المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الموسيقى في الحضارات القديمة بقلم الشاعر : سعود الأسدي


سعود الأسدي
18/06/2009, 07h53
ألموسيقى في الحضارات القديمة
سعود الأسدي

كانت الموسيقى في المجتمعات البدائية وسيلة لغاية ، فقد استعملت كجسر للوصول إلى منفعة معينة ، كاسترضاء إله الشفاء ، أو إله السقاء لاستنزال الغيث للضرع والزرع ، وطلب الخصوبة من ربّتها ، كما كان الصيّادون يلجأون إلى الترنـّم بكلمات سحرية لشحن ذواتهم بالقوة والجلد في مطاردة الفريسة، والتركيز المطلوب لدقة التصويب بالسهام وسواها.
ولكن ما إن أطـّلت بداية الألف السادس قبل الميلاد حتى أخذت تطرأ على الموسيقي تغييرات ، وخاصة في الحضارة السومرية والمصرية مما جعلها تنحو منحى جديدا أكسبها وضعية جديدة ، فلم تعد كما كانت لغرض ديني أوسحري أو لمهمة حياتية . فقد أصبحت غاية في نفسها، وبحدّ ذاتها ، وفنا يستأهل التقدير.
ولكن تلك التغييرات لم تحدث فجأة ، فالشعوب البدائية كانت قد مارست الرقص والغناء ، وعزفت على الآلات البدائية من أجل المتعة . ولكن العامل الحاسم في جعل الموسيقى فنا مستقلا بذاته هو عندما صار يمارسها فنيّون مختصّون ، وأصبحت مطلوبة من قبل الملوك والأمراء ورجال البلاط للاستمتاع بها في أوقات الفراغ . فهؤلاء استقدموا أصحاب صنعة العزف والغناء إلى قصورهم ، وصار العزف مهنة تتطلب الدرس والمران من سن مبكرة ليكون العازف على درجة عالية من الحذق والمهارة ، وإتقان الغناء .
وتدل المكتشفات الأثرية على انّ النساء في الحضارات القديمة كنّ يمارسن صنعة العزف والغناء والرقص ، وكان منهن أعداد كبيرة في قصور الملوك والنبلاء . ولا ننسى أن إحدى الأميرات الفرعونيات كانت قد طلبت أن يكون من جملة صداقها أربعة آلاف جارية من العازفات والمغنيات والراقصات .
ويبدو من الآثار أيضا أنه كان للموسيقى الدينية مكانة رفيعة في هياكل العبادة ، لأن الديانات القديمة حافظت علىالدور الذي تقوم به الموسيقى عند تأدية الشعائر المنوطة بها . وكان الكهنة يحسنون القراءة والكتابة ، وعلى مستوى رفيع من معرفة الرياضيات والطبيعيات والفلسفة، وهذه المعرفة لم تكن متيسرة لعامة الشعب في البداية لانه لم تكن لديها لغة مكتوبة . كما اقتضت المعرفة لدى الكهنة أيضا ان يطبّقوها على الموسيقى المصاحبة لإنشاد التراتيل والترانيم الدينية ، لذا فقد اضطروا على ان يُحدثوا وسيلة لتدوينها برموز أو إشارات وعلامات ( Notes) لتكون لغة موسيقية، مستعينين بالرياضيّات ، والقواعد العلمية حتى توصّلوا إلى أفكار موسيقية منظمة لم تلبث أن تطوّرت إلى نظريات في علم النغم والإيقاع والسلم الموسيقي وضبط الأوتار بالدوزان عندما يعتريها التشويش .
