المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يوميات حمار " من الأدب الساخر " بقلم : أحمد عطية


أحمد عطية
07/07/2009, 18h40
تصاعد الصوت مجروشاً خشناً بدأ خفيضاً ثم علا وعلا حتى صار هديراً يصم الآذان .. تقطعه شهقات حادة كالصفافير وبدا كأن ورشة هائلة قد أطلقت كل الآتها دفعة واحدة في نشاز يصدع الرأس ويبعث الضيق إلى صدور الآدميين فيرددون في غيظ :

ــ ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )

لكن هذا الصوت أهاج لواعج الشوق في صدري حتى لوددت أن أحاكيه فارفع عقيرتى بالنهيق .. لولا ذلك الرجل الجالس على مقدمة عربة الكارو التي أجرها ، والذي لا يطيق سماع صوتي .. وجهه مقطب عابس وأنفه الكبير ترتعش طاقتاه وعلى رأسه العارية منديل ينعقد من الأمام .. اهتز شارب الرجل المنفوش وهو يسعل بشدة والكلمات تتطاير من فمه كالأحجار المسننة :

ــ ( شي .. شي يا بن اللئيمة .. شي أحسن أشرح جسدك بالقمشة .. شي )

الرجل مزاجه غير رائق اليوم .. أعلم السبب .. أستطيع أن أقرأ أفكاره كما يفهم هو لغتي .. التفاهم بيننا يكاد يكون تاماً من طول المعاشرة .. أمس بعد منتصف الليل كان الحر الخانق قد أزهق أنفاسي وطرد النعاس من عيني فأخذت أتمرغ على التراب في فناء الدار .. أحاول أن أطرد النوم .. وفجأة سمعت صوتاً هاتفاً في السحر .. لا لا لا ، بل سمعت صوتاً ينبعث من حجرة صاحبي فنفضت أذني وأصخت السمع محدقاً من خلال باب الحجرة المفتوح .. فقد كان هو وزوجته ـ بهية ـ لا يحتشمان منى ولا يجدان ضرورة في غلق الباب بيني وبينهما خصوصاً في ليالي الصيف .. ورأيت المرأة ترفسه برجلها فيتدحرج بعيداً وهى تسبه بأفحش الألفاظ .. وتتحسر على ضياع عمرها معه .. فجلس على طرف الفراش ذليلاً مهموماً .. رأسه الكبير منكس على صدره ويداه متشابكتان في حجره والأسى يرسم سطوراً على وجهه يزيدها عمقاً ضوء اللمبة الخافت .

هذا صاحبي المعلم سيد فسيخه فتوة حي سيدي عبد الرحمن بأسره ، يجلس أمامي قد سحقه الهوان والعجز ، فامتلأت نفسي كبرياءً وشموخاً وأعلنت عن فتوتي وفحولتي بنهيق حاد مزق سكون الليل .. وتهيأت للعلقة الساخنة .. صاحبي لم يعجبه هذا كما توقعت ، فقام .. تناول عصا غليظة وأنقض علىّ كالغول وهو يسبني بألفاظ داعرة وقحة وعصاه تلهب جسدي وتشعل فيه النيران .. جريت أدور في فناء الدار وأرتطم في الحلل والأواني وأنا أرفس الهواء من حرقة الضرب .. وهو ، يزداد هياجاً حتى أشتفى منى وانصرف إلى حجرته فأغلق الباب دوني وتركني لغيظ شديد يفقأ المرارة .. مالي أنا .. رجل أخفق مع زوجته .. ما ذنبي .. لماذا يقطع جسدي هكذا بالضرب الموجع الأليم عقيب لياليه التي تبدأ بشرب الدخان المعسل من خلال الجوزة واحتساء كوب الشاي كأي سلطان ، ثم تنتهي هذه النهاية المهينة له ولى .. حتى استقر في ذهني أنى مسئول عن فشله .

