عبد الحميد سليمان
13/12/2008, 16h23
بهيجة
صباح الخير صبحنا ، رز ولبن طبخنا ... كلنا واصطبحنا
.. أشرق وجه الطفلة وتهللت أساريرها ثم اندفعت إلى حضن أمها بعد أن أنتشت بما غنته لها ، ودللتها به فأيقظها ذلك من صحبة الملائكة وأكل الأرز معهم فى بريء أحلامها إلى ما أعدته لها أمها من ساذج الطعام وشحيحه فى فطورها ، تخلل كل ذرة منه حنان وإشفاق لا حدود لهما .
. . . إن من أعظم تجليات الله سبحانه وتعالى وأسراره ذلك الحنو الذى يربط الأم بأبنائها ويعبر عن نفسه فى صورة أشكال لا تخطؤها أبصار الغافلين والنابهين على سواء ولا يكاد يفترق أو يختلف كثيرا بين سائر المخلوقات ، وما ذلك إلا آية من آيات الله تدل على أنه الواحد .
. . . يحنو بدا فى عينى الأم وصوتها وارتعاشات شفاهها وهى تقبل بهيجة وتكاد وتبتلع خدودها من عمق القبلات تثاءبت الطفلة مطمئنة راضية وادعة إلى وجه أمها وقبلاتها الوالهة .
. . . أدهشنى التأمل للموقف الرائع الذى لمس شغاف قلبى وتحسس أوتار الألم واللوعة والحسرة التى استقرت مستكنات فى نفس صبى حرم من أمه وهو دون السادسة حرمانا عاصفا مزلزلا مفاجئا اندفع به اندفاع البرق من دفيء ورحابة وحنو لا حدود لهم إلى هاجرة قائظة لا تأبه ولا ترحم ، واعتادت نفسه والانجذاب والاستغراق إلى مثيل ذلك الموقف وشبيهه بين بهيجة وأمها ، ينزع فيه إلى بئر غائضة ودوحة زائلة متغيرة .
. . . فى عزية نائية من عزب تفتيش كفر سعد فى صبيحة يوم من أيام ستينات القرن المنصرم لا أذكر لها حدا ولا عدا ، عاش بعض الفلاحين الذين جيء بهم إلى تلك النواحى قبل ذلك بسنين حين استصلحت الدولة قبل الثورة أراضى تلك النواحى وجاءت بالفقراء ومن لا يملكون أرضا والضائعين والخارجين على القانون والعاطلين ممن لا يحنو عليهم ويتعطف الأغنياء فيكلفونهم ولو بالشاق من العمل فيهرعون إليه لينفضوا عن كواهلهم عبء سخرية الساخرين ممن أصاب حظا من عمل وشحيح من أجر حين يتندرون عليهم ويتوجسون خيفة من يحسدهم ويتناصحون بينهم بحكمة بائسة ومثل بئيس سقيم ( اعمل بميلم وحاسب البطال ... ) وعند نيل المراد من رب العباد يهون الصعب ويسهل الوعر وتعذب لهم شمس يوليو وقيظها لا يثقلهم أو يفسد فرحتهم نأى حلم الظفر بقليل من القيلولة حتى لو اختلسوه اختلاسا واهتبلوه اهتبالا فى عفله من رقيب .
. . . سمع أولئك البؤساء صخب المنادين فى قراهم ، يزفون إليهم بشرى حلم الانتقال من بؤس أرهقهم وأثقلهم إلى بؤس جديد لا يعرفون له شكلا ولا طعما ولا طبيعة وحدود وإن حمل أملا بإدراك ما لن يجيء وعلل نفوسا شح لديها ما يخشى على ضياعه فى قرى ونواح تقاذفهم فيها أغنياؤها فغدت غريبة نائية عن مشاعرهم فبادلوها اغترابا باغتراب .
