المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محمد رشيد : الغناء بلا عناء


زياد العيساوي
09/04/2009, 15h38
استكمالاً لما ورد في مقالاتي الأخيرة ، بشأن جمال الصوت و المعايير الموضوعة و المتبعة لاستبيان الصوت الحسن المتكامل من نقيضه الرديء ، أضيف في هذه المقالة ، التي أمام أعينكم الآن ، هذه الخاصية المهمة في معرفة الصوت الجميل ، فمن طبيعة الصوت البشري أنه يختنق و يحتدُّ عند الطبقات العُليا ، و يتحوَّل إلى صراخ ، هو أقرب إلى الزعيق منه إلى أيِّ شيء ثان ٍ ، إلا أنّ هناك صوتاً لمطرب عربي كبير ، يُخالفُ هذه الطبيعة البشرية للأصوات ، فصوت المطرب " وديع الصافي " في هذه الطبقات ، يزداد مساحةً ، و يكتسب مزيداً من الأرياحية في الأداء ، ما يعني أنه لا تواجه أية صعوبة في أداء ضروب الغناء جميعها ، سواء أ كانت محلية - مثل ( العتابا و الميجنا ) و غيرها من الألوان الشعبية المعروفة في بلاد ( الشام ) التي تذكرت منها الآن ( المواويل الجبلية ) - أو طبوع الغناء العربي المتقن ( القديم و الحديث ) كالموشحات و القصائد - الدينية و الوطنية و العاطفية - بالإضافة إلى الطقاطيق و الأدوار الغنائية .

فمن المعروف بين الأوساط الفنية ، أنّ أيَّ مُلحِّن ، يقدر على التعامل مع صوت الفنان " وديع الصافي " من دون أنْ يمنعه أيُّ مانع ، من أنْ يُنغـّم موسيقاه كيفما يشاء ، لأنه يكون في حضرة صوت ، من القدرة على أنْ يتلون مع أيِّ لحن و الاندماج فيه ، على نحو مدهش ، حتى أنه قابلٌ لأنْ يُطوَّع حسب غناء أية جهة ، شريطة أنْ يكون اللحن المُعطى له ، مموسقاً على المقامات العربية المعروفة ، غير المنكفئة على نفسها ، أو المحسوبة على أقليم ما ، فكم من مُلحِّن من الأقطار العربية الأخرى ، لحّن له ، و عندما تستمع إلى هذا المطرب في مثل هكذا أعمال ، تشعر بأنّ هذا المطرب ، صاحب الصوت الجبّار ، ممّن ولِدوا في هذه البلاد و تكلموا بلهجتها و غنّوا من تراثها و اعتادوه باكراً ، و من جملة هؤلاء الملحنين الذين تعامل معهم الفنان الكبير " وديع الصافي " الملحنان الليبيان " إبراهيم فهمي " و " علي ماهر " .


و ما دُمنا في ( ليبيا ) فثمة صوت ليبي قدير ، يمتاز بأنه يغني بهدوء و بلا تشنج ، ذلك أنه قادر على الغناء من دون أدنى مجهود مضني ، ذلك لمخزون النبرات الموجود في حنجرته ، لكأنّ صوته مُعدٌّ للغناء أصلاً ، و مدرب بشكل فطري عليه ، و الهدوء يعني في اللغة ، الخفوت في الشيء ، فإذا قلنا : ( إن الضوء هادئ ) فهذا يشير إلى أنه خافت ، غير أنّ المعنى لا يستقيم في هذه الحالة الفنية ، فالهدوء في صوت المطرب " محمد رشيد " لا يعني البتة ، أنه يعاني من خفوت و ضمور ، بل هو مزية لا نقيصة ، لكن سهولة الأداء لديه ، لا تجعلنا نشعر سمعاً بأنه يجهد نفسه ، فاعتقدنا غير الحقيقة ، فصوته قوي و عال ٍ ، غير أنه تزيَّ بهذا الثوب الرومانسي في أعماله ، و خاصة في أغنياته الصباحية ، التي أكاد أنْ أجزم بأنه الرقم الصعب و القياسي ، في أداء هذه النمط الغنائي ، الذي أعلن - متحملاً مسؤولية ما أكتب أمام مرأى القراء عبر هذه السطور - بأنه أفضل و أنضج ما غنـّى فنانونا ، من نماذج الأغنية الحديثة ، حيث إنني أذكر لصاحب هذا الصوت الشجي ، ما شدا به في صباحاتنا من أناشيد ساحرة ، مثل ( ضحكت شمس نهارنا ) و ( يا وردة البستان ) و ( بان الصبح نواره زين ) و ( يوم أبيض نوّر ) .


