهت من غسل يديها وتأهبت للرحيل في صوت لا يكاد يسمع وعيناها تدور مخافة رقابة رقيب أو فجأة قادم : مفيش حاجة بس البطة اللي عندنا وقعت من السطح ولحقها عم إسماعيل بالسكينة قبل موتها ونفسي الحق نصيبي أنا وابنتي منها في عشائنا اليوم .... تدفق شلال الألم وتكاثف الدمع وتدافعت وتراكضت الأسئلة في نفس وعين وعقل ابن العاشرة, وحين استفاق كانت أم فوزية قد انطلقت إلي البلدة لا تلوي علي شيئ ..

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام 24من ديسمبر من سنة 2008الآفلة

د أنس البن
24/12/2008, 04h26
أستاذنا الدكتور عبد الحميد سليمان
سلام الله عليك ورحمته وبركاته
جزيل شكرى وامتنانى على الإهداء وعلى تلك المتعة اللغوية والأسلوب الأدبى الرشيق الذى يعيدنا ويذكرنا بجيل العمالقة الكبار يحى حقى ومحمد عبد الحليم عبد الله وعبد الحميد جوده السحار وعلى أحمد باكثير وغيرهم من أولئك الأعلام
متعه فى القراءه , موضوعا وسردا ولغة تغوص فى أعماق الواقع فى الريف تصور شخوصه وأرضه ومصطلحاته ومفرداته تصويرا فذا رائعا
أحييك يا صديقى العزيز وأقدم لك التهنئه على هذا العمل الإبداعى الجميل ..........

NAHID 76
25/12/2008, 13h14
بسم الله الرحمن الرحيم
الدكتور والأديب عبد الحميد سليمان
جزيل الشكر والامتنان على اللأهداء اللطيف من حضرتك
مضافا الى ما كتبه الدكتور انس
سأتناول الرد على القصه من جانب أخر أو زاويه قد تغيب على ألكثيرين بالمنتدى لعدم معرفتهم بها من سكان المدن بالذات
وحتى يصل اليهم فعلا كيف ان عشاء به بطه مدبوحه بعد ما وقعت من على السطح ولحقوها ده امر جلل
وصحيح ويمثل فعلا شيئ لدى بطله القصه
سيدى اسردت فى سلاسه بالغه وتصوير رائع محاكى للواقع قصه سيده من العاملات باليوميه لسد رمق العيش
وكم تقاسى وتعانى من اجل الوصول ألى ما يسد جوعها واسرتها بعد فقد الزوج
واعتقد أن من يعرف الريف حقا سوف يستمتع بهذه القصه ايما أستمتاع
صورت الغلت فى حقول الارز
والقطن وجمع الدوده من ورق القطن طبعا قبل ما يدخل مبيدات القطن الى ضيعت اقتصاد مصر من القطن طويل التيله
هل تتذكر سيدى طائرات الرش الصغيره فى موسم القطن وكيف كنا ننتظرها لانها تقضى على الناموس
صورت سيدى حياه فلاحه تعانى شظف العيش وتقع تحت سيطره شقيق زوجها بعد وفاته وهذه طباع اهل الريف الاصيله
صورت حسرتها ولذتها فى سرد الايام الخوالى لما كانت بتاكل الزفر يعنى الطيور لمن لا يعرف اللفظ
والله يا دكتور ما قصرت ولم تزيد على الواقع شيئا بل لم تستفيض فيما هو اكثر من ذلك
ولسكان القرى فى عمر الخمسين اقول لهم تمتعو بهذه القصه
تاما سكان المدن فى عمر الثلاثين اقول لهم اعرفو امور لم تمر عليكم وشوفو أد ايه كانت الحياه صعبه على ام فوزيه
وكل ام تعانى الفقر فى الريف وتعمل باليوميه
اما عن بطل القصه زوالعاشره من عمره فهو حزين لان ربما لم يكن يدرك مثل هذه الحياه فتألم لألامها
دكتور عبد الحميد
صدقت
تحياتى

abuzahda
25/12/2008, 16h38
بسم الله الرحمن الرحيم







أم فوزية



... ارتج على ابن العاشرة وحار عقله وذهبت به الظنون مذاهب عددا ,وتطلع من حوله مستغربا ما يري مما لم يعهده ولم يتوقعه,حينما أدارت أم فوزية وجهها عنه ولم تعن بما اعتادته معه من اهتمام وما يتلمسه لديها من حكاياها التي ترويها بألم ولوعة تجوب بابن العاشرة عوالم من الألم الشجي الذي يستعذبه ويتعذب به ,عن حياة العز والرفاه التي عاشتها في كنف أبيها وأمها قبل أن تدير لهم الأيام ظهرها وتذيقهم بأساءها وتسرف في غلظتها وقسوتها .