الموسيقى السومرية والبابلية
كان للموسيقى والموسيقيين في مدن بلاد الرافدين السومرية ومن بعدها البابلية مكانة مرموقة ، فقد شارك الموسيقيون باستعمالهم ال Harp القيثار، وال Lute المزهر طويل العنق في احتفالات آلهة الشمس والحرب والخصوبة ، وأما الصلوات المقدسة فكانت تؤدّيها جوقات مدرّبة تلقّت تدريبها في مدارس تابعة لهياكل العبادة. وكان الكهّان يكتبون على الآجر بالخطّ المسماري النصوص الدينية والعلمية والموسيقية ، وإن رموز تلك الكتابة وحروفها قد حفظت الكثير من نصوص الصلوات والترانيم الدينية وإلى جانبها إشارات كتدوين للموسيقى المصاحبة ، وكانت الإشارة المفردة تضم مجموعة من النغمات الموسيقية لا نغمة مفردة واحدة كموسيقى اليوم ، إلاّ أنّ الصلوات المكتوبة ، والنصوص الدينية الأسطورية ، والموسيقى المقدسة المرافقة لها كانت جميعها أسرارا لا يطّلع عليها إلاّ خاصة الكهنة ، ولكن لشدة لصوق الموسيقى بحياة السومريين فقد صارت تُلقّن في مدارس بلاد الرافدين ، وكان التلميذ غير الموسيقي موضع ازدراء زملائه.
وإضافة إلى القيثار والمزهر الطويل العنق فقد استخدم السومريون والبابليون ال Cymbal الصنج ، وآلة ال Lyre (القيثارة) ، وهي ذات ذراعين ، وليس لها عنق كالمزهر (العود) . كما ظهر استعمال ال Flute الناي والOboe المزمار، ولم تكن لهما شهرة الآلات الوترية . كما ظهر المزمار المزدوج بقصبتين بشكل V القصبة الأولىلأرسال نغمة واحدة متصلة ، وتسمّى هذه القصبة " الدوّاية " ( بلغة عازفي المزمار عندنا ) وأما القصبة الثانية فهي المخصصة لعزف النغمات المتغيّرة ، وقد وجد هذا المزمار طريقه إلى الهند ، وسائر بلدان الشرق الأوسط ، ولايزال يستعمل إلى يومنا هذا.
الموسيقى في مصر الفرعونية
ظهرت الحضارة في وادي النيل منذ بداية الألف الرابع قبل الميلاد ، وبذلك يكون ظهورها قد تأخّر عن ظهور الحضارة السومرية بضع مئات من السنين ، وكان الغناء والموسيقى في المجتمع المصري القديم يشكّلان اهتماما كبيرا منذ الأسرة الفرعونية الأولىعام 3400 قيل الميلاد. وكان فرعون مصرمثل سائر ملوك سومر وبابل لديه أعداد كبيرة من الموسيقيين تشهد على ذلك نقوش جدران المعابد ، ومدافن القبور الملكية الحافلة بصور الراقصين والعازفين والمغنين ( ويظهر المغني في الغالب وهو يضع كفّ يده اليسرى خلف صوان أذنه وعلى الخدّ لتكبير الصوت الصادر ، و زيادة الإحساس بالرنين ، وهذه الظاهرة لاتزال منتشرة بين مغني السير الشعبية والمنشدين وقارئي القرآن ) . وهناك نقوش تعود الى 2500 قبل الميلاد تضم مجموعات من العازفين على القيثارة الكبيرة والنايات والمزمار المزدوج ، ويظهر في مقدمتها المغنون والمنشدون ومن كان يقوم بدور قيادة الفرقة في مختلف المناسبات من دنيوية ودينية وجنائزية . ويعتقد بعض الباحثين أن دور قائد الفرقة في العصور الفرعونية كان أصعب من دور قائد الفرقة في أيامنا هذه ! وكانت أدواته في قيادته تعتمد على أصابعه ويديه ، وذراعيه بأشارت تدل على المقام والنغمات والألحان والإيقاعات ، وكانت متعددة ومعقّدة وكانت ضرورية لخلق لغة موسيقية لاغنى للموسيقي عنها.
كان ملوك العصور القديمة يتهادون الموسيقيين والمغنين والراقصين فيما بينهم فهذا فرعون مصر بيبي الثاني، وقد حكم مصر تسعين عاما! في القرنين السادس والعشرين والخامس والعشرين ق .م كان لديه راقصون أقزام جاءوه هدية من الكونغو .