. . . وتقبلت سيارات النقل الكاميونات تحمل على ظهورها حشودا من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال وقليل من البط والدجاج والأوز وزراوى فخارية تحمل كنوزهم من المش الذى أرهقته السنون فى محبس لا يكاد تخرج منه إلا نقاط شحيحة ضنينة بأقدم بها أولئك البؤساء مختلطا إدامهم بما آنس إليها واطمأن به المقام من دود المش ، وأصاب بعض أولئك القادمين بيوتا بسيطة أعدت لهم أما سوادهم فكان عليه أن يقيم لنفسه كوخا من الطين والبوص والغاب الذى ضجت منه تلك النواحى .
. . . إلى بلاد فوق وهى الدقهلية والمنوفية وما علاها نسب أهالى قرانا أولئك القوم وإن ( ابتدعوا لهم اسما جديدا هو ( المعدمين أى الذين لا يمتلكون شيئا قل أو أوجل ) وعاش أولئك الجلبان إن صح استعارة ذلك المصطلح التاريخى فى حياتهم الجديدة مكانا الرتيبة المستدامة بؤسا وعوزا ، ورغم قواسم الفقر والتهميش والسذاجة التى جمعتهم حالا ووصفا ونفسا مع فقراء قريتنا وغيرها إلا أن تسمية هؤلاء الجلبان بالمعدمين كانت تعكس نزوعا إلى التماس تميز لا يمتلك حظا من واقع أو سبب ، أنتشى به من لا يكادون يفترقون عن أولئك القادمين من فلاحى القرى القديمة المعروفة بقرى خط البحر المثقلة والمنهكة على الضفة الغربية لفرع دمياط وعجبا أمر قوم يتحاسدون على حظوظهم البائسة ونصيبهم من الآلام والمحن .
. . . قضت ظروف العمل الذى وقع على عاتقى وانتقل بى إلى عالم ( الرجال قهرا وغصبا وانتزع منى طفولتى ليأدها وهى تحبو ، أن اعتاد تلك البيوت البائسة التى حنت على بهيجة وأمها وغيرهما ممن امتزجوا وتشابهوا بؤسا وألما وعوزا فضمتهم إلى صدرها ولم تنكر لهم جميلا فى القدوم إليها وإحيائها وتخضيرها وفى صبيحة كل نهار كل نهار وحين تغيب شمسه واستعذبت نفسى أن ترقب علاقة الأم بطفلتها وهى توقظها من نومها فى الصباح وحين يختلط نداءها مع نداءات جاراتها على الأطفال أن يهرعوا إلى نومهم ويمتزج ذلك كله بأصوات البط والأوز القافل من رحلة البحث عن طعامه فى القنوات والمراوى والترع إلى أعشاشه عند غروب شمس كل يوم إلى وحده عنها لا تريم .
. . . على غير عادتها وجدتها شاردة النظرات ذاهلة اللب تنزف دموعا ودما وتعتصر ألما وتئن أنينا مخيفا ومكتوما وتنشغل عما حولها من الناس والدواب والأشياء فلا تكاد تعى ، ثم تحاول أن تجفف دمعا يبدو أنه لن يرقأ وقهرا لن يمحى وتبدى تجلدا وتصبرا يذيب نياط القلوب يصبح معه فوادها وبكاءها أهون حالا وأقل خطرا واستمر بالأم ما دهاها فزادها شحوبا إلى شحوب وعجفا إلى عجف حتى بدت أقرب إلى الأموات منها إلى الأحياء .
. . . وتسلل الظلام وئيدا متثاقلا ووجدت بهيجة نفسها وحيدة لا تعيرها أمها ماعتادت من لهفة وتشوق وتخوف وحنو ، واستشعرت براءتها ضراوة ذلك الوحش الذى جثم على صدر أمها وأنشب أظفاره فى حياتهما واغتال ضعفهما وأخذت تجر أقدامها إلى منامها مودعة جنتها التى ما إن ألمت بها واستشعرت روعتها حتى روّعتها ثم لفظتها .
. . . تقدمت اصطنع الكلام مع أم سيد جارتها وصديقتها وأتوسل منها الخبر واستكنه الأسرار فأخبرتنى وهى حسيرة كسيفه أسيفة فى تألم موجع ولوعة صادقة ودمع سخيين أن عبد الموجود والد بهيجة قد أعرس إلى آمال بنت الشحات من عزبة الفؤادية واصطفى لها الحجرة البحرية وألقى بأم بهيجة ومتاعها البائس من صندوق الملابس وحمل الصوف والمرتبة إلى الحاصل وهو حجرة اكتفت من اسمها بجدران أربعة لا تدفع غائلة لقيظ صيف ولا صائلة ريح وزمهرير شتاء ، ولا تأبه لفضول متطفل أو ضال من زاحف أو ساع من الكلاب والضباع والذئاب والهوام بتلك والأدهى أنها قد تغوى أولئك وتستميلهم إليها ، فجعنى ما سمعت وأيقظ لوعة اليتم المستكنة فى نفسى وأوغل الألم والسواد فى هيكلى فأثقلنى وهدنى من حيث لا أدرى ، وتوحدت خاطرا وشعورا وغربة وقهرا مع يهيجة وأمها ، وملكنى انشغال لا ينازع بتلك الطامة الكبرى التى دهت تلك المرأة وعصفت بها وابنتها وهى التى لمست بحنوها على صغيرتها أهداب جنتى المفتقدة وأمى الراحلة إلى حيث لا لقاء فى تلك الدنيا الظلومة الغشومة القاسية ، ولم تتقاعس المصائب عن دولابها ودأبها وراسخ عاداتها فجمعن المصابينا ، وأوغلت الريب والظنون فى صدرى ونفسى عن قال تلك الأم المكلومة التى لا تملك لنفسها نفعا ولا لما بها دفعا تستشعر أن ما دهاها لا يعنى سوى فقد الزوج والعائل فى تلك الفيافى والبرارى التى نور فيها النصير ونأت الأهل وشح المعين .
. . . عبد الموجود عتيا بين بؤساء وبائس بين أقوياء ، لا يكاد يجد قوت يومه طعامه لا يعرف طريقه إلى الأطايب إلا إذ باحت له ترعة أو قناة ببعض أسرارها وجادت عليه بشارد من أسماكها ولا يكاد يعرف أن فى الكون فاكهة أكثر من بعض التمر أو القصب يصيب قليله إن ذهب إلى سوق الأربعاء ويكاد يتمنى أن يصيبه المرض وينقل إلى مستشفى المركز عله يصيب حظا من نفيس البرتقال ، وتنأى عنه تلك النزعات الموغلة المتفائلة فيضطر إلى متعة وحيدة لا يكاد يعرف غيرها وهى الشاى ومعسل حسن كيف .
. . . ما أبشع المقهورين والمثقلين حين ينفسون بعضا من رازح القهر ومستفحل البؤس الذى أنشب مخالبه فى أجسادهم المنهكة وحياتهم البائسة فاستسلموا له وغدا قدرا مقدورا على من يرمى به سوء وشؤم طابعله وحظه فيستظل بهاجرة طائلتهم .
. . . رضيت أم بهيجة بذلك البؤس وعاشت مع عبد الموجود قانعة بأهون الشرور مستكينة إلى المقدور ، لا تعلل نفسا بأمل فى انعتاق أو صلاح حال وتشده إلى السماء هامسة لنفسها متوجسة مضطربة خوف تحسس الرقيب وتحسب الحسيب .
رضينا بالهم والهم مارضاش بنا
. . . استحرت دموع الأم بعد استشعرت حنوا وتعاطفا صادقا من الصبى واطمأن قلبها وشعور لما بدا لها واستشعرته من صدق مشاعره وانجذبت نفسها إليه وقد أيقنت أن مشتركا كبيرا من الألم والغربة والبؤس جمع بينهما ، وصدق ظنها أنه يعانى قيما وقهرا ومسكنة تبدو جلية فى نظراته التائهة وشروده ونفسه المستكينة فسألته عن أمه فانبجست دموع لم يملك لها حبسا ولا إخفاء ، فنفست له البائسة عن مكنونها وآلامها وما دهاها ، واستخرت دموع المرأة واضطرب أنينها بأنين الصبى ومدت يدها المرهقة الخشنة فكفكفت دموعه وربتت عليه .
