المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مصطفى حمزة : الغناء بصفاء و نقاء


زياد العيساوي
07/06/2009, 12h09
ثمة من يري في الكتابة الفنية الغنائية ، أنها غير ذات جدوى ، و لا طائل منها ، فهي بحسب ما يرى ، ملهاة للقارئ عن قضاياه الحسّاسة المصيرية و همومه الحياتية اليومية ، لكأنه لا يدرك مدى ارتباط الفرد بالغناء منذ طفولته ، و حتى يمرَّ بمراحل عمره كلها ، و تغلغله في جوانب مهمة من شخصية الإنسان ، فيما يرى آخرون ، أنّ لا فائدة تـُرتجى أصلاً من المقالات ، التي أعرض فيها لبعض من الفنانين الليبيين ، خصوصاً و أنّ أغلب هؤلاء الفنانين ، في تصورهم ، أما فقد بريق صوته بفعل تقدمه في السنِّ ، أو هجر الغناء باكراً إلى غير رجعة ، لأسباب أعلم بعضها الأقل ، و أجهل بعضها الأكثر .
http://www.almanaralink.com/new/admin/uploads/pics/mostafa%20hamza.png

مصطفى حمزة

و بحسب ما أرى ، أنّ الأغنية الليبية ، لا تـُعتبر مجالاً رحباً للكتابة ، فهي ليست حقلاً خصباً لأنْ يجد فيها الكاتب ضالته ، إلا في منطقة معينة منه ، هي تلك الفترة الممتدة من أوائل ستينيات القرن المنصرم ، و حتى منتصف ثمانينياته بالتحديد ، فقد ظهر خلال هذه الفترة ، جيلٌ من المطربين ، الذين تمتعوا بمواهب صوتية ممتازة ، و إنْ اختلفت مع بعضهم لجهة ذوقه و لونه و اتجاهه ، الذي اختطـّـه لذاته بنفسه ، فهذا لا يمنعني من أن أقرّ بموهبة ذلك الجيل ، ما أسّهم في إنعاش الأغنية الشعبية ، و رفعة الأغنية الحديثة آنذاك .
غير أنّ هناك خللاً ، واكب ظهور ذلك الجيل المبدع ، من حيث الدعاية و الاهتمام ، و لا المبالاة ، فقد كان لزاماً على النخبة المثقفة الليبية ، التي عايشت عصر ازدهار الأغنية الليبية ، أنْ تسلط مصابيح أقلامها على الغناء الحديث ، الذي قدّمته ثلة من الفنانين الجدد ، الذين برزوا بألوانهم المتطورة و الملتزمة - في آنٍ واحد - بأصول الغناء العربي السليم ، فلو قامت تلك النخبة المثقفة بواجبها على أحسن وجه ، لما اعتزل – بحسب ما أحسب – أحدٌ من ذلك الجيل فنه ، و لظلّ يصدح بغنائه عالياً إلى يومنا هذا ، فخسرنا نتيجة لذلك ، أصواتاً قلما يجود الزمن بها ، مثل صوت الملحن و المطرب : ' أحمد كامل ' و ' هاشم الهوني ' و ' محمد نجم ' و ' لطفي العارف ' و ' عز الدين محمد ' و ' وحيد سالم ' و أخرهم هؤلاء ، الفنان الشاب ' جابر عثمان ' و أخشى أن يكون الفنان ' عادل عبد المجيد ' قد حذا حذوهم ، فيئس و اعتكف ، هو الآخر ، بعد استبسال بطولي طويل .

http://www.almanaralink.com/new/admin/uploads/pics/hasham%20alhone.png

هاشم الهوني

و لعلّ الصورة المرفقة في صدر مقالتي هذه ، قد قامت بواجبها و أوحت لكم بواحد من أصحاب الأصوات الجميلة ، الذي بزغ نجمه في تلك الفترة الذهبية من الأغنية الليبية ، و سبقتني إلى التعريف به ، أو بالأحرى ، إلى التذكير به ، لأنه في الحقيقة ليس في حاجة إلى أن أُعرّف به ، فصوته و أعماله هي من قدّمته للمتلقي ، في صورة أبهى و أحلى من صورته ( الفوتوغرافية ) هذه ، التي عثرت عليها بشق الأنفس ، مع أنها غير واضحة للعيان ، فهي كما ترون ، ملتقطة بواسطة عدسة جهاز الهاتف النقال من خلال الشاشة المرئية لإحدى أعماله المصورة منذ ربع قرن ، على وجه التقريب .

