المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غناء التنزيلات الموصلية


محمد العمر
15/06/2009, 12h31
التنـزيلات الموصلية

الموصل مدرسة شعرية وموسيقية متميزة منها انتشرت إبداعات رائعة في مجال النظم والتلحين إلى المدن العربية الكبرى.

بقلم:

أ. د. إبراهيم خليل العلاف مركز الدراسات الإقليمية – جامعة الموصل


حينما جمع وحقق صديقنا الدكتور محمد نايف الدليمي كتابه الموسوم "ديوان الموشحات الموصلية", وطبعه في دار ابن الأثير للطباعة والنشر التابعة لجامعة الموصل سنة 1975, قال إن الموصليين أطلقوا على شعر وقصيدة المديح المرفوع إلى الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) اسم (التنزيلة) حسبما يقتضيه المقام الغنائي, والنغمة الموسيقية عند الزهاد وأصحاب الطريقة, وقد رغب في أن يجمع (التنزيلات الموصلية) في كتاب إلا أنه علم بوجود من يقوم بهذه المهمة (أظنه المرحوم ميسر صالح الأمين) وقد بدأ بالعمل منذ فترة, ولما يكمله بعد.
ومنذ قرابة (30) عاما ونحن ننتظر وللأسف لم يخرج الكتاب إلى النور. المهم أن موضوع التنزيلات الموصلية موضوع مهم, ومفيد, وضروري لإبراز دور الموصل في تعميق التراث الشعري والموسيقى العربي. وقد كان الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي واحدا من أبرز المهتمين بتوثيق التنزيلات الموصلية, وأشار في كتابه الشهير "التراث الموسيقي في الموصل" والمنشور سنة 1945، إلى أن التنزيلات هي (موشحات دينية) والتنزيلة من اصطلاحات الصوفيين وللشيخ محيي الدين بن عربي كتاب بعنوان "التنزيلات الموصلية"، ألفه عندما كان يعيش في الموصل والتنزيلات, كما يقول الجليلي "منظومات على أسلوب الموشحات في المديح النبوي الشريف أو التوسلات والابتهالات الصوفية المتنوعة, منها ما هو من تلحين ناظم أبيات الموشح نفسه, ومنها ما نظم على ألحان الأغاني التي كانت شائعة في عصر الناظم."
من الطبيعي أن يضع مؤرخو الشعر في الموصل, ومنهم الدكتور ذو النون يونس مصطفى الاطراقجي التنزيلات الموصلية ضمن التوجه الديني, فقصائد المديح النبوي قد تكون تقليدية، وقد تكون إصلاحية، أي نهج نهجا حديثا متطورا, ولكن في كل الأحوال فإن تلك القصائد تستوحي قيم الإسلام وشعائره.
وفي الموصل الشئ الكثير من هذه التنزيلات, ومعظمها قديم, فمنها ما هو من ألحان القرن التاسع عشر ومنها ما يعود إلى قرون أبعد من ذلك, فمثلا موشح (عرج يا حادي نحو الحمى) من مقام الصبا المنسوب إلى ابن الطبيب الدمشقي المتوفى عام 1230 (627هـ) يرجع إلى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي ويقول ناظمه في آخره (رب واغفر للجراح بن الطبيب واختم بالحسنى لنا جميع) وبهذا يكون عمر هذا الموشح أو التنزيلة ما يقرب من سبعمائة وستة وسبعين عاما.
يقول الدكتور الجليلي إن العادة الجارية في الموصل عند الأدباء والشعراء وشيوخ الصوفية إبان العصور الأخيرة أنه كلما ظهرت أغنية جديدة ذات لحن شجي, بادر أكثر من واحد منهم إلى نظم موشح على لحن تلك الأغنية, فالشيخ عثمان الخطيب بن يوسف بن عزالدين الخلوتي القادري الموصلي المتوفى سنة 1732 (1145هـ) له ما يزيد على الخمسين موشحا من مختلف المقامات, وأشهرها الموشح المسمى بـ (سلسلة الرست) ويتألف من أربع قطع ومطلعه (صلوا على طه الحبيب الرحمن).
وكتب عصام الدين العمري في كتابه "الروض النظر في ترجمة أدباء العصر" والذي حقق جزءه الأول الدكتور سليم النعيمي سنة 1974, عن عثمان الخطيب يقول إنه "فارس ميدان رهان الأذهان , العابث بأنواع المعاني والبيان."
أما محمد الغلامي في كتابه "شمامة العنبر والزهر المعنبر" فقال عنه إنه "زهرة حديقة الزمان ... رقيق حواشي الطبع, رحيق في ملح النظم والسجع." ونقل سليمان صائغ في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ الموصل" عنه قصيدة يمدح فيها الرسول الكريم مطلعها:

سر بنا صاح راشدا مهديا ** وتهيأ وناد بالركب هيا

وقال الصائغ "وتجد في شعره المراثي والمديح لآل البيت وفيه المربعات والمخمسات ويتسم شعره بالبساطة وسلاسة التعبير مع الضبط والانسجام, وتتجلى غالبا ميوله في شعره أنه كان متوغلا في التصوف, شديد الحب, كثير التهجد."
أما الشيخ قاسم الرامي الموصلي المتوفى سنة 1772 (1186هـ) فكان "من أهل الطريقة الصوفية, ومن مقدميها وكان يصحب شيوخها ويحدو لهم لأنه كان موسيقيا خبيرا بالنغمات والنقرات, وكان شاعرا مجيدا برع خاصة في نظم الألغاز الدقيقة الطريفة, وأكثر شعره في المدائح النبوية على شكل الصوفيات", هكذا يقول الصائغ, وذكر له متسعات بليغة في المديح على حروف الهجاء.
ومن الذين كانت لديهم تنزيلات من الموصليين الشيخ علي الوهبي الموصلي الشهير بالجفعتري المتوفى سنة 1787 (1202هـ). "كان عالما جليلا, وخطيبا فصيحا, وناظما مجيدا, وناثرا بارعا". له قصيدة طويلة في المدائح جرى فيها مجرى صوفيات ابن الفارض وتقع في نحو 30 بيتا منها:

فلي قلب لغيرك غير صاب ... وما هو عنك لما غبت صابر
وأصبح في الهوى والوجد ساه ... وطرفي في ظلام الليل ساهر
تزيد صبابتي ويزيد دائي ... ولم أبرح على المحبوب دائر

ثم يقول :

له فضل يحير كل ذاك ... وأوصاف تحير كل ذاكر

وكان الشيخ الوهبي يستهل قصائده في المديح بالغزل ومنها كثيرة في الموصليات امتدح إحداها والي الموصل سليمان باشا ومطلعها:

تبدى فنال القلب من سعده البشرى ... وحي فأحيا كل قلب به مغرى
واطلع بدرا تحت هندس غيهب ... وأبرز في أفق الجبين لي الفجرا

وممن اشتهر في نظم الموشحات الدينية في الموصل العلامة سليمان بك آل مراد بك الجليلي المتوفى سنة 1908 (1326هـ), وله ما يقرب من خمسة عشر موشحا جميعها من الألحان النفيسة.
ولد سنة 1863 في الموصل, ودرس على أشهر علماء زمانه, وكان ذا إلمام كبير بالرياضيات والفلك والموسيقى. كما أتقن بعض اللغات الأجنبية كالتركية والفارسية وقد ضاع معظم شعره بعد وفاته. ومع هذا فقد جمع الدكتور محمد صديق الجليلي بعض شعره وموشحاته، وقدم بعضها للدكتور محمد نايف الدليمي عندما ألف كتابه آنف الذكر.
وقال من نظم السيكاه على لحن الأغنية البغدادية (يمه أش لزمني لزمه .. شكك أزرار الزخمة):

بطرفه الفتان .. قد هام قلبي .. لما تبدى
لكن على العشاق .. قد طال عتبي .. لو كان أجدى
ما همت فيه وجدا .. إلا وزاد صدا .. أبدا طلا وخدا
لو تدري .. بالأقمار يزري .. فاسأل عن صبري

وقال من نغم بياتي إبراهيمي على لحن الأغنية القديمة (مالي عليك مالي):

ما للهوى مالي ... قد زاد بلبابي
والوجد أضناني يا نديمي ... في طب ذي الخال
على حالي ... قد رق عذالي

وله موشح من نغم السيكاه على لحن الأغنية المصرية:

مرمر زماني ... يا زماني اتمرمر
قلبي تولع في ... هواك يا الأسمر

يقول فيه:

عبد أتاكم يا بنو المختار ... يرجوكم العفو عن الأوزار
أنتم نجومي وكذا أقماري ... عقود نظمي في هواكم تنشر
صلوا على صاحب الحوض الكوثر ... طه شفيع الخلق يوم المحشر

ومن أصحاب التنزيلات الأديب الشاعر علي بن علي أبو الفضائل العمري المتوفى سنة 1778 (1192هـ) وكان صاحب شمامة العنبر معجبا بشعره, وبأسلوبه الشائق في الترسل, وقد نوه بذكر علومه ومصارفه, وذكر بعضا من نظمه ووجد له نحو إحدى عشرة قصيدة عصماء من مختارات نظمه وفيها أنواع الشعر من مديح وحماس ورثاء.
وأشار الصائغ إلى أنه في شعره أميل إلى سرد الحقائق, وكان يبرز عواطفه بعبارات صريحة ويتضح قدمه في الشعر بقصيدته الشهيرة التي سماها "الجوهر الثمين في بعض وقائع الأمين".
وهناك خليل بن علي البصير (1700-1762/1112هـ - 1176هـ) وهو أديب وشاعر ينتمي إلى السادة الإشراف, كان كفوفا, وقد نبغ نبوغا عجيبا في الدروس العقلية واللغوية. أتقن لغات عديدة منها التركية والفارسية وشعره متين "وإذا تلي عليك تخال أنك تسمع نثرا لبساطته وسلاسته." ومن شعره قوله:

لست أهوى سواكم اليوم حتى ... اطلب الموت في هواكم حثيثا
يا لقومي من معشر عنفوني ... لا يكادون يفقهون حـديثا

وأجاد أيضا بقوله:

يا مبتلي بذوي المظالم لا تهن ... واصبر فإن الله كان بصيرا
واستنصرن الله يهدك عاجلا ... وكفى بربك هاديا ونصيرا

ويذكر مؤرخو التنزيلات أسماء أدباء وشعراء اشتهروا وبرزوا في الموصل منهم: الأديب نعمان بن عثمان الدفتري الموصلي, والأديب والمقرئ والموسيقار الشيخ سعدي الموصلي بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ سعد الدين شيخ القراء الموصلي، وغيرهم مما لا يتسع هذا المجال لذكر التفاصيل عنهم.
ولا يمكننا أن نتغافل عن ما قدمه الأديب والموسيقار الشهير الملا عثمان الموصلي المتوفى سنة 1923 (1341هـ) ويمكن الرجوع إلى الدكتور عادل البكري الذي ألف كتابا قيما عنه, وللملا عثمان ما يزيد على الخمسين موشحا جميعها من الألحان النفيسة وأشهرها موشح (يا آل طه فيكم قد هام المضني) من مقام الرست وألحان هذا الموشح, كما يقول الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي على جانب عظيم من الفخامة. والملا عثمان كان من أحد أساتذة الشيخ درويش.


ويشير الدكتور الاطراقجي إلى أن محمود الملاح من الذين طوروا في قصيدة المولد النبوي. أما فاضل الصيدلي الشاعر والأديب الموصلي المعاصر فقد استفاد من قصائد المديح في معالجة أوضاع المجتمع ومهاجمة مظاهر التخلف والفساد. وكثيرا ما دعا إلى استنهاض الهمم. كذلك فعل الشيخ محمد علي الياس العدواني عندما وسع من دائرة موضوع قصيدة المديح وحولها إلى دعوة الناس إلى التمسك بشعائر الدين, واستلهام قيم القوة والتصدي لأعداء الأمة. وأخيرا فالموصل, مدينة ومركزا حضاريا, قدمت الكثير من الإنجازات على صعيد التراث الشعري والموسيقى وكانت بحق مدرسة متميزة, فمنها انتشرت إبداعات رائعة في مجال النظم والتلحين إلى مدن عربية كالقاهرة وحلب ودمشق وتونس, ولا يزال الناس يذكرون هذه الريادة وينوهون بها الأمر الذي يتطلب من المهتمين بهذه الألوان الإبداعية العمل من أجل جمعها وتوثيقها وتسهيل مهمة الاطلاع عليها والاستفادة منها.

نجم العيداني
20/11/2010, 08h42
التنـزيلات الموصلية



الموصل مدرسة شعرية وموسيقية متميزة منها انتشرت إبداعات رائعة في مجال النظم والتلحين إلى المدن العربية الكبرى.