. . . تسربت بهيجة مهيلا تتسمع وتتحسس ما يعتصر أمها وذلك الصبى من لوعة وألم وما تنزفه أكبادها الحرى وقلوبهما الدامية واستشعرت الصغيرة الكهلة أن ما دهى أمها واقتحم عالمها وبرادها وهالها ينذر بموت أم وضيعة اهتمام وحنان ثم نأى فردوس لن يعود .
. . . تشعبت نفسى ألما على بهيجة وأمها وربط بينى وبينهما لوعة اليتم على اختلاف سحنته وقسماته وقسوته وقارب ذلك بين أرواحنا ، وأسرف عبد الموجود فى غيه وتلهه بآمال أمام المرأة المكلومة واستعذابهما أن يأمراها بأن توقد لهما نارا على الماء وتعد لهما عدة تطهر زائف يزيل أدرانا ظاهرة ويسكت عن أدران النفس وغلظتها وقسوتها ، وكان يستعذب أن يطلعها بغفلة مصطنعة عما استأثر به واعتصره من فضل الطعام أو جاء به من السوق الأربعاء الأسبوعية له ولآمال التى تجد فى ذلك متعة وتميزا لا يحد ، ويسرف الألم فى افتراس أم بهيجة ، وسحقها فتذوب وتزوى ويجف جلدها وينحنى ظهرها وتجحظ عيناها ويتداعى هيكلها كلما تاهت آمال بما أصابت من حظوة وموقع فى قلب عبد الموجود وأسرفت فى تدللها وقولهها ، وكلما ذابت ألما وحسرة تمادت آمال تثخنها جراحا واستعلاء وكيدا .
. . . طفلا كنت دون العاشرة حسبما سجل لى دفتر المواليد ، كهلا بما كنت أحمل من هموم وأنوء به من هموم لا تأبه بدفاتر المواليد وما تمسكت بقليله الملامح والقسمات وضنت به أن ينفلت من آيات طفولة مهدرة ونفس مقهورة مغتصبة ، حينما خيل لى أن ألتمس إلى نفس بهيجة وأمها بعضا من عون وأختلس لهن من شحيح ما أستطيع من طعام أهلى وإدامهم ، واستعذبت الأمر حينما لمحت طيف سعادة أقبل عليهما مترددا معانق ثم جبن فجفل قفارة من فراق غير وامق حين حملت لهما بعضا من حلاوة طحينية عرفت طريقها إلى يدى بعد لأى ونأى وصرعت ضنا نازعنى إلى نفسى وتخوفا من وعورة إدراك تلك المتعة صعبة المنال وبعد الشقة بينى وبين تكرار نوالها ، ثم تداولتنى وإياهما الأيام وأوسعتنا بركلاتها وآلامها التى اتخذت أشكالا لا جديدة وتسربلت بثياب عديدة ، وشغلتنى دورة الأيام وتقلبها وصفوف جديدة من العناء والقهر ووجوه وعوالم أخرى ونبت بينى وبينهما الأماكن والذاكرة .
. . . هل يورث البؤساء والمقهورون والمعذبون أبناءهم ما قاسوه وما اكتووا بلظاه ، أحتمية بشرية هى ودورة سرمدية وتوارث للألم والمكابدة ، ألا انعتاق من قبضة ذلك الوحش ، ألا مناص من تلك الدائرة الجهنمية ، تدافعت مشاعرى وفاضت آلامى وارتجفت دخائلى وانهمرت أسئلة تصعقنى واضطربت نبضات قلبى المنهك ونفسى المترعة بالألم والشجن وشغلنى ذلك عن اجتماع هام ينتظرنى فى دمياط حينما صدمت عينى ونفسى بيانات برزت على غلاف ملف شُغل صاحبه بقراءته وقد استوى على كرسيه قبالتى فى قطار الصباح
. . . مكتب الأستاذ أيمن محمد رجب المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة بدمياط
الاسم : بهيجة عبد الموجود المنسى
ضد زوجها : عبد العاطى إبراهيم عبد السلام
العنوان : عزية الحسينى ـ تفتيش كفر سعد
دعوى هجر زوجية ونفقة وتبديد منقولات ومصروفات الطفلة هنية عبد العاطى
جلسة ...........