فالكثرة الكاثرة منا ، تعتقد بأنّ هذا النمط الغنائي ( الأناشيد الصباحية ) بمضامينه و ألحانه و موسيقاه ، لا يعتدُّ به ، كمعيار لاستيضاح الصوت الجميل من الرديء ، في حين ، أنّ هذا الغناء الفريد ، ذا الطابع الخاص في كل ما يتصل به - لجهة الكلمة ، التي تحمل طابع التأليف الغنائي أكثر من كتابة الشعر ، كما في الأغنية الطربية و الإيقاعية ، و اللحن ، الذي ينطبع بالتجديد دائماً ، و التوزيع الموسيقي ، الذي تحتشد فيه عديد الآلات الموسيقية المختلفة الاستخدام ، كي يكتسب شيئاً من الفنطازية ، و الأداء ، الذي لا يتقنه سوى فنان يجيد التعبير الصوتي و الوصف الدرامي ، و لا يفوتنا كذلك توقيت إذاعته - لا يجعل أحداً ينجرُّ وراء أدائه ، إلا إذا كان صاحب حضور و ثقة بالنفس و معتداً بملكات صوته ، لِمَ ؟ فلو أتينا على موعد بثه في وسائل الإعلام المسموع ، نجده لا يتعدى سويعات ، بل قـُل دقائق معدودة ، هي التي تسبق خروجنا بعد صحونا في الصباح الباكر ، أي حينما يكون كل واحد منا ، ليس في سعة من الوقت ، كي ينصت إليه ، بل في حالة استعداد و تأهب للخروج طلباً للرزق - و هذا الأمر غالباً ما يكون في كلمات هذه الأناشيد ، أي الحث على الخروج لطلب الرزق – أي في حلٍّ من الغناء أصلاً ، فهناك ما يشغلنا و يصرفنا عنه في تلك الدقائق ، و مع ذلك ، فإنّ لملكة التعبير و التصوير الفني للحالة الإنسانية ، التي يتغنى بها فنان مثل " محمد رشيد " - بعيداً عن أسلوب التطريب و الغناء الراقص ، الذي اعتاده المتلقي في صنوف الغناء الأخرى ، كما في رائعته الصباحية ( ضحكت شمس نهارنا ) التي يشدو فيها مترنماً بهذه المعاني :




ضحكت شمس نهارنا .. زرقت فوق ديارنا
صحتنا من نومنا .. صبّحنا على جارنا
و من خيرات ترابنا .. اتباركنا يا أحبابنا
و تبسم نوارنا

...

طلعنا من بيتنا .. للبير و ساقيتنا
نخدم في سانيتنا .. و منها رزق اصغارنا
و تبسم نوارنا

...

في ترابك يا بلادنا .. زرعنا كنز أولادنا
و من زينوتك زادنا .. و خيرك مالي دارنا
و تبسم نوارنا
...

في ربيعنا في صيفنا .. ف شتانا و خريفنا
بنغني علي ريفنا .. و منه بنجني اثمارنا
و تبسم نوارنا ..


- صلة و ثيقة بالأبعاد الجمالية غير المرئية للصوت البشري ، في زحمة الأصوات الرديئة ، أو على الأقل ، غير المكتملة نضوجاً ، التي يتيح لنا هذا النوع من الغناء ، ترصدها و استيضاحها ، كما في صوت هذا الفنان ، الذي برع كذلك ، في أداء الغناء الشعبي ، أو بالأحرى ، المطرز على الجملة اللحنية الشعبية المطورة موسيقياً ، نوعاً ما ، كما في أغنيتي ( في أشعاري لقيتك ) و ( لا بعدك زهينا ) لكون الطبقة الصوتية السفلى و العليا و ما بينهما ( الوسطى ) سليمة في صوته ، فنراه أو بالأحرى ، نسمعه محتفظاً على هدوئه و وقاره و اتزانه طيلة زمن الأغنية ، حتى لتتصوّر أنه لا ينتقل من طبقة إلى أخرى ، بل إنه مستقرٌّ عند إحداها دائماً ، أو بمعنى ثان ٍ، يشعرك و هوّ يغني بأنّ صوته معقود بحبل متين ، لا يعرضه كما أصوات آخرين ، للهبوط الاضطراري بدلاً من الصعود إلى أعلى طبقة في صوته أحياناً ، أو بمعنى ثالث أدق ، أنّ صوته جعل لنفسه مدارج يصعدها بلا عناء ، كلما طاب له ذلك ، أثناء الانتقال من طبقة إلى غيرها تعلوها أو تسفلها ، أثناء الغناء .

و قد استمعنا إليه أيضاً في أداء الأغنية العربية الليبية الحديثة ، و لم يختلف مستواه و هو يؤديها ، عما اعتدناه منه في اللونين السابقين ، كما في أغنية ( ابتسمت و با ن كلام في عينيها ) التي كتبها الشاعر " ابن الطاهر " و نغّمها له المُلحِّن " محمد الدهماني " الذي أظهر دندنات آلة العود بطريقة عجيبة ، لم ألفها في الأغنية الليبية قبلاً ، عانياً بذلك ، التأكيد على أنَ هذه الأغنية ، هي نتاج ملحن بارع ، و قد أفلح في ذلك ، عندما أدّاها " محمد رشيد " مترنماً :

ابتسمت و بان كلام في عينيها
ضربت معاني ايش تقصد بيها ؟

...

ابتسمت و عيني رتها
تمشي تتمايل مع رفيقتها
طالت و اللي افـ جنبها ما رتها
ضربت الضرب اف وين ما تبيها

...

و اليد منها بعيدة
و القلب نقضتله جروح جديدة
يا هل ترى يشباح أيام سعيدة
تبري جروحه بعد ما اتداويها ..


فبصوته الدافئ ذي المساحة العريضة ، التي تملأ حيز الأسماع من حولنا كله ، علاوة على إحساسه بالمعنى العميق للكلمة و اللحن ، و احترامه لذوق المتلقي بانتقائه الجيد للأعمال ، تمكـّن من أنْ يحوز على إعجاب المستمعين ، بكل هدوء .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زيــاد الـعـيـسـاوي
Ziad_z_73@yahoo.com (Ziad_z_73@yahoo.com)
بنغازي في : 9 / 4 / 2009