المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عالـم قـريش ـ السـيرة الشافعـيه ـ أنس البن


د أنس البن
01/11/2008, 17h00
إخوانى وأخواتى الأعزاء


سأبدأ بعون من الله تعالى وحوله وقوته


فى رفع تلك الصفحات التى انتهيت من كتابتها
منذ أكثر من عشر سنوات
وظلت قابعة فى أدراج مكتبى سنوات
لم أجرؤ على الكشف عنها , ربما حياء أو خوفا
لكن ما أنا متأكد منه هو شعورى الدائم أن هذا العمل الدرامى دون المستوى وكنت أقول لنفسى ربما كانت نزوة تملكتنى فى زمن ما بعد عودتى من سنوات عمل فى ليبيا الشقيقه عام 1991 , وكنت أقول لنفسى أنت حققت ما كنت تريده من وضع سيرة روائية لذلك الإمام الجليل , فما الداعى لإخراجه للعلن , وربما تسمع مايسوءك خاصة وأنها أول تجربة لى
فلنغلق عليها الأدراج كأنها لم تكن
وأخيرا وبعد تردد شديد سمحت لى نفسى بأن أعرض على حضراتكم أوراق تلك الملحمه تباعا , وأعدكم بأن أتوقف لو نبهنى أحد الزملاء الى ذلك
وسأبدأ اليوم فى رفع الغلاف ورسالة اعتذار لصاحب السيره أفتتح بها الكتاب , وبعد ذلك سأرفع التمهيد والمقدمه قبل أن نبدأ فى عرض صفحات الملحمه التاريخيه لمولانا الامام الشافعى ساكن مصر المحروسه

د أنس البن
................

د أنس البن
01/11/2008, 17h00
عالـم قـريش


السـيرة الشافعـيه


تأليف … دكتور أنس عبد الحليم البن

.............

بسم الله الرحمن الرحيم

قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] : لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ أطباق الأرض علما .. صدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] ..
وقال الإمام أحمد بن حنبل : كان الشافعى للناس كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل لهذين من عوض !.
وقال : ما مس عالم محبرة . إلا وللشافعى فى رقبته منه ..

*********

هو ابن إدريس ابن عم محمد
سما منه نور فى دجى الكون لامع
أبـى الله إلا رفعـه وعلوه
وليس لما يعليه ذو العرش واضع
الشـافعى إمـام كل معلـم
آثـاره فيـنا نجوم طـوالـع

......................


رسالة اعتذار إلى صاحب السيره ..


شيخنا الجليل صاحب السيرة الزكيه ..................
أتصور أنى تجاوزت كثيرا مما حد لى ولأمثالى إذ تجرأت وسمحت لنفسى بكل ما تحويه من نقصان وتقصير وعجز ومعصيه . أن أدلف بها داخل تلك الرحاب الطاهرة وأن أفتش فى دفاترك وأقلب فى صفحات حياتك وأنت الحبر الجليل الطاهر والعالم القرشى الفذ سليل بيت النبوه وعالم قريش الذى ملأ الدنيا علوما . الذى أخبر عنك رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] بالإشارة التى تغنى عن العباره وبشر بمقدمك إلى الدنيا وسطوع نجمك قبل مائة وخمسين عاما من مولدك ..
حضرة الإمام التقى الورع صاحب العلوم والمواهب : علمنا بما وصل إلى أيدينا من سيرتك الزكية ومناقبك العطره أنك عملت بما علمت فعلمك الله علم ما لم تكن تعلم وكنت عبدا من عباده آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما . سخر له ربه دقائق معانى الألفاظ وفتح له مغاليق أبواب العلوم حتى صارت ملك يمينه كالريح تجرى رخاء بأمره حيث أصاب وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه فتفجرت جداول وأنهارا من مأثور القول ولباب الحكم ..
لا أدرى كيف سمحت لنفسى أن أرجع عشرات القرون إلى الوراء حيث زمن التابعين وتابعى التابعين وعصر الأئمة العظام وأدخل هكذا على غير استحياء تلك الرحاب الطاهرة لعالم جليل شريف مثلك . فمعذرة شيخنا الجليل إن كنت قد قصرت وأظننى كذلك لكن يشفع لى أن تعلم أن هذا مبلغ علمى ومنتهى فهم أمثالى من المقصرين . إنى وإن حاولت تقديمك على قدر معرفتى القاصره ومبلغ علمى القليل فذلك لأنى لا أستطيع أن أقدمك أبدا على قدرك ..

.. المؤلـــف ..
يتبع .. إن شاء الله........................

د أنس البن
01/11/2008, 18h09
.. تمهيد ..


كتاب [ المواعظ والإعتبار بمعرفة الخطط والآثار ] المعروف بين كتب التاريخ بالخطط المقريزيه للشيخ العلامة الجليل تقى الدين المقريزى المؤرخ المصرى المولد والنشأة والمقام . الذى يصف فيه ديار مصر وربوعها ويحكى تاريخها وأحوالها بصورة عامة وعلى وجه خاص تلك الفترة التى تقع ما بين الفتح الإسلامى للبلاد إلى نهاية القرن الثامن الهجرى . ورد قرب نهاية الجزء الثانى منه تحت عنوان ( أشهر مزارات القرافه ) ما نصه :
أن الوزير نظام الملك أبا على الحسن لما بنى المدرسة النظامية ببغداد سنة 474 هجريه . أحب أن ينقل رفات الإمام الشافعى من مقبرته بمصر إلى مدرسته . وكتب إلى أمير الجيوش بدر الجمالى وزير الإمام المستنصر بالله يسأله فى ذلك وجهز له هدية جليله . فركب أمير الجيوش فى موكبه ومعه أعيان الدوله ووجوه المصريين من العلماء وغيرهم وقد اجتمع الناس لرؤيته .
فلما نبش القبر شق ذلك على الناس وماجوا وكثر اللغط وارتفعت الأصوات وهموا برجم أمير الجيوش والثورة بهم فأسكتهم وبعث يعلم الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بصورة الحال . أعاد جوابه بإمضاء ما أراد نظام الملك فقرئ كتابه بذلك على الناس عند القبر وطردت العامة والغوغاء من حوله ووقع الحفر حتى انتهوا إلى اللحد . وعندما أرادوا قلع ما عليه من اللبن خرج من اللحد رائحة عطرة أسكرت من حضر فوق القبر حتى وقعوا صرعى فما أفاقوا إلا بعد ساعة فاستغفروا مما كان منهم وأعادوا ردم القبر كما كان وانصرفوا . وكان يوما من الأيام المذكوره وتزاحم الناس على قبر الشافعى يزورونه أربعين يوما بلياليها حتى كان من شدة الزحام لا يتوصل إليه إلا بعناء ومشقة زائده .
كتب أمير الجيوش محضرا بما وقع وبعث به وبهدية عظيمة مع كتابه إلى نظام الملك فقرئ هذا المحضر والكتاب بالنظاميه ببغداد وقد اجتمع العالم على اختلاف طبقاتهم لسماع ذلك وكان يوما مشهودا ببغداد . وكتب نظام الملك إلى عامة بلدان المشرق من حدود الفرات إلى ما وراء النهر بذلك وبعث مع كتبه بالمحضر وكتاب أمير الجيوش فقرئت فى تلك الممالك بأسرها .. إ . هـ ..

وبعـــــــد …..

كانت تلك الواقعة التى اطلعت عليها هى البداية التى فتقت رتقا فى سماء عقلى وقدحت عندى شرارة الإنطلاق الأولى ودفعتنى دفعا لأن أبحث وأنقب فى سيرة ذلك الشيخ الجليل . وأن أقرأ فى نهم وأمحص فى دأب كل ما أمكننى الحصول عليه مما كتب عنه فى كتب السير والمناقب وعن كل من التقى بهم أو ورد ذكرهم فى سيرته ولو عرضا وعن المرحلة الزمنية التى عاشها بكل ما فيها من صراعات وأحداث جسام وعن البلدان والأماكن التى حملته قدماه إليها .
حتى خرجت فى النهايه هذه الصفحات المتواضعه لأحداث السيرة الذاتية لهذا الشيخ الجليل والعالم الشريف الحسيب النسيب سليل الدوحة النبوية المطهره . وذلك من خلال قالب روائى تاريخى يمتزج فى أحداثه واقع التاريخ المجرد بخيال الروائى المنطلق ..
وفى هذا النص الذى هو أقرب إلى السيرة الذاتية منه إلى الرواية القصصية ببنائها وهيكلها الدرامى القائم على محور واحد أصيل تدور من خلاله أحداثا مختلفة لم تقع إلا فى خيال مبدعها . راعيت الثوابت التاريخية والنقل الأمين للوقائع والأحداث كما اطلعت عليها من أصولها ومراجعها الصحيحه مع خيط رفيع من الخيال فى صورة أحداث هامشية لا مندوحة عنها لزوم الحبكة القصصية وربط الأحداث الموثقة بعضها البعض ومن ثم إعادة صياغتها بأسلوب قصصى لا يخلو من روح التشويق والإثاره مع إضافة بعض الشخصيات التى لا وجود لها فى كتب التاريخ بتلك الأسماء تحديدا . غير أنى تصورت من خلال اطلاعى على سياق حياة صاحب السيرة رضى الله عنه ومعايشتى الدائمة له أنه قد تعرض فى حياته لأمثالهم ولابد . ومع هذا حاولت قدر الإمكان ألا أتوسع فى مساحة الخيال حتى لا يأخذنى تياره الجارف بعيدا عن واقع التاريخ وأصالته وأن أعيد صياغة هذا الواقع روائيا كما هو مدون فى كتب التاريخ والفقه والسير والمناقب .
هى حكاية عالم عبقرى فذ قل أن تجود بمثله الأزمان ونجم ساطع بزغ فى سماء العلم فى النصف الأخير من القرن الثانى للهجره . واهبا حياته فى خدمة أسمى العلوم وأعلى المعارف فكان بحق ناصرا للسنة النبوية المطهره وواضعا لعلوم الأصول ومجتهدا ملأ الدنيا علوما وأراء وأتباعا ومجددا للدين الحنيف على رأس المائة الثانية للهجرة كما قال عنه فيما بعد تلميذه العظيم الإمام الرابع فى عقد الأئمة العظام أحمد بن حنبل ..
إنه الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعى القرشى المطلبى درة تاج مملكة علوم الفقه والحديث وشمس سمائها المشرقه . واسطة عقد الأئمة العظام وصاحب المذهب الفقهى الكبير المسمى بإسمه .
عاش حياة حافلة بالأحداث والمواقف الرائعه بدأت فى مدينة غزة التى ولد وعاش فيها أولى أيام حياته . ثم فى وديان مكة وشعابها حيث أقام هنالك بين ربوعها وتخومها وحول فناء زمزم يتنسم سنوات عمره الأولى أريج الكعبة والحجر والمقام . وانتهاء بأرض مصر التى عاش فى أحضانها الدافئة وعلى ضفاف نيلها العظيم يدون مذهبه الفقهى الجديد فى أخريات أيامه إلى أن لقى ربه راضيا مرضيا وهو فى الرابعة والخمسين من عمره .
وما بين البداية والنهايه كانت رحلة الحياة الحافلة بالأحداث والصراعات هنا وهناك . لا تكاد تستقر له قدم فى مصر من الأمصار حتى ينتقل إلى آخر عبر أقطار العالم الإسلامى الكبير ساعيا سعيا حثيثا مطمئنا وباحثا فى دأب لا ينقطع وهمة لا تلين عن ينابيع العلم وعيون المعرفه . ثم بعد ذلك نشرا لمذهبه الفقهى الكبير فكان إمام عصره بحق والإمام الهادى لما تلا من قرون ..
كما تعرض أحداث هذه السيرة الروائية لحقبة هامة من أهم حقب التاريخ الإسلامى وعصر من أزهى وأخصب عصوره وتتناول أيضا فى سياقها بعض الأحداث المهمة التى جرت على أرض الخلافه التى عاصرها الشافعى فى تلك السنوات البعيده . إنه عصر الخلفاء العباسيين العظام أبناء عمومة النبى [صلى الله عليه وسلم ] وأحفاد فقيه الأمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما أمراء المؤمنين : أبى جعفر المنصور ومحمد المهدى ومن بعدهما هارون الرشيد وولديه محمد الأمين وعبد الله المأمون . والذين على أكتافهم قامت الدولة العباسية الكبرى واستمرت عدة قرون من الزمان .
وتقع أحداث هذه السيره فى خمسة فصول كل فصل منها يمثل مرحلة زمنية من مراحل عمر صاحبها قسمته إلى عدة أبواب وجعلت لكل باب عنوان يشير إلى أهم حدث فيه والله يقول الحق وهو يهدى السبيل والحمد لله رب العالمين ..

***
دكـتور أنس عبد الحليم البن ..
الجماليه .. فى 10 / يناير / 1995

يتبع .. إن شاء الله ...................

abuzahda
01/11/2008, 23h03
وكنت أقول لنفسى ربما كانت نزوة تملكتنى فى زمن ما بعد عودتى من سنوات عمل فى ليبيا الشقيقه عام 1991 , وكنت أقول لنفسى أنت حققت ما كنت تريده من وضع سيرة روائية لذلك الإمام الجليل , فما الداعى لإخراجه للعلن , وربما تسمع مايسوءك خاصة وأنها أول تجربة لى


جناب الدكتور أنس ، الموقر

ما تقدم ، كلام من تجاوز البدايات منذ نصف قرن مضى.


ســــــــــــؤال



أفإن كان هذا "إعتذارٌ و تمهيد" فماذا أنت فاعل بنا في "المتن" ؟



خذنا إلى أنوار الشافعي ياسيدنا ، علَّ الذين يرون في أنفسهم "كواكبا"

- من عابري السبيل - يهديهم ربهم إلى التضاؤل فتخبو الأكاذيب






هِمَّ بالرَكبِ يا حَادي

وليدابراهيم
02/11/2008, 00h35
استحلفك بصاحب السيرة وربه ان تخبرنى عن سر هذا الجمال فى المنطق والروعة التى خالجت روحى من صدق خشيتك وانت ترسم فى روحى اروع التعابير حقا لقد تفردت عنا يا دكتورنا الحبيب واعرف انك من القلة القليلة التى واقع شخصيتها اكبر بكثير من مسميات الوظائف والدرجات فيها انت من ينطبق عليه المصرى الشريف الاصيل اين بقية الناس من انصاف ارباع صفائك

د أنس البن
02/11/2008, 09h07
أساتذتى الأجلاء وأصدقائى الأعزاء
سيد أبو زهده
وليد إبراهيم
رائد المصرى .. الذى راسلنى على الخاص
من المنطقى أن يذهب الروع عنى
بعد كلماتكم الطيبه المشجعه الراقيه ..
لكنها فى الحقيقه زادت من خوفى
وجعلتنى أشعر بضخامة المسئوليه والورطة
التى أورطت نفسى فيها ..
لكنى رغم ذلك سأستمر وأسأل الله تعالى
المدد والتوفيق
..................................

د أنس البن
02/11/2008, 09h07
مقدمـة تاريخيـه
مدينــة غـزه .. ســنة 150 هجريــه ..
تبدأ الوقائع الأولى لأحداث هذه السيرة الذاتيه فى قلب مدينة غزه ثغر فلسطين الباسم ودرة تاجها ..
هنا ولد محمد بن إدريس الشافعى .. فى أحضانها وعلى ضفاف بحر الروم ( البحر الأبيض ) .. عاش فيها عامين بعد مولده .. رحل بعدهما مع أمه وجده إلى موطن آبائه وأجداده .. فى وديان مكه ..
لمدينة غزه أهمية خاصة للمشتغلين بالتجاره لموقعها المتميز بين مصر والشام كما أنها كانت فى تلك الأيام المحطة الرئيسية وملتقى المسافرين من وإلى الجزيرة العربيه .. لم يكن لأهل الحجاز فى ذلك الحين من حرفة أو صناعة يجيدونها بخلاف رعى الأغنام وبعض الصناعات الصغيرة إلا حرفة التجارة وأمور البيع والشراء فضلا عن الترحال هنا أو هناك بحثا عن منابع الرزق ولقمة العيش الحلال ..
ويضم ثرى غزه قبر صاحب الشوكة والمهابة فى قريش .. هاشم بن عبد مناف جد رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] وشقيق المطلب الجد التاسع للشافعى . وكما تحدثنا كتب التاريخ هو أول من سن رحلتى الشتاء والصيف التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم .. لذلك إشتهرت هذه المدينه وعرفت على مر الزمان باسم غزة هاشم ..
وكان للمطلب ولدا أثيرا إلى قلبه أسماه هاشم تخليدا لذكرى أخيه الراحل . زوجه الشفاء إبنة عمه هاشم فأنجبت منه عبد يزيد القرشى الخالص أبا وأما .. والعرب للمناسبة كانت تولى مسألة الأنساب تلك أهمية كبرى ..
أنجب عبد يزيد ولده عبيد الذى أنجب السائب وهو من كبار الصحابه .. دخل فى الإسلام بعد ما أسر فى غزوة بدر وقيل إنه كان يشبه النبى [صلى الله عليه وسلم ] . وكان للسائب ولدان هما شافع وعبد الله والأخير كان واليا على مكه أيام خلافة الفاروق عمر بن الخطاب .. أما شافع فهو جد العباس الذى أنجب إدريس والد الإمام محمد بن إدريس صاحب هذه السيرة الزكيه ..
وكان إدريس يسكن قبل رحيله إلى غزه فى دار ورثها عن أجداده بمكان يعرف بشعب الخيف بالثنية أسفل مكه فيها تزوج أم حبيبه بنت عبيد الله الأزدى الذى ينتمى لقبائل الأزد اليمنيه . سكن كثيرا منهم أرض فلسطين وآخرين سكنوا مصر بعد ذلك .. وانتقل أهلها إلى هذه الدار بعد رحيلها مع زوجها إلى غزه .. وكان لإدريس راتبا فى بيت المال شأنه شأن آل البيت النبوى من الخمس الذى قرره النبى [صلى الله عليه وسلم ] لهم عوضا عن الصدقه ..
وفى عهد الخليفة العباسى الثانى أبى جعفر المنصور سافر إدريس إلى غزه مصطحبا معه أم حبيبه .. عاملا ضمن حراس الثغور الذين أرسلهم والى مكه الهيثم بن معاويه لتأمين حدود الدولة وثغورها من الفتن والقلاقل التى كان يثيرها أعداء الحكم .. سواء كانوا من العرب الذين ينتمون للبيت العلوى الطالبى .. أو من فلول الأمويين فى الغرب أو من الفرس وغيرهم من بلاد العجم ..
وفى قلب مدينة غزه إستقرا حوالى عشر سنوات فى دار صغيرة متواضعة لا تزيد عن ردهة صغيرة على يمينها باب الغرفة التى لم يكن بالدار سواها . وكان للدار باب خشبى متهالك يفتح مباشرة على زقاق ضيق من أزقة المدينه فى حى يعرف باسم حى اليمنيين .
كانت دارا تحدث من يدخلها برقة حال ساكنيها وضيق معيشتهم وما يعانونه من مسغبه . ولم تكن تضم من متاع الحياة إلا الضرورى اليسير . عاش فيها الرجل وامرأته حياة أقرب للعسر والضيق لم يتذوقا خلالها طعما لليسر والسعه . ذلك أنه برحيل إدريس عن أرض مكه إنقطع نصيبه من الدراهم الزهيدة المقررة لآل البيت التى كانت تأتيه من بيت المال .. كانت رغم قلتها إلا تعينهما بعض الشئ على مواجهة أعباء الحياة وقسوتها . أما راتبه من وظيفته فلم يكن سوى دراهم معدودة لا تفى حتى بقوت يومهما . ورغم ذلك العسر والضيق كانا قانعين راضيين بما قسمه الله لهما من رزق وهما يعيشان وحدهما تحت مظلة من القناعة والرضا والسكينه ودثار من المودة والرحمة والأمن ..


***
يتبع .. إن شاء الله.......................

د أنس البن
02/11/2008, 18h42
الفصل


الأول




(1)




الـرؤيـا والمولود
تسعة أعوام مضت بحلوها ومرها على زواج إدريس لم تنجب خلالها أم حبيبه .. بدأت تظهر عليها علامات غريبة وتعتريها أشياء لم تعهدها لها من قبل . كانت تعاودها بين الحين والآخر نوبات دوار وغثيان لم تعرف لها فى البداية سببـا . حاولت جاهدة أن تخفيها عن عين زوجها على أنها وعكة صحية لا تلبث أن تزول كغيرها . لم تحدثها نفسها أبدا أن تقص عليه من نبأها شيئا .. كانت تعلم أنه لن يدخر جهدا فى إحضار الطبيب لها وهذا يكلفه الكثير مما لا يتحمله راتبه الضئيل .
لم تجد أمامها أخيرا إلا جارتها خديجه أم عبد الرحمن وزوجة الأنبارى زميل إدريس فى عمله فى الثغر .. كانت صديقتها الوحيدة فى تلك البلاد التى كتب عليها أن تعيش فيها سنوات من عمرها . فزعت إليها وقصت عليها ما تعانى منه وما حل ببدنها من تغيرات لا تدرى لها سببا . سألتها صاحبتها سؤالا بعد الآخر واستفسرت منها عن أشياء .. لم تلبث بعدها إلا أن ابتسمت ابتسامة عريضة وهى تحتضنها قائلة : أبشرى يا أم حبيبه ..
قاطعتها فى دهشة قبل أن تكمل : ماذا دهاك يا أم عبد الرحمن أشكو إليك علتى فتضحكين منى وتقولين لى أبشرى ؟!.
ردت والإبتسامة لا تزال ملئ فمها : أجل أبشرى .. ألم أقل لك إن الله لن يخيب رجاءكما ..
ردت والدهشة لم تفارقها غير مصدقة بعد أن أدركت ما ترمى إليه : ماذا تقصدين أتريدين أن تقولى أنـى ….
قالتها وهى ترنو إلى بطنها . قاطعتها فى لهجة مرحه وهى تحتضنها : أجل هو ذاك أيتها الحبيبه . الولد الذى طال انتظاركما له آت عما قريب بإذن الله . بضعة أشهر ويملأ الدار صراخا وضجيجا .. لكن إياك أن تنسى البشاره ..
أخذت أعراض الحمل تظهر واضحة جلية عليها مع الأيام بعد أن استجاب الله تعالى دعاء زوجها أن يهبهما قرة العين . كانت تلك أمنيته الوحيدة التى صبت إليها نفسه من كل متاع الدنيا وزينتها . لم يطلب من ربه سواها .. كم تمنى أن يحققها لهما قبل أن يفارق الدنيا . ظل يلح عليها كثيرا وهو يدعو ربه فى كل صلاة شاعرا فى قرارة نفسه أنه لن يعمر كثيرا وأن أيامه لن تطول ..
أمنية جاءت بعد طول انتظار وشوق .. لكن زادته مشقة وجعلت ظهره ينوء بأثقاله وهى تتراكم عليه واحة تلو أخرى .. وما حيلة الرجل وهو معتل الصحة سقيم البدن يعانى من نوبات سعال وضيق فى صدره لأقل جهد بدنى .. كان فى أحيان كثيرة يبدو غير قادر على مواصلة العمل المكلف به وفى أخرى يمنعه من مجرد الحركة اليومية العاديه ..
ورغم المعاناة والضيق والمشقه لم يكن يدخر جهدا أثناء الليل أو فى أوقات فراغه . كان يتحامل كثيرا على نفسه ليمارس بعض الأعمال اليدوية الخفيفة إلى جانب وظيفته بالثغر . كل ذلك فى سبيل الفوز بقليل من الدراهم حتى يوفر لامرأته بعضا من الأطعمة الضرورية التى تحتاجها المرأة فى حملها ..
وذات يوم من أيام شهر المحرم للعام الهجرى الخمسين بعد المائه فى بداية موسم الصيف والحرارة على أشدها والهواء الساخن يلفح الوجوه . كان إدريس فى طريقه إلى الدار بعد أن انتهى من نوبة عمله فى حراسة الثغر بصحبته زميله وصديقه أبو عبد الرحمن الأنبارى الذى يرافقه فى وردية العمل ..
كان عراقيا من أعمال الموصل نقل منذ ثلاث سنوات من موقعه السابق فى عسقلان إلى ثغر غزه . ومنذ ذلك الحين صارت بينهما صداقة وموده بحكم تواجدهما فى مكان واحد وتلازمهما نصف ساعات اليوم إلى أن ينتهيا من وردية العمل ويتسلم إثنان آخران منهما موقعهما فى الحراسه وعلى ذلك يتناوب الحراس عملهم فى الثغر كل يوم وليله ..
مكثا يتبادلان حديثا ذا شجون وهما فى طريقهما إلى دارهما . كانا يسكنان فى دارين متقاربتين فى زقاق واحد . أخذ كل واحد منهما يبث الآخر شكواه وهمومه وما يضيق به صدره ويتناولان معا الأحداث الجسام التى كانت تجرى فى دار الخلافه وفى الأقطار المجاورة التى كان يأتيهم ذكرها من القادمين من تلك البلدان للتجاره ..
وبينما كانا فى طريقهما عرجا على السوق .. لم ينس إدريس أن يشترى بعضا من التمر الشامى اشتهته أم حبيبه فيما يقال عنه وحم الحمل . ترددت أياما أن تبوح له برغبتها فى بعض منه وهى تعلم رقة حاله وندرة الدراهم فى جيبه . وأخيرا لم تجد بدا أن توصيه قبل خروجه أن يحضر لها قليلا منه من السوق عند عودته . مد يده فى جيبه وناول البائع ثمن التمر بعد أن وضعه فى زنبيل صغير من خوص النخيل معد لهذا الغرض . ثم مضيا بعد ذلك لحالهما يقطعان الطريق على مهل إلى داريهما بالقرب من السوق وأخيرا إفترق الصاحبان أمام دار أبى عبد الرحمن ..



يتبع إن شاء الله ........................

رائد عبد السلام
02/11/2008, 19h01
أستاذنا الكبير وعالمنا الجليل
د: أنس
راسلتك علي الخاص حتي لا أقطع ذلك السلسبيل العذب
ولك أن تتخيل يادكتور أن هذه السيرة العطرة التي نقرأها
قد ُسردت بإحساس يليق بقلبك الطيب
وأيضا بحرفية عالية تليق بثقافتك السامقة
كلنا أعين ناظرة
و آذان صاغية
تفضل يادكتور .
وآسف علي المداخلة..

د أنس البن
02/11/2008, 19h01
.. فى دار إدريس كانت أم حبيبه جالسة وحدها على حصير فى ركن الردهة الخارجية .. تسند ظهرها على حاشية من الليف وهى شبه نائمة تنظر بعينين نصف مفتوحتين إلى السقف وعلى جبينها وخديها تتحدر حبات باردة من العرق .. وبينما هى على تلك الحال من الوهن والجهد إذ دخل عليها إدريس وهو يحمل فى يمناه زنبيل التمر وعلى وجهه بدت علامات التعب والارهاق من سهر الليل الطويل فى موقع الحراسه بينما يتساقط العرق غزيرا على جبهته .. كان يحاول جاهدا ما استطاع أن يخفى أمامها ما يعانيه جسده النحيل من ضعف ووهن وأن يحجب عنها ما سطرته الأيام بجفائها وقسوتها على صفحة وجهه من هموم وأحزان . خفف منها بعض الشئ وأزاحها من حياته قليلا فرحته وترقبه للمولود القادم الذى ظلا ينتظرانه معا فى شغف ولهفة تسعة أعوام كامله ..
أخذ يتلفت من حوله باحثا عنها .. لم تقع عينه عليها فى بادئ الأمر .. النافذة مغلقة والمكان شبه معتم .. ما الحكاية يا ترى !. إعتاد أن يأتى من عمله كل يوم فى هذا الميعاد ليجدها دائما فى استقباله وعلى شفتيها ابتسامتها الحانية الدافئه التى يجد فيها الدواء والبلسم لما يعانيه وهى تنتظره ليتناولا معا طعام الغداء .. لم يكن إلا طعاما زهيدا لا يزيد عن كسرات من الخبز اليابس وقليلا من الإدام يقيمان به أودهما ..
مد يده إلى النافذة باحثا عن مصدر للضوء . فتحها قليلا حتى يسمح لبعض شعاعات النهار أن تتسلل إلى قلب المكان المعتم .. وأخيرا لمحها فى هذا المكان الذى لم يعتد من قبل أن يراها فيه . كانت على غير عادتها المعهودة فى ركن الدار على هذه الحال . لم يستيقن من هيئتها وهو يتفرس فيها محملقا إن كانت نائمة أم أنها مستلقية فحسب ..
أخذ يحدث نفسه وهو يتأمل ملامحها ........ ما بال المرأه .. يبدو أنها متعبه !. أجل إنها تبدو كذلك . هل أوقظها يا ترى أم أتركها على حالها !. بل سأتركها على حالها ربما تنتبه بنفسها لوجودى ..
كان حريصا فى قرارة نفسه أن يتركها وشأنها .. وأخيرا حزم أمره وقرر أن يقطع الشك باليقين مستطلعا حقيقة أمرها . تقدم منها خطوات . نادى عليها بصوت خافت مرتعش حرص فيه ألا يزعجها ......... أم حبيبه .. أم حبيبه .. أنائمة أنت ؟!.
ما إن تناهى صوته الخافت إلى مسامعها حتى فتحت عينيها وهى تحاول أن تعتدل فى جلستها . إعتدلت قليلا لتراه واقفا أمامها يحملق فيها بعينين كليلتين بينما يحمل فى يمناه زنبيل التمر . أجابته متثائبة فى وهن وتكاسل وقد بدا على نبرات صوتها الإعياء والوهن .......
ــ من !. إدريس ؟!.
أجابها فى لهجة باسمة لم تخل من روح الود والدعابه ......
ــ أجل أيتها الكسولة .. إدريس .. زوجك .. إيه هل أفسدت عليك نومتك .. أم ضيعت عليك راحتك .. أرجو ألا أكون فعلت ؟!.
ردت متكاسلة وهى تتثاءب ،بينما تفرك عينيها وجبهتها براحتيها .......
ــ لا أبدا .. لكن ... متى قدمت ؟!.
أخذت تلتقط أنفاسها بين كل كلمة وأخرى قبل أن يرد عليها ......
ــ جئت منذ لحظات قليلة .. غير أنى وجدتك على تلك الحال وفى هذا المكان . لم أتأكد بعد إن كنت مستغرقة فى النوم أم أنك مستلقية فحسب .. صدقينى .. كنت على وشك ألا أوقظك من رقادك ..
ــ لا عليك يا زوجى العزيز آثرت أن أنتظرك فى الردهة الخارجية حتى ترانى عند قدومك من عملك . أدركنى التعب فاستلقيت فى مكانى هذا ..
أردفت متسائلة وهى تشير بيمناها ناحيته ......
ــ ما هذا الذى تحمله فـى يمناك ؟!.
ــ إيه .. هل نسيت طلب الأمس منى قبل أن أخرج لعملى ؟!.
ــ آه تذكرت لابد أنه التمر الذى كنت أشتهيه .. وطلبت إليك أن تشترى لنا بعضا منه . شكرا لك يا إدريس على اهتمامك بى .. هكذا عهدى بك دائما .. أيها الزوج الوفى .. لا تنسى شيئا أبدا .. ولا تكاد ترد لى طلبا !.
ــ وبمن أهتم إذن أيتها الأزدية السمراء ؟!.
سكت قليلا ثم استأنف كلامه مبتسما ومداعبا للمرة الثانيه .....
ــ لكن ... لكن مالى أراك مستلقية هكذا .. كسل يا ترى أم ،تكاسل ؟!.
لم ينتظر إجابتها .. أردف قائلا وهو يضع الزنبيل إلى جواره على الأرض جالسا قبالتها وبينهما طاولة خشبية أعدت عليها طعام الغداء .....
ــ على أية حال تلك آثار الحمل ومتاعبه ..
ــ أجل .. صدقت والله يا إدريس .. كنت أشعر حقيقة ولا زلت بشئ من الكسل والتراخى مع رغبة فى النوم .. لم أستطع مقاومتها فغفوت إغفاءة قصيرة غير أنـى .…..
صمتت قليلا فاستحثها قائلا .....
ــ غير أنك ماذا يا أزديه ؟!.
ــ آه . غير أنى رأيت أثناءها ما حيرنى . كان أمرا عجيبا ذلك الذى رأيته والله !.
ــ ماذا تقولين !. رأيت أمرا عجيبا ؟!.
ــ أجل والله ما أعجب ما رأيت ؟!.
ــ أى أمر عجيب هذا رؤيا أم أحلام يقظه ؟!.
ــ بل رؤيا . أجل والله رأيتها واضحة جلية .. كما أراك الآن جالسـا أمامى !.
ــ هيا إذن قصى علينا رؤياك لعلنا نجد فى تأويلها ما تنشرح له صدورنا إن شاء الله تعالى ..
راح إدريس ينظر إليها منتبها وقد أعارها كل سمعه وهى ترجع برأسها قليلا إلى الوراء تحاول أن تستعيد رؤياها ثم أخذت تقول فى صوت حالم وعلى شفتيها إبتسامة ملائكيه .....
ــ رأيت كأنى جالسة فى ضوء خافت هنا . أجل هنا فى هذا المكان إذ انفتحت نافذة الردهة مرة واحده . هذه النافذه ( وأشارت بيدها ) . ما لبث أن خرج منها كوكب درى كبير له نور يخطف الأبصار ويخلب الألباب . تعلق به بصرى وأخذت أتبعه وهو يخرج من النافذه حتى رأيته يدور دورة كاملة حول مكه كل ذلك وأنا لا أزال أتابعه بعينى هاتين .. ثم رأيت ما هو أعجب من ذلك ..
زادت دهشته وهو يهز رأسه منصتا ...........
ــ رأيت .. كأن بعض الشظايا المضيئة خرجت منه .. نزل بعضها فى اليمن والعراق .. والبعض الأخر فى يثرب والشام وأخيرا حط الكوكب فـى .............
صمتت برهة أخذت خلالها نفسا عميقا وأردفـت .....
ــ أتدرى أيـن يا إدريـس ؟!.
ــ أين يا أزدية بالله عليك .. تكلمى ؟!.


يتبع إن شاء الله ........................

abuzahda
02/11/2008, 22h58
أستاذنا الجليل ، الدكتور أنس ... المحترم
يمنعني شرط التأدب في مجالس العلم ، الإنصات ...
من التعليق هنا
أنت لست بحاجة ، إلى نافلة القول
زِدْ أزادك الله

د أنس البن
03/11/2008, 05h20
أستاذى سيد بك أبو زهده
أخى حارس الفنار .. الذى راسلنى على الخاص
أخى رائد المصرى
لا أعرف طريقة أوفيكم بها ما لكم من حق على فى شكرى لحضراتكم .. فاعذرونى .. وأرجو أن تسامحونى على أى هفوة فى لفظ أو عبارة وسأكون سعيد بأى تصويب لكلمة أو عبارة تصلنى على الخاص ..

د أنس البن
03/11/2008, 05h20
قالت أم حبيبه ......
ــ فى مصر . نعم حط الكوكب هناك .. فى أرض الكنانه .. فى مصر .. ثم .. لم أشعر بعدها إلا وأنت تنادينى .. فانتبهت .. لأراك واقفا أمامى ..
ما كادت تنتهى من سرد رؤياها حتى ساد أرجاء المكان صمت عميق لم يكن يسمع فيه سوى صوت أنفاسهما وهى تتردد فى جنبات الردهة الضيقه .. راح إدريس فى تفكير عميق قطع الصمت بعده قائلا وقد لمعت عيناه وبدت على وجهه علامات الفرح والذهول معا وعلى شفتيه ابتسامة صافية تنبئ عن دخيلة نفسه وما يعتمل فيها من مشاعر البهجة والسرور
ــ ما شاء الله فهمت ورب الكعبة تأويل رؤياك ..
ــ ماذا فهمت يا رجل ؟!.
ــ أتدرين يا أم حبيبه تأويل رؤياك هذه ؟!.
هزت كتفيها قائلة ....
ــ أنى لى ذلك .. لا دراية عندى ..ولا معرفة لى بمثل هذه الأمور !.
ــ لكنى أعرف .. وسأخبرك بتأويلها إن شاء الله ..
ــ تكلم يا رجل ؟!.
ــ إن صدقت رؤياك .. فإنى أبشرك بأعظم بشرى ..
ــ أى بشرى يا رجل .. تكلم .. شوقتنى ؟!.
ــ الجنين الذى تحملينه بين أحشائك .....
ــ ماذا به ؟!.
ــ لا تنزعجى يا امرأه .. سيكون له شأن كبير ..
ــ ماذا تعنى ؟!.
ــ إنه عالم قريش .. أجل عالم قريش المنتظر .. إنه لم يظهر بعد حتى اليوم .. أتدرين يا أم حبيبه من يكون عالم قريش ؟!.
نظرت إليه ذاهلة لا تجد ما تقوله وقد عقدت الدهشة لسانها فأردف قائلا غير منتظر جوابها ......
ــ إنه عالم قريش الذى أنبأ به رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] وأخبر عن مقدمه قبل مائة وخمسين عاما ..
ــ ما هذا الذى تقوله يا إدريس .. مالك اليوم تلغز فى كلامك هكذا !. لا أفهم شيئا مماتقول . ليتك تفصح عن قصدك .. أو تزيدنى فهما وإيضاحا ؟!.
ــ لا عليك .. سأشرح لك الأمر ..
ــ وأنا كلى آذان صاغيه ..
ــ كان بعض الصحابة على عهد النبى [صلى الله عليه وسلم ] يسبون قريشا لما يرونه من إيذائهم له .. فغضب من ذلك ونهاهم عنه قائلا لهم : " لا تسبوا قريشا فإن عالمهم يملأ أطباق الأرض علما . اللهم كما أذقتهم عذابا فأذقهم نوالا " ... أفهمت يا أم حبيبه قوله [صلى الله عليه وسلم ] " فإن عالمهم يملأ أطباق الأرض علما " . أفهمت ؟!.
ــ أبدا.. لم أفهم بعد !. ما علاقة هذا الذى تقوله .. بالرؤيا التى رأيتها ؟!.
قبل أن يجيبها أردفت وهى تسبح بعينيها إلى الفضاء البعيد وكانت امرأة ذكية لماحه
ــ آآآآآآآآآآآآه .. فهمت .. فهمت الآن ..
ــ هيه .. ماذا فهمت ؟!.
ــ تعنى بكلامك هذا أن الكوكب الذى رأيته فى منامى وهو يدور حول مكة وبلاد العرب .. ثم يحط فى مصر هو ذاك العالم القرشى الذى تنبأ بمقدمه النبى [صلى الله عليه وسلم ] والذى لم يظهر بعد ؟!.
ــ أجل هو ذاك تماما يا ابنة الأزدى ..
ــ يا ربى !. ما أعجب كلامك يا إدريس إنه لأمر عجيب والله . لا أكاد أصدق . حقا لا أكاد أصدق !.
ــ ستثبت لك الأيام صدق مقالتى باذن الله .. بل أقول لك ما هو أكثر من ذلك ..
ــ ماذا تعنى ؟!.
ــ لتعلمى يا أزديه أنه يوم يموت عالم يولد آخر .. تذكرى جيدا تلك الكلمات وإياك أن تنسيها .. يوم يموت عالم يولد آخر ....
فى اليوم التالى ذهب إدريس والسعادة تغمره إلى مكان عمله المكلف به فى الثغر شاعرا بالنشاط والقوة يدبان فى جسده النحيل . كان للرؤيا التى رأتها زوجته أثرها الكبير عليه وكأنما شرب بها إكسير الحياة .. بدا منتشيا على غير عادته حتى أن إخوانه لاحظوا تغير أحواله . أخذوا يداعبونه ظنا منهم أن سعادته بسبب المولود الذى ينتظر قدومه بعد طول انتظار وكان أكثرهم مداعبة له صديقه الأنبارى . كانوا يحبونه لدماثة خلقه وطيبته ويحفظون له قدره ومكانته لمعرفتهم بنسبه الشريف وقرابته لآل بيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] . أخذ يجاريهم فى حديثهم مستسلما لمداعباتهم .. وقد كتم عنهم حكاية الرؤيا التى رأتها امرأته ..

.... خمسة شهور وبضعة أيام مضت بحلوها ومرها مذ رأت أم حبيبه هذا المنام العجيب . وفى ليلة الجمعة الأخيرة من شهر رجب للعام الخمسين بعد المائة الأولى للهجره بدأت تشعر بآلام المخاض التى أخذت تزداد وتتقارب ساعة بعد أخرى وهى تتحامل على نفسها وتكتم آلامها عن زوجها حتى لا تشق عليه أو ترهقه من أمره عسرا .. هى أكثر من يعلم رقة حاله وضعف صحته . كلما سألها عن أحوالها تجيبه كل مرة أنها بخير حال وأنها لا تعانى من أية آلام . إلا أنه أدرك أخيرا من هيئتها والعرق الغزير الذى كان يكسو وجهها ويتساقط تباعا على خديها أنها لا تصدقه القول . وأنها تحتال لكى تكتم عنه آلامها وتخبئ شكواها فى صمت نبيل بين ضلوعها ..
لم يحتمل أن يراها على تلك الحال تعانى آلام المخاض وحدها فى صمت وجلد دون معونة من أحد يشد من أزرها ويخفف عنها ما تعانيه . تسلل فى خفة خارج الدار دون أن تشعر به حتى إذا صار خارجها أخذ يهرول لاهثا فى الطريق والظلام الدامس يلف المكان بأستاره الداكنة السوداء باحثا عن إحدى جاراتهم لتكون معها فى تلك اللحظات العصيبة الحرجه تشد من أزرها وتخفف عنها آلامها . لم يجد أمامه إلا دار صاحبه وزميله أبو عبد الرحمن .
أخذ يطرق الباب على استحياء طرقات خفيفة حتى خرج إليه أخيرا يمسك فى يده مصباح ذو فتيل يخرج منه شعاع ضوء خافت . تفرس صاحبه فى وجهه وهو يفرك عينيه . أدرك من ملامحه أن وراءه أمرا مهما . سأله متلهفا وهو يغالب النعاس عما به . أخبره بالأمر وطلب إليه أن يأذن لام عبد الرحمن أن تأتى معه لتكون إلى جوار أم حبيبه فى تلك الساعات العصيبه ..
إستجاب له صديقه فى الحال . دخل إلى الدار وهو ينادى على امرأته التى كانت تغط فى نوم عميق ..
استيقظت أخيرا من نومها .. طلب إليها وهى تفرك عينيها فى محاولة منها لطرد النوم عنها أن تعد نفسها على عجل للذهاب إلى جارتها أم حبيبه . لم تمض غير لحظات حتى كانت أم عبد الرحمن إلى جوار صاحبتها بعد أن أذن لها صديقه وهو يشد على يديه مهدئا من روعه داعيا الله له أن تقوم امرأته سالمه ..
أخذ الوقت يمضى حثيثا قاسيا عليه كأنما عجلة الزمان توقفت عن سيرها وهو لا يكاد يهدأ فى مكان أو تعى قدماه مكانهما من الأرض . تملكه شعور خفى أن الردهة الضيقة التى يتحرك فيها تضيق من حوله أكثر وأكثر وتزداد ضيقا على ضيقها . وأن حيطان الدار تتقارب وتتقارب حتى تكاد أن تخنقه وتكتم أنفاسه . قادته عيناه إلى النافذة الصغيرة مصدر الهواء الوحيد فى الدار . هرع إليها وهو يتعثر فى خطواته . إرتعشت يداه وهما تقبضان على المزلاج باحثا عن نسمة من الهواء شعر أنه يفتقدها . هبت عليه نسمة من نسمات الليل البارده . أخذ يمسح العرق المتراكم على جبهته رغم برودة الليل . أعاد غلق النافذة مرة ثانية وعاد يروح جيئة وذهابا فى الردهة مرة أخرى إلى أن غلبه التعب وأدركه النوم رغما عنه . إستسلم أخيرا وراح فى سبات عميق مسندا ظهره فى الردهة على باب الغرفة التى ترقد فيها زوجته ..
هب من سباته مرة واحدة وقد تملكه الذعر من صراخ زوجته الذى شق سكون المكان وملأ أذنيه .. ما كادت قدماه تستقران على الأرض وهو يفرك عينيه ذاهلا حتى سادت لحظة صمت عميق تبعها بكاء المولود المتواصل . تسارعت دقات قلبه وتلاحقت أنفاسه وبريق رؤيا زوجته يلمع أمام عينيه والأمانى تتراقص فى نفسه وقد تملكته مشاعر غامرة من الفرح والسرور ..
خر مكانه ساجدا لربه باكيا بكاء الفرح والسرور ولسانه يلهج بالثناء والشكر لمولاه مبتهلا ومتوسلا أن يكون المولود ذكرا يحقق رؤيا زوجته ويكون هو عالم قريش الذى لم يأت بعد والذى تنبأ بمقدمه رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] . يجالس العلماء وهو ينهل من علومهم . يبحث عن الحكمه وينشر معارفه بين الناس حاملا لواء السنة ويخط بريشته علوم الأصول ..
لم يمض غير قليل من الزمن حتى جاءته أم عبد الرحمن مهرولة وعلى شفتيها ابتسامة عريضة والفرحة ملئ وجهها وهى تزف إليه البشرى .....
ــ أبشر أيها الجار الطيب جاءك الولد . سبحان الله كأنه قطعة منك ..
رد عليها بصوت متهدج باك .. خرج متقطعا من بين دموعه التى انثالت على خديه رغما عنه .. وهو لا يكاد يصدق ما تسمعه أذناه ....
ــ الحمد لله الذى عوضنى بعد طول انتظار .. وقرٌ به عينى ..
لم يلبث أن سألها متلهفا ...
ــ كيف حال أم حبيبه ؟!.
إبتسمت قائلة ....
ــ بخير حال إن شاء الله ..
ــ هل لى أن أراها الآن ؟!.
ــ لا ليس بعد .. لا تعجل .. إن هى إلا لحظات وتراها .. وتملأ عينيك من ولدك أيضا ..
وبينما هو يتمتم فى سره كلمات الحمد والثناء فوجئ بأم عبد الرحمن تسأله والبسمة لم تزل ملئ شفتيها ...
ــ هل يا ترى اخترت للمولود إسما ؟!.
سرح بخياله قليلا ثم أجابها ...
ــ نعم يا أم عبد الرحمن إخترت له خير الأسماء ..
ــ محمد .. أليس كذلك ؟!.
ــ أجل أجل .. محمد .. محمد بن إدريس .. الجيل التاسع لجدنا العظيم .. المطلب بن عبد مناف .. عم عبد المطلب جد النبى [صلى الله عليه وسلم ] ..
ثم أخذ يتمتم محدثا نفسه : لعله يكون عالم قريش الذى لم يأت بعد ..
نظرت إليه مستفسرة وهى فى عجب من كلامه ثم سألته وهى تهم بالخروج ....
ــ هل من خدمة أخرى أؤديها لكما قبل أن أعود إلى دارى يا أبا محمد ؟!.
ــ شكرا لك أيتها الجارة الطيبه .. بارك الله فيك وفى زوجك وولدك ..
ردت وهى فى طريقها إلى الباب ....
ــ بارك الله لكما فى ولدكما محمد وتصبحون على خير إن شاء الله ..


بضعة شهور مضت على مولد الشافعى والأمور تسير على ذات المنوال . يذهب الرجل إلى عمله فى الثغر وبعد أن تنتهى نوبته يعود إلى داره يمارس أعماله اليدوية الأخرى . وفى أيام راحته من وردية العمل يتوجه إلى السوق حاملا على ظهره ما صنعته يداه ليقوم ببيعه . لم يكن ذلك النتاج إلا قليلا من الحبال وأربطة الكتان مما يحتاجه الصيادون فى الثغر والتى كان يجدلها مستعملا أصابع قدميه ويديه ..
عاش الزوجان فى سعادة ورضا لا شئ يعكر صفو حياتهما بعد أن آنس وحدتهما وغربتهما ذلك المولود الذى ملأ حياتهما بهجة ومرحا وأيامهما فرحة وسعاده . لكن كما يقولون .. بعد صفو الليالى يحدث الكدر . بدأت معاناة إدريس تزداد مع آلام المرض شيئا فشيئا وأخذت ألامه المبرحة تتصاعد وتتقارب يوما عن يوم . لكنه أخذ يتحامل على نفسه وجاهد كثيرا ليكتم آلآمه مجدا فى السعى على الرزق لإطعام الأم ووليدها . والأيام تمضى تترى ومقاومته تضعف وصحته تخور يوما بعد يوم أمام قسوة المرض وضراوته .. حتى صار بعد بضعة أشهر من ميلاد ولده محمد جسدا نحيلا هزيلا أسير الفراش بلا حول ولا قوه ..
وفى ليلة قاتمة شعر أنه صار من الموت قاب قوسين أو أدنى وأن ساعة الرحيل قد قربت . أخذت أنفاسه تضطرب وتتلاحق وهو ينادى بصوت خافت واهن على أم ولده بينما هى راقدة فى سكون إلى جواره ..............
ــ أم حبيبه . أم حبيبه . يا أزديه ؟!.
فتحت فى الحال عينيها وردت فى وجل وإشفاق .........
ــ خيرا أبا محمد . كيف حالك الآن !. هل بك شكوى ؟!.
ــ الحمد لله على كل حال ..
ــ أتريد شيئا . هل أعد لك بعضا من تلك الأعشاب التى تريحك ؟!.
ــ شكرا لك يا أم حبيبه .. لا أريد شيئا من هذا . لكنى ....
توقفت الكلمات على لسانه فاستحثته قائلة ....
ــ إيه يا عمرى .. ماذا بك يا أبا محمد .. تكلم ؟!.
ــ أم حبيبه .. أشعر أن ساعة الرحيل قد دنت .. لألقى وجه ربى إنها النهايه .. أجل النهاية المحتومة التى لا فرار لأحد منها . ليتك تعيرينى سمعك .. ولا تقاطعينى بالله عليك ..
أجابته فزعة وهى تحاول أن تقاوم البكاء ....
ــ النهايه ؟!. ما هذا الذى تقوله يا إدريس .. إنك بخير حال .. سلمك الله من كل سوء وأبقاك لى ولولدك عمرا مديدا .. يا زوجى الحبيب ..
ــ يا أم ولدى ورفيقة عمرى .. إن الموت حق علينا جميعا .. إنه الحق الذى لا مفر منه " وما تدرى نفس بأى أرض تموت إن الله عليم خبير " صدق الله العظيم . منذ أيام وأنا أشعر أنى أقترب من النهاية يقينا .. وأن خطى الموت تدنو منى يوما بعد يوم .. وساعة بعد أخرى .. فاسمعى منى وصيتى أيتها الزوجة الوفيه .. وانتبهى جيدا لما أقول .. قبل أن ألقى وجه ربى .. أشعر أنها لحظات قليلة أرحل بعدها عن دار الفناء إلى دار الخلود والبقاء ..
نظرت إليه متسائلة وقد انهمرت من عينيها عبرات غزار احتبس لها صوتها فلم تقدر على الكلام . أكمل إدريس قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثة .. بعد أن شرب قليلا من الماء من قدح إلى جواره ....
ــ أم حبيبه .. بعد أن تودعونى مقرى الأخير .. إذهبى على الفور إلى أسواق غزة وترقبى وصول القوافل القادمة من أرض مكه . فاذا وصلت إحداها .. أطلبى من شيخ القافلة أن يحمل رسالة إلى أبيك عبيد الله الأزدى .. أعلميه فيها بكل شئ .. واطلبى إليه أن يأتى إلى هنا .. كى يعود بكما مرة أخرى إلى مكه .. لا تدخرى جهدا يا أم حبيبه فى إتمام هذا الأمر ..
أخذ فى صعوبة وعناء يلتقط أنفاسه المتسارعة المضطربه .. بينما كفيها تحيط كفيه فى حنان وإشفاق .. ودموعها تتردد بين مآقيها وشفتاها ترتعدان خوفا وإشفاقا وهى ترد باكية واجفه ....
ــ مهلا مهلا .. على رسلك أبا محمد .. إنك بخير .. وستقوم سالما بإذن الله .. صبيحة الغد إن شاء الله أحضر لك الطبيب ..
أسكتها بإشارة من يده قائلا لها مصطنعا نبرة من الحزم معها ....
ــ إسمعى لى ولا تقاطعينى بالله عليك .. فلم يعد هناك وقت .. إجتهدى فى الرحيل إلى مكه كما طلبت منك .. حتى لا يضيع نسب ولدنا .. أفهمت يا أم حبيبه نسب ولدنا .. وكذلك حقه الذى فرضه رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] لآل البيت فى خمس الغنائم .. الخليفة أبو العباس السفاح .. حاول أن يخرجنا نحن بنوا المطلب منه .. إلا أن جدنا عثمان بن شافع تصدى له .. وأعاده إلينا مرة أخرى .. كما سبق وأخبرتك من قبل ..
ــ لكنه نزر يسير يا أبا محمد .. لا يكفى قوت أيام ولا يستحق أن نكابد أو نعانى من أجله !.
ــ أجل . أجل أعلم ذلك جيدا .. لكنه سهم قرره النبى [صلى الله عليه وسلم ] لبنى هاشم وبنى المطلب من خيبر .. وقال فى ذلك : " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد " .. ولهذا الشرف وحده نتمسك بهذا السهم .. إن الله قد حرم علينا الصدقة وعوضنا به بدلا منها .. إياك أن تفرطى فى حقنا هذا .. أو تتخلى عنه مهما يكن زهيدا ..
ردت والبكاء يخنق صوتها ....
ــ كما ترى يا أبا محمد .. سأنفذ كل ما أوصيتنى به .. والله شهيد على ..
ما أتمت أم حبيبة كلامها حتى علت شفتى إدريس إبتسامة باهتة .. ثم قال لها وقد بدت أساريره وكأنه ألقى حملا ثقيلا عن كاهله .....
ــ بارك الله فيك يا أزديه .. لى وصية أخيره .. أوصيك بولدنا محمدا .. علميه القرآن مبكرا .. إدفعى به إلى كتاب الشيخ إسماعيل بن قسطنطين الكائن فى ساحة الحرم بمكه .. إن أباك الأزدى يعرفه جيدا .. وهو خير من يحفظه القرآن تلاوة وإملاء ..
ــ سأفعل يا إدريس . سأفعل إن شاء الله ..
إبتسم ابتسامة الرضى وهو يربت على يدها بيمناه ثم قال لها ....
ــ إحرصى على ولدنا يا أم حبيبه .. ضعيه دوما بين عينيك فلسوف يكون له شأن كبير إن شاء الله .. كما أخبرتك من قبل .. وسترين بعينيك عالم قريش وهو يملأ أقطار الدنيا علما . إنه عالم قريش .. أجل عالم قريش ..
راح إدريس فى غيبوبة طويلة .. وهو يردد فى صوت خافت : إن الأئمة من قريش . ظل يرددها مرات ومرات إلى أن أسلم الروح إلى بارئها راضيا مرضيا .. ثم رقد ساكنا تعلو وجهه مسحة من بهاء الايمان وجلاله .. والصمت يخيم أرجاء المكان بينما ولده يرقد فى مهده ساكنا .. لا يدرى عن شيئ مما يجرى حوله ..
أخذت دموع اللوعة والأسى تتحدر على خدى أم حبيبه .. متتابعات كحبات لؤلؤ نقى فى صمت وكبرياء وشموخ .. وبدا المكان فى جلاله وهيبته وكأن ملائكة السماء تبكى معها .. وهى تحاول أن تملأ عينيها الباكيتين منه قبل أن يفارقها إلى مثواه الأخير .. وبعد أن انتهت من تجهيز زوجها الراحل ووارت جسده تراب غزه إلى جوار جده هاشم .. رجعت إلى دارها برفقتها نفر من أهلها الأزديين الذين يسكنون أرض فلسطين وبعض المعارف والجيران من أهل غزه الذين أخذوا فى مواساتها والتخفيف عنها ..


يتبع إن شاء الله ........................