صباح الخير صبحنا ، رز ولبن طبخنا ... كلنا واصطبحنا
.. أشرق وجه الطفلة وتهللت أساريرها ثم اندفعت إلى حضن أمها بعد أن أنتشت بما غنته لها ، ودللتها به فأيقظها ذلك من صحبة الملائكة وأكل الأرز معهم فى بريء أحلامها إلى ما أعدته لها أمها من ساذج الطعام وشحيحه فى فطورها ، تخلل كل ذرة منه حنان وإشفاق لا حدود لهما .
. . . إن من أعظم تجليات الله سبحانه وتعالى وأسراره ذلك الحنو الذى يربط الأم بأبنائها ويعبر عن نفسه فى صورة أشكال لا تخطؤها أبصار الغافلين والنابهين على سواء ولا يكاد يفترق أو يختلف كثيرا بين سائر المخلوقات ، وما ذلك إلا آية من آيات الله تدل على أنه الواحد .
. . . يحنو بدا فى عينى الأم وصوتها وارتعاشات شفاهها وهى تقبل بهيجة وتكاد وتبتلع خدودها من عمق القبلات تثاءبت الطفلة مطمئنة راضية وادعة إلى وجه أمها وقبلاتها الوالهة .
. . . أدهشنى التأمل للموقف الرائع الذى لمس شغاف قلبى وتحسس أوتار الألم واللوعة والحسرة التى استقرت مستكنات فى نفس صبى حرم من أمه وهو دون السادسة حرمانا عاصفا مزلزلا مفاجئا اندفع به اندفاع البرق من دفيء ورحابة وحنو لا حدود لهم إلى هاجرة قائظة لا تأبه ولا ترحم ، واعتادت نفسه والانجذاب والاستغراق إلى مثيل ذلك الموقف وشبيهه بين بهيجة وأمها ، ينزع فيه إلى بئر غائضة ودوحة زائلة متغيرة .
. . . فى عزية نائية من عزب تفتيش كفر سعد فى صبيحة يوم من أيام ستينات القرن المنصرم لا أذكر لها حدا ولا عدا ، عاش بعض الفلاحين الذين جيء بهم إلى تلك النواحى قبل ذلك بسنين حين استصلحت الدولة قبل الثورة أراضى تلك النواحى وجاءت بالفقراء ومن لا يملكون أرضا والضائعين والخارجين على القانون والعاطلين ممن لا يحنو عليهم ويتعطف الأغنياء فيكلفونهم ولو بالشاق من العمل فيهرعون إليه لينفضوا عن كواهلهم عبء سخرية الساخرين ممن أصاب حظا من عمل وشحيح من أجر حين يتندرون عليهم ويتوجسون خيفة من يحسدهم ويتناصحون بينهم بحكمة بائسة ومثل بئيس سقيم ( اعمل بميلم وحاسب البطال ... ) وعند نيل المراد من رب العباد يهون الصعب ويسهل الوعر وتعذب لهم شمس يوليو وقيظها لا يثقلهم أو يفسد فرحتهم نأى حلم الظفر بقليل من القيلولة حتى لو اختلسوه اختلاسا واهتبلوه اهتبالا فى عفله من رقيب .
. . . سمع أولئك البؤساء صخب المنادين فى قراهم ، يزفون إليهم بشرى حلم الانتقال من بؤس أرهقهم وأثقلهم إلى بؤس جديد لا يعرفون له شكلا ولا طعما ولا طبيعة وحدود وإن حمل أملا بإدراك ما لن يجيء وعلل نفوسا شح لديها ما يخشى على ضياعه فى قرى ونواح تقاذفهم فيها أغنياؤها فغدت غريبة نائية عن مشاعرهم فبادلوها اغترابا باغتراب .
. . . وتقبلت سيارات النقل الكاميونات تحمل على ظهورها حشودا من الشيوخ والشباب والنساء والأطفال وقليل من البط والدجاج والأوز وزراوى فخارية تحمل كنوزهم من المش الذى أرهقته السنون فى محبس لا يكاد تخرج منه إلا نقاط شحيحة ضنينة بأقدم بها أولئك البؤساء مختلطا إدامهم بما آنس إليها واطمأن به المقام من دود المش ، وأصاب بعض أولئك القادمين بيوتا بسيطة أعدت لهم أما سوادهم فكان عليه أن يقيم لنفسه كوخا من الطين والبوص والغاب الذى ضجت منه تلك النواحى .
