المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : زمن عبد الحليم


MUNIR MUNIRG
17/03/2009, 05h40
القدس العربي فاروق يوسف 17/03/2009 زمن عبد الحليم الذي غادرنا: كنا نحلم أن نكون أكثر ولكننا لم نقبض إلا على الأقل! لم يصدق هوبي ابن عمي عبد الرزاق أن لبنى عبد العزيز لم تكن في الحقيقة السمراء الوحيدة التي غنى عبد الحليم حافظ من اجلها (اسمر يا اسمراني) إلا حين بلغ العشرين من عمره. كان الواقع امامه يقول شيئا آخر حين كان يجلس في عتمة السينما وهو يحلم مفتوح العينين. أما حين يغادر السينما فإنه يغمض عينيه للحظات ثم يفتحهما على سعتهما ليرى أن كل شيء قد تغير من حوله. يصير العالم أكثر خفة والناس أشد شفافية. كان الفتى يحرص على الذهاب كل يوم ليرى فيلم حافظ الجديد. وكان يخرج من كل عرض وقد حفظ عن ظهر قلب اغنية جديدة. يعود إلى البيت ليروي لي كل يوم الحكاية نفسها التي يرويها الفيلم، لكن بطريقة مختلفة عن اليوم السابق. لن تكون الحكاية نفسها كما لو أن الفيلم لم يكن نفسه. لم يكن هوبي يكذب أو يبالغ وهذا ما عرفته بعد سنوات طويلة، لقد كان في اجزاء كثيرة من الفيلم يغيب عن النظر المباشر، كان يرى بعاطفته ويحلق بقوة حدسه. لقد أصيب بعدوى الفن مبكرا. غالبا ما كان يقطع روايته بأغنية، حينها ينقطع التسلسل ويتلاشى الخيط الحكائي. (أنا لك على طول/خليك ليه) أتذكر أني رأيت دموعا تنساب على خديه الغائرتين. كان هوبي يحرص على رشاقته، وكان يمشي بالطريقة ذاتها التي يمشي بها المغني المصري لا ليثير اهتمام الفتيات من حوله بل ليتماهى مع معنى أن يكون موجودا في لحظة رقة متخيلة، هي اللحظة التي اخترعها حليم. واقعيا كان هوبي يعبر عن وجود استفهامي غامض. كان يأتي خفيفا مثل طيف ويختفي مثل شبح. ما بين ايابه وذهابه كنت أتنفس هواء مختلفا، عرفت فيما بعد أن ذلك الهواء لا يمكن العثور عليه إلا أثناء قراءة الشعر العظيم. يصعد هوبي إلى سطح الدار في ظهيرة صيف بغداد الحار فأتبعه على رؤوس الأصابع فلا يشعر بي لأراه وقد جلس على الأرض مستندا بظهره على سياج السطح وهو يردد مغمض العينين: توبة ان كنت أحبك تاني توبة. حينها أقف مرتبكا. ما الذي يقوله المصلي الخاشع أكثر من تلك الكلمات؟ كان معبد هوبي يتسع كلما جاءني بحكاية جديدة. ما بين (الخطايا) و(ابي فوق الشجرة) تمتد قارة من كلام منفعل. سلم لا يؤدي إلا إلى حياة لا يزال هناك ما ينقصها. لم يتعب حليم، إلا لأنه كان يسعى إلى خلخلة الطبقات الاجتماعية. الفقير الذي لم يخطئ طريقه، لكن عن طريق الغرام. حين كبرت قليلا قلت لهوبي: الاغنيات ربما توحي بشيء ما غير أن الرواية لا جديد فيها. تأملني صامتا وفي عينيه شيء من الدمع ثم قال: شغلوني وشغلوا النوم عن عيني ليالي/ساعه أبكي وساعه يبكي علي حالي. بعدها صار يردد: انك تظلم حليم. ليتك ترى ما أراه.2حين انتشر الخبر بين الصبيان وأنا من بينهم صار هوبي ينظر إلي بشفقة. (99) قبلة رقم لا يعبر عن شيء. الرقم وحده لا يعني شيئا. هل تعتقد أن حليم لم يكن لديه شيء يعمله سوى التقبيل؟ كان يراني سوقيا وهو ما أشعرني بالخجل. هل سمعت (عدا النهار)؟ في تلك اللحظة كنت مفتونا بنادية لطفي. وهي كما كنت أرى اجمل جميلات السينما العربية على الاطلاق. هي المرأة التي لا عمر لها، لا قياس لجسدها، لا خزانة لثيابها. حافة الشهوة ومائدة السحر. المرأة التي تصطحب جلجامش إلى الخلود. كان هوبي يراها ملكا لحليم وحده فيما كنت أرى فيها شبح الكاهنة التي تروي حاجة كل مصل. لم أقص صورها من المجلات ولم أضع قنينة عطر فارغة تذكر بها تحت الوسادة غير أني كنت اراها وهي تمد يدها إلى عيني. تغلق جفني وتقول: نم يا طفلي. كنت أنام مقهورا وأنا اردد: لست أمي. لم أرو حلمي هذا لهوبي الذي كنت اتوقع أنه سيقاطعني بسببه. بالنسبة له فان نادية لطفي التي شاركت حليم في (جانه الهوه جانه) هي ليست ملكا مشاعا. أكثر من مرة فشلت في احصاء عدد القبل التي حصل عليها حليم في (ابي فوق الشجرة) غير أني لم أحسده عليها، كما كان ابن عمي يتوقع وهو يرمقني بنظرات شرسة. كنت يومها اعتقد أن في إمكان أحد ما أن يقبل نيابة عن الآخرين. كان حليم يقبل نادية نيابة عني. كنت في الحقيقة أرى شفتي تطبقان على شفتي تلك الفاتنة.3موت حليم كان بالنسبة لهوبي لحظة ضياع لن يكون في إمكانه أن يغادرها أبدا. يعرف أن معجم الغرام لم يكتمل بعد. زلة قدر دفعت الفتى الاسمر إلى الصمت المكابر. ولكنه كان صمتا مؤقتا اشبه بالدمعة بين ضحكتين. كان زمن عبد الحليم بالنسبة لهوبي لا يقاس بما استنفد منه، بل بما لم يستعمل منه بعد. كانت النبوءة تحيق بذلك الزمن الطري من كل جانب. وهي النبوءة ذاتها التي يرتجلها كل وعد بأرض جديدة تطأها أقدامنا وهي تجري وراء لهاث شهواتنا. زمن عبد الحليم بكل خفته لم ينته، ولن ينتهي. هناك ثمالة منه في كل كأس. في كل لفتة عشق منه رعشة. في المرة الوحيدة التي رأى فيها هوبي معبوده في بغداد لم يكن متأكدا من أنه سيستطيع الامساك بتلك اللحظة الفائضة، في حينها كانت الذكرى تعذبه فقرر أن يخفض عينيه إلى الأرض. بعدها كانت دموعه تعيد رسم صورة ذلك المعبود بما يفيض منها. كان هوبي وقد أصبح مسنا لا يزال يمشي بقدمي حليم المرهفتين حين دوت بالقرب منه أصوات رصاص. كان يعرف أن الأرض السابقة لم تعد صالحة للخفة، فالعراق الذي كانت الأغاني تحلق به صار ثقيلا ولم يعد في إمكانه أن يحرك أجنحته. كانت تخيف ابن عمي جملة من نوع (العراق بلد محتل). هل تم احتلال الأغاني؟ وهل صار زمن عبد الحليم محتلا هو الآخر؟ حين سقط هوبي قتيلا روى الشهود أنهم رأوا جناحين أبيضين ينفصلان عن جسده ليحلقا في الفضاء. لقد انتهى زمن عبد الحليم إذاً. لم تعد معرفة من أغلق القوس تهمني كثيرا. لقد انتهى زمن الكلام العادي الذي كان ينث شعرا. نحن الآن في زمن الشعر الذي لا يرقى إلى الكلام العادي. كان لحليم بلاغة زمنه الآسرة. وهي بلاغة لا تقيم في الصور المجانية، بل في الكلمات التي كانت تقول حمولتها بتعفف وزهد واقتضاب. كنا نود أن نكون أكثر ولكننا لم نقبض إلا على الأقل. الآن بعد كل هذا الموت العراقي كلما أغمضت عيني أسمع صوت ذلك القتيل البريء وهو يردد: أنا لك على طول خليك ليه/ خذ عين مني وطل عليه. شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد