المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أزاهير من ديوان عمر أبو ريشة


أحمد مكاوي
06/12/2008, 18h00
أزاهير من ديوان عمر أبي ريشة

عند النظر في ديوان عمر أبو ريشه يتجلى لنا معنى الشعر الصافي في أبهى صوره , يذهب بنا إلى أبعد نقطة يمكن أن تصلها النشوة التي يولدها فينا , يطلق الآه النابعة من عمق الإعجاب والتأثر من خلال صور رائعة , بسيطة / معقدة , واضحة / غامضة , قريبة / بعيدة , تتحول الكلمات إلى أشباح جميلة ترغمك على السير وراءها دون انقطاع , وكلما أحسست أنك تقترب منها وتكاد تلمسها بل تحضنها .. تجدها على بعد شاهق منك , عروسا تتألق في أبهى زينتها ..
إقرأ مع إن شئت قصيدة « سراب» وتمتع معي بكل الصور المتلاحقة في قصيدة قصيرة , يرغمك كل بيت منها بل كل شطر من أشطرها على أن متابع القراءة بكل افتتان إلى أن تصل معه إلى البيت الأخير , فتبلغ الذروة عندما يفسر الشاعر ظاهرة طبيعية تفسيرا شعريا راقيا , ولا تتصور أنه سيفصلك عن جو القصيدة بل بهذا التفسير وهذا البيت تحلق القصيدة عاليا في سماء الإبداع , وهل هناك أجمل من :

إن تهتكي سـر السـراب وجدته
حلـم الرمـال الهاجعات على الظما



وانظر معي إلى هذه الصور الشعرية المحلقة المتدفقة وراء بعضها البعض في بيتين هما الثاني والثالث :

سالت مـع الأمـل الشهي لترتمي
فـي مسمعيـك فما غمزت لها فما
فخنقتها في خاطري .. فتساقطت
فـي أدمعـي .. فشـربتـهـا متلعثما


وانظر إلى « غمزت لها فما » وهو ينكر عدم تكلمها , أو تعليقها حول الكلمات « الجراح » التي يرددها الضمير مغنيا بنجوى حالمة , رقراقة , متدفقة مع الأمل المسكوب في مسمع الحبيبة .
وانظر معي إلى جمال « مسمعيك» هنا , أهناك أجمل منها في هذا المكان؟ ولما أن رأى منها ما رأى , خنق النجوى في خاطره , معبرا عن ألم مستنكر , إلا أنها لم تطعه وتواطأت مع الدمع لتسقط فيه , فيلحقها لاهثا ليشرب دمعه متلعثما , لا يستطيع أن يبين في كلامه من دمعه وألمه .
ويمضي بنا الشاعر على جناح الخيال ليشركنا في صيده و ياله من صيد حلما ينام بأفقه متوهما ما يحلو لكل عاشق أن يتوهم في هذا الموقف فتوهم معه .
ثم يخاطبها بعد كل هذا بصفة هي من أرق وأقرب الصفات الإنسانية « أختاه» وهي بالطبع ليست أخته , لكنها أرادت ذلك ولن تكون صفة أقرب إليه بعد أن رفضت أن تكون « الحبيبة» إلا هذه ..

أختــاه قــد أزف الـنـوى فـتنعمـــي
بعدي فأن الحب لن يتكلـمـا


لقد مات , وهل يتكلم الموتى , وما دام يرضيك هذا فتنعمي أنت وحدك بهذا الموت ودعيني وحدي لكن: « لا تحسبيني ساليا» فما ترينه وتلمحيه من الذهول المبهم على وجهي لا يعبر حقيقة عما يمور في خاطري إنما هو مثله مثل السراب الذي إن فتشت فيه وجدته « حلم الرمال الهاجعات على الظما» .
أي صور رائعة ؟ وأي شعر هذا الذي نقرأه هنا في هذه القصيدة ؟ وأي جو عشنا فيه مع هذا العبقري الذي لا يعرف الكثير عنه غير أنه شاعر كلاسيكي ينظم على إيقاعات الخليل التي لم تعد تصلح لهذا العصر وأي عصر ؟

وحلق معي / معه في قصيدته « حسبي » وهي لا تختلف عن أختها في القصر , حيث جاءت في ستة أبيات في منتهى الروعة, ويزيدها روعة بيتها الأخير , فهو صورة من واقع حسي يتكون من ثلاث مكونات كل مكون يأكل الآخر منجل , وطير , وسنابل ,إلا أن الشاعر رمى النجل لينفرد الطير بالسنابل الملأ , أما هو فلن يغير أو يحاول , وحسبه أنه مر بخاطر النعمى فترة قليلة هي في عمر المشاعر والأحاسيس كون بسعة الدنيا وما فيها لمن ذاق حلاوة هذا الإحساس واستطاع أن يعيش جوه وجوها , وحسبه أيضا أنه انتهى إلى حقيقة لن يغيرها ولن يحاول حتى :

