المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجذور التاريخية للموسيقى العسكرية العراقية


مهيمن الجزراوي
31/01/2009, 17h56
الجذور التاريخية للموسيقى العسكرية العراقية


الباحث الموسيقي مهيمن إبراهيم الجز راوي
ماجستير علوم موسيقية
استاذ في قسم الفنون الموسيقية
كلية الفنون الجميلة – جامعة بغداد



تطبيقاً لقول احد الفلاسفة (إذا أردت أن تعرف مدى رقي شعب من الشعوب فأستمع إلى موسيقاه) تأخذ الموسيقى دورها ومكانتها الرفيعة في مراسيم الاستقبال والتوديع الرسمي للرؤساء والملوك والأمراء الضيوف ، إذ يقوم الجوق الموسيقي العسكري بعزف السلام الجمهوري أو الملكي أو الأميري الخاص بالبلد الضيف والمضيف ، وتستمر الموسيقى بدورها الرسمي في مسير القادة على أنغامها وإيقاعها لتفتيش حرس الشرف ، فيكون أول ما يطلع عليه الرئيس أو الملك أو الأمير الضيف والوفد الرسمي المرافق له أول ما تحط أقدامهم أرض البلد المضيف هو مستوى موسيقى ذلك البلد من خلال ما يقدمه الجوق من دقة في الأداء ، والانضباط ، والقيافة. لذلك نجد دول العالم المتقدمة تهتم اهتماماً واسعاً بأجواقها العسكرية ، وعلى وجه الخصوص جوق حرس الشرف باعتباره واجهة البلد الحضارية.
وفي العراق كانت ولا تزال الموسيقى العسكرية رافداً مهماً من روافد الموسيقى في قطرنا العزيز حيث ساهمت برفد الموسيقى العراقية بالموسيقيين والمؤلفين والملحنين من عازفين ماهرين ومعلمين أكفاء ، كان وما زال لهم الدور الكبير في نمو وازدهار وتقدم الموسيقى العراقية المعاصرة من خلال الدور الفاعل والحيوي وتقديم الكثير من العطاءات الموسيقية المتميزة في مختلف مرافق الحياة العسكرية والمدنية سواء كان ذلك في أيام الحرب أو السلم. ويحتل الموسيقيون العسكريون في العراق مكانة مرموقة ومهمة وبشكل خاص في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية التي يتصدرون فيها الآلات الموسيقية الهوائية والإيقاعية ، وتعد مدارس الموسيقى العسكرية المصدر الرئيس والاهم في تعليم هذه الآلات والتدريب عليها.
تؤكد لنا اللقى الآثارية بأن مولد الموسيقى العسكرية كان في بلاد الرافدين ، وأن أقدم إشارة مدونه تثبت استعمال الأغنية في الحرب هي رسالة مكتوبة على لوح من الطين بالخط المسماري والتي تشير إلى إن الملك الآشوري (شمشي أدد الأول الذي حكم قبل 3730 سنة من الآن) والمعاصر للملك البابلي المشهور حمورابي ، كان قد بعث بها إلى احد عماله في الأقاليم يطلب فيها تجنيد ثلاثة مغنين ومنهم المغني المشهور آنذاك (سين – ايقيشان) وإرسالهم مع الحملة العسكرية. إن الغرض من مشاركة هؤلاء المغنين في الحملة العسكرية الآشورية هو ولاشك تقديم الأهازيج والأغاني الحماسية لإثارة حماس واندفاع المحاربين الآشوريين.
وضمن وظيفة الفن الموسيقي في العراق القديم نذكر دور الموسيقى الآلية في تحفيز الجند أيام الحرب وإثارتهم ورفع معنوياتهم ، ومن منحوتة آشورية تعود إلى عهد الملك آشور بانيبال ، أي قبل حوالي 2650 سنة نتأكد من استعمال الموسيقى الآلية ضمن المعركة الحربية ، ومن منحوتة جدارية أخرى تعود للملك الآشوري سنحاريب ، الذي حكم منذ سنة 2688 ولغاية 2765 من الآن. ومما يميز هذا الدليل الأثري عن غيره من أدلة الحضارات القديمة مشاركة الموسيقى خلال احتدام الجند في المعركة ، أي في مرحلة الاشتباك والمنازلة ، كما تركت لنا حضارة وادي الرافدين دلائل أثرية على استعمال الموسيقى بعد انتهاء المعارك الطاحنة المكللة بالانتصار على أعداء البلاد.