وحوالي سنة 1500قبل الميلاد عندما أخذت مصر تحتلّ ، وتتوسّع في الأقطار المتاخمة تدفقت الهدايا إلى فرعونها استجلابا لرضاه ، ودفعا لغضبه وأذاه من بلاد الرافدين ، وافريقيا الاستوائية ، وجنوب شرق آسيا ، ومن جملة تلك الهدايا مئات الجواري العازفات والمغنيات وآلاتهن ، وبالطبع فقد كان لتلك الآلات موسيقاها الخاصة بها . ، ولكن للأسف فأن الأنغام والإيقاعات المصرية القديمة ضاع أكثرها وبقيت الآلات الموسيقية ،ومنها القيثارة المسماة كِنّار باللغة المصرية القديمة والهارب ( القيثار) والمزمار والناي والطبلة والدفّ والبوق(النفير) للمناسبات الرسمية والعسكرية . ولما كان المصريون مولعين بالنغم والإيقاع والرقص فإنّ من بين أدواتهم الصلاصل المخشخشة ، وإنّ الكنيسة القبطية لا تزال تستعملها إلى اليوم ، وتعكس ظلالاً وأصداءً من ألحان التراتيل والترانيم والأناشيد المصرية القديمة كشاهد من جملة شواهد على حضارة عريقة أثّرت فيما جاورها من حضارات وخاصة الحضارة اليونانية .
موسيقى العبرانيين
تحفل التوراة بالإشارات إلى الموسيقى والإنشاد الدينيّ وغناء الأشعار : شعر ديبورا ونشيد الأنشاد ومزامير داود ، وكان داود نفسه منشدا ومغنيا على آلة الكينور ( الكنّارة المصرية) ، وبالطبع لم تكن موسيقى العبرانيين في عزلة مستقلة ، بل وقعت تحت تاثير موسيقى أقوام وشعوب عديدة عاشت في عبري النهر والشاطىء الشرقي للمتوسط ، كما كان للموسيقى المصرية والسومرية والبابلية تأثيرعليها ، وقد ازدهرت منذ سنة الف إلى سنة اربعمائة قبل الميلاد. ففي معابد العبرانيين أنشدت جوقات الرجال أناشيد للصلوات الدينية اليومية ، وأخرىفي المناسبات ، كما كانت جماعة المصلّين تنشد في مجموعتين الواحدة تجيب الأخرى ، وكذلك المنشد الفرد فقد كانت تجيبه جماعة المصلّين بممقطوعات من العهد القديم ، وكانت نغمات الأناشيد قليلة لا تشكّل السلّم الموسيقى التامّ . وتشير المصادر العبرية إلى استعمال القيثار والقيثارة والصنج والأبواق المعدنية والقرون والطبلات والنايات والمزمار( آلة عزف الرعاة) والدفوف التى داعبتها أكف النساء العبرانيات وهن يرقصن على إيقاعها .
الموسيقى في الحضارة اليونانية
عندما أنجز هوميرس أعماله الشعرية الكبرى وضمّها في كتابيه الخالدين الإلياذة والأوذيسة في القرن التاسع قبل الميلاد كانت بلاد اليونان قد دخلت مرحلة حضارية راقية كماهي الحال عند السومريين والبابليين والفرس وشعوب أخرى في الشرق الأوسط لم تلبث أن تقاسمت معهاالهدايا الملكية من خلال الاحتلال والهجرة وتبادل الموسيقى وآلاتها.ونتيجة لذلك فقد كان بين موسيقى اليونان وموسيقى الحضارات الشرقية قواسم مستركة ، منها اتساق اللحن وتناغم الألحان وهما ظاهرة بارزة في موسيقى العالم الشرقي القديم، ومن ضمنه بلاد فارس والهند ، ولكنها كانت تفتقر إلى الهارموني في التأليف الموسيقي الذي أصبح بعد العصور الوسطى ظاهرة متطورة جدا في الموسيقى الأوربية .