لـك مـا أردت فـلــن أغــيـــر
ما أردت ولــن أحـاول


ما دامت أرادت هذه النهاية فلها ذلك وكيف له أن يرد أرادة المعشوق , بل يترك كل شيء ويرمي بكل وسيلة يمكن أن تغير الأمر ولو كانت هذه الوسيلة قلبه وحبه , وليترك كل هذه الثمار وهذا الجمال والحسن لغيره من الطيور التي تأتي لتملأ بطنها فقط , متعة حسية زائلة لا تدوم , هز يرفض أن يغير ويسأل حتى

أنـــي رميـت بمنجلـي
وتركت للطير السنابل


وقد لا يرى البعض جمال هذه الصورة الشعرية الرائعة لكن من يستطيع أن يقرأ القصيدة وحدة متكاملة غير مفصولة عن بعضها سيعرف قيمة هذا البيت وجماله , بل ولعل القصيدة بدونه لن يكون في مستوى هذا الجمال الذي هي عليه ..
ويمضي بنا عمر أبو ريشة على بساط القصيد محلقا في سماء الإبداع , وهو يختصر رحلته في هذه الدنيا معبرا عنها في بيت من قطعة تتكون من ثلاثة أبيات هي :

هـي الـدنيـا .. ومـا بــينـهـمــــــا
غـصص حـرى وأهـوائي العنيــدة
رحلـــة للشــــوق لــم أبلـغ بهـــا
مـا أرتني مــن فــراديسـي البعيــدة

طـال دربـي وانتهــى زادي بهــا
ومضـى عمري على ظهر قصيـدة



هذا هو العمر وهذا هو المنتهى عند الشاعر , أي شاعر مهما حاول البعض التمرد على هذه الصورة , وهذا الوضع , مهما طال دربه , وانتهى زاده في هذه الدنيا / المرأة , لن يصل إلى شيء إلا إذا ركب عمره على ظهر قصيدة , بها وحدها يصبح للعمر معنى , و بها وحدها يكون المركب الذي يبلغ به إلى ما يريد من الخلود , وهل هناك غاية أسمى عند الشاعر من أن يبلغ الخلود .
ومع هذا فإن عمر أبو ريشة في قصيدته التي تحمل عنوان « لمن ؟» يرينا ويدخلنا في عالم شاعر (هو أو غيره) لنعرف من خلالها ما ينتظر هذا الشاعر من ألم لذيذ قاس يتحمله الشاعر راضيا أراد أو لم يرد , فلا خيار له غير هذا ..
قصيدة « لمن ؟» تعبر بوضوح عن حالة لا بد أن يصلها كل شاعر بعد أن يعرك طريق القصيد .. ويعرف أنه دخل مدخلا صعبا لا يمكن أن يتراجع فيه , ولكن أيضا لا أفق واضح أمامه يمكن أن يمهد له السبل إلى إتمام المسيرة .. مدخل يدخله الشاعر بنشوة الفارس المنتصر .. والعاشق الذي لمح طيف الحبيبة يلوح له .. ولكن كلما تقدم إلا ووجد الفرس يكبو .. ويكبو .. وكلما اقترب إلا ووجد الطيف يتراجع .. يتراجع وهو لا يكف عن التلويح .. إنها معادلة صعبة وشائكة ولا يمكن لا أحد من الشعراء أن يحلها , بل لا يمكن له أن يشتغل أصلا بالبحث عن حل لها , فانشغاله و تماهيه في القصيدة هو ما يمكنه فعلا وقولا.
لمن تعصر الروح يا شاعر
أما لضلال المنى آخر؟



هذا السؤال العصي على الإجابة .. هذا السؤال الممتد منذ أن لهج الشاعر بأول بيت إلى أن يموت على ظهر قصيدة كما عبر شاعرنا مفتوح .. مفتوح لا إجابة عليه .
ثم يمضي : أللحب ؟ أللهو ؟ أللمجد ؟ وكلها أطياف تداعب جفن الشعر, وتدغدغ وجدانه وعقله , إلا أن الإجابات واضحة في هذه القصيدة – عند شاعرنا على الأقل – من خلال صيغ الاستفهام التي بعد الاستفهام الأول .. ووضوحها يفتح الإستفهامات إلى ما لا نهاية لأننا نستشف أن الشاعر لم يجب بقدر ما أعاد طرح السؤال من جديد :