على كل حال .. أنا وأعوذ بالله من كلمة أنا .. أقول أنا على الرغم من كل شيء أحس نحوه بالشفقة والرثاء .. حتى أنى هممت أن أقترح عليه الذهاب إلى طبيب نفساني كي يشفيه من عقدته .. لكن الرجل لا يبادلني شعوري .. وإنما يحس نحوى بتوجس وعدم اطمئنان .. بل أكاد أقول إنها الغيرة تأكل قلبه أكلاً .. كلما رأى امرأته تمسح رقبتي بكفها البيضاء الناعمة وأنا أرفع رأسي أمرغها على صدرها .. أواه من الحقد .. كل شيء يمكن معالجته إلا الحقد .. صاحبي حاقد .. لا يطيق أن يعلو صوتي أمامه ، ولولا أنى أعول أسرته هذه لتخلص منى منذ وقت طويل .. شتائمه المنتقاة وسبابه الداعر وشاربه الذي يفتله في كبرياء وهو يزعق بملء صوته حين يجهدني الصعود في الطرق وأنا أجذب ثقيل الأحمال :

ــ ( شي يا بهيم .. شد حيلك يا خرع )

سامحك الله .. خرع مرة واحدة .. صدق المثل .. مات الذين اختشوا ولم يبق إلا ........ على كل حال ، لا داعي وكفا الله المؤمنين شر القتال .......

طرقعت حوافري على أسفلت الطريق في نغمة رتيبة متواترة ونحن ننتهي من ميدان السوق الصغير لندخل شارع سيدي عواد حيث تشق الفضاء ـ على بعد ـ مئذنة الجامع .. طريق عريق طالما قطعه أسلافي من الحمير .

رفت نسائم طرية من الهواء ، فرفعت جلباب امرأة تعبر الطريق وكشفت عن سيقانها .. نفخ صاحبي صدره على الفور .. وأمسك بشاربه يفتله وينظر إلى المرأة في صبابة .. كنت أعرف أنها مجرد منظره .. وانطلق صوته يعربد في غناء خشن متحشرج :

ــ ( ما رمانا الهوى ونعسنا .. واللي شبكنا يخلصنا .. )

أف لهذا الصوت المنكر .. وددت لو أن معي قمشة إذن لألهبت جسد صاحبي بها .. لويت رقبتي وسددت ركلة في الهواء على سبيل الاستنكار .

انتهت لحظة الصفاء بيني وبين صاحبي .. فامتدت يده إلى القمشة تلهب الهواء من حولي .. أتعرف القمشة حضرتك .. ربما لا تعرفها ويحسن ألا تعرفها .. لكنها على أية حال سوط من الجلد متصل بقطعة صغيرة من الخيزران لتكون لسعته أكثر دقة وأنكي وجعاً .. في هذه المرة أحسست أن ناراً اندلعت في أذني ، بعد أن لسعها بالقمشة .. فاستأنفت الركض وأنا أسب صاحبي وألعنه .

كان صوت القمشة وصاحبي يديرها في يده فتفرقع في كل مكان حولي وتعصف بكياني :

ــ ( يا أخينا حلمك .. يا سيدي روق .. ثلاث أحمال من البطيخ تملأ شادراً نقلتها من بعد مزلقان السكك الحديدية إلى سوق سيدي عبد الرحمن .. وبعد ذلك تفعل هكذا معي ) .

سيل من الشتائم يتطاير من فم الرجل الغاضب :

ــ ( شي يا حمار النقر .. تحرك يابن العاهرة .. )

وبدأ طرف القمشة يلامس جسدي .. دخلنا في الجد .. فلأقصر الشر واعدو .. أي حياة هذه .. نكد في نكد .. ماذا أصنع مع صاحبي هذا .. قد جربت معه العناد فلم ينفع .. فلأجرب معه الذوق .. التفاهم .. المنطق .. لعله يقتنع .. لويت عنقي الطويل ناحيته ونهقت برفق افتتح العتاب .. لكنه أعرض ونأى بجانبه .. قلت في نهيق شاك :

ــ ( ألا تعرف يا معلم أن سقراط الفيلسوف كان يوصى ........)