د أنس البن
03/11/2008, 18h30
(2)



قافلــة الحجازيين

أبت الأيام إلا أن تقسو عليها ويرهقها الزمان من أمرها عسرا .. راحت أم حبيبه تكابد فى دار الغربة وحدها رحلة الشقاء والمعاناة بعد رحيل شريك حياتها ورفيق عمرها وسندها فى تلك البلاد .. وركنها الشديد الذى كانت تأوى إليه وتلوذ به وهى بعيدة عن أهلها وعشيرتها .. ظلت شهرا وراء شهر فى تعب ونصب لا تعرف للراحة طعما ولا تجد إليها سبيلا .. وهى تذهب كل صباح إلى أسواق غزه تجوبها طولا وعرضا إما مترقبة وصول إحدى قوافل الحجاز .. أو ساعية على رزقها تشترى بعض الأشياء بالأجل من بعض الباعة ثم تبيعها بربح ضئيل .. حتى توفر قوت يومها وهى تحمل رضيعها بين يديها لا يفارقها لحظة واحدة .. حتى صارت وجها مألوفا للتجار والباعة ورواد السوق من كثرة ارتيادها وسؤالها لهم عن قوافل تجار الججاز ..
مضت أياما وشهور كلها كد ومعاناة إختلطت فيها آلام الفراق بآمال الإنتظار .. كانت الساعات تمضى بطيئة متثاقلة كأنها دهر فما أبطأ الأيام وما أطول الليالى عندما تقسو على إنسان .. إلى أن كان يوم بينما هى فى قلب السوق تبحث عن ضالتها .. إذ بصوت يأتيها من بعيد لشاب ينادى عليها من بين ضجيج أصوات الباعة ورواد السوق التى ملأت أرجاء المكان ............
ــ يا امرأه .. يا أزديه .. يا أم الرضيع !.
إلتفتت حواليها فى ترقب تبحث عن صاحب هذا النداء بين الوجوه الكثيرة من حولها .. لتجده شابا فتيا فى الثلاثين من عمره يشير إليها من بعيد , بينما يلوك فى فمه حبة من التمر الذى يحمل بعضا منه فى يمناه .. توجهت ناحيته فى الحال فإذا به يبتدرها مبتسما .....
ــ أجل أنا الذى أنادى عليك .. ألست أنت الحجازية التى تسأل كل يوم عن قوافل تجار الحجاز ؟!.
ردت فى لهفة وشوق ....
ــ بلى يا أخا العرب , هيه هل وصلت إحداها ؟!.
ــ نعم بالأمس رأيت قافلة تجار حجازيين وهى تدخل من بوابة السوق .. أجل فأنا أعرفهم وأعرف شيخهم .. تذكرتك لحظتها على الفور وتمنيت أن أراك لأخبرك .. وها أنا أعثر عليك أخيرا ..
ــ أين أجدها بالله عليك ؟!.
ــ فى سوق الحرير ..
ــ قافلة من هذه ؟!.
ــ قافلة المزنى .. إذهبى أنت هناك واسألى عن أبى سعيد المزنى ..
ــ أهو شيخ القافله ؟!.
ــ أجل .. إنه شيخ القافلة وكبير تجار الحرير . ألم أقل لك أنى أعرفهم ..
ــ شكرا لك يا سيدى على معروفك هذا ………………
إنطلقت من فورها لا تلوى على شئ فرحة مسرورة إلى سوق الحرير .. إنها لم تذق للسعادة طعما منذ رحيل زوجها إلا هذه اللحظة التى علمت فيها بوصول قافلة التجار .. سألت أول بائع صادفته فأشار لها على شيخ وقور يجلس غير بعيد فى الجهة المقابلة وإلى جواره شاب فى حوالى العشرين من عمره وأمامهما أكوام من البضائع بينما يحتسيان على مهل شرابا ساخنا من إبريــق أمامهما وضعاه فوق قطع من الخشب المتوهج والبخار يتصاعد من بين جنباته ..
بخطى أضناها التعب وأثقلتها الليالى والأيام عبرت الطريق إليهما .. لكن تهون الصعاب وتزول الآلام فى سبيل الرجوع إلى الديار والأهل .. إبتدرتهما قائلة ....
ــ السلام عليك يا سيدى ..
ــ وعليك السلام يا ابنتى .. تفضلى ؟!.
ــ الشيخ أبو سعيد المزنى .. تاجر الحرير .. أليس كذلك ؟!.
ــ بلى يا ابنتى أنا أبو سعيد المزنى وهذا ولدى يحي .. تفضلى إستريحى ههنا ..
ــ بارك الله فيك يا سيدى ..
ــ يبدو أنك متعبة يا بنيتى .. ما رأيك فى أن تحتسى بعضا من هذا الشراب الدافئ .. إنه شراب النعناع .. سيريحك بعض الشئ ويهدئ من روعك ..
قالها وهو يشير لولده الذى تناول كوبا فارغا بيده وراح يصب فيه النعناع فى سعادة من الإبريق الساخن ثم ناوله إليها وهى تقول له ......
ــ شكرا لك يا سيدى .. إنما أتيت إليك لتصنع لى معروفا ..
ــ على الرحب والسعه .. قولى ما تشائين وكلى آذان صاغيه ..
ردت قائلة بعد أن وضعت كوب النعناع إلى جوارها ....
ــ إنها رسالة أريد أن تبلغها لأبى فى مكه ..
ــ أمر هين يسير لا تشغلى بالك أنت .. ما عليك إلا أن تخبرينى باسم أبيك والمكان الذى يسكن فيه ؟!.
ــ أبى هو عبيد الله الأزدى ويسكن فى دار فى شعب الخيف بالثنيه أسفل مكه ..
رد عليها مبتسما قاصدا تهدئة روعها مؤنسا وحشتها .....
ــ أنت أزدية إذن .. ممن قال عنهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] : " الأزد هم أسد الله فى الأرض , يريد الناس أن يضعوهم ويأبى الله إلا أن يرفعهم " صدق رسول الله .. لكنك لم تخبرينى بعد عن رسالتك التى تريدين إبلاغها لأبيك ؟!.
ــ أبلغه يا سيدى .. أبلغه أننى فى انتظار أن يأتينى إلى هنا على الفور ..
ــ لم يا ابنتى ؟!.
ــ ليعود بى أنا وولدى هذا إلى البلاد مرة ثانيه ..
ــ مرة ثانيه !. ما سبب ذلك يا ترى .. هل لى أن أسأل أم يكون تطفلا منى ؟!.
ــ عفوا سيدى إنها وصية زوجى الراحل ..
ــ وصية زوجك الراحل ؟!.
ــ أجل لقد توفى زوجى هنا منذ حوالى ثمانية أشهر .. بعد أن رزقنا الله بهذا الولد ولم يكن قد مضى على ولادته بضعة أشهر .. ومنذ ذلك اليوم وأنا أترقب القوافل القادمة من مكه لأبعث بهذه الرساله .. إلى أن علمت الآن بوصول قافلتكم بعد طول انتظار ..
ــ فعلا لقد تأخرت القافلة هذه المرة على غير العاده .. إننا نعانى من بعض الكساد فى سوق التجارة هذه الأيام ..
صمت برهة رشف خلالها رشفة من قدح النعناع ثم قال ....
ــ أخبرينى يا ابنتى .. لأى بطن من بطون مكة ينتمى زوجك الراحل ؟!.
ــ إنه مطلبى ..
ــ من بنى المطلب بن عبد مناف ؟!.
ــ أجل يا سيدى ..
ــ بخ بخ .. أهل السقاية والرفاده .. يرحم الله جده .. كان يسقى الحجيج الماء العذب ويطعمهم طوال الموسم .. إيــه يا ابنتى يا له من نسب رفيع وأصل شريف ..
أردف قائلا وهو يهز رأسه ............
قد ظمئ الحجيج بعد المطلب ؛ ليت قريشا بعده على نصب ..
مرت لحظات من الصمت والشيخ مطرق رأسه ينكت الأرض بعود فى يده .. لم يلبث بعدها أن رفع رأسه قائلا ...
ــ هل تسمحين لى فى سؤال يا ابنتى ؟!.
ــ تفضل سيدى .. على الرحب والسعه ..
ــ متى رحلتم عن مكه .. ولماذا ؟!.
ــ غادرناها منذ حوالى عشر سنوات عندما كلف زوجى أن يكون ضمن حراس الثغور .. يومها اختار أن يكون ضمن الجماعة المتجهة إلى غزه وعسقلان .. إن لأجداده ذكريات فيها ..
ــ أجل أجل “ غزة هاشم “ إن فى ترابها رفات جد آبائه " هاشم بن عبد مناف " .. على كل حال إهنئي بالا يا ابنتى وقرى عينا , سأبلغ رسالتك فور وصولنا بإذن الله . من يدرى ربما يأتى أباك معنا فى رحلتنا القادمه لترجعوا إلى البلاد فى حماية قافلتنا , فالطريق يا أزدية غير آمن كما أن السفر شاق وطويل .. كما تعلمين ..
حاول الشيخ قبل أن تنصرف أن يعطيها بعضا من الدراهم تعينها على أعباء الحياة فى الأيام القادمه لما رأى من رقة حالها .. لم ينس أن يؤكد لها أن هذه الدراهم ليست صدقة وأنها دين عليها سوف يستردها من أبيها الأزدى فور رجوعه إلى مكه .. غير أنها أبت فى إباء وشمم شاكرة له حسن صنيعه وجميل كرمه ..
يتبع إن شاء الله ........................

أبو مروان
03/11/2008, 19h23
سيرة عطرة وسرد عطر من عالم وأديب وفقيه عطر أمتعك الله بالصحة والعافية كما امتعتنا بهذه السيرة المباركة ....ذكّرني هذا الأسلوب الشيّق الراقي بكتاب أحد أعلام الأدب والسيّر هو كتاب "بلال مؤذّن الرسول "للمرحوم عبد الحميد جوده السحار ...ربنا مايحرمنا منك أيها الأخ المعطاء.

منال
03/11/2008, 20h16
والدي الفاضل الكريم المحترم :

د.أنس البن

هكذا أنت والعطاء في نهر وهطول وفيض وجمال ، فما أجمل كلماتك يا أبت ِ ، وما أروع ترانيم قلمك وتراتيل فكرك وبوح كلمك ، أستوقفتني هذه السيرة العطرة الفواحة بنفحات وعبق الحياة الشافعية المميزة ، وبما أسبغت عليه من قطرات قلمك البديع وروحك الواسعة وما فيها من نقاء وصفاء وطيبة لا أمد وأنتهاء لها بهذه الإنسانية الزاخرة بالعطاء،مع هذا السرد الجميل المشوق والأفكار المرسلة المتوالية بكل رشاقة وإنسيابية والتعابير الراقية والوصف البديع الصادق بهذا الشعور المعبر ، حتى صرنا تنتظر هذه الومضات والإشراقات الكريمة بكل شوق وأنتظار ونحن نستغرق في جماليتها وأبداعاتها وروعتها .


فشكراً لكل كلمة وكل إبداع تقدمة لنا .
وشكراً لهذه الصفحات الراقية على
لجين سماعنا الأصيل ، وفي إنتظار
البقية مما يجول في أروقة هذه
السيرة المباركة الكريمة .


دمت نهراً ننهل من فيضه أبد الدهر
ودامت مدرستك في جمال وعطاء .

abuzahda
04/11/2008, 01h15
دمت نهراً ننهل من فيضه أبد الدهر
ودامت مدرستك في جمال وعطاء .


آمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــين

د أنس البن
04/11/2008, 09h15
أساتذتى الأجلاء
أبو مروان
منال هانم
سيد أبو زهده
كلماتكم دين فى عنقى . ولا أدرى حتى تلك اللحظه من أى واد من وديان فردوس الكلمات تقطف الإبنة منال تلك الثمرات النادرات وتنظم ذلك السلك الذهبى من لؤلؤ الكلمات

د أنس البن
04/11/2008, 09h15
(3)

بدايــة رحــلة العــوده

مرت الأيام بطيئة متثاقلة كأنها دهر وأم حبيبة تتذرع بحبائل الصبر وهى تنتظر الرحيل إلى ديار الأهل على أحر من الجمر .. لم يعد هناك ما يبقيها فى أرض الغربة بعيدا عن الأهل والأحباب بعد رحيل السند والظهر .. وبعد أن مضت أشهر ثلاثه وبضعة أيام , عرف اليأس خلالها طريقه إليها وانقطع بها الأمل وتبدد الرجاء . ظنت أن الشيخ المزنى نسى رسالتها ولم يبلغها لأبيها حتى أنها فكرت فى الرحيل بمفردها دون انتظار لقافلة التجار أو لوصول أبيها ..
وبينما هى راقدة فى فراشها ذات ليلة وقد غلبها التعب , إذ هبت فزعة من نومها وقد شق سكون الليل طارقا يطرق الباب طرقا شديدا متواصلا . قامت مسرعة وهى تتعثر فى ردائها , بينما الطارق لا يكف عن دق الباب بكلتى يديه مناديا بصوت عال .....
ــ أم حبيبه , أم حبيبه , إفتحى الباب يا ابنتى . ماذا دهاك , ما بالك , ألا تسمعين ؟!. ألهذا الحد أنت مستغرقة فى النوم ؟!.
راحت تحدث نفسها ......... يا ربى .. هذا الصوت ليس غريبا على مسامعى .. أجل .. إنه .. إنه صوت أبى ..
أسرعت إلى الباب وهى تتعثر فى ردائها , ولم تنس أن تلتقط وهى فى طريقها غطاء للرأس وضعته على عجل حول رأسها تحسبا .. فتحت الباب فى لهفة وشوق , لتجد أباها أمامها فاتحا لها ذراعيه فى حنان وعلى شفتيه ابتسامة عريضة ..
إرتمت فى أحضانه .. لم تجد ما تقوله غير نوبة بكاء عميق تملكتها وهى بين ذراعيه , بينما راح الشيخ يربت على ظهرها بيديه فى حنان أبوى .. وبعد أن هدأ بكاؤها التفت الشيخ إلى شاب ينتظر لدى الباب أتى معه ليدله على مكان البيت وخاطبه قائلا ............
ــ لا تؤاخذنى يا بنى أن تركتك تنتظر هكذا لدى الباب . تفضل بالدخول كى تستريح بعض الوقت . لقد أتعبتك معى كثيرا ..
ــ عفوا يا سيدى أنا ما فعلت شيئا . هل من خدمة أخرى أؤديها ؟!.
ــ بارك الله فيك يا ولدى . صحبتك السلامه ..
تركته ابنته يغط فى نوم عميق يوما كاملا بعد أن ألقى جسده المكدود على الفراش .. وقد أضناه التعب عقيب تلك الرحلة القاسية الطويلة وهو الشيخ الكبير . لم يكد يستيقظ من نومه فى اليوم التالى حتى أخذت أم حبيبة تلاحقه بالأسئلة تترى عن أهلها وأحوالهم . كانت فى شوق لمعرفة أخبارهم بعد أن طال الفراق وامتدت بها الغربة سنوات كثيره .....
ــ حدثنى يا أبت عن أحوال الأهل جميعا وما جرى لهم فى السنوات الماضيه .. حدثنى عن كل شئ ؟!.
ــ لا تؤاخذينى يا ابنتى لقد بلغ منى الجهد مبلغا كبيرا بعد تلك الرحلة الطويلة الشاقة , لم أقدر على مقاومة النوم بالأمس . على كل حال هم جميعا بخير ..
ــ كيف حال أمى .. كيف حال صحتها .. آه يا أبى كم اشتقت كثيرا إليها ؟!.
ــ أمك بخير حال كما تركتيها قبل سنوات غير أن آلآما بالرأس تعاودها بين الحين والحين , إلا أنى أعطيها خلاصة بعض الأعشاب التى تريحها بعض الشئ ..
ــ وماذا عن إخوتى جميعا .. عبد العزيز وسليم وعلى ؟!.
ــ كلهم جميعا بخير ..
ــ حدثنى عنهم يا أبت ؟!.
ــ أخاك الأكبر عبد العزيز رزقه الله بعد سفركما بولدين وبنت واحده واتخذ دارا وحده .. أما سليم فقد تزوج ابنة خاله عائشه منذ ثلاث سنوات لكنه لم ينجب بعد .. وأخوك على صار فتى فى العشرين من عمره الآن , وهو الذى يساعدنى فى حانوت العطاره ..
ــ حانوت العطاره !. أى حانوت يا أبت .. منذ متى وأنت تمارس تجارة الأعشاب ؟!.
ــ ليست تجارة واسعة كما تظنين إنه حانوت صغير اتخذته منذ سنوات بالقرب من ساحة البيت العتيق أمارس فيه تجارة الأعشاب والطيب والتمر ……

@ بعد أيام قلائل تحركت قافلة صغيرة من الأب وابنته وولدها الذى بلغ حد الفطام بعد أن أكمل عامه الثانى . وصلوا إلى المكان الذى ترابط فيه قافلة التجار وفيه إلتقوا بالشيخ أبى سعيد المزنى وولده يحي . وجداهما يتممان على القافلة وهى تتأهب لرحلة العودة إلى أرض الحجاز . رآهم أبو سعيد فابتدرهم مهللا فى بشاشة .....
ــ أهلا بأهل مكة العائدين إلى الديار . هل أنتم جاهزون للرحيل ؟!.
ــ نعم جاهزون تماما . أعددت دابة لى وأخرى لابنتى وولدها ..
ــ نحن أيضا جاهزون ومستعدون لبدأ الرحله ..
ــ متى نبدأ رحلتنا إن شاء الله ؟!.
ــ بعد صلاة العصر بإذن الله تعالى ..
ــ وأى طريق نسلك فى رحلة العوده ؟!.
ــ سوف نتحرك شمالا بمحاذاة بحر الروم إلى مدينة عسقلان .. وفيها سوف نحط خيامنا ثلاثة أيام للراحه وإنهاء بعض الصفقات التجاريه .. ثم نشد رحالنا جنوبا إلى أن نحاذى شاطئ بحر القلزم .. وآخر مكان نضع فيه خيامنا هو بدر للتزود بالماء والطعام والراحه .. ثم نواصل رحلتنا بعدها إلى مكة باذن الله حيث نترككم فيها ونمضى نحن فى طريقنا لنكمل رحلتنا إلى أرض اليمن ..
رد الأزدى قائلا ....
ــ على بركة الله ورحلة مباركة وآمنة إن شاء الله ..
@ فرغ جميع من فى القافلة من آداء صلاة العصر واستلم كل واحد راحلته وبدأ الركب فى التحرك على وقع أنغام حادى الإبل وهو يرفع عقيرته بالغناء منشدا بصوت عذب شجى والقافلة تردد من خلفه ......
يا أيها البيــت العتيق تعالى ؛ نــور لكــم بقــلوبنا يتلالا ..

أشكو إليك مفاوزا قد جبتها ؛ أرسلت فيها أدمعــى إرسالا ..

أمسى وأصبح لا ألذ براحة ؛ أصل البكور وأقطع الآصالا ..

وقبل أن تنفصل العير عن أرض غزه .. إلتفتت أم حبيبة من خلفها لتلقى نظرة وداع أخيرة على أبنية المدينة التى عاشت فى أحضانها وبين ربوعها عشرة أعوام .. راحت تملأ عينيها من ترابها الذى يضم فى أحضانه رفات زوجها وشريك حياتها .. وهى تردد فى صوت خفيض ملتاع والدموع تسيل على خديها فى أسى وشموخ ......
ــ آه من فراق أرض يرقد فى ثراها شريك حياتى وزوجى الحبيب الغالى .. والله لولا أنها وصيتك يا حبيبى ما فارقتها أبدا ..
إلتفت إليها أبوها وفى عينيه نظرة إشفاق وهو يرى الدموع تنثال على خديها محاولا سماع ما تقول .. ثم ما لبث أن سألها مشفقا ......
ــ ماذا كنت تقولين يا ابنتى .. لم أسمعك جيدا ؟!.
ردت وهى تمسح الدمع عن خديها ....
ــ لا شئ يا أبت لا شئ ..
بعد برهة صمت التفتت إليه قائلة بعد أن استجمعت نفسها ....
ــ أبت .. ليتك تقص على .. وأنا أسمع منك ؟!.
سألها متعجبا ....
ــ أقص عليك !. أى شئ أقصه عليك !. ما الذى تودين سماعه يا ابنتى ؟!.
ردت قائلة بينما عينيها تسبح فى الأفق البعيد .....
ــ ليتك يا أبت تحدثنى ونحن ماضون فى طريقنا .. عن أحوال البلاد عامة .. وما جرى فيها من أحداث .. كنت أسمع وأنا فى غزه أن أمورا جرت على أرض الخلافه .. وحدثت أحداثا مهمة .. ليتك تزيدنى معرفة عنها ؟!.
ــ أحوال البلاد ؟!. يااااه إنه حديث ذو شجون كما يقولون .. مالك أنت وأحوال البلاد .. ما الذى تريدين معرفته منها !. إنها أمور متشعبة كثيرة .. يطول الكلام فيها ..
ــ ليتك تحدثنى عن أهمها .. فأمامنا طريق طويل .. وزمن أكثر منه طولا ..
ــ صدقت والله يا ابنتى صدقت .. إن أمامنا مسيرة شهر أو يزيد .. حتى نصل إلى أرض مكه ..
ــ هى فرصة إذن لتهون علينا وحشة الطريق وطول السفر ..
ــ لقد وقعت أحداثا عظيمة فى العراق ومكة والمدينه .. أحداثا يشيب من هولها الولدان .. وتهتز من بشاعتها هذه الشم الرواسى .. ويشق على مثلك أن يستمع إليها ..
قال ذلك وأشار بيده إلى رؤوس جبال تبدو شامخة من بعيد .. أخذت أم حبيبة تنصت لحديث أبيها .. وقد بدا على وجهها الإهتمام وفى عينيها فضول للسماع .. بينما الشمس تجرجر أذيالها الشاحبة شيئا فشيئا ناحية الغروب وهو يسترجع أحداث الزمن القريب ..................
ــ تعلمين يا ابنتى ما جرى من أحداث دامية على أرض الخلافة فى العراق .. وانتهت بالقضاء على القائد الكبير أبى مسلم الخراسانى بعد أن استدرجه أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور إلى قصره بالهاشميه .. مستعينا بالحيلة والدهاء فى الوقت الذى كان كلاهما يتربص بالآخر ..
ردت معقبة ...
ــ على قدر علمى يا أبت أنه على أكتاف أبى مسلم قامت دولة بنى العباس .. ولولا بلاؤه وبأسه معهم .. لما تم لهم ذلك .. ولما قضى على آخر خلفاء بنى أميه ..
ــ أجل أجل هذا صحيح يا ابنتى .. لكنها الفتن والدسائس ومكائد القصــور ..
ــ مكائد القصور !. وقانا الله شرورها .. وحفظنا وحفظ أولادنا منها ..
ــ المهم .. بعد ذلك شرع المنصور فى تأليف قلوب أصحاب وأعوان أبى مسلم .. بالرغبة أحيانا وبالرهبة أخرى .. لكنها لم تحل دون قيام بعض الثورات والفتن ضده .. وبالمناسبه تولى أمر خراسان واحد من أبناء عمومتنا .. عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدى .. وذلك بعد مقتل أبى داود أمير خراسان أثناء إحدى المعارك الضارية التى دارت مع أنصار القائد أبى مسلم ..
ــ هل حدثت بعد ذلك محاولات أخرى منهم ؟!.
ــ نعم .. فى تلك الأثناء خرجت من راوند من أعمال خراسان طائفة الراونديه .. جماعة من أتباع أبى مسلم .. قاصدين قصر أمير المؤمنين بالهاشميه قرب الكوفه ..
ــ الراونديه !. لم أسمع بهم من قبل .. من يكون هؤلاء القوم يا أبت .. أهم مثلنا مسلمون موحدون ؟!.
ــ أبدا يا ابنتى .. إنها جماعة مارقة خارجة عن الاسلام .. وإن كانوا يدعون كذبا وبهتانا أنهم مسلمون موحدون ..
ــ كيف ذلك يا أبى ؟!.
ــ كان فيهم رجل يدعى الأبلق .. زعم أن الروح التى كانت فى عيسى بن مريم صارت فى على بن أبى طالب .. ثم فى أبنائه واحدا بعد الآخر .. إلى أن حلت أخيرا فى إبراهيم بن محمد سبط العباس عم النبى [صلى الله عليه وسلم ] .. وأنهم جميعا آلهه ..
ــ أعوذ بالله من تلك الأباطيل .. أى إفك هذا الذى يدعونه .. وهل تلك عقيدتهم كلها يا أبت ؟!.
ــ لا .. بل يعتقدون أيضا فى تناسخ الأرواح .. وأنها تحل فى الأجساد بعد الموت .. ويدعون أيضا أن أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور هو ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم .. وأباطيل أخرى نحو ذلك ..
تساءلت وقد بان عليها العجب وأخذها الدهش ...
ــ كيف يعتقدون فى هذه الخزعبلات وينطقون بهذه الأباطيل ويؤمنون بها .. ثم يدعون بعد ذلك أنهم مسلمون موحدون بالله .. ما قصدهم يا ترى من وراء ذلك كله ؟!.
ــ لا هدف لهم من وراء الترويج لهذه الخزعبلات والأباطيل إلا إحداث الفتن والقلاقل .. تمهيدا لزعزعة أركان الدولة الاسلاميه .. ثم فى نهاية الأمر القضاء على أمير المؤمنين ورجال الحكم ..
ردت معقبة ....
ــ بذلك يتم لهم الإنتقام لمقتل قائدهم أبى مسلم الخرسانى .. أليس كذلك يا أبت ؟!.
ــ بلى يا ابنتى هذا صحيح تماما ..
ــ وما الذى فعله هؤلاء .. الراوندية .. يا أبت فى مدينة الهاشميه وبيت الخلافه .. أرأيت .. لقد شوقتنى والله لسماع حكايتهم ؟!.
ــ سأقص عليك يا ابنتى ما جرى آنذاك وما كان من أمرهم ....................

يتبع إن شاء الله ........................

abuzahda
04/11/2008, 11h49
إسمح لي يادكتور أنس
يا أستاذ ياكبير (علماً و تواضعاً)
- إختصاراً للقول- أن أستعير من ذلك الألماس المرصوص برائعتك
فأقول (بغير ذات السياق) :


نــور لكــم بقــلوبنا يتلالا

يادكتور أنس

د أنس البن
04/11/2008, 14h32
صديقى الأديب الكبير , وشاعر الغلابه سيد أبو زهده
أكرمك الله كما أكرمتنى
وأود أن أنوه إلى أمر لا أظنه يغيب على أمثالكم من أهل هذا الفن وأربابه , وهو أن الصفحات التاليه وإن بدت خارج السياق , إلا أنها تحوى من الشئون ما سيكون له ولبعض الأسماء الواردة فيه تداخل وترابط مع مسيرة حياة الشافعى فى عقود زمنية متقدمه


........................

د أنس البن
04/11/2008, 14h32
(4)

144 هجريه .. بلاط المنصور بالهاشميه
@ داخل قصر كبير شيده أبو العباس السفاح أول خلفاء بنى العباس , ليكون مقرا للخلافة والحكم بمدينة الهاشميه التى تقع فى العراق بين الكوفة والأنبار . وفى صدر قاعة الحكم أو ما يعرف بالإيوان , جلس رجل نحيف يميل إلى الطول والسمره فى منتصف العقد الخامس من العمر , يتميز بجبهة عريضة وأنف أقنى ولحية خفيفه وفى عينيه دهاء وخبث . إلا أنه تغلب عليه أمارات الحلم والكياسه وتعلوه المهابة والوقار وله قبول عند كل من يراه . إنه الخليفة العباسى الثانى أبو جعفر المنصور , المؤسس الحقيقى لدعائم دولة العباسيين . وعن يمينه جلس ولده محمد , ولى العهد والخليفة المنتظر من بعده , له من العمر ستة عشر عاما ويماثل أباه فى الطول والسمره , كما توحى ملامحه بالسماحة والطيبة التى لا تخلو من قوة وبأس . وعلى مقربة منهما وقف الربيع بن يونس , كبير الحجاب والساعد الأيمن لأمير المؤمنين وصاحب الرأى والمشوره . وإلى جواره أبو أيوب الموريانى كاتب الديوان الأكبر . كان المنصور يتبادل بعض الكلمات همسا مع ولده محمد المهدى بعدها التفت إلى الربيع بن يونس قائلا وعلى شفتيه ابتسامة عريضه ...
ــ بلغنى أيها الحاجب أنك أصبحت أبا .. صحيح هذا ؟!.
تنحنح الربيع قبل أن يرد قائلا ...
ــ أجل يا مولاى .. أنعم الله على بعد طول انتظار .. بولد .. فى عهدكم الميمون ..
ــ أهو ولد إذن ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين, رزقنى الله بولد أسميته الفضل , أدام الله فضلكم وأعز البلاد بكم يا أمير المؤمنين ..
ــ حسن . حسن . الفضل بن الربيع إسم طيب . أمرنا له بألفى درهم من بيت المال وجارية لرعايته ..
رد قائلا وهو يبالغ فى إظهار السرور والرضا ...
ــ كثيرا ما تغمرنا بعطاياك وإنعامك علينا يا مولاى ..
قالها , ثم أدار رأسه وراح يحدث نفسه , وهو يضغط على أسنانه فى غيظ وحنق .....
ــ ألفى درهم فحسب أيها البخيل , حسبتك ستأمر لى بألفى دينار , أهذه عطية تعطيها لرجلك الأول وكاتم أسرارك !. صدق والله من لقبك لبخلك , بأبى الدوانيق ..
أفاق من حديث النفس على صوت المنصور يسأل فى حده ....
ــ هل بالباب أحد ينتظر الإذن بالدخول علينا ؟!.
أجابه حارس الباب ....
ــ نعم يا مولاى هناك رجل من الزهاد تبدو عليه أمارات الورع والتقوى ..
ــ من يكون هذا الرجل ؟!.
ــ لا أعرفه يا مولاى .. إنها أول مرة أراه هنا ..
ــ ماذا يريد ؟!.
ــ يدعى أنك لقيته فى الهاشمية بالأمس وطلبت إليه الحضور اليوم إلى هنا !.
ــ آه .. آه , تذكرته إنه أبا عثمان عمرو بن عبيد , أدخله فى الحال !.
وفى خطوات بطيئة متثاقلة تقدم شيخ طاعن فى السن مقوس الظهر له لحية طويلة بيضاء ويرتدى زيا خشنا . دخل وهو يتوكأ على عصاه , ثم توقف فى منتصف القاعة وألقى السلام . تلقاه المنصور مكبرا له حفيا به قائلا ....
ــ عليك السلام يا أبا عثمان , تقدم واقترب منا فما أحوجنا لمجالسة أمثالك من أهل العلم والورع والزهد والإستماع إلى نصحهم وموعظتهم . إن من حولنا يذكروننا بالدنيا الفانيه , وأنت وأمثالك تذكروننا بالآخرة الباقيه ..
ــ بارك اله فيك يا أمير المؤمنين ..
ــ كيف حالك وحال أهلك يا أبا عثمان ؟!.
ــ بخير حال يا أمير المؤمنين ..
ــ عظنى يا أبا عثمان , فإنى مشوق والله لسماع مواعظك وحكمك ..
إتجهت إليه أنظار جميع من بالمجلس .. وهو يقول فى صوت هادئ رخيم ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها فى البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذى الأوتاد الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد ..
رد المنصور فى صوت متهدج باك وقد أخذه الحزن والدهش .....
ــ صدق الله العظيم . ما أحكم تلاوتك للقرآن يا أبا عثمان , كأنى والله لم أستمع لهذه الآيات المباركات إلا الآن . آآآآآآه زدنى أيها الزاهـد زدنى ..
ــ إعلم يا أبا جعفر أن الله قد أعطاك الدنيا بأسرها .. فاشتر نفسك ببعضها .. وأن هذا الأمر كان لمن قبلك .. ثم صار إليك .. ثم هو صائر لمن بعدك .. واذكر ليلة تسفر عن يوم القيامه ..
صمت برهة واستأنف قائلا ...........
يا أيهذا الذى قد غره الأمل ؛ ودون ما يأمــل التنغيص والأجل ..

ألا ترى أنما الدنيا وزينتها ؛ كمنزل الركب حلوا ثمت ارتحلوا ..