. . . إلى بلاد فوق وهى الدقهلية والمنوفية وما علاها نسب أهالى قرانا أولئك القوم وإن ( ابتدعوا لهم اسما جديدا هو ( المعدمين أى الذين لا يمتلكون شيئا قل أو أوجل ) وعاش أولئك الجلبان إن صح استعارة ذلك المصطلح التاريخى فى حياتهم الجديدة مكانا الرتيبة المستدامة بؤسا وعوزا ، ورغم قواسم الفقر والتهميش والسذاجة التى جمعتهم حالا ووصفا ونفسا مع فقراء قريتنا وغيرها إلا أن تسمية هؤلاء الجلبان بالمعدمين كانت تعكس نزوعا إلى التماس تميز لا يمتلك حظا من واقع أو سبب ، أنتشى به من لا يكادون يفترقون عن أولئك القادمين من فلاحى القرى القديمة المعروفة بقرى خط البحر المثقلة والمنهكة على الضفة الغربية لفرع دمياط وعجبا أمر قوم يتحاسدون على حظوظهم البائسة ونصيبهم من الآلام والمحن .
. . . قضت ظروف العمل الذى وقع على عاتقى وانتقل بى إلى عالم ( الرجال قهرا وغصبا وانتزع منى طفولتى ليأدها وهى تحبو ، أن اعتاد تلك البيوت البائسة التى حنت على بهيجة وأمها وغيرهما ممن امتزجوا وتشابهوا بؤسا وألما وعوزا فضمتهم إلى صدرها ولم تنكر لهم جميلا فى القدوم إليها وإحيائها وتخضيرها وفى صبيحة كل نهار كل نهار وحين تغيب شمسه واستعذبت نفسى أن ترقب علاقة الأم بطفلتها وهى توقظها من نومها فى الصباح وحين يختلط نداءها مع نداءات جاراتها على الأطفال أن يهرعوا إلى نومهم ويمتزج ذلك كله بأصوات البط والأوز القافل من رحلة البحث عن طعامه فى القنوات والمراوى والترع إلى أعشاشه عند غروب شمس كل يوم إلى وحده عنها لا تريم .
. . . على غير عادتها وجدتها شاردة النظرات ذاهلة اللب تنزف دموعا ودما وتعتصر ألما وتئن أنينا مخيفا ومكتوما وتنشغل عما حولها من الناس والدواب والأشياء فلا تكاد تعى ، ثم تحاول أن تجفف دمعا يبدو أنه لن يرقأ وقهرا لن يمحى وتبدى تجلدا وتصبرا يذيب نياط القلوب يصبح معه فوادها وبكاءها أهون حالا وأقل خطرا واستمر بالأم ما دهاها فزادها شحوبا إلى شحوب وعجفا إلى عجف حتى بدت أقرب إلى الأموات منها إلى الأحياء .
. . . وتسلل الظلام وئيدا متثاقلا ووجدت بهيجة نفسها وحيدة لا تعيرها أمها ماعتادت من لهفة وتشوق وتخوف وحنو ، واستشعرت براءتها ضراوة ذلك الوحش الذى جثم على صدر أمها وأنشب أظفاره فى حياتهما واغتال ضعفهما وأخذت تجر أقدامها إلى منامها مودعة جنتها التى ما إن ألمت بها واستشعرت روعتها حتى روّعتها ثم لفظتها .