لم يدعني الرجل أتم كلامي .. لهفنى بالقمشة على جانب رقبتي ونهرني بحدة ، هتفت :

ــ ( لماذا يا أخينا .. ألسنا قدر المقام .. أهذا كلام يقال عن رفقاء وأصدقاء .. أنسيت حمار الحاكم بأمر الله .. ألا تذكر حمار الحكيم .. ألم تر وتشاهد الفيلم العربي الكبير سلام يا صاحبي .. والفيلم الهندي العظيم الفيل صديقي .. ألم ..... )

جاءنى صوت صاحبى صارخاً :

ــ ( شي يا لكع )

الكافر المضلل .. الله يهدك يا شيخ .. لقد جعلني أدعو عليه كالولايا .. مررنا بشرطي يقف مزروعاً وسط الطريق أمام مجلس المدينة .. أشار إلى صاحبي وهو يهدر :

ــ ( أنت يا عربجى .. امسك يمينك يا بهيم .. )

رددت الكلمات في سرى باستمتاع ونهقت بصوت خفيض وقد طفح منى السرور ، وتحرك ذيلي يهتز في نشوة اغتاظ لها صاحبي أكثر مما اغتاظ لشتائم الشرطي .. فإذا بالقمشة ترفع في الهواء وتلحس جسدي من كل اتجاه .. أحرقتني اللسعات وأطار الخوف صوابي فأطلقت سيقاني للريح .. ثم خففت من العدو ، ثم وقفت .. على قيد أمتار كانت المقهى .. فك صاحبي اللجام وركن العربة في بقعة خالية أمام المدرسة الابتدائية بميدان سيدي عبد الرحمن وبه عشرات العربات والزملاء معلقون يتناولون طعامهم في سكون .. وضع صاحبي مخلة العليق في متناول فمي وذهب ليأخذ له مكاناً على الأريكة الخشبية بينما انهمكت في التهام التبن وارتفع صوت صاحبي :

ــ ( إياك اسمع صوتك )

لماذا ؟! من لا يطيق سماع صوتي فأنه لا يطيقني .. لأن صوتي جزء منى .. أيريد أن أبقى معه أخرس صامتاً حتى أحوز رضاه وأنجو من سعير القمشة .. وكيف تكون الحياة من غير نهيق ؟!!

أنا أنهق .. إذن أنا موجود .. نحيت المخلة عن فمي وفى رأسي تدور أفكار جريئة .. سوف أنهق .. أنهق بأعلى صوت وليكن ما يكون .. لم يكن للنهيق سبب هذه المرة إلا إثبات الوجود .. نظرت أرقب صاحبي فإذا به يجلس ساكناً متكئاً بمرفقه على منضدة أمامه وبصره يمتد حالماً إلى الفضاء ......

بدأ صوتي يخرج خفيضاً حتى سخنت فانطلق هادراً في نشوة يرج الفضاء رجاً .. طارت أحلام صاحبي دفعة واحدة .. ورأيته ينتفض واقفاً ويقصد ناحيتي والشر يعربد في ملامحه وأنا مستمر في النهيق لا أمسك وقد هانت علىّ الحياة .

رمقني صاحبي بنظرة عميقة .. رفع القمشة في الهواء وبدأ يخطط بها جسدي بالطول والعرض في قسوة بالغة .. بينما توقفت الحمير عن تناول الأكل .. لوت أعناقها ترقبنا في فضول صامت .. فجأة وبدون سابق إنذار انطلقت أصواتها دفعة واحدة في صوت كالرعد يزلزل الجبال ، حاصر صاحبي من كل اتجاه وأخذ يسد عليه كل المسالك .....

