المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عثمان الموصلي وأبو العلاء المعري موازنة عامة بينهما


مهيمن الجزراوي
24/02/2009, 12h06
عثمان الموصلي وأبو العلاء المعري موازنة عامة بينهما


بقلم الأستاذ الدكتور عادل البكري


عثمان الموصلي شخصيته عجيبة ، فهو موسيقار بارع ورائد من رواد الموسيقى الأوائل في العراق ، وكان من اقدر الموسيقيين على وضع الألحان للاغاني والموشحات ، وله أسلوبه الخاص بغناء المقام والأدوار المصرية وهو فضلاً عن ذلك قارئ ومقرئ للقرآن الكريم ويجيد القراءات السبع والعشر وغيرها.
وهو متصوف على الطريقة القادرية ثم الرفاعية. وكان أستاذا في الطريقة المولوية ومعلما لها.
وعمل الموصلي في الصحافة في مصر فاصدر مجلة (المعارف) في القاهرة إثناء سفره إليها عام 1313هـ (1895م) وبقائه فيها خمس سنوات.
وهو كاتب وأديب له أسلوبه الأدبي المتميز. وهو سياسي مرموق في دولة الخلافة العثمانية , وكان يرسله الخليفة العثماني إلى البلاد الإسلامية في مهمات خاصة.
وهو ثائر من ثوار (ثورة العشرين عام 1920م) في العراق ومحرض لها.. هذه كلها هي نصف الأعجوبة لهذا الرجل.. أما النصف الثاني فهو كونه كفيف فاقد البصر يتحسس طريقه بعصاه الغليظة. ومع ذلك فقد أعطي موهبة أخرى وهي انه يستطيع التعرف على الناس بمجرد لمس أياديهم فيقول لأحدهم وقد غادره لسنين طويلة: أنت فلان!
لم يعرف بين العرب من وصل إلى ما وصل إليه عثمان الموصلي من ذكاء وسعة المعرفة مع فقدانه للبصر منذ طفولته سوى أبو العلاء المعري. والشبه بينهما كبير ، فكل منهما كان قد فقد بصره لمرض الجدري الذي أصابه في طفولته الأولى وهو غض العود رخص البنان لينشأ مجدوراً ضعيفاً كفيفاً في عالم رهيب من الظلام الذي يحيطه من كل جانب يعاني الفقر والجوع ، ولكنه لم يستسلم لعاهته بل تعهد نفسه بالتعلم والتأدب ودرج على مدرج اللغة والأدب والشعر فكل منهما شاعر وأديب مرهف الحس ، وكل منهما شديد الحفظ قوي الذاكرة. فأبو العلاء يسمع كلاماً أعجميا من رجل غريب ولا يفهم منه كلمة واحدة فيعيده على جار له أعجمي كما سمعه من الرجل الغريب وإذا به رسالة باللغة الفارسية إلى الجار تخبره أن أباه وإخوته قد ماتوا فصار يلطم ويبكي لأن الرسالة موجهة إليه.
وذا عثمان الموصلي تتلى عليه الدروس والقصائد الطويلة فيحفظها بمجرد سماعها من دون أن ينقص منها حرفاً أو يزيد.
وكان كل منهما طالباً للعلم في عاصمة الخلافة في زمانه ، فأبو العلاء يدفعه طموحه فيسافر إلى عاصمة الخلافة العباسية ، وعثمان كذلك يسافر إلى عاصمة الخلافة العثمانية وكل منهما يريد الاستزادة من العلم والالتقاء بالعلماء حاملاً معه عاهة العمى مستهيناً بها ومتكبراً وعناء الطريق.
أما أدب النثر عندهما فهو ابلغ الصور. فهذه قطعة من رسالة كتبها أبو العلاء المعري إلى داعي الدعاة بمصر يقول فيها: "قد حضرتني فيما نطق به دقائق ، هن لدى الكشف حقائق. ومن أنا حتى يكتب إلي؟ ومثله في ذلك مثل الثريا الطالعة كتبت إلى الثرى وهو لا يسمع ولا يرى. وقد علم الله أن سمعي ثقيل ، وبصري عن الإبصار كليل.. ثم توالت محني حتى أشبه شخصي العود النحيل. ومنيت في آخر العمر بالإقعاد وعداني عن النهضة عاد".
وقال عثمان الموصلي ما يشبه ذلك في رسالة كتبها إلى احمد عزة الأعظمي الأديب المعروف قال فيها: "كحلت بصيرتي لا بصري وأجلت نظر فكري لا نظري بلطائف صدرت عن عربي النزعة والمجار ، وطرائف برزت من أعظمي الإقدام والاستبصار... جوالة في بحار الفلسفة ، لاوية العنان عن كل سفَه ، حريّة أن سترشد بها من استرشد ، أتْهَمَ فيها أو أنجد ، فحينئذ طَفِقت اسأله عن هويته وكشف القناع عن ماهيته".
ومن أوجه التشابه بينهما أن كلا منهما يلعب الشطرنج وهو الشيء الذي يتطلب من اللاعب الضرير أن يحفظ في ذاكرته مواضع أحجاره فضلاً عن أحجار خصمه ويحفظ نقلات كل قطعة منها لتبقى صورة حشد القطع على الرقعة مرتسمة في ذهنه مهما تغيرت مواضعها واختلفت حركاتها.