. . . تقدمت اصطنع الكلام مع أم سيد جارتها وصديقتها وأتوسل منها الخبر واستكنه الأسرار فأخبرتنى وهى حسيرة كسيفه أسيفة فى تألم موجع ولوعة صادقة ودمع سخيين أن عبد الموجود والد بهيجة قد أعرس إلى آمال بنت الشحات من عزبة الفؤادية واصطفى لها الحجرة البحرية وألقى بأم بهيجة ومتاعها البائس من صندوق الملابس وحمل الصوف والمرتبة إلى الحاصل وهو حجرة اكتفت من اسمها بجدران أربعة لا تدفع غائلة لقيظ صيف ولا صائلة ريح وزمهرير شتاء ، ولا تأبه لفضول متطفل أو ضال من زاحف أو ساع من الكلاب والضباع والذئاب والهوام بتلك والأدهى أنها قد تغوى أولئك وتستميلهم إليها ، فجعنى ما سمعت وأيقظ لوعة اليتم المستكنة فى نفسى وأوغل الألم والسواد فى هيكلى فأثقلنى وهدنى من حيث لا أدرى ، وتوحدت خاطرا وشعورا وغربة وقهرا مع يهيجة وأمها ، وملكنى انشغال لا ينازع بتلك الطامة الكبرى التى دهت تلك المرأة وعصفت بها وابنتها وهى التى لمست بحنوها على صغيرتها أهداب جنتى المفتقدة وأمى الراحلة إلى حيث لا لقاء فى تلك الدنيا الظلومة الغشومة القاسية ، ولم تتقاعس المصائب عن دولابها ودأبها وراسخ عاداتها فجمعن المصابينا ، وأوغلت الريب والظنون فى صدرى ونفسى عن قال تلك الأم المكلومة التى لا تملك لنفسها نفعا ولا لما بها دفعا تستشعر أن ما دهاها لا يعنى سوى فقد الزوج والعائل فى تلك الفيافى والبرارى التى نور فيها النصير ونأت الأهل وشح المعين .
. . . عبد الموجود عتيا بين بؤساء وبائس بين أقوياء ، لا يكاد يجد قوت يومه طعامه لا يعرف طريقه إلى الأطايب إلا إذ باحت له ترعة أو قناة ببعض أسرارها وجادت عليه بشارد من أسماكها ولا يكاد يعرف أن فى الكون فاكهة أكثر من بعض التمر أو القصب يصيب قليله إن ذهب إلى سوق الأربعاء ويكاد يتمنى أن يصيبه المرض وينقل إلى مستشفى المركز عله يصيب حظا من نفيس البرتقال ، وتنأى عنه تلك النزعات الموغلة المتفائلة فيضطر إلى متعة وحيدة لا يكاد يعرف غيرها وهى الشاى ومعسل حسن كيف .
. . . ما أبشع المقهورين والمثقلين حين ينفسون بعضا من رازح القهر ومستفحل البؤس الذى أنشب مخالبه فى أجسادهم المنهكة وحياتهم البائسة فاستسلموا له وغدا قدرا مقدورا على من يرمى به سوء وشؤم طابعله وحظه فيستظل بهاجرة طائلتهم .
. . . رضيت أم بهيجة بذلك البؤس وعاشت مع عبد الموجود قانعة بأهون الشرور مستكينة إلى المقدور ، لا تعلل نفسا بأمل فى انعتاق أو صلاح حال وتشده إلى السماء هامسة لنفسها متوجسة مضطربة خوف تحسس الرقيب وتحسب الحسيب .
رضينا بالهم والهم مارضاش بنا
. . . استحرت دموع الأم بعد استشعرت حنوا وتعاطفا صادقا من الصبى واطمأن قلبها وشعور لما بدا لها واستشعرته من صدق مشاعره وانجذبت نفسها إليه وقد أيقنت أن مشتركا كبيرا من الألم والغربة والبؤس جمع بينهما ، وصدق ظنها أنه يعانى قيما وقهرا ومسكنة تبدو جلية فى نظراته التائهة وشروده ونفسه المستكينة فسألته عن أمه فانبجست دموع لم يملك لها حبسا ولا إخفاء ، فنفست له البائسة عن مكنونها وآلامها وما دهاها ، واستخرت دموع المرأة واضطرب أنينها بأنين الصبى ومدت يدها المرهقة الخشنة فكفكفت دموعه وربتت عليه .