نظر الربيع تجاه أمير المؤمنين فرآه وقد أطرق رأسه باكيا , حتى أن دموعه سالت على لحيته وبللتها . إلتفت للشيخ الزاهد قائلا فى صوت هامس يحاول إسكاته ....
ــ رفقا .. رفقا .. على رسلك أيها الشيخ .. لقد غممت أمير المؤمنين .. وأبكيته ..
سمعه المنصور فأشار إليه براحة يده طالبا منه أن يكف لسانه . أبى الشيخ أن يدعه دون أن يؤنبه على مقاطعته , فهؤلاء الناس كانت لهم منزلة ومكانة تجعل الواحد منهم لا يقيم وزنا لأى أحد من حاشية أمير المؤمنين ولا يخشون لهم بأسا .. نظر إليه قائلا ....
ــ وماذا على أمير المؤمنين أن يبكى من خشية الله عز وجل ..
ثم استدار ناحية المنصور وهو يشير على الربيع مستأنفا كلامه ....
ــ إن هذا صحبك عشرين سنة .. لم ير لك عليه أن ينصحك يوما واحدا .. وما عمل وراء بابك بشئ من كتاب الله عز وجل أو سنة نبيه [صلى الله عليه وسلم ] ..
نظر المنصور إلى الربيع فرآه ممتعضا يحاول أن يكتم غضبه رغما عنه .. أمره أن يعطى الشيخ عشرة آلاف درهم , لكن الأخير قاطعه قائلا وهو يشيح بيده ....
ــ أمسك عليك دراهمك .. فلا حاجة لى بها ..
رد المنصور فى لهجة قاطعة ....
ــ والله لتأخذنها ..
أجابه الشيخ محتدا ....
ــ والله لن آخذها ..
إنتفض ولى العهد .. هب واقفا يصيح فى وجه الشيخ وقد أثاره رغم حلمه وطيبته أن يرد أحدا أيا كانت منزلته على أبيه بهذه الحدة والجفاء ....
ــ ويحك أيها الشيخ !. ماذا بك .. أيحلف أمير المؤمنين وتحلف أنت !. كيــف تجـرؤ ؟!.
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة كأنها سهم .. ثم التفت للمنصور قائلا ....
ــ من يكون الفتى ؟!.
ــ إنه إبنى محمد المهدى وولى العهد من بعدى !.
ــ لقد أسميته إسما لا يستحقه ..
ثم أشار إلى زيه الأسود وهو شعار بنى العباس وأردف قائلا ....
ــ وألبسته لبوسا ما هو له .. ومهدت له أمرا أمنع ما يكون به .. أشغل ما يكون عنه ..
أطرق ولى العهد ساكتا , وقد أدركه الخجل وهو يرى نظرة عتاب فى عينى أبيه الذى قال للشيخ .....
ــ أبا عثمان هل من حاجة أقضيها لك ؟!.
ــ نعم لى مطلب واحد !.
ــ قل يا أبا عثمان , أطلب ما تشاء , أقضيه لك فى الحال كان ما كان ..
ــ لا تبعث إلى حتى آتيك .. ولا تعطينى حتى أسألك !.
ــ إذن والله لا نلتقى .. ولن يصلك منى شئ !.
ــ عن حاجتى سألتنى وأجبتك ..
ثم استدار خارجا وهو يردد ........
ــ والمرء يسعى بما يسعى لوارثه ؛ والقبر وارث ما يسعى له الرجل
ما كاد يبلغ عتبة الباب حتى رفع المنصور رأسه وأشار إليه قائلا ....
ــ كلكم يمشى رويد . كلكم طالب صيد . غير عمرو بن عبيد ..
وبينما الشيخ فى طريقه إلى الباب , دخل عثمان بن نهيك قائد الحراس على عجل ميمما صوب أمير المؤمنين وهو يقول فى لهفة وجزع .....
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ماذا وراءك يا قائد الحراس ؟!.
ــ عفوا يا مولاى , أمر هام حدث منذ قليل ..
ــ تكلم يا قائد الحراس , ما الذى دهاك يا رجل ؟!.
ــ جماعة الراونديه يا مولاى !.
ــ الراونديه !. ما لنا ولهم هؤلاء الكفرة , وما خطبهم ؟!.
ــ كنا نتصور يا مولاى أنه لن تقوم لهم قائمة , وأنهم استكانوا وخمدت حركتهم بعد محاولاتهم الفاشلة من قبل إشعال نيران الفتن والدسائس , عقيب مقتل الخائن أبى مسلم الخرسانى !.
ــ أتقصد أنه قد خرج بعضهم من خراسان ؟!.
ــ نعم يا مولاى , رصدتهم عيوننا وهم يتحركون من خراسان حتى وصلوا إلى الأنبار !.
ــ أى طريق سلكوا ؟!.
ــ سلكوا طريق الهاشميه ..
ــ معنى ذلك أنهم يقصدون القصر ؟!.
ــ تماما يا أمير المؤمنين ..
ــ كم يبلغ عددهم ؟!.
ــ حوالى ألف رجل بالخيل والعتاد , أو ربما أقل قليلا ..
ــ هل يرددون شيئا ؟!.
ــ أجل يا مولاى .. إستمع إليهم رجالنا وهم يرددون كلاما غريبا من أباطيلهم التى يرددونها دوما !.
ــ ماذا يقولون .. تكلم يا قائد الحراس ؟!.
ــ يقولون إنهم ذاهبون إلى قصر ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم !.
ــ تبا لهؤلاء الزنادقه .. إنهم يقصدوننى بهذه الترهات .. وما أرادوا من وراء ذلك إلا إشعال نيران الفتنه .. هيه وماذا أيضا ؟!.
ــ يقولون إن جبريل الأمين قد حل فى أمير مكه الهيثم بن معاويه الخرسانى .. وأن روح آدم قد حلت فى جسدى أنا .. إلى آخر تلك الخرافات !.
ــ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .. قبحهم الله ولعنهم .. والله لقد صبرت عليهم كثيرا .. لأجعلنهم عبرة لغيرهم ولتكن نهايتهم على يدى هاتين إن شاء الله !.
ــ مرنا يا مولاى نقضى عليهم جميعا فى التو .. ونستأصل شأفتهم ؟!.
ــ لا ليس بعد .. دعنا ننتظر .. لكن راقبوهم جيدا وارصدوا تحركاتهم .. وإذا جد فى الأمر شئ أبلغونى على الفور ..
ــ السمع والطاعة يا مولاى ………………

@ استمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته .....
ــ لم تمض غير ساعات قليلة حتى سمعت جلبة شديدة خارج أسوار القصر , وصلت أسماع الخليفة والجالسين من حوله .. أصوات آتية من بعيد إختلطت فيها هتافات الرجال بدبيب حوافر الخيل وصهيلها .. وعلى عجل دخل قائد الشرطة قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين ؟!.
ــ ما وراءك يا قائد الشرطه ؟!.
ــ جماعة الراوندية يا مولاى .. وصلوا للأبواب الخارجية للقصر ..
ــ هذه الأصوات والجلبة إذن صادرة عنهم ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين ..
ــ ما الذى يفعلونه !. هل حاولوا أن يتحرشوا برجالنا ؟!.
ــ لا يا مولاى .. إنهم يطوفون حول القصر فحسب .. ويقولون للناس هذا بيت ربنا , ونحن نطوف من حوله ..
ــ تبا لهم .. إذهب أيها القائد إلى هؤلاء الأبالسه وخذ معك بعضا من الجند واطلب إلى قادتهم أن يأخذوا عتادهم ويرحلوا عنا إلى ديارهم فى الحال ..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. إن هؤلاء القوم لا يفيد معهم نصح ولن يجدى حوارا معهم ..
قاطعه المنصور فى حزم وقد بدا نافد الصبر .....
ــ إفعل ما آمرك به أيها القائد ..
ــ أمر مولاى أمير المؤمنين .... فإن أبوا أن يستجيبوا لنا .. هــل نقاتلهم يا مولاى ؟!.
ــ لا .. ليس الآن .. إن امتنعوا .. خذوا قادتهم من بينهم بالحيلة .. وألقوا بهم فى السجون .. ثم انتظروا ما آمركم به ………………
----------

إستطرد الشيخ يحكى لابنته ....
ــ وفى الحال توجه موسى بن كعب قائد الشرطه ومعه عددا من رجاله إليهم .. سأل عن قادتهم حتى تعرف عليهم .. ثم بدأ يتفاوض معهم متذرعا بالصبر رغما عنه كما أمره المنصور , محاولا إقناعهم بالعودة إلى ديارهم , وأن يكفوا عن ترديد أباطيلهم ..
ــ لم يا أبى !. أقصد لم تذرع بالصبر ؟!.
ــ إنه يا ابنتى رجل حرب .. لا يعرف إلا لغة السيوف المكتوبة بالدماء ..
ــ وهل تمكن من إقناعهم بذلك ؟!.
ــ هيهات يا ابنتى هيهات .. إنهم قوم شديدوا المراس .. متطرفون فى معتقداتهم وسلوكهم !.
ــ ما الذى فعله قائد الشرطة إذن يا أبى ؟!.
ــ لم يجد أمامه بعد أن فشل فى إقناعهم .. إلا أن ينتقل إلى الخطوة التالية كما أمره المنصور .. ألقى القبض على قادتهم وقيدهم بالأغلال ثم ساقهم إلى سجون الهاشميه .. غير عابئ بغضب أتباعهم !.
ــ والباقون ماذا فعلوا .. هل انصرفوا أم قاوموهم ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك .. لم ينصرفوا ولم يقاوموهم ..
ــ ما الذى فعلوه إذن ؟!.
ــ أخذهم العجب وتملكتهم الدهشة مما فعله قائد الشرطه معهم .. وغضبوا منه غضبا شديدا !.
ــ أمر طبيعى أن يفعلوا ذلك .. فهم كما أخبرتنى كانوا يتصورون أنهم يرضون أمير المؤمنين بكلامهم هذا .. وهم يرفعونه لمرتبة الألوهيه !.
ــ تماما .. كما قلت يا ابنتى .. ذلك ظنهم الذى أرداهم موارد الهلاك !.
ــ هيــــــه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ حسنا .. سأخبرك يا ابنتى . لا زالت لتلك الأحداث بقيه .. ويالها من بقيه !!..


@ إنتظرت جماعة الراوندية مكانها دون جدوى بعد أن خاب ظنهم وطال انتظارهم حتى أخذ منهم الضيق كل مأخذ .. لم يعد قادتهم من مفاوضاتهم التى كانت تجرى بينهم وبين قائد الحراس .. وأخيرا أرسلوا واحدا منهم يتبين حقيقة الأمر ويأتيهم بالنبأ يقين .. عاد وأخبرهم أن رجال المنصور احتجزوا قادتهم وأودعوهم سجون الهاشميه ..
تملكهم غضب شديد بعد أن نزل الخبر عليهم كالصاعقة وأخذوا يتراطنون بأصوات عالية متداخلة .. كلاما غريبا غير مفهوم وهم يتداولون أمرهم فيما بينهم .. شعروا بالإهانة التى لحقت بهم وأنهم أخذوا على حين غرة منهم .. وأخيرا قرروا بعد نقاش حاد وأخذ ورد وضع خطة يردوا الإعتبار بها لقادتهم .. ويدفعوا عنهم تلك الإهانة ويستردوا كرامتهم التى أهدرت ..
إتفقوا على أن يقسموا أنفسهم مجموعتين بعضا منهم وهم الأقل عددا ينتظرون مكانهم للمراقبه ومتابعة الموقف .. والآخرون وهم الأكثر عددا تحركوا وهم يحملون نعشا فارغا على أكتافهم وكأنهم يشيعون جنازة .. بدا مسلكهم الطائش وحركاتهم العصبية أمرا مثيرا للسخرية والضحك أكثر منه للرثاء والشفقه ..
أخذوا يجوبون طرقات المدينة وأزقتها وهم يدقون الأرض بأقدامهم ويرددون فى عصبية كلمات فارسية غير مفهومة .. بينما أهل الهاشمية ينظرون إليهم وهم فى عجب من أمرهم .. البعض يضحك فى سخرية والبعض الآخر لما عقدت الدهشة ألسنتهم أخذوا يضربون كفا بكف وهم يرددون لا حول ولا قوة إلا بالله .. إنهم يعرفونهم منذ زمن ويعرفون أساليبهم وأنهم دعاة باطل وبهتان .. لكنهم لا يستطيعون إيذاءهم أو التحرش بهم إلا إن أمر الخليفة بذلك وأذن لهم به ..
توجه حملة النعش فى نهاية المطاف إلى أبواب السجن الكبير الذى يقع قريبا من قصر الحكم .. وهناك إشتبكوا مع الحراس القائمين عليه . كانوا كثرة والحراس قلة .. فأداروا معركة غير متكافئة أمكنهم بعدها من إخراج قادتهم بالقوة من داخله .. ثم أخذوا طريقهم إلى أبواب القصر ليثأروا لأنفسهم ولقادتهم أولئك من المنصور ورجاله ..
علم بذلك فنادى على كبير الحجاب الربيع بن يونس وأمره أن يرسل مناديا ينادى فى المدينة ليعلم الناس بأوامره .. ويستنفرهم لقتال هؤلاء الكفره وفى نهاية كلامه أكد عليه قائلا فى حده ....
ــ تول بنفسك الإشراف على إغلاق أبواب المدينة كلها .. وعلى الأخص باب خراسان .. وقم بالمرور عليها لتتأكد بنفسك من وجود حراسة مشددة على جميعها ..
بعد أن خرج الربيع على عجل لتنفيذ أوامر المنصور .. إلتفت إلى قائد حراسه الذى وقف على مقربة منه متأهبا فى انتظار أوامره .. وخاطبه فى لهجة حادة قاطعه ....
ــ خذ معك بعض الجند والزم باب القصر الشرقى لا تغادره أبدا .. إياك أن تدع أحدا من هؤلاء الزنادقة يفلت من قبضتكم أو يخرج سالما .. إقتلوهم جميعا حيث وجدتموهم واستأصلوا شأفتهم .. لا تبقوا على حياة أحد منهم فإنى لا أريد أن أسمع لهم ذكر بعد اليوم ..
إنتهى المنصور من إصدار أوامره .. ووضع كل واحد من القواد مكانه واطمأن على توزيع رجاله فى أماكنهم .. وأعد الساحة للقتال ثم نزل وحده قاصدا أبواب القصر ..وقد تكبدت الشمس السماء .. أخذ يرقب فى قلق ساحة المعركة الممتدة أمام القصر .. لكن سرعان ما تبدل همه فرحا وتهلل وجهه سرورا لما رأى قومه يؤازرونه ويناصرونه .. رأى أهل البلاد وقد وفدوا من كل حدب وصوب .. يحمل كل واحد منهم سلاحه فى يده وكلهم حماس للقتال والنزال والشهادة فى سبيل الله ..
وفى تلك الأثناء وقد تزاحمت الأقدام فى الساحه .. والناس يتدفقون من هنا وهناك كالسيل المنهمر .. جاء الربيع بن يونس بعد أن انتهى من مهمته فى تأمين مداخل المدينة وإغلاق أبوابها. . تقدم إلى المنصور قائلا وهو يسوق أمامه إحدى الأفراس المطهمه مشيرا إلى ظهرها ...
ــ تفضل يا مولاى ..
قالها وهو يمسك بخطامها ثم وقف إلى جواره قائما على حراسته .. وبينما المنصور يرقب ساحة القتال من مكانه .. إذا به يرى من بعيد فارسا ملثما لا أحد يعرفه .. يقاتل فى بسالة وفدائية وهو ينقض كالأسد الهصور من كل ناحية هو وأعوانه الذين أتوا معه على الراوندية فيحصدونهم حصدا .. رأى الناس ذلك فزاد من حماسهم وإقدامهم على القتال فى بسالة وعزيمه ..
أخذ المنصور ينظر فى إعجاب إلى صاحب اللثام هذا .. وهو فى شوق لمعرفة هويته محدثا نفسه ....
ــ من يكون يا ترى هذا الفارس الجسور الذى انشقت عنه الأرض .. إننى لم أر مثله شجاعة وبسالة قبل اليوم ..
ظل يدقق النظر إليه متفرسا فيه وهو يتابعه بعينيه دون جدوى .. وإذا بالملثم بعد حين من الزمن يتقدم ناحيته آخذا بلجام دابته قائلا ....
ــ ناشدتك الله يا أمير المؤمنين أن ترجع عن ساحة القتال فإنك اليوم تكفى .. نحن كلنا جميعا جندك وحراسك .. وأرواحنا فداؤك يا مولاى ..
أبى المنصور أن يترك ساحة القتال وأصر على البقاء بين الناس يشاركهم معركتهم قائلا له .....
ــ لست أنا أيها الفارس من يترك رجاله فى تلك الوغى ويجلس وحده .. سأكون بإذن الله آخر من يغادر هذه الساحه .. إنها معركة الشرف ولا أحب إلى من قتال أعداء الله والإسلام ..
رأى الملثم ثبات المنصور وإصراره على البقاء بين رجاله .. وهو مشفق عليه خائف أن يناله سهم طائش أو رمح صائب .. أدار رأسه ناحية الربيع قائلا له بلهجة قاطعة ....
ــ ما دام أمير المؤمنين يصر على البقاء فى أرض المعركه .. دع إذن هذا اللجام عنك يا أبا الفضل .. فأنا أولى منك بالذود عن مولاى ..
قاومه الربيع محاولا دون جدوى أن يسترد اللجام منه .. كانت قبضة الفارس أشد تمسكا به وهو يقول له ....
ــ دعك من هذا أيها الحاجب الأكبر .. إن هذا اليوم ليس من أيامك ..
عقب المنصور قائلا بفخر وإعجاب وقد أشرق وجهه وتهلل فرحا ....
ــ صدقت أيها الفارس المقدام .. دع اللجام يا أبا الفضل ..
أطاع على مضض منه وهو ينظر إلى غريمه الملثم فى غيظ وحنق .. فى الوقت الذى استأنف فيه معركته وهو يدفع عن المنصور ويحميه من أعدائه .. إلى أن قضى على أكثرهم قضاء مبرما ..
بقيت شرذمة قليلة منهم لم يلقوا حتفهم .. حاولوا الفرار بعيدا عن ساحة القتال على أمل أن يهربوا بجلدهم سالمين .. وجدوا الأبواب جميعا مغلقة أمامهم كلما تركوا بابا ذهبوا لغيره ليجدوه موصدا والحراس يسدونه بأجسادهم .. وأخيرا تأكدوا أنهم قد أحيط بهم فتصدى لهم أهل المدينة ولم يتركوهم حتى أبادوهم عن آخرهم .. وقبل أن يؤذن لصلاة العصر كانت المعركة قد انتهت وانقشع غبارها ..وعندئذ أمر المنصور أن تقام الصلاة وصلى إماما بالناس فى ساحة القصر ..

يتبع إن شاء الله ........................

abuzahda
04/11/2008, 21h42
شاعر الغلابه سيد أبو زهده

فزتُ اليوم و رب الكعبة

فما "نوبل" إلى جوار هذه

شاعر الغلابه


ماكذبوا من أخبروا عن كرمك يا دكتور أنس ، أنه حاتمي

د أنس البن
05/11/2008, 15h47
@ فى باحة القصر وبعد صلاة العشاء صفت موائد الطعام .. ابتهاجا بالنصر على الراوندية والقضاء على فلولهم واستئصال شأفتهم .. كانت فرحة الناس غامرة بهذا النصر فهؤلاء وأمثالهم من أصحاب البدع والزنادقة أشبه بالأورام الخبيثة فى جسد الإسلام .. يتخذون الإسلام واجهة يختبئون وراءها وهم أكثر عداء له وأشد خصومة ولددا عليه من أعدائه المعروفين الظاهرين ..
كانت الموائد على هيئة دوائر متفرقه تتوسطها المائدة الرئيسية التى أعدت لأمير المؤمنين وكبار رجال الدولة .. بدت كأنها شمس فى فلكها تحيط بها الكواكب .. جلس الخليفة المنصور ومن حوله الأمراء وقادة الجيش وكبار أعوانه .. وعلى الموائد المحيطة به جلس الجند والحراس والجلاوزه وهم صغار الحجاب .. ومن حولهم عامة الناس وكلهم فى انتظار أن يبدأ أمير المؤمنين الطعام حتى يمدوا أيديهم إليه .. لم يكن من الجائز لأحد مهما كانت منزلته أن يضع يده فى الطعام قبل أمير المؤمنين ..
ظلوا يرقبونه وهو ساكن مكانه لا يتحرك منه شئ سوى عيناه وهما تدوران فى رأسه على الحاضرين يتأمل وجوههم متفرسا فيها كأنه يبحث عن أحد منهم بعينه .. كان يبدو قلقا رغم سعادته بالقضاء على طائفة الراونديه وفجأة صرخ فيمن حوله متسائلا فى حدة .....
ـ أين الفارس الملثم الذى كان يقاتل معنا .. كيف لا أراه هنا بيننا يشاركنا فرحة النصر العظيم ؟!.
أخذ يكرر السؤال مرة بعد أخرى , والقوم ساكنون كأن على رؤوسهم الطير لا يجرؤ واحد منهم أن ينبس ببنت شفه ..
ــ ألم تسمعوا قولى ؟!. أقول أين الفارس الملثم .. هل ابتلعته الأرض أم كان شبحا هذا الذى رأيته فى ساحة القتال !. لم لا يجيبنى أحد منكم !. هل خرستم جميعا !. تكلم يا كبير الحجاب أنت آخر واحد رأيته أخبرنى إلى أين ذهب ؟!.
ــ لا علم عندى يا مولاى .. ما كادت المعركة تنتهى .. حتى اختفى فجأة كما أتى ..
عاد الصمت يخيم مرة أخرى على المكان .. وأخيرا قطع هذا الصمت الكئيب القائد الكبير أبو الخصيب .. أحد المقربين من المنصور قائلا بصوت مرتعش خائف . إنه يعرف غضب المنصور وما يتبعه من ويلات ومصائب لمن يتعرض له ....
ــ مولاى أمير المؤمنين إذا أذنت لى ؟!.
ــ نعم يا أبا الخصيب .. تكلم .. هل تعرف هوية هذا الملثم .. هل تعلم عنه شيئا ؟!.
ــ أجل يا أمير المؤمنين .. أعرف ؟!.
ــ وتعرف مكانه ؟!.
ــ أجل يا مولاى ..
ــ فيم الصمت إذن ؟!.
ــ سأتكلم يا مولاى ... لكن !.
ــ لكن ماذا يا رجل , تكلم إن كنت تعلم شيئا ؟!.
ــ الأمان يا مولاى ..
ــ الأمان !. لمن . لك أنت ؟!.
ــ بل له يا مولاى .. الأمان وسيكون هنا فى الحال بين يديك طوع أمرك ورهن إشارتك ..
رد المنصور مستنكرا ....
ــ أعطيه عهدا بالأمان .. ويكون طوع أمرى ورهن إشارتى !. ماذا تعنى أيها القائد .. أفصح عما يعنيه كلامك هذا . لم يطلب الأمان .. أهو من أعدائنا !. لقد كان يقاتل صباح اليوم كالأسد الهصور .. ليس هذا فحسب !. بل كان يقوم على حمايتنا والزود عنا.. إن عيناه لم تغفل عنا لحظة واحده !! لقد أبلى أحسن البلاء .. إنى والله لفى عجب من كلامك هـذا !!..
ــ الأمان يا مولاى .. وستقف على حقيقة كل شئ ؟!.
ــ أعطيناه الأمان .. أشهدكم أيها القوم أن هذا الفارس الذى لا أعرف هويته آمن وأنه من حلفائنا . هل يرضيه هــذا يا أبا الخصيب ؟!.
خرج أبو الخصيب على الفور .. بينما سادت همهمة بين الجالسين لم تهدأ إلا بعد أن رجع ومن ورائه الفارس الملثم .. ساد الصمت والسكون مرة أخرى لم يقطعه إلا صوت المنصور وهو يقول آمرا ....
ــ من أنت ؟!. إكشف اللثام عن وجهك أيها الفارس الهمام حتى نتعرف عليك ويراك القوم ..
أخذ المنصور يدقق النظر فى وجه الفارس بعد أن كشف اللثام .. ظل يتفرس فى ملامحه طويلا مدققا .. وإذا به يتذكره بعد أن مرت لحظات كأنها دهر والقوم كلهم فى ترقب .. وأخيرا قطع الصمت قائلا بنبرات هادئة أخذت تعلوا شيئا فشيئا ....
ــ من أرى أمامى . أنت ؟!. بعد كل هذه السنوات الطوال معن بن زائدة الشيبانى !. بشحمه ولحمه يقف أمامى .. آه لو ظفرت بك يا معن قبل اليوم عشر سنوات وأنا أبحث عنك .. كنت والله أعد لك ميتة .. ما ذاقها أحد من قبل .. لكم تمنيت أن أبعث بك إلى حيث يرقد الخرسانى وابن هبيره فى قاع جهنم ..
فى تلك اللحظة جثا معن على ركبتيه مطرقا رأسه قائلا فى ذل وانكـسار ....
ــ مولاى أمير المؤمنين .. والله ما أخفانى عنك كل هذه السنوات إلا حيائى من لقائك وخوفى من غضبك .. وهأنذا الآن بين يديك .. راض بما تحكم به على ..
ــ إنهض أيها الفارس .. أنسيت أنا أعطيناك الأمان .. ثم إنك أبليت اليوم أحسن البلاء وأزلت ببسالتك وزودك عنا ما كنت أحمله من غضب عليك ..
ــ خادمك المطيع يا مولاى ورهن إشارتك .. أنا لم أفعل إلا ما هو واجب على كل جندى من جنودك تجاهك يا مولاى ..
ــ دعنا من هذا الآن .. وأخبرنى بما كان من أمرك ..
ــ عندما كنت فى صفوف الأمويين أقاتل مع يزيد بن هبيره لم يكن ذلك عن عداء منى لكم يا مولاى كما ظننتم .. ولكن عدائى كان لأبى مسلم .. لم أقصد أبدا مقاومة ثورتكم ضد بنى أميه ..
ــ كيف ذلك وما سبب عدائك للخرسانى كما تزعم ؟!.
ــ كنت أعلم عن غدره ودهائه الكثير .. وكنت على يقين أيضا من أنه يبنى مجده هو .. وأن بلاءه معكم لم يكن إلا وسيلة يصل بها إلى تحقيق أطماعه .. إن الله تعالى ألهم مولاى أمير المؤمنين فأدرك هذه الحقيقة .. وتخلص منه قبل أن يبلغ مراده ويتم كيده ..
ــ لم إذن قتلت القائد قحطبة بن شبيب ؟!.
ــ الله وحده يعلم أنى برئ من هذه التهمة يا مولاى .. وهذا الذى جعلنى أختفى عنكم كل هذه السنين .. كنت أعلم مدى حبكم وإعزازكم لهذا القائد العظيم ..
ــ إذا لم تكن أنت قاتله فما هى حقيقة الأمر ؟!.
ــ الحقيقة يا مولاى التى لا يعرفها أحد سواى والله شاهد على صدق قولى أن قاتل حبيب بن قحطبه هو رفيقه وصاحبه حرب بن سالم .. طعنه وألقى به فى نهر الفرات كى يتخلص منه .. ثم ما لبث أن لقى حتفه هو الآخر بعد ذلك .. لينطوى معه هذا السر إلى الأبد ..
ــ أواثق أنت من كلامك هذا ؟!.
ــ أجل يا مولاى والله ما قلت لك غير الصدق .. لقد طمست هذه الحقيقة وضاعت .. إلا أن أبا مسلم الخائن وجدها فرصة لكى يتخلص منى للأبد فألصق بى هذه التهمة كذبا وزورا .. وحرك تلك الوشاية الظالمه كى تصل إليك ..
ــ أجل . أجل أعتقد أنك صادق فيما تقول .. كم قلت لشقيقى الراحل أن يأخذ حذره من هذا الثعلب القادم من خراسان .. غير أنه كان يحمد له بلاءه معنا فى ثورتنا ضد آخر حكام بنى أميه .. ومع ذلك كنت على يقين أنه ينتظر فرصة مواتية ليثب على كرسى الخلافه .. أيها الفارس معن بن زائده لتعلم أنك من اليوم صرت فى عداد رجالنا المخلصين .. وأن تتولى إمارة اليمن .. كما أمرنا لك بعشرة آلاف درهم ..
إنتهزها أحد الجالسين فرصة وكان من أولئك الشعراء المداحين الذين يرتجلون الشعر فى هذه المناسبات .. هب واقفا وهو ينظر للمنصور قائلا ...
ــ هل تأذن يا مولاى أن أنشدكم شيئا مما نظمته من شعر فى أبا الوليد معن بن زائدة الشيبانى ؟!.
ــ لا بأس يا ابن أبى حفصه .. أسمعنا ما نظمته ..
ــ السمع والطاعة يا أمير المؤمنين .........
معن بن زائدة الذى زيدت به ؛ شرفا على شرف بنو شيبان ..
ما زلت يوم الهاشمية معلنا ؛ بالسيف دون خليفة الرحمن ..
فمنعت حوزته وكنت وقائه ؛ من كــل وقــع مهند وسنان ..


يتبع إن شاء الله ........................