http://www.almanaralink.com/new/admin/uploads/pics/jaber%20otman.png

جابر عثمان

فصوت الفنان ' مصطفى حمزة ' ذو مساحة عريضة ، يصعب حصرها بوحدات قياس الطول و العرض ، المعمول بها ، تزيّنه الحليات الصوتية ( التريلات ) ما جعل غناءه ، يكتسي حُلة قشيبة تتربع على قماشتها الحريرية ، رسوم لزهور و فراشات الإحساس العميق بالمعنى و العاطفة الجيّاشة المؤثرة في النفس البشرية ، إلى حدّ البكاء في المقاطع الحزينة ، من دون محاولات مزيفة منه لذلك ، و على نحو غير مسبوق ، و بملامح يتبيّنها المستمع ، حتى و هوّ ينصت إلى المذياع لا ( جهاز التسجيل ) لأنّ أشرطته غير موجودة في السوق ، فإذا كنت سعيد الحظ و صادف و جودك في البيت ، تكرُّم الإذاعة ببثِّ عملاً غنائياً له ، ستتكشف ملامحه الصوتية من غير استخدام مضخمات الصوت البشري الإلكترونية ، ليس هذا فحسب ، فالإحساس النقي الذي يشدو به هذا الفنان ، لا تودّ معه ، و لا تسمح أثناء غنائه ، بأنْ يعكر صفو إنصاتك ، حتى هسيس خفيض لصوت من أصوات الطبيعة ، و لو كان خرير الماء ، فهو يغنيك عنه سمعاً لا شُرباً بالطبع ، ذلك كي لا يقطع عليك لحظات الخيال الجميل و الممتع الذي تعيشه معه و يتزيّ به صوته العذب الحنون ، فمن خصائص هذا الصوت الرائع و الرائق ، ما مكّنه من أداء أرقى طبوع الغناء العربي المتقن ، المتمثل في فن القصيدة ، فأفلح و أبلى بلاءً حسناً في قصيدته ذائعة الصيت لا البث ( كان يهواني ) التي ينشد فيها هذه الكلمات الفاتنات :

إن سألوك عني اليوم قولي كان يهواني


كان يحبني كان يخصني بقلبه الحاني


قولي لهم كنت ليلاه كنت دنياه


و كنت أاحبه ملء إيماني


...


إنْ سألوك عني اليوم قولي مضى عني


تاركاً قلبي على جمرات الصدّ تحرقني


و ذكريات غوالي و أشواق تعذبني


قولي لهم كنت أهواه و يهواني


...


إنْ سألوك عني اليوم قولي كان يهواني


كان قدري و مصيري و أحلامي


كان أملي و تاريخي و عنواني


قولي لهم يا ويلتي كان يهواني ..


فهذ القصيدة من خلال ما قرأتم من معانيها ، تحوي حدوثة ( درامية ) حزينة ، لايقدر أيُّ صوت على أدائها ، ما لم يكتسب ميزات هذا الصوت ( الحمزاوي ) الجميل ، التي أضيف إلى ما ذكرت منها في أعلاه ، أنه أثناء الأداء ، يبدو صافياً رقراقاً ، فلا تختلط معه أية شائبة أو نقيصة صوتية في حنجرته الدافئة ، لكونه صوتاً رصيناً و جاداً و متدرباً جيداً على أصول الغناء العربي الصحي ، المطرزة أبياته ، على نسيج اللغة الفصحى ، و كذلك العامية اليسيرة الفهم ، و هذا ما تجلى في عدة أعمال له ، قوّلبها موسيقياً المُلحِّن المجدّد ' عمر الجعفري ' منها مثلاً ، أغنية ( ما يهمنيش ) و ( غنّي يا طير ) و ( يا صباح الخير يا بلادي ) و الأخيرتان ، تعدان من أشهر أناشيد الصباح في ( ليبيا ) لكني أدعوكم لحفل خيالي ساهر ، نقيمه على شرف هذا الفنان ، لنسعد و نستمتع بصوته الساحر ، و هو يتغنى بهذه الكلمات الرائعات ، التي تتضمنها أغنيته المشهورة ( حب كبير ) التي لحنها له هي الأخرى ، الموسيقار ' عمر الجعفري ' :

حب اكبير و أنتي موش وديدة


ود اكبير أنا حياتي سعيدة


...


زيدي في عنادي و زيدي الشوق


زيدي في بعادي طيف اعزيز


رسمه علي الوسادي .. طول اليوم بيه نفسي سعيدة


...


قولي شنو ذنبي قلبي حنون


هكي عطاه ربي ابحب الزين


راهو موش امخبي .. كيف ايميح لمحبة شديدة


...


لا اتلومي عليا حضنتك راه


بمحبة قوية و عهد الله


مخلص يا ابنية .. القلب ايذوب و عذابه ايريده ..


بقي أن أعقب في أعقاب هذه المقالة ، بحقيقة أن كتابتي عن هذا الفنان الجميل ، ربما لم تأتِ في أوانها ، أي بعد أن اعتزل الغناء ، و آثر الركون إلى الراحة ، فلتعتبروها لمسة وفاء مني تجاهه ، و أحب أن أعلم من لا يرى في الكتابة عن الأغنية الليبية ، فائدة قد تعود مباشرة على القارئ ، بأن مكوثي في بستانها لن يطول كثيراً ، لكوني من البداية ، لم انتهج أسلوب التوثيق في مقالاتي هذه ، بقدر ما دفعتني ذائقتي الفنية ، إلى تناول أصوات و شعراء غنائيين و ملحنين عباقرة ، وجدتهم يستحقون التقدير و الثناء على ما شنّفوا أسماعنا به من غناء .