بقلم:



أ. د. إبراهيم خليل العلاف مركز الدراسات الإقليمية – جامعة الموصل




حينما جمع وحقق صديقنا الدكتور محمد نايف الدليمي كتابه الموسوم "ديوان الموشحات الموصلية", وطبعه في دار ابن الأثير للطباعة والنشر التابعة لجامعة الموصل سنة 1975, قال إن الموصليين أطلقوا على شعر وقصيدة المديح المرفوع إلى الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) اسم (التنزيلة) حسبما يقتضيه المقام الغنائي, والنغمة الموسيقية عند الزهاد وأصحاب الطريقة, وقد رغب في أن يجمع (التنزيلات الموصلية) في كتاب إلا أنه علم بوجود من يقوم بهذه المهمة (أظنه المرحوم ميسر صالح الأمين) وقد بدأ بالعمل منذ فترة, ولما يكمله بعد.
ومنذ قرابة (30) عاما ونحن ننتظر وللأسف لم يخرج الكتاب إلى النور. المهم أن موضوع التنزيلات الموصلية موضوع مهم, ومفيد, وضروري لإبراز دور الموصل في تعميق التراث الشعري والموسيقى العربي. وقد كان الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي واحدا من أبرز المهتمين بتوثيق التنزيلات الموصلية, وأشار في كتابه الشهير "التراث الموسيقي في الموصل" والمنشور سنة 1945، إلى أن التنزيلات هي (موشحات دينية) والتنزيلة من اصطلاحات الصوفيين وللشيخ محيي الدين بن عربي كتاب بعنوان "التنزيلات الموصلية"، ألفه عندما كان يعيش في الموصل والتنزيلات, كما يقول الجليلي "منظومات على أسلوب الموشحات في المديح النبوي الشريف أو التوسلات والابتهالات الصوفية المتنوعة, منها ما هو من تلحين ناظم أبيات الموشح نفسه, ومنها ما نظم على ألحان الأغاني التي كانت شائعة في عصر الناظم."
من الطبيعي أن يضع مؤرخو الشعر في الموصل, ومنهم الدكتور ذو النون يونس مصطفى الاطراقجي التنزيلات الموصلية ضمن التوجه الديني, فقصائد المديح النبوي قد تكون تقليدية، وقد تكون إصلاحية، أي نهج نهجا حديثا متطورا, ولكن في كل الأحوال فإن تلك القصائد تستوحي قيم الإسلام وشعائره.
وفي الموصل الشئ الكثير من هذه التنزيلات, ومعظمها قديم, فمنها ما هو من ألحان القرن التاسع عشر ومنها ما يعود إلى قرون أبعد من ذلك, فمثلا موشح (عرج يا حادي نحو الحمى) من مقام الصبا المنسوب إلى ابن الطبيب الدمشقي المتوفى عام 1230 (627هـ) يرجع إلى أوائل القرن الثالث عشر الميلادي ويقول ناظمه في آخره (رب واغفر للجراح بن الطبيب واختم بالحسنى لنا جميع) وبهذا يكون عمر هذا الموشح أو التنزيلة ما يقرب من سبعمائة وستة وسبعين عاما.
يقول الدكتور الجليلي إن العادة الجارية في الموصل عند الأدباء والشعراء وشيوخ الصوفية إبان العصور الأخيرة أنه كلما ظهرت أغنية جديدة ذات لحن شجي, بادر أكثر من واحد منهم إلى نظم موشح على لحن تلك الأغنية, فالشيخ عثمان الخطيب بن يوسف بن عزالدين الخلوتي القادري الموصلي المتوفى سنة 1732 (1145هـ) له ما يزيد على الخمسين موشحا من مختلف المقامات, وأشهرها الموشح المسمى بـ (سلسلة الرست) ويتألف من أربع قطع ومطلعه (صلوا على طه الحبيب الرحمن).
وكتب عصام الدين العمري في كتابه "الروض النظر في ترجمة أدباء العصر" والذي حقق جزءه الأول الدكتور سليم النعيمي سنة 1974, عن عثمان الخطيب يقول إنه "فارس ميدان رهان الأذهان , العابث بأنواع المعاني والبيان."
أما محمد الغلامي في كتابه "شمامة العنبر والزهر المعنبر" فقال عنه إنه "زهرة حديقة الزمان ... رقيق حواشي الطبع, رحيق في ملح النظم والسجع." ونقل سليمان صائغ في الجزء الثاني من كتابه "تاريخ الموصل" عنه قصيدة يمدح فيها الرسول الكريم مطلعها:

سر بنا صاح راشدا مهديا ** وتهيأ وناد بالركب هيا

وقال الصائغ "وتجد في شعره المراثي والمديح لآل البيت وفيه المربعات والمخمسات ويتسم شعره بالبساطة وسلاسة التعبير مع الضبط والانسجام, وتتجلى غالبا ميوله في شعره أنه كان متوغلا في التصوف, شديد الحب, كثير التهجد."
أما الشيخ قاسم الرامي الموصلي المتوفى سنة 1772 (1186هـ) فكان "من أهل الطريقة الصوفية, ومن مقدميها وكان يصحب شيوخها ويحدو لهم لأنه كان موسيقيا خبيرا بالنغمات والنقرات, وكان شاعرا مجيدا برع خاصة في نظم الألغاز الدقيقة الطريفة, وأكثر شعره في المدائح النبوية على شكل الصوفيات", هكذا يقول الصائغ, وذكر له متسعات بليغة في المديح على حروف الهجاء.
ومن الذين كانت لديهم تنزيلات من الموصليين الشيخ علي الوهبي الموصلي الشهير بالجفعتري المتوفى سنة 1787 (1202هـ). "كان عالما جليلا, وخطيبا فصيحا, وناظما مجيدا, وناثرا بارعا". له قصيدة طويلة في المدائح جرى فيها مجرى صوفيات ابن الفارض وتقع في نحو 30 بيتا منها:

فلي قلب لغيرك غير صاب ... وما هو عنك لما غبت صابر
وأصبح في الهوى والوجد ساه ... وطرفي في ظلام الليل ساهر
تزيد صبابتي ويزيد دائي ... ولم أبرح على المحبوب دائر

ثم يقول :

له فضل يحير كل ذاك ... وأوصاف تحير كل ذاكر

وكان الشيخ الوهبي يستهل قصائده في المديح بالغزل ومنها كثيرة في الموصليات امتدح إحداها والي الموصل سليمان باشا ومطلعها:

تبدى فنال القلب من سعده البشرى ... وحي فأحيا كل قلب به مغرى
واطلع بدرا تحت هندس غيهب ... وأبرز في أفق الجبين لي الفجرا

وممن اشتهر في نظم الموشحات الدينية في الموصل العلامة سليمان بك آل مراد بك الجليلي المتوفى سنة 1908 (1326هـ), وله ما يقرب من خمسة عشر موشحا جميعها من الألحان النفيسة.
ولد سنة 1863 في الموصل, ودرس على أشهر علماء زمانه, وكان ذا إلمام كبير بالرياضيات والفلك والموسيقى. كما أتقن بعض اللغات الأجنبية كالتركية والفارسية وقد ضاع معظم شعره بعد وفاته. ومع هذا فقد جمع الدكتور محمد صديق الجليلي بعض شعره وموشحاته، وقدم بعضها للدكتور محمد نايف الدليمي عندما ألف كتابه آنف الذكر.
وقال من نظم السيكاه على لحن الأغنية البغدادية (يمه أش لزمني لزمه .. شكك أزرار الزخمة):

بطرفه الفتان .. قد هام قلبي .. لما تبدى
لكن على العشاق .. قد طال عتبي .. لو كان أجدى
ما همت فيه وجدا .. إلا وزاد صدا .. أبدا طلا وخدا
لو تدري .. بالأقمار يزري .. فاسأل عن صبري

وقال من نغم بياتي إبراهيمي على لحن الأغنية القديمة (مالي عليك مالي):

ما للهوى مالي ... قد زاد بلبابي
والوجد أضناني يا نديمي ... في طب ذي الخال
على حالي ... قد رق عذالي

وله موشح من نغم السيكاه على لحن الأغنية المصرية:

مرمر زماني ... يا زماني اتمرمر
قلبي تولع في ... هواك يا الأسمر

يقول فيه:

عبد أتاكم يا بنو المختار ... يرجوكم العفو عن الأوزار
أنتم نجومي وكذا أقماري ... عقود نظمي في هواكم تنشر
صلوا على صاحب الحوض الكوثر ... طه شفيع الخلق يوم المحشر