د أنس البن
06/11/2008, 09h06
(5)
عودة لحكايات السفر


@ إقترب الليل وأرخى سدوله لما توارت الشمس فى مغربها .. فى نفس اللحظة التى وصلت فيها القافلة أبواب مدينة عسقلان حيث تقع بالقرب من بيت المقــدس .. وعلى مشارفها حط المسافرون رحالهم ونصبوا خيامهم .. طلبا للراحة والتزود بالماء والطعام ..
وأمام إحدى الخيام بعد أن صلى الجميع صلاة العشاء .. جلس عبيد الله الأزدى مطرقا وراح فى تفكير عميق .. وإلى جواره جلست أم حبيبه تضع وليدها فى حجرها .. وهى تحاول فى رفق أن تطعمه شيئا من الخبز المبلل بالثريد الدافئ .. وأمامهم وضعوا بعض الجمرات المتأججة يلتمسون بها شيئا من الدفئ .. بينما القمر يغمر أرجاء المكان بشعاعات نوره الفضية .. فيزيده سحرا وجمالا وبهاء وروعه .. وبينما هم على تلك الحال إذ التفتت أم حبيبة إلى أبيها قائلة ........
ــ كم سنمكث هنا .. فى عسقلان يا أبى ؟!.
ــ أعتقد أننا سنواصل رحلتنا بعد الغد .. ريثما ينتهى الشيخ أبو سعيد ومن معه من أمورهم التجارية فى سوق المدينه .. كما أخبرنا قبلا ..
ثم استطرد مبتسما ....
ــ إيه .. تتعجلين الوصول إلى الديار ؟!.
تنهدت قائلة .....
ــ يعلم الله يا أبت .. كم أنا فى شوق للقاء الأهل والأحباب .. أعوام مضت على كأنها دهر .. مذ فارقتهم إلى غزه !.
ــ حقا ما تقولين يا ابنتى .. ما أقسى الفراق .. وما أمرَ النوى .. خصوصا عليكن بنات حواء .. لا تحتملنه طويلا !.
سكتت ولم تعقب بعد أن شرد خيالها بعيدا .. وهى تتذكر الديار ومن فيها من أهل وأتراب .. وبعد أن مرت لحظات من الصمت .. لم يكن يسمع خلاله غير أصوات متداخلة آتية من الخيام المجاورة .. إختلط فيها الكلام بالضحك بالغناء .. إلتفت الشيخ قائلا لابنته وهو يومئ برأسه ناحية صغيرها .. الذى سكن صراخه .. وبدأ يخلد إلى النوم والراحه .....
ــ أخيرا هدأ أبو عبد الله من الصراخ .. له يومان لم يذق للنوم طعما ولا يجد للراحة من آلامه سبيلا .. هو نائم الآن .. أليس كذلك ؟!.
ــ بلى يا أبت .. أفاده كثيرا ذلك الدواء الذى جاءه به الشيخ أبو سعيد شيخ القافله .. بعد أن عرف علته وسبب صراخه ..
ــ أجل .. هؤلاء التجار يحتاطون لمثل هذه الأمور الطارئة .. فيحتفظون معهم بمثل هذه الأعشاب والأمزجة والأخلاط النافعه .. التى يحتاجها المسافرون فى رحلاتهم .. إذا أصاب أحدهم مكروه .. والحمد لله أن وجدنا دواء ولدنا فى حوزته ..
لم تعقب أم حبيبه .. واكتفت بهز رأسها قبل أن تلتفت ناحية أبيها قائلة ...
ــ أبت ؟!.
ــ إيه يا ابنتى ؟!.
ــ هل حدثت فتن أخرى .. بعد فتنة الراونديه ؟!.
ــ وأى فتن !. إنها فتن كقطع الليل .. إيه منذ متى توقفت الفتن والحروب والدسائس !. إن نيرانها لم تنطفئ ولم تخمد جذوتها بعد منذ الفتنة الكبرى .. التى راح ضحيتها ثالث الراشدين عثمان بن عفان .. ومن بعده على بن أبى طالب بعد أن قتله أحد الخوارج المارقين .. بعدها تفرق المسلمون إلى شيعة وخوارج .. ومنهما خرجت وستخرج فرق كثيره .. لا هم لهم إلا التقاتل والتناحر من أجل الوثوب على كرسى الخلافه ..
ــ كيف ذلك يا أبت ؟!.
ــ وقعت أحداث رهيبة فى العراق وفى أرض الحجاز .. راح ضحيتها رجال عظام من آل بيت النبوه وسالت فيها دماء زكية طاهره !.
ــ كما حدث فى موقعة كربلاء منذ حوالى مائة عام .. لسيد الشهداء الحسين بن على ومن معه من أل البيت ..
ــ تماما يا ابنتى تماما ..
ــ وما الذى حدث فى العراق والحجاز ؟!.
ــ بعد أن نجح العباسيون فى ثورتهم منذ حوالى عشرين عاما .. بايع الناس لأبى العباس الملقب بالسفاح .. إلا أبناء عمومته بنو طالب العلويين بزعامة محمد .. المعروف بالنفس الزكيه وكذلك أخوه إبراهيم ..
قاطعته متسائلة ......
ــ أليسا من أحفاد على بن أبى طالب ؟!.
ــ بلى يا ابنتى .. إنهما أبناء عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب .. المهم .. ظل السفاح يتودد إليهم مخافة أن يصطدم بهم لصلة القربى من ناحية .. ولشرفهم ونسبهم من ناحية أخرى .. إلا أنهم ظلوا متشبثين بحقهم فى الخلافة واستمروا فى بث دعوتهم سرا .. إلى أن تولى أبو جعفر المنصور الخليفة العباسى الثانى .. والمعروف عنه شدة الحذر والدهاء ..
ــ شدة الحذر والدهاء ؟!.
ــ أجل .. كان ولا يزال حتى اليوم شديد الحذر عظيم الدهاء .. لا ينتظر وقوع الأمر بل يحتال له قبل وقوعه .. إن له عبارة شهيرة تقول : ليس العاقل الذى يحتال للأمر الذى وقع فيه ليخرج منه , لكن العاقل من يحتال للأمر الذى غشيه حتى لا يقع فيه ..
ــ وماذا فعل يا أبى ؟!.
ــ بدأ يراقب تحركات أبناء عمه فى حذر شديد .. ويتحين الفرصة تلو الأخرى آملا أن يظفر بهم فى قبضة يده .. بالحيلة والدهاء إلى أن كان يوم ……


@ فى حديقة القصر الفسيحة الرحبة وتحت ظلال أشجارها الوارفة حول مائدة ممتدة عامرة .. تعلوها أنواع مختلف ألوانها من الطعام والشراب والفاكهه .. جلس الخليفة المنصور فى صدارة المكان وعن يمينه ولده محمد المهدى ولى العهد الذى تولى إمارة خراسان .. وعلى يساره جلس كبير الحجاب الربيع بن يونس .. وكاتب الديوان أبو أيوب الموريانى وبصحبته شاب إسمه جعفر .. فى حوالى الخامسة والعشرين من عمره يعمل مساعدا له فى ديوان الكتابة والرسائل .. فى الجهة المقابلة جلس قادة الجيوش يتقدمهم القائد الكبير أبو الخصيب .. وإلى جواره خالد بن برمك والى الخراج .. وآخرون من رجال البلاط العباسى ..
كان المنصور قد أعد هذه المائدة العامره لمناسبة انتصار جيوشه وفتوحاتهم المتلاحقة فى طبرستان والديلم وقرماسين .. وبينما الجالسون مستغرقون فى تناول طعامهم .. أخذ المنصور يتفقد من حوله كعادته وهو يجول ببصره فيهم حتى وقعت عيناه أخيرا على ذلك الشاب جعفر الذى يجلس بجوار كاتب الديــوان .. لم يكد يتجاوزه بعينيه حتى أعاد النظر إليه مرة أخرى مدققا ومتفرسا فى ملامحه .. فى الوقت الذى بدأت علامات من الشك تظهر على وجهه وهو يلوك على مهل لقمة الطعام فى فمه كأنها لا تعرف طريقها إلى جوفه .. ولسان حاله يردد قائلا .....
ــ أمر عجيب حقا !. أمعقول هذا !. لعله يكون هو .. لا ..لا .. غير معقول ..
ألقى بهواجسه وظنونه جانبا ثم عاد يستأنف طعامه مرة أخرى .. دون أن يشعر به أحد من الجالسين إلا ذلك الداهيه الربيع بن يونس .. الذى كان يرقبه كعادته من طرف خفى .. محاولا قراءة أفكاره ومعرفة ما يدور داخل رأسه .. حتى يكون مهيأ للرد فى أى وقت بالإجابة المناسبة التى تروق لمولاه ..
وبينما القوم مستغرقون فى تناول طعامهم وكل واحد منهم غارق فى الأصناف المكدسة على المائده أمامه .. فاجأهم المنصور وهو ينظر ناحية القائد أبا الخصيب قائلا له مداعبا .. وعلى شفتيه ابتسامة ذات مغزى ....
ــ كيف حالك أيها القائد .. لعلك الآن أحسن حالا بعد الذى جرى لك فى طبرستان فى الأيام الماضيه !.
ضج الحاضرون جميعا بالضحك وعلت أصواتهم .. إلا ولى العهد لم يشاركهم ضحكاتهم .. بدا عليه أنه خالى الذهن عن هذه الحادثة لا يعلم عنها شيئا .. لم يفهم مغزى سؤال أبيه لقائده ولماذا ضج الحاضرون بالضحك .. وأخيرا نظر إلى أبيه متسائلا .. وقد علت الدهشة وجهه مما يجرى حوله ...
ــ ما الذى حدث فى طبرستان يا أبت .. وما الذى جعل القوم يضحكون هكذا ؟!. إنى مذ توليت إمارة خراسان إنقطعت عنى الأنباء .. ويبدو أنه قد فاتنى الكثير منها !.
إلتفت المنصور إلى أبى الخصيب قائلا له ...
ــ ما قولك أيها القائد .. ولى العهد يود أن يسمع حكاية حصن طبرستان .. وما جرى لك فيه ..
أجاب مرتبكا وهو يجاهد فى إخفاء ابتسامة خجلى ......
ــ مولاى !. هذه الواقعة سردتها أكثر من مرة حتى مللت..
رد المنصور وهو لا يزال ضاحكا .....
ــ وستعيد سردها الآن .. ألم تسمع لقول ولى العهد ..
ــ أمرى إلى الله .. سأعيد سردها .. من أجل عيون ولى العهد ..
سكت برهة وهو يتنحنح قليلا .. ثم أردف قائلا موجها كلامه لولى العهد ...
ــ إسمع يا سيدى .. بعد أن نقض الأصبهبذ حاكم طبرستان العهود والمواثيق التى قطعها على نفسه .. ألا يتعرض لأحد من المسلمين وقتل عددا كبيرا منهم غدرا وظلما .. قمنا بحصار حصنها كما أمر مولاى أمير المؤمنين ..
قاطعه ولى العهد وهو يلوح بيده ....
ــ كل هذا أعلمه .. ما هى الحكاية التى جرت فى الحصن .. وأضحكت الحاضرين جميعا هكذا ؟!.
ــ لا تعجل يا ولى العهد .. سأخبرك بالحكاية كلها وستضحك أنت أيضا مثلهم .. لما طال حصارنا وأعيتنا السبل فى اقتحامه وفتح أبوابه .. قلت لرجالى إن هذا الحصن المنيع لن نستطيع اقتحامه إلا إن أعملنا الحيله .. قالوا أية حيلة تلك التى ستفتح حصنا منيعا كهذا .. قلت لهم مزقوا ملابسى وأزيلوا شعر رأسى ولحيتى .. واضربونى ضربا مبرحا من ذلك الذى يترك علامات زرقاء وحمراء على الجسد .. ثم دعونى أدخل طبرستان ولسوف أفتح لكم باب الحصن بإذن الله ..
ــ هل فعلوا ذلك ؟!.
ــ أجل يا مولاى.. إستنكروا فى بادئ الأمر أن يهينوا قائدهم .. لكنهم امتثلوا فى النهاية وضربونى ومزقوا ملابسى .. حتى صرت فى حالة مزرية وصورة منكره ..
ــ هيه .. وكيف تم لك فتح الحصن إذن .. وأنت على هذه الحالة المزرية المنكره ؟!.
ــ كيف ستكون حيلة إذن !. سأخبرك بكل شئ .. كما تم خطوة خطوه . بعد أن فعل بى أصحابى ما فعلوا وهم فى دهشة من أمرى .. ذلك لأنى لم أعرفهم خطتى .. دخلت إلى طبرستان متسللا حتى وصلت إلى أبواب القصر الذى يقيم فيه حاكمهم الأصبهبذ .. فلما رآنى رجاله …..
قاطعه متلهفا ....
ــ ماذا فعلوا ؟!.
ــ أمسكوا بى وأخذوا يلاحقونى بأسئلتهم ..
ــ عن أى شئ ؟!.
ــ سألونى عن حالى .. ومن أكون ومن أين قدمت ..
ــ هل أجبتهم ؟!.
ــ لا .. لم أجبهم !.
ــ لم .. لم تجبهم على أسئلتهم ؟!.
ــ كنت أريد مقابلة حاكمهم “ الأصبهبذ “ نفسه ..
ــ هل سمحوا لك بلقائه ؟!.
ــ أجل .. لم يسع رجاله إزاء صمتى .. إلا أن يدخلونى عليه أخيرا ..
ــ هيه .. وما الذى دار فى هذا اللقاء ؟!.
ــ لما أدخلونى عليه ورآنى على هذه الصورة المزرية سألنى عن حالى ومن أكون .. قلت له وأنا أصطنع الخوف والبكاء .. إن المسلمين قد ضربونى وأهانونى وفعلوا بى ما ترى ..
ــ بالطبع سألك عن سبب ذلك ؟!.
ــ أجل سألنى .. فادعيت أنى أدين بملتهم وقلت له إن قومى قد اطلعوا على حالى وأدركوا أن هواى معكم لأننى أعتنق ملتكم وأعتقد فى آلهتكم ..
ــ هل صدق مزاعمك ؟!.
ــ لقد أتقنت تمثيل الدور تماما .. حتى أنه أخذ يهدئ من روعى وفرح بى وأكرمنى .. وأوصى رجاله بى خيرا .. فلما وثقت وأيقنت أنه قد أمن جانبى أخذت أظهر له النصح وأتفانى فى خدمته وأقوم على مصالحه .. حتى أصبحت من المقربين لديه ومن خاصة رجاله الذين لهم حق الاقتراب من أبواب الحصن وفتحها وغلقها فى أى وقت .. وهى مهمة لا توكل إلا للمقربين بالمناوبه ..
ــ هيــه .. ثم ماذا ؟!.
ــ ظللت على هذه الحال بضعة أيام .. إلى أن كانت ليلة من الليالى كتبت مكتوبا إلى رجالى الذين كانوا لا يزالون مرابطين خلف الحصن .. أعلمتهم فيه أننى قد ظفرت بالحيله وسأفتح لهم باب الحصن فى ليلة كذا بعد منتصف الليل .. وطلبت إليهم أن يكونوا على مقربة منه ..
ــ وكيف أرسلت المكتوب إليهم ؟!.
ــ علقته فى سهم وأرسلته ناحيتهم .. ولما انتصف الليل فتحت باب الحصن بعد أن تأكدت من أن أحدا لا يرانى .. وأن رجال الأصبهبذ فى غفلة من أمرى .. وعندئذ دخل رجالنا وقتلوا كل من كان بالحصن .. وتم لنا أخيرا الاستيلاء عليه ..
ــ وحاكمهم “ الأصبهبذ “ .. ماذا جرى له ؟!.
ــ ذلك الظالم خائن العهود نال جزاءه العادل الذى يستحقه على غدره وقتل شر قتله .. تلكم يا سيدى حكاية الحصن ..
فى نفس اللحظة وبينما الجميع يتضاحكون من حكاية الحصن .. ويطلقون نكاتهم وتعليقاتهم الساخرة .. تقدم أحد الحراس من المنصور وأسر فى أذنه كلمات .. هز المنصور رأسه موافقا وبعد برهة عاد الحارس وبصحبته شيخ وقور تبدو عليه أمارات الشرف والرفعه .. ما كاد المنصور يلمحه داخلا من بعيد .. حتى رفع صوته بالتحية قائلا له فى ود مصطنع يخفى وراءه كراهية دفينة ..........
ــ أهلا ومرحبا بابن عمومتنا وسندنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب .. تفضل هنا إلى جوارى يا ابن العم العزيز ..
شكره الشيخ وهو يخفى ابتسامة ساخرة وراء شفتين كليلتين .. كان يعلم أن هذا ودا مصطنعا يخفى وراءه حقدا دفينا .. ما إن جلس حتى أقبل المنصور عليه تاركا الطعام .. وهو يبدى له الكثير من الود والترحيب وبعد مقدمات كثيرة قال له فى غير اكتراث وكأنه يسأل سؤالا عابرا ....
ــ أين ولديك يا أبا عبد الله ؟!.
ــ أظنك تسأل عن محمد وإبراهيم ؟!.
ــ تماما تماما .. أين هما الآن يا ترى وإلى أى بلدة رحلا ؟!. أراهما قد استوحشا منى .. ليتهما يأمنا لى فأنا لا أحمل لهما فى نفسى أى ضغينة أو عداء أبدا .. فهما أبناء عمومتى ونحن جميعا فى نهاية الأمر أبناء جد واحد .. أليس كذلك يا أبا الحسن ؟!.
رد الشيخ قائلا وفى عينيه نظرة ساخرة بعدما فهم السر من وراء هذه الحفاوة المصطنعة .. وتأكدت لديه هواجسه ومخاوفه ساعة أرسل إليه ...
ــ بلى يا أمير المؤمنين .. جدنا هاشم بن عبد مناف ..
سكت برهة وأردف .....
ــ لكن !. ألهذا أرسلت فى طلبى ؟!.
ــ لا . لا بالطبع .. لكنه سؤال عابر يا ابن العم .. أردت أن أؤكد لك من خلاله أنى لا أحب أن يحمل لى أحد من أهلنا أى عداء أو ضغينه ..
ــ هل تصدقنى يا أمير المؤمنين إذا قلت لك .. أنه ليس لى بهما ولا بموضعهما فى البلاد علم .. لقد خرجا من يدى إلى حيث لا أعلم إلى بلاد الله الواسعه ..
رد المنصور متظاهرا أنه يصدقه ....
ــ أجل . أجل أعلم أنهما خرجا إلى بلاد الله الواسعه .. وأعلم أنك صادق فى قولك لكنك تستطيع أن تعرف مكانهما .. هذا أمر ليس بالعسير عليك يا ابن العم .. وعلى أية حال وحتى أثبت لك حسن نيتى فإنى على استعداد إن أردت الآن .. أن أكتب إليهما كتابا بالأمان .. وسأشهد عليه كل الأمراء والقاده .. ما قولك ؟!.
أجابه الشيخ متهكما وقد عزم على مواجهته بعد هذه المراوغات ....
ــ كتابا بالأمان !. عن أى كتاب تتحدث وأى أمان هذا الذى تدعيه !. أتظن أنى نسيت ما فعلته مع ابن هبيره أو ما فعلته مع ساعدك الأيمن ورجلك الأول أبى مسلم الخرسانى .. لعلك لست فى حاجة إلى أن أذكرك بما فعلته بعد ذلك مع عمك عبد الله بن على .. أنسيت أنك قتلته بعد أن استدرجته وأعطيته الأمان هو الأخر .. كل واحد من هؤلاء غدرت به .. بعد أن أعطيته الأمان قبل أن يأتى إليك .. لتجهز على حياته !.
وقبل أن يسترسل الشيخ فى رمى سهامه التى أصابت الحاضرين بالوجوم .. قاطعه المنصور والشرر يتطاير من عينيه وقد تملكه غضب عارم ....
ــ مه أيها الشيخ الخرف .. يبدو أن طول صبرى عليك قد أنساك نفسك . إنك لا تعرف شيئا .. أنا لم أقتل إلا الخونة والمارقين الطامعين .. لقد نالوا جميعا ما يستحقونه جزاء ما قدمت أيديهم ردعا لهم وعبرة لأمثالهم .. هيا أخبرنى بمكان ولديك قبل أن أجهز على حياتك أنت الآخر ؟!. لقد صبرت عليك كثيرا ويكاد صبرى أن ينفذ .. تكلم ؟!.
ــ وإن أبيت .. ماذا أنت فاعل يا ابن العم ؟!. إعلم أنى لا أهابك .. حتى لو أمرت بقتلى الآن .. ووالله الذى أرسل محمدا بالحق .. لو كانا تحت قدمى هاتين .. ما دللتك عليهما ولا رفعت عنهما قدماى.. حتى لو وضعت سيفك هذا على عنقى !.
ــ هل جننت أيها الرجل .. كيف سولت لك نفسك أن تخاطبنى بهذه الوقاحة وذلك التحدى ؟!.
ــ لن أرد على سبابك وتطاولك على شيخ هرم مثلى .. لكنى سأقول لك كلمة أخيرة وبعدها افعل ما تشاء .. إنى علمت ساعة أرسلت إلى سوء نيتك .. وأعلم أنك خائف منهما وأنك تتربص بهما .. أنسيت يوم بايعت ولدى محمد مع أهل الحجاز على خلع مروان بن محمد !. أنسيت أنك أنت الذى أهدرت البيعة وتنصلت من عهدك ؟!.
إستشاط المنصور غضبا وهب واقفا .. وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه وهو يصرخ فيه .....
ــ رغمت أنفك أيها الأحمق .. خذوا هذا المخرف إلى السجن .. ضعوه فى مكان لا يسمع فيه آذانا أو يعرف فيه الليل من النهار .. لا تجعلوا أحدا يصل إليه أو يكلمه .. أما أنا .. فسأعرف كيف أصل إلى مكان ولديك .. وسيكونا فى قبضتى هاتين .. رضيت أم أبيت !.
لم يشأ الربيع الداهية أن يضيع هذه الفرصة التى سنحت له ليبث سمومه من مخزون الكراهية الدفينة فى قلبه للبيت العلوى كله .. مال برأسه على المنصور وهو يقول هامسا ....
ــ أرى يا مولاى إذا إذنت لى .. أن تجمع كل أبناء الحسن وعشيرته وتضعهم فى الحبس معه .. إن هذا سوف يستثير ولديه ويعجل بظهورهما من مخبئهما وعندئذ !…..
قالها وهو يبتسم ابتسامة ماكرة صفراء ذات مغزى .. هز المنصور رأسه موافقا وانتظر إلى أن اقتاد الحراس الشيخ إلى محبسه ثم انتحى بالربيع جانبا وقال له ....
ــ أرسل بعضا من عيوننا إلى يثرب ومكه والعراق وخراسان ليتحسسوا أخبار هذين الهاربين .. أريد منكم أن تضعوا أيديكم عليهما فى أسرع وقت ودون تأخير .. أسمعت يا أبا الفضل .. فى أسرع وقت !.
ــ أمر مولاى .. إن هى إلا أيام قليله .. ويكونا تحت قدميك…………

@ إستمر عبيد الله الأزدى يحكى لابنته ..............

ــ فى تلك اللحظة كان أحد الحراس يتسلل خارجا من أبواب القصر دون أن يراه أحد .. متخذا طريقه لا يلوى على شئ إلى حيث يختبئ محمد وأخوه إبراهيم عن عيون المنصور .. بعد أن التقطت أذناه هذا الحوار من مكانه الذى كان قابعا فيه .. كان هذا الرجل من عيون الثوار الهاربين والمندسين فى بلاط المنصور وحاشيته .. ينقل إليهم أولا بأول أخبار القصر وما يدور فيه من فتن ودسائس ...............
وفى مكان يقع وسط صحراء الجزيرة العربيه يبعد بضعة أميال عن المدينة المنوره .. وفى شعب من شعاب جبال رضوى جهينه الذى يقع شمال شرقى المدينه .. إتخذ الثائران محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن مع باقى إخوتهما وأهلهما ونفر من رجالهما مخبأهم .. داخل كهف آمن من كهوف هذا الجبل بعيدا عن عيون المنصور وأعوانه وجواسيسه .. وفى داخل الكهف جلسوا جميعا يتحلقون رجلا بدينا .. تغلب عليه السمره مهيب الطلعة سمح الوجه فى منتصف العقد الخامس من عمره .. له سطوة ومهابة تفرض نفسها للوهلة الأولى على كل من يخاطبه أو تقع عليه عينه ..
إنه محمد بن عبد الله بن الحسن حفيد الامام على كرم الله وجهه وهو الملقب بالنفس الزكيه .. وإلى جواره جلس أخوه إبراهيم .. كان رغم نحافته بعض الشئ فتيا قويا يتميز ببشرة بيضاء مشربة بسمرة خفيفه يناهز الأربعين من عمره ..
إلى جوارهما جلس أخواهما "يحي" شابا فتيا مفتول العضلات فى العشرين من عمره .. وأصغر الثوار "إدريس" وهو صبى تخطى العاشرة من عمره بقليل .. ومن حولهم جلس جمع من الأهل والأنصار يناقشون أمرهم ويتدبرون أحوالهم .. إبتدر أحد الجالسين قائلا فى حدة وضيق ..........
ــ إلى متى نظل هكذا ونحن على هذه الحال لا يستقر لنا مكان ولا تلاقينا أرض .. ونحن هاربون مطاردون من بلد إلى بلد ومن كهف لآخر كأننا شرذمة من القتلة المجرمين أو من الخارجين على شرع الله ؟!.
رد عليه آخر .....
ــ أجل لابد أن نضع نهاية لهذا الأمر .. إننا لا نكاد نذهب إلى مكان حتى نسارع بالرحيل إلى غيره .. ما كل هذا الذل والهوان !. أدعاة باطل نحن أم دعاة حق ؟!.
أجابه ثالث .....
ــ بل نحن أصحاب حق ودعوتنا دعوة صدق .. وآن لنا أن نسترد أخيرا حقنا الشرعى الذى اغتصبه منا بنوا العباس ..
كان ذلك الحوار الصاخب يدور بين الجالسين .. بينما زعيمهم محمد "النفس الزكيه" يستمع إليهم مطرقا رأسه صامتا وهو ينكت الأرض بعود من الحطب فى يمناه .. وعيونهم ناظرة إليه فى انتظار ما يعقب به على كلامهم .. بعد برهة من الزمن كأنها دهر .. رفع رأسه قائلا فى نبرات هادئة واثقة مطمئنه ......
ــ لقد جئنا إلى المدينة أيها الرجال واخترنا هذا المكان الآمن بعد كل ما عانيناه ونحن مطاردون فى بلاد الله الواسعه .. لنتدبر أمرنا فى روية وأناة بعيــدا عن عيون وجواسيس المنصور .. ذلك الداهيه الذى اتخذ الهاشمية مقرا له .. وتعلمون جميعا أنه يعتقد اعتقادا جازما ومن قبله أخيه السفاح أنهم الورثة الشرعيون للخلافه .. إستنادا لزعمهم القائل أن جدهم العباس هو الوريث الشرعى لرسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. وحجتهم فى ذلك أنه لم يبق إلا هو على قيد الحياه من أعمام النبى [صلى الله عليه وسلم ] بعد وفاته ..
قال إبراهيم معقبا .......
ــ هناك أمرا آخر لم تشر إليه يا أبا على ..
ــ ماذا تريد أن تقول يا إبراهيم ؟!.
ــ أنسيت يا أخى أنه هو الذى يردد دائما أن الفضل يرجع إليه فى الانتقام من قتلة أجدادنا وآلنا بنوا على بن أبى طالب .. وأنه هو الذى أفلح فى القضاء على آخر حكام بنى أميه متجاهلا ومتناسيا عن عمد أن هذا كله كان بفضل نصرتنا وتأييدنا ودعمنا !.
ــ كيف أنسى ذلك والمنصور نفسه ومن قبله أخيه السفاح قد نقضا العهد الذى اتفق عليه بنوا هاشم فى الأبواء ..
ــ أجل عقد البيعة لك عند نجاح الثوره !.
رد أحد الجالسين معقبا ......
ــ لم تكن إلا خدعة وحيله ليحصلوا على تأييدنا ونصرتنا لثورتهم .. وأن تظل جبهة بنى هاشم صلبة متماسكة لا انقسام فيها .. ريثما يحققون مأربهم وهو الوثوب على كرسى الخلافه ..
قال آخر ......
ــ أجل لقد جعلوا منا جسرا يعبرون عليه إلى كرسى الخلافه .. سحقا لهم !. لابد أن نسترد حقنا المسلوب وننتقم منهم حتى لو كانت أرواحنا هى الثمن .. لن نضن بها أبدا فى سبيل تحقيق هذا الهدف !.
قال محمد “ النفس الزكيه “ ............
ــ أيها الرجال تعرفون أننا وإن كنا قليلون عددا وعتادا منهم وربما يتمكنون منا .. غير أن أتباعنا فى شتى البلاد كثيرون وكلنا جميعا مستعدون لبذل أرواحنا والتضحية بأنفسنا ولن تتوقف مسيرتنا أبدا .. سيكمل أبناؤنا وأحفادنا مسيرة عمنا الحسين التى حمل لواءها من بعده زيد وولده يحي ..
فى تلك الأثناء دخل أحد الحراس المكلفين بمراقبة الجبل .. توجه إلى كبير القوم قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثه ......
ــ سيدى .. أرى أحد الفرسان قادما وحده من بعيد ..
ــ من يكون ؟!.
ــ لم أتبين ملامحه بعد .. لكنى رأيته يرفع الراية الخضراء المتفق عليها !.
ــ لابد أنه أحد رجالنا جاء يحمل أنباء لنا .. تأكد من هويته أيها الحارس ثم أدخله فى الحال ..
سأل إبراهيم وقد بان عليه القلق ........
ــ ما الذى حدث يا ترى لابد أن أمرا خطيرا وقع بالعراق !.
رد محمد قائلا .....
ــ بعد قليل نعرف كل شئ ..
بعد برهة دخل الحارس مرة ثانية وهو يقول .....
ــ القادم يا سيدى هو إبن صفوان رجلنا فى قصر الهاشميه ..
رد محمد فى لهجة آمره .......
ــ ماذا تنتظر أيها الحارس .. أدخله فى الحال ..
إبتدره محمد قائلا .....
ــ تعال يا ابن صفوان واجلس هنا إلى جوارى‏ .. لقد قطعت رحلة طويلة شاقه .. وأعتقد أنك فى حاجة للراحة والطعام !.
ــ معذرة يا سيدى فإنى كنت أسابق الزمن وأنا فى الطريق إليكم .. فالوقت يمر سريعا والأحداث تتلاحق .. وما جئت من أجله إلى هنا لا يحتمل الانتظار !.
سأل إبراهيم الذى كان أكثرهم قلقا ولهفه ..........
ــ خيرا يا ابن صفوان .. ماذا وراءك ؟!.
ــ سيدى .. لابد من مغادرة هذا المكان فى الحال قبل أن يحاط بكم ..
ــ ماذا تعنى .. أفصح ؟!.
ــ لقد أرسل المنصور إلى والدكم عبد الله بن الحسن وأخذ يتودد إليه فى لــؤم ودهاء ليأتى له بكما .. وحاول مستعينا بالحيلة ومعسول القول أن يستدرجه لمعرفة المكان الذى تختبئون فيه ..
ــ هيه .. ثم ماذا ؟!.
ــ باءت كل محاولاته بالفشل !.
قال محمد معقبا وقد ظهر عليه الضيق والهم .....
ــ لعله أظهر وجهه الأخر الذى يخفيه وراء قناع من الزيف والباطل .. بعد أن جرب الحيلة والخديعه .. تلك وسيلته دائما .. ما أخبثه .. ما ألعنه !.
ــ تماما يا سيدى . هذا هو ما حدث منه فلم يكد والدكم يصرخ فى وجهه قائلا له إنه لن يأتى بكما ولو كنتما تحت قدميه حتى غلى الدم فى عروقه وهاج وماج .. ثم أمر به إلى السجن ومعه باقى الأهل والأنصار !.
رد محمد .....
ــ إنه ما فعل ذلك إلا ليستفزنا .. وليعجل بخروجنا مــن مخبئنا هذا !.
رد ابن صفوان قائلا ......
ــ تماما يا سيدى وسمعت المنصور أيضا وهو يأمر الربيع بن يونس أن يرسل كتابا بعزل أمير المدينه محمد بن خالد القسرى .. وأن يختار بدلا منه صعلوكا من الصعاليك حتى يكون طوع أمره ورهن إشارته فى كل ما يأمره به ..
ــ هل تعرفت على اسمه ؟!.
ــ أجل يا سيدى .. إنسان وضيع لا خلاق له أعرفه .. إسمه رياح بن عثمان المرى ..
صمت قليلا وأردف قائلا ........
ــ وأنا فى طريقى إلى هنا .. علمت كذلك من بعض رجالنا فى المدينه أنه بدأ فى التحرى والبحث .. وأنه قد توصل فعلا إلى بعض الخيوط التى توصله إلى مكانكم !.
أطرق محمد قليلا .. ثم رفع رأسه موجها كلامه لمن معه ...........
ــ إسمعوا جيدا أيها الرجال والأنصار . وانتبهوا لكلامى فسأشرح لكم الآن خطة الخروج من هنا ..
بدأ يخط بعود من الحطب فى يده خطوطا متباينة أمامه على الرمال ويشرح لهم خطته ………………
----------