. . . تسربت بهيجة مهيلا تتسمع وتتحسس ما يعتصر أمها وذلك الصبى من لوعة وألم وما تنزفه أكبادها الحرى وقلوبهما الدامية واستشعرت الصغيرة الكهلة أن ما دهى أمها واقتحم عالمها وبرادها وهالها ينذر بموت أم وضيعة اهتمام وحنان ثم نأى فردوس لن يعود .
. . . تشعبت نفسى ألما على بهيجة وأمها وربط بينى وبينهما لوعة اليتم على اختلاف سحنته وقسماته وقسوته وقارب ذلك بين أرواحنا ، وأسرف عبد الموجود فى غيه وتلهه بآمال أمام المرأة المكلومة واستعذابهما أن يأمراها بأن توقد لهما نارا على الماء وتعد لهما عدة تطهر زائف يزيل أدرانا ظاهرة ويسكت عن أدران النفس وغلظتها وقسوتها ، وكان يستعذب أن يطلعها بغفلة مصطنعة عما استأثر به واعتصره من فضل الطعام أو جاء به من السوق الأربعاء الأسبوعية له ولآمال التى تجد فى ذلك متعة وتميزا لا يحد ، ويسرف الألم فى افتراس أم بهيجة ، وسحقها فتذوب وتزوى ويجف جلدها وينحنى ظهرها وتجحظ عيناها ويتداعى هيكلها كلما تاهت آمال بما أصابت من حظوة وموقع فى قلب عبد الموجود وأسرفت فى تدللها وقولهها ، وكلما ذابت ألما وحسرة تمادت آمال تثخنها جراحا واستعلاء وكيدا .
. . . طفلا كنت دون العاشرة حسبما سجل لى دفتر المواليد ، كهلا بما كنت أحمل من هموم وأنوء به من هموم لا تأبه بدفاتر المواليد وما تمسكت بقليله الملامح والقسمات وضنت به أن ينفلت من آيات طفولة مهدرة ونفس مقهورة مغتصبة ، حينما خيل لى أن ألتمس إلى نفس بهيجة وأمها بعضا من عون وأختلس لهن من شحيح ما أستطيع من طعام أهلى وإدامهم ، واستعذبت الأمر حينما لمحت طيف سعادة أقبل عليهما مترددا معانق ثم جبن فجفل قفارة من فراق غير وامق حين حملت لهما بعضا من حلاوة طحينية عرفت طريقها إلى يدى بعد لأى ونأى وصرعت ضنا نازعنى إلى نفسى وتخوفا من وعورة إدراك تلك المتعة صعبة المنال وبعد الشقة بينى وبين تكرار نوالها ، ثم تداولتنى وإياهما الأيام وأوسعتنا بركلاتها وآلامها التى اتخذت أشكالا لا جديدة وتسربلت بثياب عديدة ، وشغلتنى دورة الأيام وتقلبها وصفوف جديدة من العناء والقهر ووجوه وعوالم أخرى ونبت بينى وبينهما الأماكن والذاكرة .
. . . هل يورث البؤساء والمقهورون والمعذبون أبناءهم ما قاسوه وما اكتووا بلظاه ، أحتمية بشرية هى ودورة سرمدية وتوارث للألم والمكابدة ، ألا انعتاق من قبضة ذلك الوحش ، ألا مناص من تلك الدائرة الجهنمية ، تدافعت مشاعرى وفاضت آلامى وارتجفت دخائلى وانهمرت أسئلة تصعقنى واضطربت نبضات قلبى المنهك ونفسى المترعة بالألم والشجن وشغلنى ذلك عن اجتماع هام ينتظرنى فى دمياط حينما صدمت عينى ونفسى بيانات برزت على غلاف ملف شُغل صاحبه بقراءته وقد استوى على كرسيه قبالتى فى قطار الصباح
. . . مكتب الأستاذ أيمن محمد رجب المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة بدمياط
الاسم : بهيجة عبد الموجود المنسى
ضد زوجها : عبد العاطى إبراهيم عبد السلام
العنوان : عزية الحسينى ـ تفتيش كفر سعد
دعوى هجر زوجية ونفقة وتبديد منقولات ومصروفات الطفلة هنية عبد العاطى
جلسة ...........