... ويتغلغل وقع حديثها في نفس الفتي وتدرك ذلك من قسمات وجهه التي تشي بمعتملات نفسه ,فتغويه به وقد تيقنت من رغبته وتشوقه وتشوفه واستعذابه للأمر واستغراقه فيه وتألمه الذي كانت تشي به ملامحه, لقد كانت تبدو له كمن ينتظر ذلك الحديث ويتحسسه ولا يتصنعه,وهاهي تنصرف عنه وتنشغل ولا تأبه للفتي الذي أصابه من جراء إعراضها واشتغالها عنه ألم ودهشة قاربتا الذهول .

... استعاد ابن العاشرة ذاكرة أيام قريبة تكاد لا تزيد عن شهور من تلك المنصرمات اللواتي لا تزال شاخصة ماثلة أمام عينيه وفي ذاكرته عندما كانت تقوم بما اعتادته من عمل في تجهيز وصناعة فضلات المواشي وجعلها دوائر ثم تطرحها إلي الأرض لصقا فتسعي إليها أشعة الشمس المتلمظة, وسرعان ما تتحول تلك الأقراص عن حالتها ولزوجتها ولونها إلي جفاف يجعلها وقودا مناسبا للنيران التي كانت تشتعل بها أفران ومواقد الطهي والخبز في قري دلتا مصر وصعيدها حتي أواخر ستينات القرن المنصرم ,ثم آنس ظنه بهذه الأرملة إلي أن شاغلا جللا قد صرفها عنه أو أن جنيا ممن اغتابتهم كثيرا في شائق حديثها إليه قد تربص بها كيدا واذهب منها لبا وعقلا, فبدت ذاهلة لا تكاد تعي ما حولها أو تكترث له .

... كانت أم فوزية تقوم علي هذا العمل عصر كل يوم في تثاقل وتباطؤ ووهن لا تخطؤه عين , وتستحث بضعفها وألمها وعذب حديثها ابن العاشرة فيجود عليها طائعا مستعذبا متألما بما أمكنه من مال أو طعام أو يدخر لها بعضا مما تحبه من الحلاوة الطحينية وقد يعينها علي ما أجهدها وأثقلها من عمل سعت إليه واغتبطت له حين أوكل إليها وضمنت به لها ولابنتها به ذلك النزر اليسير من الرزق الذي كانت تختلسه اختلاسا, فلا يعرف طريقه إلي جيب أخي زوجها المتلمظ المتوثب الذي لا يقنع بما تعطيه له من أجر أعمالها اليومية في الحقول لقاء إعالة عاجزة ضنينة شحيحة, وقد جعلها ذلك تتوجس وشاية الواشين وحسد الحاسدين ممن قد علم به من قريناتها ورفيقات رحلات عملها اليومية اللازمة الشحيحة البائسة ,التي كانت حينما تأتي مواسمها ويئن أوانها لا تعبأ فيها بموغل حر أو قارس برد وتقضي ساعتها الثقيلة البطيئة في تنقية الحشائش والغلت من حقول الأرز والقمح أوفي جمع القطن وغير ذلك مما اعتادته الغيطان والحقول واضطلعت به بائسات الريف والمترملات اللواتي انقطع شحيح أرزاقهن بانقطاع ورحيل أزواجهن غواية أو موتا أو إباقا أومرضا, لقد سعت أم فوزية إلي والد ابن العاشرة وتوسلت صامتة رضاه أثناء عملها في حقله وأبدت إخلاصا لم تخطؤه عيناه فارتقي بها ذلك إلي ما طمحت إليه وأضمرته من نوال ذلك العمل عصر كل يوم وضمنت بذلك قروشا وبعضا من لبن أو بقل أو شيئا مما يجود به الزرع والضرع فاستعانت به علي حوائج أيامها القائظة القاسية, وادخرت ما كان يتبقي منه لتجهيز وحيدتها حينما تهل شمس خاطبها ويقدم عدلها فتشرع آنئذ في تجهيزها وشوارها,بعد أن أيقنت أم فوزية أن سوف يعجزها ما يحتاجه الأمر وقد غاض لديها المعين وعز النصير وأنكر وتجاهل القريب .