@ إستأنفت القافلة رحلتها من عسقلان بعد أن مكثت بها بضعة أيام .. وأخذت طريقها سابحة فى بحر الصحراء المترامى حيث تبدو من بعيد سلسلة من الجبال الشامخه .. وبعد أيام من المسير المتواصل مرت القافله بمحاذاة مدينة البتراء والتى تعرف أيضا بالرقيم .. سألت أم حبيبة أباها عنها فأجابها وهو يشير بيده .....
ــ إنها مدينة أثرية قديمة مهجورة لا يسكنها أحد ولا حياة فيها .. سوى بعض الأحجار القديمه المتناثرة هنا وهناك وبنايات أثرية من بقايا حضارة الأنباط التى اندثرت منذ زمن بعيد ..
قال ذلك ثم عاد يكمل لابنته وهو راكب دابته بقية أحداث ذلك الصراع الذى كان دائرا بين الخليفة المنصور وأبناء عمه العلويين الطالبيين ....
ــ لم يكد ذلك الصعلوك الذى ملكه المنصور زمام الأمور فى المدينه .. حتى أخذ يبطش وينتقم من كل واحد ينتمى أو يناصر العلويين .. إلى أن امتلأت بهم سجون المدينة جميعها ..
ــ كلهم يا أبت ؟!.
ــ أجل يا ابنتى .. كلهم حتى أنه كان لمحمد "النفس الزكيه" ولد إسمه على أرسله إلى مصر بعيدا عن عيون المنصور حتى لا يقع فى قبضته .. لم يسلم هو الأخر من بطشهم ولم يفلت من قبضتهم .. إقتادوه من هناك فى غلظة وأتوا به إلى الهاشمية وألقوا به فى السجن مع المقبوض عليهم .. وفى تلك السجون قتلوا بعضهم غيلة وتركوا الآخرين يموتون صبرا .. كان من بين ضحاياهم عبد الله بن الحسن والد الثوار الذى لقى حتفه داخل السجن ..
سألت فى أسى ولوعه ....
ــ وماذا كان مصير محمد النفس الزكيه وبقية إخوته ؟!.
ــ إبراهيم فإنه توجه إلى البصرة وظل مختبئا هناك فى انتظار أن تأتيه الاشارة من أخيه بالظهور فى الوقت المناسب ..
ــ ومحمد النفس الزكيه هل فعل شيئا أم ظل فى مكمنه ؟!.
ــ خرج فى نفر من أتباعه فى جنح الظلام متسللا بين الجبال وفى دروبها الوعره .. متخذا طريقه إلى يثرب بعد أن أعلم كل واحد من أهله وأتباعه بما سوف يفعله .. وبالفعل حدث ما كان يتوقعه ويحسب حسابه ..
ــ ماذا تعنى يا أبى .. هل أمسكوا به ؟!.
ــ لا ليس بعد .. لكن ذلك الصعلوك أبو رياح المرى الذى تولى إمارة المدينه استطاع معرفة مكانه الذى يختبئ فيه .. وعلى الفور أخذ معه حشدا كبير من الجند وتوجه إلى شعب رضوى جهينه باحثا عن الثوار .. إلا أنهم أفلحوا فى الافلات منهم قبل أن يصلوا إليهم بفترة وجيزه ..
ــ هيه .. وماذا بعد يا أبت ؟!.
ــ بعد مطاردات مثيرة بين الجبال والوديان .. إستطاع محمد "النفس الزكيه" أن يصل إلى المدينة وأن يدخلها مع أتباعه .. دون أن يشعر به أحدا من أعدائه ..
ــ من المؤكد أنه قام بالإختفاء فى المدينه ؟!.
ــ على العكس .. ما كاد أنصاره من أهل المدينة يعلمون بوصوله ووجوده داخلها .. حتى توافوا عليه من كل مكان وتجمعوا من حوله .. كانوا حوالى ثلاثمائه من أشد الرجال .. وعلى الفور توجه الجميع إلى سجون المدينه وأخرجوا من بقى فيها منهم على قيد الحياه .. ثم يمم الجميع بعد ذلك صوب دار الامارة وحاصروها .. وألقوا القبض على ذلك الصعلوك الذى أتى به المنصور وسط تكبير الناس وتهليلهم .. ولم يمض غير يومين إلا والمدينة كلها قد دانت له بالولاء .. وتمت له السيطرة على زمام الأمور فيها تماما وفى اليوم التالى ………………


@ تصل بنا أحداث الصراع بين أبناء العم إلى قلب المدينة المنورة .. وفيها قامت مسيرة كبيرة قادها محمد "النفس الزكيه" ومن حوله أتباعه وأنصاره صبيحة اليوم التالى على وصولهم إلى المدينه .. حمل أنصاره الألوية والرايات وتوجهوا شطر المسجد النبوى .. ومن خلفهم جموع غفيرة من أهلها فيهم الشيوخ والشباب والنساء والصبيه ..
كانوا يفدون من كل ناحية وأعدادهم تزداد شيئا فشيئا كلما مضت المسيرة فى طريقها .. وهم يرددون فى صوت واحد هادر "لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد" .. كانت هتافاتهم المدوية فى هذا الموكب المهيب تهز أرجاء المدينة وتزلزل جنباتها وتشق أصداؤها عنان الفضاء .. وقبل أن يصلوا كان المسجد قد امتلأ عن آخره بجموع كبيرة من الناس .. يتقدمهم الوجهاء والأعيان وشيوخ القبائل والعشائر ..
وسط هذه الجموع إندس أحد عيون المنصور وهو جاسوس يعمل بأجر معلوم دراهم معدوده .. شأنه شأن غيره ممن كلفهم المنصور بنفسه لمثل هذه المهام .. ينقل الأخبار الهامة إلى البلاط وعلى قدر وأهمية ما يحمله من معلومات تكون مكافأته .. كان رجلا سمجا توشى ملامحه أنه من ذلك النوع الذى يجيد التنصت والتسمع .. وتبدو على مخايله واضحة جلية علامات الوضاعة والخسه والنذاله .. جلس مرهفا سمعه لكل كلمة تقال من حوله متظاهرا أنه يشارك القوم فرحتهم وسرورهم .. وهو يسجل فى ذاكرته كل كلمة تصل إلى مسامعه من الجالسين من حوله ..
صعد محمد "النفس الزكيه" على منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. واستهل الحاضرين خطابه فى تؤدة ورويه .......
ــ "بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين أما بعد : أيها الناس يا أهل يثرب يا أبناء المهاجرين والأنصار .. إنى والله ما خرجت بين أظهركم وأنتم عندى أهل قوة أو بأس .. لكنى اخترتكم لنفسى لأن أحق الناس للقيام بهذا الدين أنتم أهل المدينه أبناء المهاجرين والأنصار .. ووالله ما جئت إلى هنا إلا ولى فى كل مصر من الأمصار بيعه .. أيها الناس لقد أمرنا بعزل ذلك الصعلوك الذى جاءوا به أميرا عليكم وأن يبقى فى محبسه إلى أن نرى فيه أمرنا .. كذلك أمرنا أن يتولى إمارة المدينة عثمان بن محمد بن الزبير .. وأن يقوم على أمر الشرطه عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب وعلى بيت السلاح عبد العزيز الدراوردى ......
إستمر محمد "النفس الزكيه" يلقى بيانه والقوم كلهم منصتون إليه .. لا يرفعون أعينهم عنه وقد علت وجوههم البهجة وعمهم الفرح والسرور .. إلا ذلك الجاسوس الذى كان مندسا بينهم .. تسلل فى خفة خارج المسجد بعد أن سمعت أذناه ما سمعت دون أن يشعر به أحد من الجالسين من حوله .. ثم ركب دابته وانطلق يعدو بها لا يلوى على شئ قاصدا طريق العراق .. بدا سعيدا مبتهجا بالجائزة التى تنتظره فى مقابل ما يحمله من أنباء هامة .. لم يسبقه إليها أحد إلى بلاط المنصور ..
----------

@ خرج الناس من المسجد النبوى بعد أن انتهى الثائر من إلقاء بيانه وهم فى حيرة من أمرهم .. كانوا فى قرارة أنفسهم يتمنون مبايعته خليفة للمسلمين .. لكن أسقط فى أيديهم فقد سبق لهم إعطاء البيعة للمنصور بأيمان مغلظة لا سبيل لهم إلى نقضها أو الرجوع عنها .. وبعد مداولات إتفقوا فيما بينهم أن يختاروا نخبة من بينهم يمثلون الأعيان وشيوخ القبائل والعشائر .. يأتون لهم بالفتوى من شيخ المدينة وإمامها مالك بن أنس ..
وفى مساء اليوم نفسه توجهت تلك النخبة من شيوخ المدينة وأعيانها إلى دار الفقيه مالك بن أنس .. وعلى باب الدار خرجت إليهم جاريته السوداء التى كانت تقوم على خدمته .. سألتهم عن مطلبهم .. أجابها كبيرهم على الفور ......
ــ جئنا نلتمس لقاء الشيخ .. فى أمر هام وضرورى ..
وقبل أن تفتح الجارية فهما للرد عليه استدرك قائلا .....
ــ نعلم أن هذا اليوم ليس يوم الفتوى .. إلا أن الأمر هام أيتها الجاريه ولا يحتمل الإنتظار للغد ..
ما كان منها إلا أن عادت أدراجها داخل الدار تستأذن سيدها وهم لا يزالون وقوفا بالباب .. ذلك أن شيخ المدينة وإمامها أعد نظاما ثابتا وحدد أياما وساعات معينة يلتقى فيها بالناس ليجيب على أسئلتهم .. وأياما أخرى للدرس وتعليم الحديث .. كان لا يسمح أبدا بتغيير هذا النظام الصارم ولا يأذن لأى أحد أن يقطع عليه خلوته إلا فى الملمات .. وعلى هذا النهج عاش حتى آخر أيامه ..
طال وقوفهم خارج الدار ينتظرون إلى أن عادت الجاريه مرة أخرى وفتحت الباب لهم الى قاعة الانتظار .. وفى داخل القاعة جلسوا فى انتظار الشيخ وهم يتحدثون فيما بينهم بأصوات خافتة يتداولون أمرهم ..
وبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل فى حوالى الأربعين من عمره .. تكسو صفحة وجهه وتتراءى سمات الصالحين الأتقياء وتعلوه المهابة والوقار .. سلم الشيخ عليهم ورحب بهم وكان يعرفهم .. ثم سألهم عن حاجتهم فأجابه كبيرهم ......
ــ جئناك يا شيخ المدينة مفوضين من أهلها جميعا .. لتفتينا فى أمر هام حير القوم جميعهم .. واتفق الرأى على أنه لن يفتينا ويخرجنا من حيرتنا إلا إمامنا وشيخنا مالك بن أنس !.
ــ لابد أنه كذلك حقا .. فأنتم تعرفون أن اليوم ليس يوم الفتيا !.
ــ نعلم ذلك يا شيخنا .. إلا أن الأمر عاجل وخطير ولا يحتمل الإنتظار للغد .. ولولا ذلك ما سمحنا لأنفسنا أن نقطع عليك خلوتك !.
ــ لعلكم أتيتم من أجل محمد بن الحسن .. سمعت أنه ظهر بالمدينة البارحه ؟!.
ــ أجل أيها الشيخ .. وطلب منا أن نبايعه ..
ــ وماذا بعد ؟!.
ــ كما تعلم .. نحن فى رقابنا بيعة للخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ أجل أعلم .. ما الأمر إذن ؟!.
ــ نحن فى حيرة يا شيخنا الجليل .. هل نبايع لابن الحسن أم نبقى على بيعتنا للخليفة المنصور ؟!.
ــ ما رأيكم أنتم .. هل ترغبون فى البيعة له ؟!.
ــ أجل نرغب فى ذلك .. غير أن بيعتنا وأيماننا للخليفة المنصور تمنعنا وتقف حائلا أمام إرادتنا ..
ــ هل بايعتم للمنصور أيها القوم بإرادتكم ورغبتكم .. أم أنكم أعطيتم البيعة آنذاك مكرهين ؟!.
ــ الله وحده يعلم أنا حلفنا مكرهين وبايعنا مرغمين وكان ذلك ضد إرادتنــا ..
ــ وأنا أقول لكم ليس على مستكره بيعه .. قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقال " ليس على مكره يمين" . هيا قوموا فبايعوا لمحمد بن عبد الله بن الحسن .. واتركونى هنا وحدى فى خلوتى ..
قال ذلك ثم أخذ يتمتم فى سره وهو فى طريقه إلى داخل الدار .....
ــ الله وحده يعلم ما ستفعله بى هذه الفتوى ..



@ تسعة أيام مرت على هذه الأحداث المتلاحقه التى جرت على أرض المدينه المنوره منذ دخول العلويين إليها ... كان الأمر خلالها قد استتب لهم تماما .. على الجانب الآخر فى مدينة الهاشميه مقر إقامة المنصور .. وبينما الحراس يروحون ويغدون فى نوبة حراستهم ليلا تحت أضواء المشاعل أمام أبواب قصر الخلافه .. إذا بهم يلمحون شبحا قادما من بعيد وهو يتسلل حثيثا على دابته مستترا بالظلام ..
أخذت ملامحه تظهر وتتميز شيئا فشيئا كلما اقترب براحلته من أسوار القصر .. إنه الرجل الذى خرج متسللا من المسجد النبوى .. على مقربة من باب القصر أوقفه أحد الحراس طالبا إليه النزول من فوق ظهر راحلته .. أمره بغلظة ألا يتحرك من مكانه وبدأ يسأله فى جفاء وحده .......
ــ من أنت أيها الغريب .. وما الذى أتى بك إلى هنا فى تلك الساعة المتأخرة من الليل .. تكلم ؟!..
كان يبدو من هيئته وكذلك من زيه أنه كذلك .. غريب عن البلاد .. إلتفت الرجل من حوله فزعا وقد بوغت بهذه المقابلة الجافه .. التى لم يعتد على مثلها من قبل .. هاله أن يرى عددا من الحراس الأشداء يتحلقونه وهم يحدجونه بنظراتهم الناريه .. متحفزون للقضاء عليه إن تحرك من مكانه خطوة واحدة للأمام .. وأيديهم على مقابض سيوفهم ...
أخذ يدور بعينيه عليهم ويردد النظر إليهم واحدا بعد الآخر .. لمح الشر فى عيونهم فعاد ينظر إلى محدثه .. قال بصوت لاهث وقد بدا عليه الإعياء والتعب من طول السفر .......
ــ أرجوكم .. أيها الحراس .. أريد شربة ماء أولا .. فإنى قادم من سفر بعيد .. لى تسعة أيام وأنا أكابد مشقة السفر .. وقد نفد الماء منى ...
سأله أحدهم ساخرا منه وقد تصوره مخبولا .......
ــ وما الذى أتى بك إلى هنا أيها الصعلوك ؟!..
وعاجله آخر .......
ــ ولماذا تكبدت كل هذه المشقة كما تزعم ؟!..
ــ مهلا أيها الحراس .. لا تسخروا منى ...
ــ لم إن شاء الله ؟!..
ــ لأنى أحمل أنباء هامة لأمير المؤمنين ...
إرتفعت ضحكاتهم الساخره .. بينما عاجله أحدهم بقوله ......
ــ أنباء هامه !.. معك أنت .. هيــه .. وماذا تريد ؟!..
ــ لا أريد منكم شيئا .. أريد مقابلة أمير المؤمنين ...
ــ أميــــــر المؤمنين .. هكذا !.. من تظن نفسك ؟!..
ــ أجل .. وفى الحال .. ما خطبكم .. لماذا تنظرون إلى هكذا ؟!.. ألا تعرفون من أكون ؟!..
ــ من تكون !!.. صعلوك من الصعاليك .. أم تظن نفسك القائد موسى بن كعب جئتنا متخفيا ؟!..
إرتفعت ضحكات الحراس .. واستمرت تعليقاتهم الساخرة دون أن يردوا على تساؤلاته .. وهم يتغامزون على هيئتة المزرية وثيابه الرثه .. ساخرين أن يجرؤ صعلوك مثله على طلب لقاء أمير المؤمنين .. وفى ذلك الوقت المتأخر من الليل .. أخذ ينظر إليهم متعجبا من ضحكهم واستهزائهم .. لم يفهم له سببا فى بادئ الأمر .. فعاجله أحدهم قائلا وهو يناوله قربة الماء ليشرب منها .......
ــ خذ إليك قربة ماء بحالها .. إشرب وارتوى كما تشاء يا .. يا صاحب الأنباء الهامه !..
واستمرت تعليقات الحراس الساخرة .. وهو يكاد أن يلتهم قربة الماء .......
ــ أى أنباء تلك التى يحملها صعلوك مثلك ؟!.. ثم أين لك بأمير المؤمنين فى هذا الوقت المتأخر من الليل .. من المؤكد أنك لا تعى ما تقول !..
وقال آخر .......
ــ هيا اشرب الماء .. وارجع على الفور من حيث أتيت .. وإلا ....
قاطعهم وهو يمسح بقايا الماء بكمه من على فمه .. موجها كلامه لهم فى استعطاف .. بعد أن شرب وارتوى .......
ــ أنتم لا تعرفون شيئا عن حقيقة الأمر .. ولا تدركون أهمية ما جئت من أجله .. لابد لى من لقائه الآن .. الأمر جد خطير !..
ــ إسمع أيها الرجل .. لا تصدع رؤوسنا بترهاتك .. عليك بالانتظار حتى صباح الغد .. أمير المؤمنين لا يلتقى بأحد فى جوف الليل .. مهما تكن الأسباب ...
رد عليه بلهجة حادة قاطعة مستنكرا قوله .......
ــ أقول لكم أنباء هامه تسخرون منى وتقولون ترهات !.. ثم كيف أنتظر إلى صباح الغد ؟!.. أى غد أيها الحراس .. إنكم بالقطع لا تدركون خطورة الأمر .. لن أتحرك من مكانى هذا .. ولا تضطرونى أن أصرخ بأعلى صوتى مناديا على أمير المؤمنين !..
رأى الحراس إصراره .. فتبادلوا نظرات ذات مغزى .. ثم أشار إليه أحدهم أن يتبعه وقد ظهر الضيق على وجهه .. حتى إذا بلغا فناء القصر صعد معه بضع درجات .. ثم سارا فى ردهة طويلة إلى أن وصلا إلى نهايتها .. إستدار إليه الحارس قائلا فى لهجة آمره .......
ــ إنتظر هنا .. فى هذا المكان حتى آتيك .. الويل لك إن تحركت من مكانك هذا خطوة واحده ...
عاد بعد قليل وهو يشير إليه أن يتبعه مرة أخرى .. حتى وصل به إلى غرفة الحارس الخاص لأمير المؤمنين .. وعلى باب الغرفة سأله الحارس وهو لا يزال يتثاءب .......
ــ من أنت أيها الرجل .. وماذا وراؤك ؟!..
ــ أنا يا سيدى الحسين بن صفر من بنى عامر .. لى تسعة أيام أكابد فيها مشقة السفر من يثرب إلى أن وصلت إلى هنا .. وأريد لقاء أمير المؤمنين الآن ...
ــ لم ؟!..
ــ الأمر هام وعاجل ...
حدجه بنظرة حادة مستنكرا .. فاستدرك الرجل قائلا .......
ــ لا تعجب يا سيدى .. أمير المؤمنين يعرفنى جيدا .. سترى بنفسك عندما تسمح لى بلقائه ...
ــ أى أنباء تلك !.. هلا أفصحت لى عنها أيها الرجل ؟!..
ــ معذرة يا سيدى .. لا أستطيع أن أفصح لك عنها قبل أن أخبر بها مولاى أمير المؤمنين .. ستعرف كل شئ عندما يلقانى ...
ــ إذن عليك بالإنتظار إلى صباح الغد .. الخليفة متعب هذه الليله ...
ــ أرجوك يا سيدى .. إن ما عندى لا يحتمل الانتظار لصباح الغد .. يكفى أن أقول لك إن البلاد فى خطر !..
أخذ ينظر إليه بازدراء وهو يضم شفتيه فى ضيق .. ثم أمره فى جفاء أن يتبعه .. حتى وصل به إلى غرفة المنصور .. لما رآه عرفه .. ابتدره قائلا .......
ــ خيرا يا عامرى .. ماذا وراءك .. وما الذى دعاك لأن توقظنى فى هذا الوقت المتأخر من الليل ؟!..
ــ أنباء مهمة يا مولاى المنصور ...
نظر إليه متسائلا فأردف على الفور .......
ــ خرج محمد بن عبد الله بن الحسن ومن معه من مخبئهم .. وهو الآن فى المدينه منذ عشرة أيام ...
هز المنصور رأسه ثم قال .......
ــ أخيرا خرج هذا المتمرد من جحره .. هيه وهل قدم معه كثيرون ؟!..
ــ حوالى مائتين وخمسين من أهله وأنصاره ...
ــ هل تحركوا فى المدينة .. أم لا يزالون قابعين فى إحدى أوكارها ؟!..
ــ إنهم يا مولاى اقتحموا السجون وأخرجوا كل من بداخلها .. وعزلوا أمير المدينه رياح بن عثمان .. وولوا مكانه واحدا آخر من رجالهم .. ها هى يا مولاى أسماء كل من ولاهم المناصب ...
قال ذلك وهو يخرج لفافة من جيبه .. تناولها المنصور وألقى بها إلى جواره دون أن يفتحها .. ثم سأله فى لهجة حازمة جافه وقد بدا عليه الوجوم والضيق .......
ــ هل رأيته بعينيك .. أم سمعت من غيرك سماعا ؟!..
ــ لا يا مولاى .. رأيته بعينى رأسى هاتين .. وإلا ما كنت أصررت على لقائك يا مولاى فى هذا الوقت المتأخر من الليل .. ليس هذا فحسب يا أمير المؤمنين !..
ــ ماذا أيضا ؟!..
ــ لقد استمعت إليه .. وهو يخطب بالناس جالسا على منبر رســول الله [صلى الله عليه وسلم ] ...
ــ ماذا سمعت ؟!..
ــ طلب من القوم أن يبايعوه أميرا للمؤمنين ...
ــ ثم ماذا ؟!.. هل تمت له البيعه ؟!..
ــ لم يبايعوه إلا بعد أن أرسلوا جماعة منهم للقاء شيخ المدينه مالك بن أنس لأخذ رأيه ...
ــ بماذا أجابهم ؟!..
ــ أفتاهم أن يبايعوا له .. وأحلهم من بيعتهم لك ...
ــ كيف يفتيهم بذلك ولى فى أعناقهم بيعه ...
ــ هلا أعفيتنى من الإجابة يا مولاى ...
ــ تكلم يا رجل ...
ــ قالوا له أنهم بايعوا مكرهين .. فقال لهم .. ليس على مستكره يمين ولا بيعــه !..
سكت المنصور هنيهة ثم أخذ يحدث نفسه والأسى يغمره .......
ــ تفرقت الظباء على خراش ؛ فلم يدرى خراش ما يصيد .. لعن الله من أيقظ الفتنة من مهدها .. أهلكت نفسك وأهلكت من معك أيها الطامع فى الخلافه .. أما أنت يا شيخ المدينه فلسوف يكون لى معك شأن آخر .. لابد أن تلقى جزاء رعونتك وتطاولك علينا ...
قال ذلك ثم التفت إلى كبير الحراس آمرا .......
ــ تحقق من صحة هذه الأنباء .. فإن كانت كما يدعى هذا العامرى أعطه عن كل يوم مر عليه فى السفر ألف دينار .. وإلا فالويل له ………………
****

@ فى صبيحة اليوم التالى اتخذ المنصور مجلسه .. وقد بدا متجهما عابس الوجه وعن يمينه جلس ولــى العهد .. بينما وقف بين يديه وزيره وكاتب ديوانه أبو أيوب الموريانى فى انتظار ما يأمره به .. لم يمض إلا قليل حتى التفت المنصور إلى كاتبه قائلا بعد أن خرج عن صمته .......
ــ إجلس أبا أيوب واكتب هذه الرسالة .. أكتب ما نمليه عليك ...
ــ رسالة !.. لمن يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لهذا المتهور الذى طال اختفاؤه .. ثم ظهر أخيرا بالمدينة ليثير الفتن والقلاقل وينازعنا أمرنا ...
ــ تقصد محمد بن عبد الله بن الحسن يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. سأبعث إليه بهذه الرسالة عساه أن يرجع عن غيه ونزعات نفسه .. يعلم الله أنى لا أريد قتله إلا أن يضطرنى لذلك ويدفعنى إليه دفعا !..
كان ولى العهد الأمير محمد المهدى يرقب أباه وينصت باهتمام إليه وهو يملى على كاتبه .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض .. ذلك خزى فى الدنيا ولهم فى الآخرة عذاب عظيم .. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" صدق الله العظيم ..... ولك على عهد الله وميثاقه وذمة رسوله [صلى الله عليه وسلم ] .. إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وأهلك ومن اتبعكم على دمائهم وأموالهم .. وأعطيك ألف ألف درهم وكل ما سألت وأنزلك من البلاد حيث تشاء .. وأطلق سراح كل من فى السجون .. وجه إلى من أحببت من رجالك يأخذ لك من العهد والميثاق ما يرضيك .. والسلام ...
وضع ريشته جانبا وهو ينظر للمنصور متسائلا فقال له .......
ــ ضع خاتمنا عليها وادفع بها إلى أحد رجالنا المخلصين .. ليحملها إلى المدينة فى التو والحين ...
ــ خيرا فعلت يا أبى بوركت والله .. ليته يمتثل !..
قالها ولى العهد ممتنا وهو يقوم من مكانه متقدما ناحية أبيه .. وقد ظهر الارتياح عليه متصورا أنه يجنح للسلم .. ظن ذلك لقلة خبرته بأمور المناورات ومكائد القصور .. وهو بطبعه لم يكن يميل إلى العنف فى معالجة المشاكل والتصدى لها .. لغلبة الحلم والتسامح على طبيعته ...
رد المنصور قائلا .......
ــ إسمع يا ولدى سأقول لك شيئا ..
ــ نعم يا أبت ..
ــ لتعلم أن ولد على بن أبى طالب لاحظ لهم فى هذا الأمر .. كما أننا لم نغتصب منهم حقا كما يزعمون ويدعون ...
قال ذلك ثم نهض قائما وأخذ يمشى رويدا وهو يردف قائلا ......
ــ وإلا .. ما الذى جعل جدهم الحسن بن على يرتضى الصلح مع معاويه .. وتنازل عن الخلافة طواعية رغم أن القوم قد بايعوا له ؟!.. إنه ما فعل ذلك إلا لكى يطفئ نيران الفتنه ويحقن الدماء .. أليس هو القائل لأخيه الحسين بن على لما رآه متحمسا للقتال ....... "إنى هممت أن أحتجزك فى دار مغلقة حتى أفرغ من الصلح" .. ألم يفعل ذلك ؟!..
رد خالد بن برمك معقبا .......
ــ بلى يا أمير المؤمنين .. فعل ذلك حقا .. وإليه الاشارة فى قول النبى [صلى الله عليه وسلم ] "إن ابنى هذا سيد يصلح بين فئتين متنازعتيــن" ..
لم يشأ الربيع أن يضيع هذه الفرصة أيضا دون أن يدلى بدلوه .. هو صائد ماهر يعرف متى يرمى شباكه ويلتقط صيده .. قال فى خبث ودهاء ......
ــ وأنت الذى تمد يدك الآن بالسلام يا مولاى .. مع أنك تستطيع القضاء عليه وعلى كل من معه بإشارة من سبابتك ...
ــ أجل .. صدقت يا كبير الحجاب .. لقد ظن أن لن نقدر عليه .. لكن هيهات هيهات .. إنه عنيد مكابر مثل عمه الحسين .. لا حول ولا قوة إلا بالله ...


@ بينما قافلة المسافرين تواصل رحلتها إلى الحجاز .. وعبيد الله الأزدى يقص على ابنته ما جرى من أحداث فى أرض الخلافة فى السنوات القليلة الماضيه .. كان الأهل فى مكة يترقبون بفارغ الصبر قدومه إليهم مصطحبا معه ابنته وولدها .. وقد استبد بهم القلق على طول غيابهم ...
وفى الدار التى يعيشون فيها بشعب الخيف .. جلست أم عبد العزيز زوجة عبيد الله الأزدى وحدها فى أحد أركانها .. وأمامها الرحى تطحن بها قليلا من الشعير لإعداد بعض الخبز .. كانت امرأة صابرة صامدة هادئة الطبع قليلة الكلام .. تنطق ملامح وجهها بالطيبة والسماحه .. لا تكف يدها عن العمل الدؤوب فى أمور الدار رغم كبر سنها .. وعنها ورثت ابنتها أم حبيبه هذه الخصال وتلك الطباع ...
وبينما هى على هذا الحال والعرق يتصبب منها غزيرا .. تمسح ما تراكم منه بكم جلبابها .. إذا بولدها على أصغر أبنائها والذى بلغ العشرين من عمره يفتح باب الدار قادما .. ما إن سمعت أمه وقع خطواته التى تعرفها جيدا .. حتى رفعت رأسها وهى لا تكف يدها عن حركتها الرتيبه .. سألته بطيبتها المعهودة وابتسامتها الصافيه .. وإن لم تخل لهجتها من رائحة لوم وعتاب .......
ــ أهذا أنت يا على .. أين كنت غائبا طوال اليوم يا ولدى .. لقد تأخرت على غير عادتك ؟!..
ألقى بنفسه على إحدى الوسائد طلبا للراحة .. ثم رد قائلا وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه اللاهثه .. بعد أن شرب جرعة من الماء .......
ــ إيــــــه يا أمى .. ألتقط أنفاسى أولا .. ما أشد سخونة الهواء خارج الدار .. يوم صيفى قائظ عل غير العاده .. بعد أن صليت صلاة الظهر عند الكعبه .. ذهبت إلى أخى سليم فى دكان العطارة ومكثت عنده بعض الوقت أساعده فى عمله ........
قاطعته قبل أن يسترسل .......
ــ منذ متى وأنت تذهب إلى دكان العطاره .. لكم طلبت منك مرات أن تساعده وكنت تأبى .. ما الذى جد فى الأمر يا ترى ؟!..
ــ أبدا يا أمى .. لكنه اشتكى لى غير مرة من تكدس البضاعة وعدم ترتيبها .. ولم أتركه إلا وقد انتهينا من ترتيبها وتنسيقها فى أماكنها .. وإزالة الغبار المتراكم عليها .. حتى يعرف أبى بعد عودته أنه سافر وخلف وراءه رجالا .. أليس كذلك يا أمى ؟!..
ــ هيه .. وبعد أن انتهيت من مساعدة أخيك فى الدكان .. إلى أين ذهبت ؟!..
ــ أنسيت يا أمى !.. ذهبت بعد ذلك إلى دار أخى عبد العزيز لأطمئن على صحة ولده عمر .. ألم تطلبى إلى ذلك ؟!..
ــ بلى يا ولدى .. بارك الله فيك يا على .. كيف حاله الآن .. لعله برئ من تلك الحمى اللعينه ؟!..
ــ إنه لا يزال نائما فى فراشه .. لكنه الآن أفضل ...
رفعت الأم رأسها للسماء وأخذت تتمتم ببعض الأدعية .. ثم عادت لما كانت عليه .. مرت لحظات من الصمت قبل أن يقطعه على متسائلا .......
ــ أماه ؟!..
ــ نعم يا ولدى ...
ــ ألا تلاحظين أن غيبة أبى قد طالت .. كيف ترين ذلك الغياب ؟!.. مضى عليه أكثر من شهرين منذ رحيله إلى غزه .. ليأتى بشقيقتى أم حبيبه وولدها ؟!..
ــ أنسيت يا بنى أنها رحلة شاقة وسفر طويل .. كما أنه مرتبط بقافلة التجار التى سافر معها .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا أمى أعلم ذلك تماما .. لكنى أذهب كل يوم أتلمس من السوق أخبار القوافل القادمة من الشام أو من مصر دون جدوى !..
إبتسمت قائلة .......
ــ لا تعجل يا ولدى لا تعجل .. أنتم هكذا أيها الشباب هذه الأيام لا صبر لديكم أبدا .. إن هى إلا أيام يا ولدى ويصل الجميع إن شاء الله .. أبوك وأم حبيبه وولدها محمد بن إدريس ...
ثم أردفت قائلة وهى تتنهد فى أسى .......
ــ يرحمك الله يا إدريس .. كان رجلا صالحا يا ولدى .. اللهم بارك لنا فى ولده محمد .. وأوصله ومن معه سالمين إلينا ...
...........