هذه كلها أوجه التشابه بين الاثنين. أما مواضع الاختلاف فنذكر منها إن شعر أبي العلاء يزخر بالبلاغة والمعاني الجزلة وشعر اللزوميات ويتناول جميع أغراض الشعر ويتفوق بذلك على الموصلي فهو شاعر أصيل متفرغ للشعر بينما لم يتفرغ الموصلي للشعر فهو له نشاطات أخرى ولكنه يتفوق على المعري بضرب آخر من ضروب الشعر وهو نظم التاريخ الشعري أي وضع تاريخ إحدى المناسبات في الشعر حسب الحروف والكلمات وهو من أصعب فنون الشعر ولا يقدر أحد من الشعراء أن يبلغ ما بلغه الموصلي في هذا المجال.
ويتفوق المعري على الموصلي بشيء آخر وهو فلسفة العقل بينما يتفوق الموصلي على المعري بالموسيقى والألحان.
وان تفضيل العقل ينسجم مع فلسفة أرسطو حتى قيل انه درس الفلسفة اليونانية وهو يؤيد حشر الأجساد ولا يؤيد قدم العالم.
أما الموصلي فترجح كفته في هذه المقارنة في مقابل فلسفة المعري وذلك بتفوقه بالموسيقى والألحان كما ذكرنا فهو يعزف على العود والقانون فيخرج النغمات الشجية ويضرب على الطبلة بسرعة هائلة تدعو إلى الإعجاب ويضع الحان الأغاني والموشحات ويغنيها. ومن تلاميذه في الموسيقى الموسيقار المصري المعروف سيد درويش.
وأظن أن المقارنة انتهيت إلى هنا بالتكافؤ والتعادل بين الاثنين بأنواع المواهب وجوانب النبوغ ، فكل منهما له نبوغه في جوانب تقابل ما يتميز به الآخر.
ولكن إنصافا للحقيقة ، وليس من قبيل التعصب لعثمان الموصلي فإن له جوانب أخرى من النبوغ والتفوق لا تتوفر عند المعري كالطرق الصوفية ومن أهمها المولوية التي هي ابتهال إلى الله عن طريق الرقص والدوران على أنغام الكمنجة والناي والطبلة. وكم يكون غريباً لو سمعنا إن بالعلاء المعري كان يدور على كعب قدمه ويرقص المولوية أو يضرب على الطبلة ويعزف الأنغام ولكن ذلك لم يحصل على الإطلاق.
وكان الموصلي قارئاً للقرآن ومقرئاً على القراءات السبع والعشر وغيرها ومن أشهر تلاميذه شيخ قراء مصر الخالد الذكر الشيخ محمد رفعت ، بينما كان أبو العلاء لا يقرأ القرآن ولا يعرف ما هي القراءات القرآنية بل فوق ذلك كان متهما بدينه. وكان الموصلي صحفياً واصدر مجلة باسمه ولم يكن المعري صحفياً.
وكان الموصلي سياسياً يفاوض الحكومات والدول باسم الخليفة العثماني ولم يكن المعري سياسياً ، وما كان أبعده عن السياسة.
وكان الموصلي ثائراً ضد الانكليز منذ احتلالهم للعراق عام 1917م ويحرض الناس على الثورة حتى هاجمه القائد البريطاني (ساندرز) ببيان أصدره ضده بينما لا يعرف المعري ما هي الثورات.
وكان الموصلي محباً للحياة تزوج مرتين وأنجب أولادا وأحفادا أعانوه في شيخوخته بينما كان المعري يكره الزواج وإنجاب الأولاد وأوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي وما جنيت على احد
والجناية هي وجوده في الحياة وإنجاب الأولاد.
وكان الموصلي متفائلاً يحب المجتمع ويحب الناس ويحب النكتة حتى قيل انه يضحك الثكلى. بينما كان المعري متشائماً انعزالياً حبس نفسه في بيته سمى نفسه (رهين المحبسين) أي العمى والبيت.
ومع ذلك فقد تهيأ للمعري من يكتب عنه الكتب ويخلد اسمه في الموسوعات الأجنبية حتى أن احد المؤلفين الأجانب وهو (لويس يونغ) قال في كتابه (العرب أوربا) الصادر في بيروت سنة 1979 أن المعري أعظم مفكر عند العرب وان تأملاته الفلسفية تتجلى في مواقفه التقدمية والعقلانية. بينما لم يكتب عن عثمان الموصلي أي كاتب خلال أكثر من مائة عام بعد ولادته حتى تهيأ لي أن اكتب أول كتاب عنه صدر عام 1966 بعنوان (عثمان الموصلي الموسيقار الشاعر المتصوف). ثم اتبعته بكتابين آخرين واعتمدت في انجاز هذه الكتب على أكثر من خمسين مصدراً كتابياً ولقاءً مع المعمرين وأشرفت بنفسي على إقامة تمثال له في الموصل فعرفه الناس وكتبوا عنه وسميت باسمه قاعات ، ومحلات ، وأقسام في معهد الفنون الجميلة ببغداد ، والحمد لله رب العالمين.