كان اليونانيون يهتمّون باللحن الموسيقي والوزن الإيقاعي كسائر شعوب العالم القديم ، ولهم فيهما نظريات محكمة وضعها علماء الموسيقى عندهم ، فضبطوا الألحان والإيقاعات بمقاييس رياضية ، ومنهم العالم الرياضي فيثاغورس الذي لم يضع نظرياته الموسيقية إلا بعد عودته من مصر، وكذلك إقليدس أوّل من نظم السلم الموسيقي اليوناني فجعله سبع نغمات في القرن الرابع قبل الميلاد بعدما كان خمس نغمات كما في الأناشيد التى كانت تغنّى في معبد أبولو في دلفي ، وأعياد إله الخمر ديونيسيوس في طقوس الربيع الشهيرة .
وعندما اكتمل نظام السلّم الموسيقي ذي النغمات السبع كثرت مسمياته في بلاد اليونان ، فقالوا السلم الدوري ، والفريجي ، والليدي ، حتى لقد بلغ بالكنيسة المسيحية في العصور الوسطى أن استعملت نفس تسميات السلم الموسيقى اليوناني .
ولما كان اليونانيون الروّاد الأوائل لعلم النفس فقد قالوا بتأثير الموسيقى في النفس البشرية ، ومنهم أفلاطون ( حبّذا مراجعة الفصل الخاص بتأثير الموسيقى كما بينه أفلاطون في جمهوريته ) ، وكذلك أرسطو الذي قال بأن المقام الموسيقي الفريجي يرفع المعنوية الهابطة عند الإنسان ويبعث فيه الحماس ، وبان المقام الدوري يدعو إالى هدوء النفس وسكينتها والشعور بالراحة ، ومثل هذه الأقوال كان لها تطبيق تربوي يمارسه أهل أركاديا وغيرها من بلاد اليونان على أطفالهم .
كانت آلة اللير( القيثارة ) الآلة الموسيقية المفضّلة عند اليونانيين ، والمحبّبة إلى قلب أبوللو، وقد اقترن اسمها بالشعر الغنائي اليوناني ( Lyrical ) . وكان بعض هواة الموسيقى عندهم كالمصريين يتخذون قيثاراتهم من صدفة سلحفاة البحر، وأما الملحنون فكانوا يدونون موسيقاهم بعلامات متخذة من حروف الأبجدية اليونانية . ومن البديهي أنه كان للغناء عند اليونانيين أهمية كبيرة ، وشيوع واسع من أغان وترانيم وتراتيل وأناشيد في معابد آلهتهم ومناسياتهم الدينية ، تقوم بها جوقات من الكهنة ، وكان شعراء اليونان مغنين بطبيعتهم ينشد كلّ أشعاره الخاصّة به، وكان الشاعر المغني مطلوبا من علية القوم والأمراء والملوك يقدم إلى قصورهم وينعم بعطاياهم ، ولكن الأهمية الكبرى فقد كانت لجوقات الإنشاد ، ومنها ما كان يضم بضع مئات من المنشدين والمنشدات ، وإضافة إلى جوقات أناشيدهم وترانيمهم الدينية في معابدهم ، فقد كثرت لديهم جوقات الإنشاد للفائزين في المباريات الرياضية، والمسابقات الشعرية كما تشهد على ذلك أشعار بندار. وجوقات أخرى للمسرحيات كما هي الحال في الأوبرا المعاصرة . واما قائد الجوقة فهو عمادها الضابط لموسيقاها وألحانها وغنائها وحركاتها ، وكان يستعمل حذاء قدمه المتحرر من السيور وضربات كعبه لضبط الوزن ، ومن المعروف أن للشعر اليوناني أوزانا مركبة بمقاطع ونبرات طويلة وقصيرة .
وبسبب تأثير الحضارة اليونانية في ربيبتها ووريثتها الرومانية فقد وصل تأثير الموسيقى اليونانية إلى الموسيقى الأوربية في مراحل تكوينها ونشأتها الأولى ، وقد برز هذا الثأثير في الموسيقى الغريغورية الكنسية من حيث الألحان والمقامات واستعمال الآلات ، ولكن مع الزمن فقد اتجهت الموسيقى الأوربية اتجاها مستقلاّ خاصا أدّى بها إلى ماهي عليه اليوم من تنوّع وتحرّر وعمق وازدهار .