@ أخيرا وصلت قافلة المسافرين إلى مشارف ميناء أيله "ميناء إيلات أو العقبه" .. وعلى مرمى البصر ظهرت للمسافرين مياه الخليج بألوانها الزرقاء الصافيه .. وعلى صفحتها الهادئة الرائقه إنعكست أشعة الشمس الذهبية فزادتها بهاء وجمالا وروعه .. إستمر الشيخ يواصل قصة الثوار وابنته تنصت له فى شوق وشغف .. كانت متلهفة لمعرفة نهاية هذا الصراع .......
ــ وحمل البريد رسالة العهد والأمان إلى المدينه .. قام رسول الخليفة المنصور بتسليمها بنفسه لمحمد النفس الزكيه ...
قاطعته فى لهفة .......
ــ لعله استجاب لما جاء فيها يا أبت ؟!..
ــ هيهات .. إنها قضية آبائه وأجداده .. لم يكد يقرأ رسالة الأمان حتى تملكه الغضب .. وقام من فوره بكتابة رسالة عاجله يرد بها على المنصور ...
ــ كيف كانت رسالته ؟!..
ــ رسالة غاضبة .. تعبر عن مرارة أليمة وإصرار على مواصلة النضال .. كل كلمة فيها سهم قاتل ...
ــ وكيف كانت إجابة المنصور يا ترى ؟!..
ــ سأخبرك بكل شئ .. إسمعى يا ابنتى بقية الحكايه ………………

@ أمسك المنصور رسالة الثوار وبدأ يتلو ما فيها والربيع واقف إلى جواره ينصت باهتمام وترقب "بسم الله الرحمن الرحيم ....... إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين .. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض" .. وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذى عرضت على .. فإن الحق حقنا .. وإنما ادعيتم هذا الأمر بنصرتنا وتأييدنا .. وأن أبانا عليا كان الإمام .. فكيف ترثون ولايته وولده أحياء .. وليس لأحد مثل نسبنا أو شرفنا .. نحن لسنا من أبناء اللعناء أو الطرداء أو الطلقاء .. واعلم أننى أولى بالأمر والعهد منك .. أما عن الأمان المزعوم .. فأى أمان وعهد هذا الذى تعطينيه.. أمان ابن هبيره .. أم أمان الخرسانى .. أم أمان عمك ؟!..
إستطاع الثائر ببراعة منطقه وقوة حجته .. أن يسدد سهامه القاتلة التى انطلقت من سطور رسالته إلى سويداء قلب المنصور .. ما كاد يصل فى قراءته إلى هذا الحد منها .. حتى قبض عليها بغيظ وحنق قبل أن يكمل ما فيها .. كورها فى قبضته وهو يهب واقفا عاقدا ما بين حاجبيه .. وهو الذى قليلا ما يغضب أو يثور .. بل يرى دائما رابط الجأش .. لكنه يواجه رسالة فيها همزات ولمزات وتعريض بالأنساب والأصهار .. وبعد أن مرت لحظات من الصمت والترقب .. إنبرى الربيع بن يونس قائلا فى نبرات كساها ثياب الغضب الثائر ....... معذرة يا مولاى .. لقد تعدى هذا المارق حدوده .. لم يعد لدينا مقدرة للصبر عليه أو إمهاله أكثر من هذا .. لابد من تأديبه وإنزال أشد العقاب به ...
قاطعه المنصور قائلا .. وقد بدا كالأسد الجريح وهو يخرج حروف الكلمات من بين أسنانه بطيئة كأنما يحادث نفسه .......
ــ لم يبق فى قوس الإحسان منزع .. إخترت الحرب إذن أيها الدعى .. لا بأس .. سألقنك درسا لن تنساه ما حييت .. إن كتبت لك النجاة من بين يدى ..
ثم نظر إلى الربيع متمما .......
ــ أرسل الليلة رسالة لابن أخى القائد عيسى بن موسى .. أطلب إليه أن يجهز أربعة آلاف جندى بالسلاح والخيل والميره .. يتقدمهم المشاة الرماة وحملــة الرماح وفرسان السيافة والنباله .. وأن يتوجه بهم من فوره إلى المدينه .. أما أنت .. فعليك أن تعد العدة من الآن لإغلاق كافة الطرق المؤدية إلى المدينه .. وأهمها طريق الشام .. تأكد من ذلك بنفسك يا كبير الحجاب .. كى لا يصل إليهم أى مدد من طعام أو شراب ...
ثم أردف قائلا يتمتم فى سره دون أن يسمعه أحد .......
ــ إنها لفرصة مواتية أصيب بها هدفين برمية واحده .. أتخلص من هذا العلوى المارق .. وابن أخى عيسى بن موسى الذى ينازع هو الآخر فى ولاية العهد .. أجل .. بذلك يكون الطريق ممهدا تماما لولدى محمد المهدى .. ثم لولديه موسى وهارون من بعده ...
كان الربيع الداهيه يحاول بنظراته الثاقبه .. أن يخترق الحجب إلى أغوار عقل المنصور .. وهو يرسلها من طرف خفى .. إرتسمت على شفتيه إبتسامة غامضة وهو يقول لنفسه .......
ــوالله لقد فهمت مرادك وما ترمى إليه .. أيها الثعلب الداهيه ...


@ مضت الأيام تترى على هذه الأحداث العصيبة .. ورحى الحرب دائرة على أشدها بالمدينة بين الثوار وجند الخليفة المنصور .. وبينما هو فى حجرته الخاصة يجلس متكئا فى استرخاء طلبا لراحة بدنه من عناء أعباء الحكم وإلى جواره زوجته "أروى" تتجاذب معه أطراف حديث ودود .. فى لحظات صفاء وهما يحتسيان شرابا دافئا أمامهما فاجأها المنصور متسائلا .......
ــ أروى .. أتدرين أكثر ما أتمناه حقا ؟!..
ردت متسائلة وعلى شفتيها ابتسامة ساحره .......
ــ حقق الله أمانيك يا أمير المؤمنين .. ما الذى تتمناه يا أبا عبد الله ؟!..
ــ أتمنى أن يكون على بابى أربعة رجال .. لا يكون عليه أعف منهم ...
ــ تقول أربعة رجال .. أربعة فحسب يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ أجل .. إنهم يا أروى أركان الملك .. ولا يصلح الملك إلا بهم ...
ــ صدقت يا أبا عبد الله .. إن السرير لا يصلح إلا بأربع قوائم .. إن نقصت واحدة تداعى ...
ثم أردفت متسائلة .......
ــ من تعنى بهؤلاء الأربعة يا ترى ؟!..
ــ أحدهم قاض .. لا تأخذه فى الحق لومة لائم !..
ــ والثانى ؟!..
ــ الثانى صاحب الشرطه .. ينصف الضعيف من القوى .. أما الثالث .. فصاحب خراج يستقصى فى عمله ولا يظلم الرعيه !..
ــ لم يبق إلا الرابع ؟!..
سألته أروى .. رد عليها وهو يعض على سبابته متأوها متحسرا .......
ــ آه من هذا الرابع !.. إنه صاحب البريد .. يكتب إلى بالخبر الصحيح عن هؤلاء جميعا ...
ضحكت أروى ضحكة عالية .. وهى ترتد برأسها إلى الوراء فى دلال .. ثم قالت معقبة .......
ــ ما أبلغ حكمتك وجلاء بصيرتك يا أمير المؤمنين .. والله لم تنس أحدا .. لا حرمك الله من هؤلاء الأعوان الأربعة أبدا ...
صمتت قليلا وقالت .......
ــ كلامك هذا يذكرنى بذلك اليوم .. الذى كانت فيه خصومة بينى وبينك حول كتاب الصداق .. وطلبت إلى أن أختار بنفسى القاضى الذى يحكم بيننا .. أتذكر ذلك اليوم يا أبا عبد الله ؟!..
أجابها ضاحكا .......
ــ هل هذه أيام تنسى .. لقد اشترطت على فى كتابك ألا أتزوج عليك ...
صمت قليلا وأردف .......
ــ لم تختارى من بين جميع القضاه إلا قاضى مصر .. غوث بن سليمان .. كما أنك أصررت أيضا .. أن توكلى عنك فى مجلس القضاء واحدا من خدمك .. لم أنسى يومها أن هذا القاضى طلب منى فى حزم أن أنزل عن مجلسى .. وأجلس على الأرض .. إلى جوار خادمك سواء بسواء .. أيقنت ساعتها أنه سيحكم لصالحك ...
بادلته الضحك وهى تقول فى أنوثة ودلال .......
ــ مع هذا لم تغضب منه .. بل أمرت له بجائزة .. أليس كذلك ؟!..
ــ ليس هذا فحسب .. بل طلبت إليه بالحاح أن يتولى قضاء الكوفه .. لكنه اعتذر وأصر على أن يظل قاضيا على مصر .. كان قاضيا عظيما حقا .. ليت كل القضاة عندنا مثله ...
صمت برهة كان يحتسى خلالها رشفة من الشراب .. ثم قال .......
ــ سأقص عليك حكاية حدثت لى ذات يوم مع إحدى نسائى .. ما دمنا فى ذكر القضاة وأحوالهم ...
ــ تكلم يا أبا عبد الله .. كلى آذان صاغيه ...
ــ حدث يوما .. أن اختلفت مع الكرديه ...
ــ أم ولدك جعفر الأصغر ؟!..
ــ أجل .. هى بعينها .. وكعادتى سألتها من ترضين حكما بيننا ؟!.. ردت قائلة ....... لا أرضى بغير حكم فقيه الكوفه ...
ــ تقصد أبو حنيفه النعمان بن ثابت ...
ــ نعم إنه هو .. يا له من فقيه .. إسمعى ما جرى وما كان من أمره معنا ……
كان الشيخ أبو حنيفه جالسا فى صدر المجلس .. أمامه الخليفة المنصور بينما جلست زوجته الكردية من وراء ستار .. بدأ الشيخ مجلس القضاء موجها كلامه للزوجه .......
ــ ما هى خصومتك يا سيدتى ؟!..
ــ أمير المؤمنين لا يعدل بينى وبين زوجاته ...
ــ ما قولك يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لى سؤال أود أن أسأله ...
ــ سل ما بدا لك ...
ــ كم يحل للرجل من النساء ؟!..
ــ يحل له من النساء أربعا ...
ــ وكم يحل له من الإماء ؟!..
ــ ما شاء له منهن .. ليس لذلك من عدد !..
نظر المنصور لزوجته قائلا .......
ــ أسمعت يا هذه .. كلام الشيخ ؟!..
ــ بلى قد سمعت .. ولا قول عندى بعد قوله !..
رد أبو حنيفة معقبا .......
ــ مهلا يا أمير المؤمنين .. لقد أحل الله ذلك لأهل العدل .. فمن لم يعدل .. أو خاف ألا يعدل .. فينبغى له ألا يجاوز الواحده .. قال تعالى "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم" .. ينبغى علينا أن نتأدب بآداب الله .. ونتعظ بمواعظه ……
@ وصل المنصور إلى هذا الحد .. فالتفتت إليه أروى متسائلة فى فضول .......
ــ ماذا فعلت يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ أمسكت على لسانى ولم أعقب .. ولما طال صمتى .. قام الشيخ وخرج عائدا إلى داره .. أتدرين ما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
هزت رأسها بالنفى فرد قائلا .......
ــأرسلت الكردية إليه هدية كبيرة !..
ــ هدية كبيره ؟!..
ــ نعم أرسلت إليه خمسين ألف درهم وجارية ودابه .. إلا أنه أبى متعففا وردها إليها قائلا .......
ــإنما ناضلت عن دينى !..
ردت بإعجاب قائلة .......
ــياله من شيخ ورع تقى .. إنه يستحق أن يكون قاضى القضاه !..
إبتسم قائلا .......
ــ يعجبنى فيك ذكاؤك أيتها الحسناء .. كأنك تقرأين ما يدور برأسى ...
ــ ماذا تعنى ؟!..
ــ لقد عزمت على ذلك فعلا ...
ــ متى تفعل يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ بعد أن أفرغ من مشاكلى مع بنى على .. وأنتهى من بناء بغداد والرصــافه ...
ثم أردف قائلا .......
.. لكن هيهات .. ليته يقبل ...
ــ كيف يا أمير المؤمنين !.. هل يأبى منصبا جليلا كهذا ؟!..
ــ ما الذى يمنعه .. إنها ليست أول مرة يرفض القضاء .. لكنى على كل حال سأبذل قصارى جهدى لإقناعه .. ولن أمكنه من تكرار ما فعل قبل عشرين عاما مع الأمويين ...
ما كاد ينتهى حتى سمعا طرقا خفيفا على باب الغرفة .. قال .......
ــ من بالباب ؟!..
ــ أنا يا مولاى .. الربيع بن يونس هل تأذن لى بالدخول ؟!..
ــ أدخل يا أبا الفضل .. ماذا عندك ؟!..
دخل وسلم .. ثم أقبل على المنصور بوجه متهلل .. سأله عما وراءه فقال .......
ــ مالى لا أسر يا مولاى وقد جاء البريد بالبشرى .. تم القضاء على الفتنة بالمدينه .. ودانت لكم بالولاء مرة ثانية !..
ــ وزعيمهم محمد "النفس الزكيه" ؟!..
ــ قتل وكل من كان معه .. بعد أن قاتلوا باستماتة ويأس .. غير أن أخويه يحي وإدريس لاذا بالفرار .. ولم يستطع رجالنا أن يتعرفوا على مكانهما !..
رد قائلا وقد ظهر على وجهه الحزن والهم .. رغم الأنباء الساره .......
ــ لا عليك منهما .. إنهما فتيان صغيران لا يملكان من الأمر شيئا .. ولا يحسب لمثلهما حساب .. وماذا عن أخيه إبراهيم ؟!..
ــ جاءت الأنباء تفيد بظهوره فى البصره .. وأنه يعد جيشا كبيرا يتوجه به إلى الكوفه !..
زادت همومه وهو يهز رأسه قائلا .......
ــ إنه حتما قادم إلى هنا .. إلى الهاشميه ...
ــ ما الذى يخيفنا منه يا أمير المؤمنين .. فليأت إن شاء ومتى شاء .. ليلقى مصير أخيه وأنصاره ويلحق بهم ؟!..
رد فى لهجة يائسة .......
ــ ليس الأمر هكذا يا أبا الفضل .. أنسيت إن رجالى مشتتون فى البلاد .. يحاربون فى الحجاز وأفريقيه والأهواز والرى ...
قال ذلك ثم سكت قليلا .. رفع رأسه قائلا للربيع فى حزم .......
ــ أرسل للقائد حميد بن قحطبه .. يجهز ثلاثة آلاف جندى بالعتاد على أن يكون جيشه فى المقدمه .. وعندما يصل القائد عيسى بن موسى .. أطلب إليه أن يتوجه على رأس خمسة عشر ألف جندى ويبقى فى المؤخره .. ثم يستعمل الحيلة بعد ذلك ...
ــ أية حيلة يا مولاى ؟!..
ــ يوقد نارا عظيمة عندما يصير على مقربة من خصومه .. كى يظنوا أن رجالنا كثيرون .. فيقع فى قلوبهم الرعب !..
فى تلك الأثناء دخل أحد الجلاوزه "الحجاب" قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. المنجم نوبخت بالباب .. طالبا الإذن بالمثول أمامكم .. يبدو من هيئته وكلامه أنه فى عجلة من أمره !..
ــ ماذا تنتظر أيها الأحمق .. لا تتركوه ينتظر أكثر من هذا .. أدخلوه فى الحال لعلنا نجد لديه ما يزيل عنا الكئآبة .. أو تنشرح به صدورنا !..
ــ أمر مولاى ...
ابتدر المنجم قائلا لدى دخوله .. وهو يبالغ فى الإنحناء والتعظيم ......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. أطال الله عمرك وأعلى فى العالمين ذكرك ...
ــ ماذا وراؤك أيها المنجم ؟!..
ــ الخير كله يا مولاى .. جئتك بالبشرى ...
ــ أية بشرى يا رجل .. تكلم ؟!..
ــ أبشر يا مولاى بالنصر المبين والفوز العظيم ...
ــ عن أى انتصار تتحدث أيها المنجم ؟!..
ــ سوف ينتصر جيشك بإذن الله على إبراهيم الطالبى . كما انتصر من قبل على أخيه .. سترى رأسه بعينيك عما قريب .. هنا .. وفى هذا المكان !..
ــ كيف يكون لى ذلك كيف أيها المنجم ؟!.. وقد علم إبراهيم وعورة جانبى وقلة رجالى .. إنه لم يجترئ على المسير من البصره إلى هنا .. إلا بعد اجتماع أهلها على الخلاف والمعصية كدأبهم !..
إبتسم المنجم الداهيه إبتسامة ذات مغزى .. وهو يقول فى ثقة وتؤده .....
ــ أنا واثق من نبوءتى يا أمير المؤمنين .. وأؤكد لك أنها صادقه .. إن هى إلا أيامامعدودات.. وتأتيك رأس إبراهيم إلى هنا !..
أخذ المنصور يهز رأسه فى يأس مرددا .......
ــ لا .. لا .. مستحيل هذا الذى تدعيه .. لا أكاد أصدق !..
ــ أمير المؤمنين .. هل كذبت نبوءآتى لك من قبل ؟!..
ــ أبدا .. وهذا من أعجب الأمور .. لذلك جعلتك مقربا منى بعد أن بشرتنى بالخلافة وأنا فى سجن الأمويين !..
ــ وهذه المرة أيضا يا مولاى .. لن تكذب نبوءتى .. إننى أحادث النجوم وتحادثنى بما لديها .. إن بحوزتى علوم الهرامسه والحسابات والجداول .. وعلى أية حال .. أنا مستعد لأن تضعنى فى السجن حتى تتحقق بنفسك من صدق ما أقول .. أيكفى هذا منى يا مولاى ؟!..
ــ وإن لم تصدق نبوءتك .. ماذا أفعل بك ؟!..
ــ أقتلنى على الفور !..
ــ والله لأفعلن .. أما إذا أصدقتك النجوم .. فسأقطع لك ألفى "جريب" على ساحل نهر جوبر .. تكون ملكا خالصا لك ...

يتبع إن شاء الله ........................

د أنس البن
09/11/2008, 08h39
@ مضت القافلة فى طريقها تقطع دروب الصحراء .. ماضية فى مسالكها التى يعرفها المسافرون .. إلى أن وصلت إلى مكان .. بدت فيه من بعيد بعض البنايات المتناثرة الصغيره .. نظرت أم حبيبه إلى أبيها متسائلة ....... أين نحن الآن يا أبى .. وماتلك البنايات التى تبدو للعين من بعيد ؟!..
أجابها ضاحكا .......
ــآه يبدو أن طول غيابك فى بلاد الشام .. أنساك ديارنا .. لقد صرنا على مقربة من بدر .. إنها محطتنا الأخيرة .. وأظن أننا سنحط رحالنا فيها وننصب خيامنا للراحة والتزود بالماء .. كما أخبرنا الشيخ أبو سعيد ...
ــ إذن لم تبق إلا أياما قليله .. ونكون فى قلب مكه ؟!..
ــ أجل يا ابنتى .. كانت بحق رحلة شاقه ...
ــ أشق منها ما سمعته منك عن تلك الأحداث الدامية التى جرت فى بلادنا .. فى الأعوام الماضيه ...
ــ ألم أقل لك يا ابنتى ألم أقل لك ؟!..
ــ لكنك لم تخبرنى بعد .. هل صدقت نبوءة المنجم !..
أجابها فى أسى وقد بدا شارد الفكر .......
ــنعم يا ابنتى .. صح ما قاله هذا المنجم اللعين .. قتل إبراهيم وكثيرون ممن كانوا معه .. مع أن المعركة كانت لصالحهم فى أول الأمر .. واستطاع رجاله أن يهزموا جيش حميد بن قحطبه الذى كان بالمقدمه .. وكاد أن ينتصر على جيش عيسى بن موسى الذى كان بالمؤخره .. كان جيشه يتراجع أمام بأس العلويين وشدة مراسهم .. وتصميمهم على النصر أو الشهاده !..
ــ ما الذى جرى إذن وقلب موازين المعركه ؟!..
ــ لا أدرى يا ابنتى .. سبق الكتاب بما هو كائن .. وشاءت إرادة الله ذلك .. لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه !..
عادت تسأل والحزن يغمرها .......
ــوأمير المؤمنين المنصور .. ماذا فعل بعد أن علم بانتصار جيوشه ؟!..
ــ عجيب والله أمر هذا الرجل ...
ــ كيف يا أبت ؟!..
ــ رغم شدة كراهيته لأبناء عمومته .. وحرصه على ألا يمكن أيا منهم من الإقتراب من كرسى الخلافه .. إلا أنه لما علم بذلك .. وجاءوا له وهو فى مجلسه برأس الشهيد إبراهيم بن عبد الله .. أخذ يبكى قائلا وهو ينظر لرأس الشهيد .....
ــ والله لقد كنت لهذا كارها .. ولكنك ابتليت بى وابتليت بك .. يعلم الله أنى أوصيت القائد عيسى بن موسى قبل أن يخرج لقتالهم وقلت له ....... يا عيسى إنى بعثتك إلى ما بين هذين ( وأشار إلى جنبيه) .. فإن ظفرت بالرجل فشم سيفك ولا تقتله ...
صمت المنصور برهة .. وأردف قائلا فى أسى .......
وألقت عصاها واستقر بها النوى ؛ كما قر عينا بالاياب المسافر ........
ولما دخلت أفواج الناس عليه مسلمين ومهنئين بالنصر .. لم يعبأ بهم إلى أن دخل عليه شيخ وقور وهو يقول له .......
ــأعظم الله أجرك فى إبن عمك يا أمير المؤمنين .. وغفر له ما فرط فى حقك !..
رد المنصور قائلا وقد اصفر لونه .......
ــإجلس يا أبا خالد .. هكذا يكون الكلام ...
----------

@ إستمر عبيد الله الأزدى قائلا.......
ــكانت هذه أول كلمة عزاء تقال له .. رغم عداوته الشديده لأبناء عمه .. كان ينتظر عزاء الناس قبل تهنئتهمبانتصار جيوشه .. مع حرصه على هذا النصر .. إلا أنه كان حزينا لمقتل إبراهيم ...
مرت لحظات من الصمت .. قطعه الأزدى قائلا ليغير مجرى الحديث .......
ــفى الوقت الذى كانت تدور فيه هذه الأحداث الدامية فى الحجاز والبصره والكوفه .. كان العمل يجرى على قدم وساق فى إقامة مدينة بغداد .. مكان قرية إسمها العتيقه ...
ــ سمعت أنها مدينة بديعة ورائعة الجمال يا أبى ...
ــ أجل يا ابنتى .. ما أروعها .. المنصور اختار بنفسه هذه القرية ليبنى مكانها مدينة بغداد ...
ــ لم ؟!..
ــ لاعتدال مناخها وتوسطها بين نهرى دجلة والفرات .. كما أمر بجلب البنائين المهره والصناع والفعله .. من مصر والشام والكوفه وبلاد الديلم .. ووضع بيده أول حجر فى بنائها .. فى وقت إختاره له المنجم نوبخت .. حيث كانت الشمس كما يقولون فى برج القوس ...
ــ لم أفهم .. ما الذى يعنيه ذلك ؟!..
ــ فى لغة النجوم كما يزعمون ..معناه طول بقائها وكثرة عمرانها .. يقال إن المنصور هو الذى قام برسم المدينة على شكل دائرة .. ووضع تصميما لطرقها وجعل لها ثلاثة أسوار .. لكل سور منها ثمانية أبواب غير متقابله .. وفى وسطها أنشأ قصر الذهب ومسجد الخلافه .. لكن كانت هناك مسألة لا تزال تؤرق المنصور .. وتملك عليه فكره وقلبه !..
ــ أى مسألة تلك يا أبى .. وقد تحققت أمنيته وأنشأ هذه الحاضرة الكبيره .. على هذا التصميم البديع ؟!..
ــ كان يشغله كثيرا أمر اختيار الرجال المناسبين لتولى المناصب الهامه .. كان يريد أن يولى القضاء والخراج وديوان الحسبة والمظالم أخلص الرجال وأتقاهم .. إلى أن كان يوم ………………