ومن أصحاب التنزيلات الأديب الشاعر علي بن علي أبو الفضائل العمري المتوفى سنة 1778 (1192هـ) وكان صاحب شمامة العنبر معجبا بشعره, وبأسلوبه الشائق في الترسل, وقد نوه بذكر علومه ومصارفه, وذكر بعضا من نظمه ووجد له نحو إحدى عشرة قصيدة عصماء من مختارات نظمه وفيها أنواع الشعر من مديح وحماس ورثاء.
وأشار الصائغ إلى أنه في شعره أميل إلى سرد الحقائق, وكان يبرز عواطفه بعبارات صريحة ويتضح قدمه في الشعر بقصيدته الشهيرة التي سماها "الجوهر الثمين في بعض وقائع الأمين".
وهناك خليل بن علي البصير (1700-1762/1112هـ - 1176هـ) وهو أديب وشاعر ينتمي إلى السادة الإشراف, كان كفوفا, وقد نبغ نبوغا عجيبا في الدروس العقلية واللغوية. أتقن لغات عديدة منها التركية والفارسية وشعره متين "وإذا تلي عليك تخال أنك تسمع نثرا لبساطته وسلاسته." ومن شعره قوله:

لست أهوى سواكم اليوم حتى ... اطلب الموت في هواكم حثيثا
يا لقومي من معشر عنفوني ... لا يكادون يفقهون حـديثا

وأجاد أيضا بقوله:

يا مبتلي بذوي المظالم لا تهن ... واصبر فإن الله كان بصيرا
واستنصرن الله يهدك عاجلا ... وكفى بربك هاديا ونصيرا

ويذكر مؤرخو التنزيلات أسماء أدباء وشعراء اشتهروا وبرزوا في الموصل منهم: الأديب نعمان بن عثمان الدفتري الموصلي, والأديب والمقرئ والموسيقار الشيخ سعدي الموصلي بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ سعد الدين شيخ القراء الموصلي، وغيرهم مما لا يتسع هذا المجال لذكر التفاصيل عنهم.
ولا يمكننا أن نتغافل عن ما قدمه الأديب والموسيقار الشهير الملا عثمان الموصلي المتوفى سنة 1923 (1341هـ) ويمكن الرجوع إلى الدكتور عادل البكري الذي ألف كتابا قيما عنه, وللملا عثمان ما يزيد على الخمسين موشحا جميعها من الألحان النفيسة وأشهرها موشح (يا آل طه فيكم قد هام المضني) من مقام الرست وألحان هذا الموشح, كما يقول الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي على جانب عظيم من الفخامة. والملا عثمان كان من أحد أساتذة الشيخ درويش.




ويشير الدكتور الاطراقجي إلى أن محمود الملاح من الذين طوروا في قصيدة المولد النبوي. أما فاضل الصيدلي الشاعر والأديب الموصلي المعاصر فقد استفاد من قصائد المديح في معالجة أوضاع المجتمع ومهاجمة مظاهر التخلف والفساد. وكثيرا ما دعا إلى استنهاض الهمم. كذلك فعل الشيخ محمد علي الياس العدواني عندما وسع من دائرة موضوع قصيدة المديح وحولها إلى دعوة الناس إلى التمسك بشعائر الدين, واستلهام قيم القوة والتصدي لأعداء الأمة. وأخيرا فالموصل, مدينة ومركزا حضاريا, قدمت الكثير من الإنجازات على صعيد التراث الشعري والموسيقى وكانت بحق مدرسة متميزة, فمنها انتشرت إبداعات رائعة في مجال النظم والتلحين إلى مدن عربية كالقاهرة وحلب ودمشق وتونس, ولا يزال الناس يذكرون هذه الريادة وينوهون بها الأمر الذي يتطلب من المهتمين بهذه الألوان الإبداعية العمل من أجل جمعها وتوثيقها وتسهيل مهمة الاطلاع عليها والاستفادة منها.






مقابلة اذاعية اجراها الناقد الموسيقي عبد الوهاب الشيخلي مع الدكتور محمد صديق الجليلي يتحدث فيها عن حياته الفنية واقتنائة لاسطوانات نادرة بصوت المطرب المصري الشهير عبده الحامولي التي جلبها والده من تركيا حيث سجلها الحامولي 1898 بأسطنبول في القرن التاسع عشر .
نجم العيداني - البصرة