NAHID 76
07/07/2009, 19h37
بسم الله الرحمن الرحيم
الفاضل أحمد عطيه
الأدب الساخر فرع من فروع الأدب له مدرسته وله ناسه ومعروف لدى الأدباء
ويوميات حمار شيئ ليس بمستغرب فكثيرا ما قرأنا على غرار ذلك كثير ا
ولقد أدرت الحوار بين السايس والحمار فى بلاغه رائعه وكأن الذى يقرأ ليخيل له انه أنسان يحاور أنسان
وجميله جدا الجمله التى أدخلتها على سبيل المزاح فى موضوعك الخاصه سمعت صوتا هاتفا فى السحر
لون جديد نفتقد فى تجارب أدبيه وهو اللون الساخر
وأتمنى أن نكتفى بالأيماءات أجمل بكتير
تحياتى

عفاف سليمان
08/07/2009, 05h36
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ عطيه:emrose::emrose:
جميله هذه القصه احس وانا اقرائها اشاهد فيلما عن الحمار وصاحبه بس الله يكون فى عون الحمار من لسعات صاحبه ومن شره
واجمل ما فيها اتحاد الحمير فى النهيق ربما يكون هذا اقل شىء
يستطيعون ان يعملونه من اجل زميل لهم وهو الحمار البائس
ولو كانوا تكاتروا عليه ربما لكانوا رفسوا صاحب الحمار ولكن صوتهم جلجل فى المكان حتى اخذ بعقل صاحبه
تحياتى لقلمك الساخر
وتحياتى للجميع باسعد الاوقات
اختكم عفاف:emrose::emrose:

أحمد عطية
03/08/2009, 00h19
بسم الله الرحمن الرحيم
الفاضل أحمد عطيه
الأدب الساخر فرع من فروع الأدب له مدرسته وله ناسه ومعروف لدى الأدباء
ويوميات حمار شيئ ليس بمستغرب فكثيرا ما قرأنا على غرار ذلك كثير ا
ولقد أدرت الحوار بين السايس والحمار فى بلاغه رائعه وكأن الذى يقرأ ليخيل له انه أنسان يحاور أنسان
وجميله جدا الجمله التى أدخلتها على سبيل المزاح فى موضوعك الخاصه سمعت صوتا هاتفا فى السحر
لون جديد نفتقد فى تجارب أدبيه وهو اللون الساخر
وأتمنى أن نكتفى بالأيماءات أجمل بكتير
تحياتى



الأخت الفاضلة / ناهد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أسعدنى رأيك فى عملى المتواضع أما بالنسبة للإيحاءات أو الإيماءات أعتقد أنها فى سياق العمل وليست مقحمة عليه وأنا فى كل كتاباتى أراعى تلك النقطة من منطلق أننا مجنمع شرقى تحكمه عادات وتقاليد نحترمها جميعاً
شكرى يسبقه تقديرى لشخصك الكريم

أحمد عطية
03/08/2009, 00h25
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ عطيه:emrose::emrose:
جميله هذه القصه احس وانا اقرائها اشاهد فيلما عن الحمار وصاحبه بس الله يكون فى عون الحمار من لسعات صاحبه ومن شره
واجمل ما فيها اتحاد الحمير فى النهيق ربما يكون هذا اقل شىء
يستطيعون ان يعملونه من اجل زميل لهم وهو الحمار البائس
ولو كانوا تكاتروا عليه ربما لكانوا رفسوا صاحب الحمار ولكن صوتهم جلجل فى المكان حتى اخذ بعقل صاحبه
تحياتى لقلمك الساخر
وتحياتى للجميع باسعد الاوقات
اختكم عفاف:emrose::emrose:

الأخت الفاضلة / عفاف
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بالفعل هناك أسقاط سياسى بالنسبة للنهاية حيث قصدت أنه حتى الحمير تتحد ـ ولو بالنهيق ـ عندما يواجهها شر ما رغم ما تواجهه من لسعات أصحابها
تقبلى منى خالص وأرق التحايا