أيــــن التفــــات الفتــــون
إذا هتــف الأمــل العاثر؟
كــــم دميــــة صنعتـهــــا
ومزقــها ظفرك الكاسـر ؟
مـاذا يحـــس القتيـــــــــل
إذا ازور أو بسم العاثـر ؟


ماذا بعد هذا ؟؟
رويـدك لا تسفحـن الخيال ببيداء ليس لها سامر


إذا هذا العبث أما له نهاية ؟هذا المحال الذي تطلب وتزجي من خلاله الصور الرائعة في صحراء خالية لا سامر فيها أو نديم ..هذا العالم الذي لم يعد يلتفت إلى الشاعر وخياله وآماله وأحلامه التي ذوبها من ذوب وجدانه ما هو إلا بيداء لا سامر فيها ولا صاحب ..
والأولى أن تدع الحلم في خلدك , فلن تلق في غدك إذا ما نضحته في هذه البيداء إلا غد ساخر مما أنت فيه , أو مما تريد له ..

دع الحلم يخفق في ناظريك
فمـوعــده غـدك الساخــر


إنها نفثة مصدور لواقع الشعر والشاعر في وقت كان فيه للشعر مكانة وصيت , فآه يا عمر – يا صديقي – ماذا تقول في وقت تولى مملكة الشعر الرويبضة .. وأصبح في آذان الناس وقر من الشعر , وهام الكل في وديان التعمية والضبابية والضياع ....

abdullahkhalil
09/12/2008, 22h47
مشكور من أعماق قلبي على طرح هذا الموضوع الذي أعادنا إلى الزمن الجميل .
فكما تستمع لأغنية طربية صُنعت باتقان و احساس عالي , فتتمايل بك الأخيلة والذكريات عند مقطع مؤثر أو جملة موسيقية تلامس الوجدان , فإنك بلا شك ستطرب لقراءة الأدب الرفيع .
أتذكر أيضا للشاعر المرحوم قصيدة(( نسر)) و تحكي قصة الإنسان الناظر بقلبه لتوالي الأيام في حياته و تعاقب الأحداث والتغيرات التي قد تجعل منه كائنا ذليلا بعد عزّ .وهو المكان الذي لم يخطط للوصول اليه ولكنه وجد نفسه فيه فاقدا لمجده , كالنسر الذي أطاحت به الأيام ليهوي على السفوح وراء جيفة ما .يقول:
نسل الوهن مخلبيه وأدمت منكبيه عواصف المقدور
والوقار الذي يشيع عليه فُضلة الإرث من سحيق الدهور
إلى أن يصل إلى قمة التصوير الملحمي للمشهد الإنساني ,حيث يقوم النسر من رماده و يحلّق بالأفق العالي ثمّ يهوي جثّة هامدة على القمة الشمّاء حيث مكانته الرفيعة التي يستحقّها .
ثمّ يخاطب نفسه التائهة في معترك الحياة :
أيّها النسر هل أعودُ كما عدتَ أم السفح قد أمات شعوري .

أحمد مكاوي
14/12/2008, 19h05
مشكور من أعماق قلبي على طرح هذا الموضوع الذي أعادنا إلى الزمن الجميل .
فكما تستمع لأغنية طربية صُنعت باتقان و احساس عالي , فتتمايل بك الأخيلة والذكريات عند مقطع مؤثر أو جملة موسيقية تلامس الوجدان , فإنك بلا شك ستطرب لقراءة الأدب الرفيع .
أتذكر أيضا للشاعر المرحوم قصيدة(( نسر)) و تحكي قصة الإنسان الناظر بقلبه لتوالي الأيام في حياته و تعاقب الأحداث والتغيرات التي قد تجعل منه كائنا ذليلا بعد عزّ .وهو المكان الذي لم يخطط للوصول اليه ولكنه وجد نفسه فيه فاقدا لمجده , كالنسر الذي أطاحت به الأيام ليهوي على السفوح وراء جيفة ما .يقول:
نسل الوهن مخلبيه وأدمت منكبيه عواصف المقدور
والوقار الذي يشيع عليه فُضلة الإرث من سحيق الدهور
إلى أن يصل إلى قمة التصوير الملحمي للمشهد الإنساني ,حيث يقوم النسر من رماده و يحلّق بالأفق العالي ثمّ يهوي جثّة هامدة على القمة الشمّاء حيث مكانته الرفيعة التي يستحقّها .
ثمّ يخاطب نفسه التائهة في معترك الحياة :
أيّها النسر هل أعودُ كما عدتَ أم السفح قد أمات شعوري .
لك مني خالص الود