وفي العصر الآشوري الحديث (الألف الأول – 612 ق. م) نشاهد الملوك في مناسبات الاحتفال بالنصر على العدو ومعهم الموسيقيون ، كما وكان يرافق الملوك الآشوريين في حملاتهم العسكرية موسيقيون من صنف (نارو Naru) ، ويظهر من كل النصوص المسمارية والمشاهد الموجودة على الآثار المختلفة ، وجود موسيقيين عسكريين يشتركون في الحملات العسكرية لإثارة حماس المحاربين.
وعرفت في عصور الحضارة الإسلامية الطبلخانة (والطبل خانة أي الجوق الموسيقي العسكري) ، والطبلخانة أو الطبلخاناه هي جملة مؤلفة من كلمتين الأولى الطبل وهي آلة معروفة من آلات الإيقاع ، والثانية خانة أو خاناه وهي كلمة فارسية معناها (البيت) ، فيكون معنى الجملة (بيت الطبل) ، والطبلخانة هي طبول متعددة وما يتبعها من آلات موسيقية من أبواق ومزامير وشبابات وكوسات تختلف أصواتها على إيقاع مخصوص تدق في كل ليلة بالقلعة بباب الملك ويدار في جوانبها بعد صلاة المغرب مرة وبعد صلاة العشاء مرة أخرى وقبل التسبيح على المآذن وتسمى (الدورة). وتدق الطبلخانة أيضا خلف الملك إذا ركب في المواكب ونحوها وتدور حول خيامه في السفر.
يذكر الرحالة الإيطالي المونسنيور سبستياني وهو الأب جوزيبه دي سانتا ماريا الكرملي (1623م – 1689م) في إحدى رحلاته إلى العراق عام 1656م ماراً لأول مرة ببغداد انه يجري عند خروج الوالي (حيث كان والي بغداد آنذاك آق محمد باشا (محمد باشا الأبيض) للفترة (1654م – 1656م)) ، من السراي استعراض فخم ، فيسير الموكب على صوت الأبواق والطبول ، مع ثلة من العسكر الخيالة الرفيعة ، ويلبس العسكر وكبار الموظفين أزياء غريبة متنوعة ، خاصة جلود النمور الرائعة وقماش الأطلس الجميل).
كان من المألوف في عهد الحكم العثماني عزف موسيقى الجيش في ساحة السراي (والسراي هو ساحة شاسعة في جانب الرصافة من بغداد كانت دوائر الحكومة الرسمية على العهد العثماني مركزة فيها. وواصلت الحكومة العراقية بعد تأسيسها استخدام السراي كمقر لكافة الوزارات العراقية واغلب المديريات العامة) مرة في الأسبوع وفي الأعياد كوسيلة للدعاية واللهو في الوقت ذاته. وكان الناس يهرعون بهذه المناسبة بأطفالهم إلى السراي للاستمتاع إلى هذه الموسيقى والتمتع بجو اللهو الذي يعم في السراي.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ومن خلال العازفين المتسرحين من أجواق موسيقى الجيش العثماني تكونت فرق موسيقية شعبية صغيرة بدأت تتسلل للمشاركة في أفراح الناس وأتراحهم وتعزف للشعب المقطوعات الموسيقية العالمية ، والمقطوعات والأغاني الشعبية الشائعة والموروثة والمبتكرة ، ولكن بأداء موسيقي شبه تلقائي وغير منضبط.
قد شاع في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين لون من الموسيقى سمي بـ(مزيقة السراي) ويبدو أن الاسم نشأ عن التشابه بين آلات جوق مزيقة السراي وآلات موسيقى الجيش. يتألف جوق مزيقة السراي من ستة أو سبعة موسيقيين يعزفون على أبواق نحاسية مختلفة الأحجام مع طبل أو بدونه ويقوم هذا الجوق بعزف موسيقى بعض ألاغاني الشعبية الشائعة في أيامه.
من الحوادث والوقائع التي شاهدها أهل بغداد في عشرينيات القرن العشرين وهزت المجتمع في حينه ، استعراض الجيش البريطاني الأسبوعي في شارع الرشيد ، ولم نكن قد رأينا مثلها من قبل ، تتقدمهم الموسيقى العسكرية مع لاعب الصولجان بحركاته اللطيفة المتسقة مع المشية والموسيقى.وكان مجرد ظهور شخص أمام الجوق ليقوده ويشير للعازفين بعلامات التوقيع والأداء يعد ظاهرة جديدة في الموسيقى.