... كانت فوزية صبية جميلة نضرة عاشت بعد موت أبيها مع أمها في كنف عم قاس,ألجأه إلي احتضان زوجة أخيه وابنتها خوف من لاذع ألسنة أهالي القرية التي تري في من يفعل ذلك متخليا عن لحمه ورحمه وواجبه ,ومثل أولئك يواجههم من الناس لوم وسخط وازورار,وما انفكت زوجته تتهمه وتتشكك في نواياه وتتوجس زواجه من أرملة أخيه بحجة حماية زائفة وصون عرض واجب ورعاية مغرضة لأسرة الراحل الحبيب,والرجل كان أعلم وأخبر بصولة زوجته ولا يدعي لنفسه قدرة علي مجابهتها ,مثلما كان يدرك أنه أعجز عن تحمل تبعات و معقبات زواج أو انسلاخ عن أرملة أخيه وابنتها, وهو من تقوم حياته ومعيشته علي العمل لدي أهالي القرية في الحقول بأجر يومي لا يكاد يقيم الأود ,فكيف يتجهيز وشوار ابنة أخ شاركه فقره مثلما شاركه اسمه وأبويه ومسكنه في حجرتين تعاونا في إنشائهما ومثلتا لهما حلما بعيد النوال وصعب المنال إلي أن أمكنا منهما .

... كانت أم فوزية تعي الأمر ورقة الحال وقسوته,وتتوجس المآل, فنهضت إلي اللحاق سريعا بمن كانت ترثي لهن من عاملات اليومية البائسات, وأبت عليها بقية من كبرياء وذكري ثراء حازه جدها وأطاح به أبوها في حياته الغابرة القصيرة التي استغرق الحشيش والأفيون سوادها وموجوداتها, بيد أنها أوصدت أبواب أوهامها وحزمت أمرها واستسلمت لمقدورها ,فردعت تلك الأطياف والهواجس بعد أن أيقنت أن أخا زوجها لن ينهض بما لا يطيق ,وإن ظل وجوده مظنة ردع وحماية من بطشة زوج أو تحيف حماة أو شقيقات لابنتها في مقبلات أيامها ,وأفزعها مجرد تخيل أيادي إحسان لأقرباء أو غرباء تمتد إليها بقليل من عون أو مدد, وراعها شبح نظرات المن وما قد يصبح تاريخا وتصنيفا مطاردا ملازما لايرعوي عن جلد لأبناء لابنتها وأحفادها في مجتمع يتناسي أهله أمورا كثيرة وتقفر ذاكرته بما يمس مصائره وتاريخه ويشحذ همم أفراده, ويدفع غائلة أعدائهم,لكنه يستنفر الذاكرة والوقت والجهد ليلمزمن أقبلت عليه الأيام بما كان عليه الآباء والأجداد تصغيرا لشأنه وتحقيرا لحاله وتقزيما لطموحه .

... تحسست جارتها وصديقتها عديلة أمرها وحالها فحفزتها إلي العمل وصحبتها إليه وساعدتها علي بداياته ,وكانت عديلة ممن يقصدهم أثرياء القرية ويخصونهم بالعمل لديهم لأمانتهم وإخلاصهم فنجت بذلك من قسوة أيام البطالة وكثيرا ما أدركت فضلا من طعام أو لحم أضحيات جاد به من عملت لديه في مواسم حصاد أو في أعياد وأفراح أو أتراح ,ولم تتردد أو تتقاعس أم فوزية حين عرضت عليها عديلة ذلك ولم يردعها طيف كرامة ضائعة أو أطلال غني جدها واستغناء أبيها ,بعد أن أيقنت ألا سبيل لاستعادت أيامها الخوالي , وقد أمكنت من وعيها نظرات سلفها أخو زوجها وامرأته عند تناول شحيح وساذج الطعام الذي يكاد لا يفارق الفول ومشتقاته ويندر فيه اللحم والطير حتي يصبح يوم نوالهما ,ذكري عزيزة وطائفا رائعا وظلا ظليلا في هاجرة معتاد البصل والفول والمش, ,كانت تلك النظرات تشي باللوم والكره وتكاد لولا الروادع تفصح وتبين, وأيقنت أم فوزية أن ما قد يجود به عملها في الحقول قد يحميها من سهام تلك النظرات وسيفها المسلط فلبت نصح عديلة وسعت بها ومعها إلي العمل فما ليس منه بد,أصبح جاثما متلمظا لا بد منه .

,اعتاد ابن العاشرة قدوم أم فوزية عصر كل يوم مثلما اعتادتها وألفتها ساحة الجرن و بهائم الدوار ودوابه ,ولمس فيها انزواء وحزنا دفينا,فاقترب منها وتحادث إليها وأمعن في ذلك متلمسا مستكنات ألآمها فباحت له بما تحسه وما ظنه بها, فاقتربت مشاعره منها ,لقد فعل فقدانه لأمه بنفسه الأفاعيل وأورثه رقة في القلب وحنوا ورحمة علي شبيهاتها وأترابها,وتحسس أخبارها وأحوالها واستثار ما أدرك وسمع مشاعره وأحاسيسه وعطفه وتعاطفه مع أم فوزية ,وطابت له واستعذبت نفسه رؤية انشراح أساريرها وانبساط قسماتها حينما كان يمنحها ما أمكن له أن يختلسه من مصروف أو حلوي مما كان يمده به أبوه او أعمامه وما يجود به أخواله المشفقين علي ميعته ويتمه, ففاض عليها بكثير من الملاليم وبعض من التعاريف وقليل من القروش ونادر من الحلوي .

... حكت له أم فوزية واسترسلت عن تقلب الأيام وتبدل الأحوال وعما كانت ترفل به في سنوات زواجها العشر الأولي من رغد وطعام ولحم وطير وما لم يبخل به أبوها عليها من لباس وزينة ,وكيف تقلبت بهم الأيام وما كان من صرعة أبيها حزينا كاسفا مغيب الوعي بعد أن باع ما ورثه عن أبيه من قراريط وأنفق ثمنه علي جلساته وجلسائه وأحواله في عالم الكيف وسحائب الحشيش والأفيون ,ثم موت أمها حسرة وألما ومرضا تاركة وحيدتها بلا عون أو سند فتلقفتها يد المرحوم وحجرته بعد أن رضيت به علي ضعة حاله,زوجا بعد أن وعي الخطباء والشباب أمرها وفقرها فصرفوا نفوسهم وعقولهم وقلوبهم إلي من يستدفئون بمالهم وجاههم, وأوغلت أم فوزية في بثها وحزنها وشجو ما تربصت به أيامها ,إلي نفسه وتلمست شغاف قلبه وعطفه وتألمه,واستعذب الفتي الحكي مثلما استعذب الألم وغدا ينتظرها كل يوم ويجهد في مساعدتها وتقديم العون لها ليستزيد من حكياها دون أن يعلم بأمرهما احد .

... ألح ابن العاشرة عليها سائلا عن سبب تلهفها واستدعائها لهمتها الغائبة في العمل واستغنائها عن مساعدته وانشغالها عنه,وحين بدا لها ألمه ولاحت بوادر غضبه ,تنبهت وخشيت مغبات ذلك ومعقباته ,فأجابته حين انتهت من غسل يديها وتأهبت للرحيل في صوت لا يكاد يسمع وعيناها تدور مخافة رقابة رقيب أو فجأة قادم : مفيش حاجة بس البطة اللي عندنا وقعت من السطح ولحقها عم إسماعيل بالسكينة قبل موتها ونفسي الحق نصيبي أنا وابنتي منها في عشائنا اليوم .... تدفق شلال الألم وتكاثف الدمع وتدافعت وتراكضت الأسئلة في نفس وعين وعقل ابن العاشرة, وحين استفاق كانت أم فوزية قد انطلقت إلي البلدة لا تلوي علي شيئ ..

الأستاذ الدكتور عبد الحميد سليمان
الدمام 24من ديسمبر من سنة 2008الآفلة


الأستاذ الدكتور ، عبد الحميد سليم
ما كتبته هنا هو "الأدب" كما وصفه الواصفون من أهل العلم و الفضل
:emrose:
و لن أتجاسر ، محاولاً تحليل نصّك البديع
فبمجملةٍ رصينةٍ و لغةٍ مفعمةٍ برحيقِ التراثِ ، و مفردةٍ تتقافز برشاقة رشاً خبيرٍ بدروب الحَكْيِ ، نسَجْتَ ياسيدي "قطعتك" متحاشياً غواية "سوداوية" بؤس حياة "أم فوزية" (و أعتذر لتتالي المضاف إليه في جملتي)
:emrose:
فجاء نصك مشرقاً بأنوار الصدق ، إذ لم تغرقه في عتمة العوز و الكفاف (حال أم فوزية الرقيق).
ثم أنك ياسيدي ، مواصلاً الروعة ، تهدي أيقونتك الواقعية إلى مستحقيها من رموز سماعي النبيل ، أولائك الذين لهم من الأيادي على مرتادي سماعي و رواده مالا يحتويه سجل
:emrose:
(إسمح لي سيدي أن أتدارك ما فاتني من إبداعاتك هنا)
ولا تحرمنا من جديدك

رائد عبد السلام
28/12/2008, 19h04
الأستاذ الدكتور /عبد الحميد سليم
القاص الفريد
بداية أشكر لك تكرمك علي شخصي الضعيف بإهداءه تلك الدرة الفريدة
شكرا سيدي ...لا حرمني الله من عطاياك السنية
************
نأتي لقصتكم (أم فوزية )
أقول ...دون شبح مجاملة
قرأت القصة يا سيدي فإذا بها تحيلني من القراءة الأولي إلي سنوات قديمة غابرة ....قد لا أكون من الذين قاسوا ويلاتها لكني يا سيدي رأيتها رأي العيان بين ثنايا سطورك....ذلك الريف المغبون تحت وطأة الفقر وأنياب الحاجة....
استطاع قلمك يا سيدي أن يضعنا وجها لوجه ..أمام ريفنا الأصيل ذي الرائحة التي تصعد بنا في جلال البراءة لتهوي بنا من حالق حيث الارتطام المفاجيء بأرض الواقع المر..استطاع وصفك الدقيق أن يكوّن بُعدا ثالثا فتتضح الصورة كأكمل ما تكون

(عندما كانت تقوم بما اعتادته من عمل في تجهيز وصناعة فضلات المواشي وجعلها دوائر ثم تطرحها إلي الأرض لصقا فتسعي إليها أشعة الشمس المتلمظة)

وإذا كان العميد (د: طه حسين) قد دمغه النقاد بدقة التعبير عن مآسي ذلك الريف الذي يربض في صعيد مصر..فأنا أجزم ياسيدي بأنك قد ملكت ناصية لم يملكها هو ...ألا وهي نقل القاريء إلي سخونة الحدث حتي يشعر أن تلك الشخوص من لحم ودم ..يراها ماثلةً أمام عينيه..لا فاترةً قد خبا إوارها عبر النقل والتوثيق
(وحين بدا لها ألمه ولاحت بوادر غضبه ,تنبهت وخشيت مغبات ذلك ومعقباته ,فأجابته حين انتهت من غسل يديها وتأهبت للرحيل في صوت لا يكاد يسمع وعيناها تدور مخافة رقابة رقيب أو فجأة قادم : مفيش حاجة بس البطة اللي عندنا وقعت من السطح ولحقها عم إسماعيل بالسكينة قبل موتها ونفسي الحق نصيبي أنا وابنتي منها في عشائنا اليوم .... تدفق شلال الألم وتكاثف الدمع وتدافعت وتراكضت الأسئلة في نفس وعين وعقل ابن العاشرة...)

ليس بالوصف فقط ولكن بتتبع دقائق الأشياء التي لا يعرفها إلا من كابدها...وتلك التراكيب اللغوية التي تصل للمعني بسهم نافذ
تحياتي لشخصكم الكريم
وجزيل شكري علي ما تفيض به علينا من نفائس
نحن في أحوج ما نكون إليها
مع خالص احترامي ومودّتي.