تعتبر الموسيقى العسكرية أقدم مؤسسة فنية في التاريخ العسكري للجيش العراقي المعاصر بعد تأسيسه عام 1921م بصنوفه الثلاثة الرئيسية (المشاة ، والمدفعية ، والخيالة) وبعض الخدمات الإدارية الضرورية ، اخذ المقر العام يسعى لاستكمال صنوفه الأخرى فانبثقت فكرة تشكيل أول جوق موسيقي عام 1923م أسوة بالجيوش المتقدمة والحديثة ليقوم بواجبات المراسيم والحفلات آنذاك ، غير أن الأوضاع المالية لم تكن مساعدة على الإنفاق على مثل هذه الأمور ، لذا فقد استقدم احد نواب الضباط البريطانيين المتقاعدين وهو(كل فيلد - Field)
للاضطلاع بهذه المهمة ، فأخذ على عاتقه ذلك ، وسافر إلى الموصل لتشكيل أول جوق موسيقي عسكري هناك وذلك لعدة أسباب منها وجود عدد من فرق الكشافة في المدارس ثم وجود عدد من الموسيقيين من أهالي الموصل من متسرحي الجيش العثماني المنحل من صنف الموسيقى كان من أبرزهم (محمد علي) الملقب بـ (أبو الموسيقى) إذ كان معلم موسيقي في الجيش العثماني ، و(محمد جاووش) وهو من المتقاعدين العثمانيين ومن عائلة مشهورة في فن الموسيقى في الموصل ، و(عبد الواحد مصطفى) الذي وصل إلى رتبة رائد في الجيش العراقي قبل إحالته على التقاعد ، أما بالنسبة لأجواق الكشافة فكان منهم حنا بطرس (الموصل 1896م – بغداد 1958م).
لقد استعان (كل فيلد) بكل هؤلاء في تدريب الجوق الجديد بعد أن تم تطويع العدد المطلوب من الراغبين من شباب الموصل بعد اختبارهم وبذلك يمكن اعتبار يوم (20/8/1923م) هو يوم تأسيس أول جوق موسيقي عسكري في العراق برئاسة (كل فيلد).
قد تم الاتفاق على إحياء أول حفلة موسيقية في مقهى البلدية الواقعة قرب رأس الجسر القديم في مدينة الموصل ودعي إليها وجهاء الموصل وأعيانها ، وألقيت الخطب والكلمات المناسبة وتجمع التبرعات ، وأقيمت الحفلة في الوقت والمكان المقررين وحصلت الموافقة من الجهات الرسمية على تطوع بعض الأحداث ممن تتراوح أعمارهم من (14 إلى 20) سنة على أن يجيدوا القراءة والكتابة وان يتطوع مع هؤلاء بعض قدماء الموسيقيين في الجيش العثماني ليكونوا مدربين لهم ، وتطوع في (3/9/1923م) سبعة عشرة حدثاً من قبل لجنة تجنيد الموصل حضروا الحفلة ، فأصبح هؤلاء النواة الأولى التي ألف منها أول جوق موسيقي مع بعض المتقاعدين من ضباط صف الجيش العثماني المنحل.
بدأ العازفون القدماء منهم على تعليم الجنود الجدد العزف على الآلات الموسيقية وبالطبع لم يكن العازفون القدماء ممن يجيدون القراءة والكتابة الموسيقية بل اقتصر عزفهم على سماع ما تعلموه في الجيش العثماني مع عزف بعض المقطوعات البسيطة التي كانوا يجيدونها.
بعد ذلك حاول (كل فيلد) تعليم بعض القدماء العزف على وفق النوتة الموسيقية فاستخدم احد العرفاء البريطانيين الموجودين آنذاك في الوحدات التي في الموصل لتعليم (عبد الواحد مصطفى). وقد أفاد عدد من ضباط الصف مما تعلمه حينذاك ، وقد جرى التدريب على النوتة الموسيقية من خلال العزف على الآلات الهوائية التي كانت متيسرة لديهم في ذلك الوقت مثل الأبواق المختلفة والطبول والصنوج.
وبعد تدريب استمر بحدود الستة اشهر وضع خلالها السلام الملكي ثم سلام الأمراء (وهو المقدمة لمارش المدفعية البريطاني) وعلم الجنود بعض المقطوعات الخفيفة التي كان يجيدها الجنود القدماء كمقطوعة أردهان، وسميحة ، وسالونيك ، وتوليدو (التفتيش) ، وغيرها.