@ فى سوق الحرير بمدينة الكوفه .. التى تقع بالقرب من مقر الخلافة بالهاشميه .. وفى داخل أحد المتاجر جلس شيخ متقدم فى العمر .. على وجهه سمات أهل الورع الصالحين الأتقياء يقرأ فى مصحف أمامه .. وعلى باب الدكان وقف غلامه يتحاور مع امرأة عجوز .. تعالت أصواتهما حتى وصلت إلى أسماع الشيخ بالداخل .. أغلق المصحف ونادى على غلامه مستفسرا منه عن سبب هذه الجلبه .. رد الغلام قائلا .......
ــ لا شئ يا سيدى .. العجوز تريد ثوبا من الحرير الخالص ...
ــ لم لا تعرض عليها ما عندنا .. لتختار بنفسها ما يروق لها ؟!..
ــ عرضت عليها ثيابا كثيره .. غير أنها تدعى أنه ليس معها من الدراهم ما يكفى ثمنا لما عرضته عليها من ثياب !..
ــ عجيب أمرك يا إسماعيل !.. لم لا تعطيها ثوبا يعادل ما معها من دراهم ؟!..
ــ حاولت كثيرا يا سيدى .. وجئت لها بثياب عديدة .. دون فائده !..
إبتسم الشيخ وأشار للمرأة قائلا فى تلطف .......
ــ تعالى أيتها العجوز وأخبرينى عن حاجتك .. ماذا تريدين من بضاعتنا ؟!..
ــ يا أبا حنيفه .. كل ما أبغيه ثوب من الحرير الخالص .. خاليا من الصوف .. وأن ترفق بى فى ثمنه لسنى وضعفى ...
أمسك الشيخ بأحد الثياب وقدمه لها قائلا .......
ــ إذن دونك هذا الثوب يا أماه .. أرجو أن ينال رضاك ...
أخذت تقلب فيه بإمعان وتفحص نسيجه بيد خبيرة مجربه .. ثم قالت أخيرا وهى تلقى به جانبا .......
ــ لا بأس به .. ثوب جيد حقا من الحرير الخالص .. لكن بم يفيد هذا كله .. وأنا لا أقدر على ثمنه .. إنه من تلك الأنواع الغالية الثمن ...
عادت إلى الشيخ ابتسامته مرة ثانية .. وهو يرد إليها الثوب قائلا ......
ــ كيف لا تقدرين على ثمنه يا أماه .. ألا يوجد معك أربعة دراهم .. أيتها العجوز الطيبه ؟!..
ــ أربعة دراهم فحسب .. بل معى أكثر من ذلك إن أردت ...
ــ لا .. لا أريد أكثر من أربعة دراهم .. إنها ثمن هذا الثوب الذى نال رضاك ؟!..
صرخت العجوز كأنما لدغتها حية رقطاء .......
ــ كم قلت أربعة دراهم ؟!.. سامحك الله يا أبا حنيفه وغفر لك .. إنك تهزأ بى أتسخر من عجوز .. سامحك الله !..
ــ حاشا لله أن أهزأ بك أيتها العجوز الطيبه .. حاشا لله .. إن هذا ليس من خلق المسلم ولا من آدابه .. لقد أصدقتك القول .. وهذا هو ثمن الثوب فعلا !..
ــ كيف تقول ذلك يا شيخ الكوفه !.. تبيع ثوبا يساوى أكثر من مائة درهم بأربعة دراهم .. ثم تدعىأن هذا ثمن الثوب ؟!.. مستحيل .. إلا أن تكون صدقة منك أو إحسانا .. وأنا لا أقبل هذه ولا تلك !..
ــ على رسلك أيتها العجوز .. إننى لا أسخر منك ولا أتصدق عليك .. سأبين لك حقيقة المسأله .. حتى تتأكدين من صدق قولى .. لقد اشتريت منذ أيام ثوبين بمائتى درهم .. بعت أحدهما بالثمن كله إلا أربعة دراهم .. هى ما أطلبها منك ثمنا لهذا الثوب .. تلك هى المسأله .. أفهمت أيتها العجوز الطيبه ؟!..
ردت بامتنان وهى تبتسم حياء .......
ــ معذرة يا أبا حنيفه .. لا تؤاخذنى أيها الشيخ .. بارك الله لك فى علمك وفى مالك وفى تجارتك !..
مضت العجوز لحالها وبيدها ثوب الحرير .. فى الوقت الذى كان فيه أحد الجلاوزه العاملين فى بلاط المنصور .. يسأل عن دكان أبى حنيفه وأحدهم يشير له على مكانه .. تقدم الرجل محييا ثم قال .......
ــ أريد مقابلة الشيخ أبا حنيفة النعمان بن ثابت ؟!..
أردف قائلا بعد أن عرفه الشيخ بنفسه .......
ــ مولاى أمير المؤمنين المنصور يقرئك السلام .. ويطلب منك أن تجيئه اليوم بعد صلاة العشاء .. فى قصره بالهاشميه لأمر هام ...
هز الشيخ رأسه موافقا بعدها إستدار الرجل منصرفا .. فى الوقت الذى كان فيه أحد الشباب واقفا على مقربة منه يرقب هذا الحوار .. إلتفت إلى الشيخ قائلا فى وجل وإشفاق .......
ــ ما الذى يريده منك هذا الرجل يا أبت ؟!..
ــ مثلى مثلك .. لا علم لى يا ولدى .. ألم تكن حاضرا .. وسمعت ما قاله بنفسك ؟!..
ــ بلى سمعت ...
صمت برهة ثم سأله .......
ــوهل ستذهب حقا للقاء المنصور ؟!..
ــ ما الذى يمنعنى من ذلك يا حماد يا ولدى ...
ــ أرى يا أبت ألا تفعل .. هؤلاء القوم لا يأتى من ورائهم خير أبدا ..
ــ يا ولدى طاعة أولى الأمر فرض علينا .. ما دمنا فى طاعة الله .. على أية حال إن طال بقائى عنده .. فاعلم أنه قد أصابنى مكروه !..
أجابه حماد من فوره وقد ظهر عليه الجزع .. وفى عينيه نظرة إشفاق على أبيه .......
ــ ليتك لا تذهب يا أبت .. ليتك .. أنسيت ما فعله معك يزيد بن هبيره منذ عشرين عاما .. عندما طلب منك أن تتولى القضاء !..
ــ أبدا يا ولدى .. لم أنس ما أصابنى من إهانة وأذى آنذاك .. وهل هذه أيام تنسى .. لكنها إرادة الله ومشيئته .. يا ولدى "وما هم بضارين به من أحد إلا باذن الله" ... صدق الله العظيم ...
@ فى المساء بعد أن صلى المنصور صلاة العشاء .. إتخذ مجلسه فى الايوان .. ومن حوله نفر من رجاله .. الربيع وخالد بن برمك وبصحبته ولده يحي الذى بلغ من العمر حوالى خمسة وعشرين عاما .. وأبو أيوب كاتب الديوان وبرفقته مساعده الفتى جعفر .. أخذ المنصور يدور ببصره فيمن حوله .. وللمرة الثانية تقع عيناه على ذلك الشاب جعفر .. عادت ترتسم من جديد علامات القلق والحيرة على وجهه مرة أخرى .. بدا وكأنه يقاوم فكرة كانت تلح عليه دائما كلما رأى هذا الشاب .. ألقى بأفكاره وهواجسه جانبا .. وعادت من جديد علامات الجد التى تظهر عليه عندما يبدأ مجلسه وقال .......
ــ أبا أيوب .. إقرأ علينا ما ورد فى بريد اليوم من كتب الثغور والأطراف ...
ــ أمر أمير المؤمنين .. وردت رسالتان .. الأولى عن أحوال حضرموت ..أرسل بها أحد عيوننا هناك .. والثانية وردت من عاملنا فى أرمينيه !..
ــ ماذا عن الرسالة الأولى ؟!..
ــ جاء فيها أن أمير حضرموت يكثر من الخروج فى طلب الصيد ببزاة وكلاب أعدها لذلك .. وأنه يهمل فى شؤون البلاد !..
ــ ياله من غبى أحمق .. أرسل إليه هذه الرسالةالتى أمليها عليك .......
ــ ثكلتك أمك وعدمتك عشيرتك.. إنا لما وليناك إنما استكفيناك أمور المسلمين ولم نستكفك أمور الصيد .. عندما تصلك رسالتى سلم الأمور لمن يأتيك .. أما أنت فالحق بأهلك فى البادية كما كنت مذموما مدحورا !..
إنتهى من كلامه ثم أمر الربيع أن يسلم هذه الرسالة لعبد الوهاب التيمى الأمير الجديد على حضرموت .. ثم قال .......
ــ هات الرسالة الثانيه !..
ــ الرسالة الثانيه .. جائتنا من عاملنا على أرمينيه .. يشكو فيها من أن الجند قد شغبوا عليه ونهبوا بيت المال عنده .. يقول إنه لا يقدر عليهم وقد عدم الحيلة معهم !..
ــ أكتب إليه .......
ــ إن عقلت لم يشغبوا ولو قويت لم ينهبوا .. هكذا يكون الوالى عقل وقوه .. وأعلمه أنه هو الآخر معزول عن الولاية منذ اليوم ...
صمت قليلا ثم قال .......
ــ خالد بن برمك جاء دورك ...
ــ طوع أمرك يا مولاى ...
ــ أخبرنا عن حالة الأسواق فى بغداد .. وعن أسعار السلع ؟!..
ــ والله يا أمير المؤمنين .. لم تشهد البلاد بشكل عام وأسواق بغداد بصورة خاصة .. أسعارا أقل من أسعار هذه الأيام ...
ــ كيف ؟!..
ــ يباع الكبش مثلا فى سوق بغداد بدرهم .. والحمل يباع بأربعة دوانق .. وكل ستين رطلا من التمر بدرهم .. أما العسل والزيت ......
قاطعه المنصور .......
ــ حسن حسن .. لا أريد أى زيادة فى الأسعار .. كما تعلمون .. أحب أن تروج التجارة فى بغداد .. وأن يكثر عمارها ...
ثم التفت عن يمينه إلى خالد بن برمك قائلا له .......
ــ بهذه المناسبة لى رغبة فى نقل القصر الأبيض وكذلك إيوان كسرى من المدائن إلى بغداد .. ما رأيك يا برمكى ؟!..
تنحنح خالد بن برمك قبل أن تنطق شفتاه.. كأنما يبحث عن إجابة مناسبة .. ثم قال أخيرا فى تؤدة وأناه .......
ــ معذرة يا أمير المؤمنين .. أرى أنه من الخير ألا تفعل ...
ــ لم أيها الرجل !.. ما الذى يمنعنى أو يحول بينى وبين ذلك ؟!..
ــ عفوا يا أمير المؤمنين .. لا شئ يحول بينك وبين ما تريد .. غير أن هذا القصر وما حوله يعد علما خالدا من أعلام الاسلام .. وفيه مصلى إبن عمك على بن أبى طالب .. ليتك تبقى عليه مكانه ...
رد المنصور مازحا وهو يضحك ملئ شدقيه .......
ــ تأبى يا خالد إلا أن تميل لأهلك العجم .. على كل حال .. سنرجئ أمر هذا القصر إلى أن تنتهى مشاكلنا مع الأكراد .. ولهذا قررت أن أوليك أمر الموصل .. فالأكراد قد انتشروا فيها وزاد تشغيبهم .. ولن يصلح أمرهم غيرك .. أما ولدك يحي .. هذا ...
نظر المنصور إليه بإعزاز وحب .. قبل أن يكمل قائلا .......
ــ فإنى قد جعلته أميرا على أذربيجان .. وإنى لعلى ثقة أنه أهل لها .. إن الناس ولدوا أبناء .. إلا ولدك يحي البرمكى .. قد ولد أبا .. إنه فتى لا مثل له .. سيكون له شأن كبير يوما بإذن الله !..
فى تلك اللحظة تقدم أحد الجلاوزه قائلا .......
ــ مولاى أمير المؤمنين .. الشيخ أبو حنيفة النعمان يتوجه قادما ناحية القصر راكبا بغلته !..
ــ لا تدعوه ينتظر .. أدخلوه فى الحال .. عندما يصل إلى الباب ...
سأل الربيع بصوت خفيض متحفظا وقد مال برأسه قليلا ناحية المنصور .......
ــ مولاى .. هل أرسلت فى طلبه .. أم أنه جاءك من تلقاء نفسه ؟!..
رد المنصور ساخرا .......
ــ من تلقاء نفسه !.. منذ متى وأبو حنيفة يأتى إلى هنا برغبته ؟!..
أجابه الربيع معقبا فى خبث ودهاء .......
ــ نعم نعم صدقت يا أمير المؤمنين .. لكنه يا مولاى فيما سمعت وعلمت من رجالى .. يردد بعض الآراء الشاذه التى تخالف صحيح السنة ورأى الجمهور !..
ــ ما هذا الذى تقوله يا أبا الفضل ؟!..
وقبل أن يجيبه دخل الحارس ومن ورائه أبو حنيفه .. رحب به المنصور فى حفاوة بالغة وأقبل عليه قائلا .. وهو يبتسم ابتسامة ماكره.......
ــ كان الربيع بن يونس كبير حجابنا .. يؤكد لنا منذ قليل أن لك بعض الآراء التى تخالف فيها السنة وقول الجمهور .. ما قولك ؟!..
ــ ألهذا أرسلت فى طلبى يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ لا .. لا .. كان هذا حديثا عابرا قبل أن تلج الباب .. لكنى أرسلت إليك لأعرض عليك أمرا مهما آخر ...
لم يكن الربيع يتوقع وقد بدا عابسا مقطب الجبين .. أن يضعه المنصور فى مواجهة مع أبى حنيفه .. فاستأذن قائلا وهو يحاول أن يدارى حرجه الشديد .......
ــمولاى أمير المؤمنين .. سمعت أن الشيخ يخالف جدكم عبد الله بن عباس .. فى الإستثناء المنفصل فى الأيمان !..
رد المنصور قائلا .......
ــ أعرف إن جدنا يقول .. إذا حلف المرء ثم استثنى بعد يوم أو أكثر جاز له ذلك .. فهل لأبى حنيفة رأى آخر فى هذه المسأله ؟!..
رد الربيع من فوره .......
ــ أجل يا مولاى ..إنه يقول إن الإستثناء لا يجوز إلا متصلا باليمين فى نفس الوقت .. وأنه لا يصح بحال إذا صدر القول باتا فى المجلس ...
أجاب أبو حنيفه بنبرات هادئة واثقه وهو يشير برأسه تجاه الربيع .......
ــ يا أمير المؤمنين .. الربيع بن يونس .. يزعم أنه ليس لك فى رقاب جندك بيعه !..
إنتفض الربيع صارخا .......
ــ كذب .. أنا ما قلت ذلك أبدا .. إن هذا محض افتراء .. هذا الرجل لم يرد إلا الوقيعة بى يا مولاى .. دون سند من عنده أو دليل !..
ــ لا تعجل على .. أنا لم أكذب .. ولم أدع عليك بالباطل .. بل أنت الذى قلت به.. الآن .. يا كبير الحجاب .. ويشهد على قولك أمير المؤمنين ...
ثم التفت إلى المنصور قائلا .......
ــ إن قوله هذا عن الأيمان .. معناه أن القوم يحلفون أمامك مبايعين .. فإذا ذهبوا إلى منازلهم يستثنون .. فتبطل أيمانهم ويتحللون من بيعتهم .. أليس كذلك يا أبا الفضل .. ألا يعنى كلامك هذا ؟!..
ضحك المنصور بصوت عال .. وهو ينظر إلى الربيع قائلا .. وقد فهم مراد أبى حنيفه .......
ــ أنصحك يا أبا الفضل ألا تتعرض لأبى حنيفة مرة أخرى .. إنك لن تغلبه أبدا .. المهم .. نعود لما أرسلنا إليك من أجله .. تعلم يا أبا حنيفه أن شرذمة من جماعة الراوندية المارقة التى قضينا عليها قبل سنوات قد بقيت بالكوفه .. ولما كنت أخشى على الجند منهم ومن تشغيبهم .. لذلك فإنى أمرت ببناء مدينة بغداد لتكون مقرا للخلافه .. واخترت لها بنفسى مكانا بديعا معتدل الحراره يتوسط نهرى دجلة والفرات .. ولا يصل أحد إليها إلا على جسر .. حتى غدت عروس المدائن وسيدة البقاع ودار السلام .. وأود أن أجعل منها منارة وكعبة للعلوم والفنون والآداب .. وسوقا رائجة للتجاره .. لهذا أرسلت إليك يا أبا حنيفه ...
ــ لم أفهم بعد يا أمير المؤمنين .. ما شأنى بهذا كله ؟!..
ــ ستعلم الآن كل شئ .. لقد قررت أن أجعل على أعمال هذه المدينه أخلص الرجال عندى وأتقاهم .. لهذا فإنى أعرض عليك منصب قاضى القضاه ...
ــ قاضى القضاه ؟!..
ــ أجل .. حتى تراقب الأحكام .. ومن ناحية تنشئ مدرسة يتخرج منها القضاة الصالحون إلى جميع الولايات والأمصار .. ما قولك أيها الشيخ ؟!..
أخذ يمسح لحيته بأنامله منتظرا رد أبى حنيفة .. الذى قال متأدبا .....
ــ أرجوا إعفائى من هذا الشرف يا أمير المؤمنين ...
ــ ما السبب ؟!..
ــ إن صحتى لم تعد تقوى على مثل هذه المهام .. كما أن لديك من الرجال من هم أصلب منى عودا وأقدر على حمل هذه الأمانه .. ولا يخفى عليك يا مولاى أنى قد ضربت بالسياط لرفضى ذلك من قبل .. فى عهد الخليفة الأموى مروان بن محمد !..
قاطعه المنصور قائلا وهو يصطنع الرقة والنعومه .......
ــ أعلم ذلك تماما .. لكنه زمن مضى وولى .. وأنا أريدك أن تكون عونا وسندا لنا .. أريد أن ينتشر العدل فى البلاد .. ولن أجد خيرا منك لحمل هذه الأمانة والقيام بأعبائها .. وكما تعلم يا أبا حنيفه أننا افتقدنا منذ أيام قاضى البلاد .. محمد بن أبى ليلى رحمه الله ...
ــ أكرر اعتذارى يا أمير المؤمنين .. فالصحة قد ضعفت ولم يعد فى العمر بقية تعيننى .. ولا أستطيع تحمل أعباء القضاء وتبعاته .. إننى أشعر بدنو الأجل وقرب الرحيل ...
رد المنصور فى ضيق وحنق .. وقد بدأ يفقد بعضا من حلمه وسماحته التى كان يتظاهر بها .......
ــ مع ذلك لن أولى أحدا غيرك !..
ــ وأنا لا زلت على رأيى!..
ــ إنه أمر إذن لا خيار لك فيه .. أتعصى أمر أمير المؤمنين ؟!.. سبق أن أوضحت لك .. إنى محتاج إليك ...
ــ وأنا أرفض هذا الأمر .. كما أنى لا أحتاج إليك ...
ــ والله الذى لا إله غيره لتفعلن ...
ــ والله الذى لا إله غيره لن أفعل ...
رد الربيع مستنكرا قوله .. وقد وجدها فرصة سانحة للوقيعة والتشفى .......
ــ ألم تسمع أمير المؤمنين وهو يحلف .. كيف طوعت لك نفسك الحلف بعده يا هذا ؟!..
ــ أمير المؤمنين أقدر على الكفارة منى .. ولا شأن لك بما يدور بينى وبين أمير المؤمنين !..
رأى المنصور إصراره فقال فى نفسه .......
:: كم أنت عنيد أيها الرجل آخذك بالرفق واللين ربما تقبل .. أخذ يلين القول له مرة ثانية .......
ــ يا أبا حنيفه .. لم ترغب عما نحن فيه .. ليتك تصارحنى بما عندك .. إفتح قلبك لى يا رجل ؟!..
ــ أصلح الله أمير المؤمنين .. أنا فى الحقيقة لا أصلح للقضاء ...
لم يتمالك نفسه .. فانفجر بركان الغضب للمرة الثانية .. بعد أن سكت عنه الغضب وقال مستنكرا .......
ــ لا تصلح للقضاء !.. ومن يصلح إذن ؟!.. أى كلام هذا الذى تقوله يا رجل .. إما أنك لا تعى ما تقول .. وإما أنك تكذب على !..
ــ قد حكمت على أخيرا يا أمير المؤمنين أنى لا أصلح للقضاء .. فإن كنت كاذبا كما قلت فأنا لا أصلح .. إذ كيف أقضى بين الناس .. وإلا فقد أصدقتك القول !..
ــ إسمع أيها الشيخ .. إياك أن تظن أنك بهذا أوقعتنى فى حيلة من حيلك .. والله لن أدعك اليوم تخرج من هنا حتى تمتثل لأمرى .. ولو اضطررت إلى حبسك أو ضربك بالسياط .. كما فعلها معك ابن هبيرة من قبل !..
ــ إتق الله يا أمير المؤمنين .. ولا تودع أمانتك إلا من يخاف الله .. ووالله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب ؟!.. سأقولها لك صريحة ما دمت تريد ذلك .. إنى لا أستطيع أن أكون قاضيا .. ومن حولك حاشية ترغب فيمن يكرمها من أجلك .. وأنا لا أصلح لذلك ولا أرضاه .. ثم أخيرا كيف تولى قاضيا كذابا .. كما حكمت الآن بنفسك ؟!..
أخذ المنصور يحدجه بنظرات نارية غاضبة بعد أن يئس منه .. ثم صرخ فيمــن حوله قائلا .......
ــ خذوه ودوروا به فى الأسواق عساه يرجع عن رأيه هذا .. وإلا فدونه السجن والضرب بالسياط إن اقتضى الأمر ...
إلتف الحراس حول أبى حنيفه .. واقتادوه خارج الايوان وهو يردد فى صوت خفيض .......
ــ حسبى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
وبعد أن بلغ الباب مال الربيع على المنصور .. وأخذ يهدئ من روعه قائلا له .......
ــألم أقل لك يا مولاى .. إنه متمرد عاص .. أنا أدرى الناس بدخيلة قلبه .. إن السبب الحقيقى وراء رفضه القضاء .. والذى لم يقله لك يا مولاى .. هو حبه وولاؤه للبيت العلوى !..
أبى المنصور أن يعقب .. واكتفى بهز رأسه موافقا ...
@ بعد أيام لم يكن للناس حديث فى الكوفة كلها .. إلا عن أبى حنيفه وما جرى له .. وفى بغداد كانت قصته حديث الناس ومدار حواراتهم لأيام وبالذات فى الأسواق .. كان أمرا مألوفا أن تسمع هذا الحوار الهامس يدور بين الناس فى أسواق بغداد .......
ــ أعلمت بما جرى للشيخ الفقيه النعمان بن ثابت تاجر الحرير بالكوفه ؟!..
ــ ما الذى جرى له ؟!..
ــ يقولون إن المنصور استدعاه ثلاث مرات .. وعرض عليه أن يتولى قضاء بغداد .. أخذ يرجوه ويلح عليه فى كل مرة .. إلا أنه أبى وامتنع فى إصرار ...
ــ إنها ليست أول مرة يرفض فيها تولى القضاء .. هيه وماذا بعد ؟!..
ــ توعده أمير المؤمنين وأمر بإلقائه فى السجن .. وقيل أن الحراس أخذوا يطوفون به أسواق الكوفة .. لعل أحدا يثنيه عن رأيه .. وأخيرا ساقوه إلى السجن وضربوه مائة سوط ...
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله .. يضربون شيخا فى الثمانين من عمره وفقيها مثله يحمل علوم السلف الصالح .. ألم ينبه أحدا أمير المؤمنين لفداحة هذا الفعل ؟!..
ــ يقولون أن عم المنصور ذهب إليه غاضبا .. وصاح فى وجهه قائلا .......
ــ كيف طوعت لك نفسك ضرب شيخ جليل مثله .. وهو فى هذه السن .. لقد سللت على نفسك بكل سوط ألف سيف ...
ــ وما الذى فعله المنصور يا ترى ؟!..
ــ شعر بفداحة فعله وعظم ذنبه .. فأراد أن يعوض الشيخ بمائة ألف درهم إلا أنه ردها إليه .. ولما قالوا له خذها وتصدق بها .. قال لهم .......
ــ لا أدرى إن كانت حلالا فآخذها ………………

يتبع إن شاء الله ........................

رايا
10/11/2008, 19h34
يقول الامام الشافعى

(ارفع الناس قدرا من لايرى قدره واكثرهم
فضلا من لايرى فضله)

لم اجد الا هذة المقولة لكى تعبر لك
د انس عن شكرنا لمجهودك فى سرد سيرةهذا العالم
والشاعر والفقيه الذى نكن له والمصريين بالذات
حب وتقدير كبير
وانت ترددت فى كتابة هذة السيرة
لانك لاترى قدرك كما تقول المقولة

وليدابراهيم
11/11/2008, 08h43
بسم الله الرحمن الرحيم
سيدى الاستاذا الدكتور انس البن لااخفى عليكى تشوقى الشديد لتكريس وقتى فى الكتابة عن انبهارى بانسيابية طرحك لسيرة هذا الامام العظيم الحسيب النسيب لاهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد قرئت عنه وله الكثير ولم اقراء مايساوى جمال الطرح والعرض الذى قمتم به يا سيدى الفاضل لذا من جمال ماتكتب لااريد ان اشق تواصل كتاباتك الكريمة بتعليقى عليها فما تكتبه اهم وادوم غير انى لم اتمالك حالى فانالست عاجز عن كلمات شكر ولكن عجزى عن وصف مابداخلى تجاه ماتكتب سقاك الله من كف المصطفى يوم القيامة :emrose:ابنك الصغير وليد

د أنس البن
11/11/2008, 10h36
الأصدقاء الأعزاء
رايا
وليد إبراهيم
كلماتكم فى حقى
وإن كانت أكثر بكثير مما أستحق

لكنى أضعها وساما على صدرى
وأدخرها ليوم يعلم الله كم ستكون

حاجتى لكل حرف منها
وأترككما وبقية الأحباب

مع بداية الجزء السادس
....................

د أنس البن
11/11/2008, 10h36
(6)



العودة إلى أرض مكه



@ أربعون يوما مضت والقافلة لا تزال ماضية فى رحلتها .. إلى أن ظهرت أخيرا جبال مكة الشامخة بألوانها السوداء والبيضاء والحمراء .. وهى تنحدر بشدة ناحية الساحل ...
إستأنف عبيد الله الأزدى قائلا .......
ــ لم تمض غير شهور قليله على أبى حنيفه بعد هذه الواقعه .. إلا وتملكه الضعف واشتد عليه المرض وغدا طريح الفراش .. غير قادر على الحركه .. ظل على تلك الحال إلى أن لقى ربه راضيا مرضيا .. كان ذلك فى آخر ليلة من شهر رجب .. من العام قبل الماضى يا ابنتى ...
شرع ببصره إلى السماء وأردف فى نبرات تنبض بالأسى والمراره .......
ــ كان يوما مشهودا من أيام بغداد .. كنت هناك .. أقوم بشراء بعض البضائع لدكان العطارة .. وشهدت جنازته .. كان الناس يتدافعون ويأتون من كل حدب وصوب .. للصلاة على جثمانه الطاهر .. بلغ من شدة زحامهم وإصرارهم جميعا على الصلاة عليه .. أن صلوا عليه ست مرات .. جماعة بعد أخرى يتقدمهم الخليفة المنصور بنفسه والأسى يغمره .. إيــــه رحمه الله رحمة واسعه ...
كانت أم حبيبه تعطيه سمعها .. غير أنها بدت شاردة الفكر وكأنها تتذكر أمرا .. ثم فاجأت أباها متسائلة فى دهشة واستغراب .......
ــ قلت يا أبت إنه مات .. فى الليلة الأخيرة من شهر رجب .. فى العام قبل الماضى ؟!..
ــ أجل يا ابنتى أجل .. لكن فيم السؤال ؟!..
لم تجبه على سؤاله كأنها لم تسمعه .. وأخذت تحدث نفسها قائلة فى صوت هامس .......
ــ يموت عالم ويولد عالم .. تماما .. كما قال إدريس .. عندما عبر لى الرؤيــا !..
ــ لم تجيبى على سؤالى يا ابنتى .. وأسمعك تقولين كلاما .. لا أفهم منه شيئا ...
ــ آه يا أبى .. آه .. الآن .. أجل الآن .. سأقص عليك كل شئ ...
أخذت تقص عليه رؤياها التى رأتها قبل عامين .. وكيف عبرها زوجها الراحل .. ظلوا يتداولون فى أمرها .. إلى أن دخلت القافلة أرض مكه .. توجه الأب وابنته من فورهما إلى دارهم بشعب الخيف .. كان الأهل جميعا فى انتظارهم .. والتقى الأحباب بالعناق والدموع .. وانتظم الشمل مرة ثانيه ...
...............



@ حول من الزمان مضى على الأم وولدها .. كأنه يوما أو بعض يوم .. منذ وصولهما من ديار غزة إلى دار العائلة بشعب الخيف فى بطن مكه .. عاشت بين أهلها .. تبذل قصارى جهدها وتهب عصارة أيام عمرها .. لوحيدها وثمرة أحشائها .. وهى ترى فى ملامحه صورة زوجها الراحل .. وتنتشق منه عبير ذكرياتها معه .. لقد أخذ الإبن كثيرا من سمات أبيه الوادعة الحانية .. ومن ملامحه أمارات الطيبة الصافية الرائقه .. مرات كثيرة كان يحلو لها أن تنفرد بنفسها .. ترخى لجواد خيالها العنان .. فاتحة خزانة ذكريات الزمن الماضى القريب وأياما خواليا.. مستحضرة فى مخيلتها صورة زوجها إدريس .. تتذكر وتسترجع أيامها ولياليها التى عاشتها معه .. تظهر صورته الوادعة فى بؤرة حدقة عين خيالها .. فتندفع بعض الزفرات الحرى من صدرها .. وتنهمر بعض العبرات رغما عنها .. تمسحها براحة يدها فى صمت .. قبل أن تعود سيرتها الأولى وهى ترهف أسماعها لرجع صدى أحاديثه فيما مضى من سنوات .. وترى طيف خياله كأنه حاضر معها بشحمه ولحمه ...
تذكرت لحظة أن وقعت عينيها عليه أول مرة رأته فيها .. حدث ذلك عندما جاء إلى دار أبيها الأزدى .. برفقة والده العباس طالبا الزواج منها .. سمحت لنفسها فى ذلك اليوم .. أن تتسلل فى خفة لتختلس نظرة سريعة إليه من وراء ستار .. لم تكن لها سابقة معرفة به من قبل .. منذ اللحظة الأولى التى وقعت عيناها عليه .. ملك عليها فؤادها .. ووجد طريقه ممهدا إلى شغاف قلبها .. بهرتها واستولت على مشاعرها .. شعاعات الطيبة والوداعة التى كانت تنبعث من شمس ذاته الدافئة وروحه الصافية البريئه .. شعرت لحظتها أن صاحب هذا الجسد النحيل الضامر .. وهذا الوجه العربى الأصيل الذى زاده الإسمرار حسنا وبهاء .. ينطوى باطنه مع تواضع ظاهره على جوهرة نفيسة ودرة يتيمة غاليه .. وإنسانا يحمل فى داخله أصالة أجداده العظام .. وشرفهم الرفيع ومنزلتهم السامقه ...
لم تر منه طوال حياتها معه .. إلا صورة وحقيقة الإنسان الطيب السمح .. الذى لا يثور ولا يغضب إلا لماما .. عرفت معه معنى الرضى بروح النعم التى أنعم الله بها عليهما .. وليس مقدارها أو قيمتها إذا قيست فى عالم المادة الفانى .. ومع تتابع المرائى والذكريات على مخيلتها .. لم تستطع مقاومة ابتسامة طفت رغما عنها .. فوق ساحل بحر الذكريات والأحزان وهى تتذكر المرة الوحيدة التى رأته غاضبا عليها .. واحتد فيها وعنفها قبل أن يفئ سريعا إلى وداعته وسماحته .. حدث ذلك أثناء إقامتهما فى غزه .. عندما كانت فى شهر حملها الأخير .. إعتادت ألا تجعله يراها تمارس الأعمال الشاقة .. حتى لا تثير غضبه .. دخل عليها ذات مره على حين غفلة منها .. فوجدها تكابد الرحى وهى تطحن عليها حفنة من الشعير لإعداد الخبز .. متناسية أنه نبه عليها مرارا ألا تجلس إلى الرحى أبدا .. أو تكابد أى مشقة حرصا على صحتها وضعفها .. وعلى الجنين الذى تحمله فى أحشائها .. كانت تلك هى المرة الوحيدة التى ثار فيها غاضبا .. ولم يسكت عنه الغضب إلا بعد أن وعدته .. مؤكدة أنها لن تعد مرة ثانيه ...
تذكرت أيام عمرها التى عاشتها معه فى ربوع غزة .. مع أهلها وبين جيرانهم الطيبين .. تضمهما معا تلك الدار الصغيرة التى كانت رغم ضيقها .. رحبة واسعة من فيض المودة والرحمة التى ملأت كل شبر فيها .. تماما .. كما أخبر فتية الكهف عن كهفهم الضيق المعتم .. أن ربهم سينشر لهم فيه من رحمته .. ويهيئ لهم من أمرهم مرفقا .. كم كانت تحبه وتتمنى أن يبقى معها حتى آخر العمر .. يشاركها رحلة الحياة بحلوها ومرها .. ويرى بعيني رأسهتحقيق رؤياها التى عبرها لها وبشرها فيها بأعظم بشرى .. ويشاهد أمنيته الغالية وهى تتحقق يوما .. تغدو حقيقة مشرقة أمام عينيه تدب على أرض الحقيقة والواقع .. بعد أن كانت صورة شاحبة فى عالم الخيال ...
ولدها محمد .. أين هو !.. أخذت تتلفت حولها باحثة عنه .. ها هو ذا يحاول أن يخطو على قدميه الصغيريتين .. مرتكنا على حائط الدار وهو يتعثر خطواته الأولى .. يقع على أرض الدار فتندفع إليه واجفة .. تضمه فى حنان إلى صدرها .. تملأ عينيها الدامعتين منه بعد أن تطبع قبلة على جبينه .. ثم تعود إلى متابعة شريط ذكرياتها مرة أخرى ..
لن تنسى أبدا تلك المرات الكثيرة التى كان فيها إدريس .. يتسلل حثيثا من فراشه فى جوف الليل مجتهدا ألا تراه أو تشعر به .. ثم يقوم إلى الردهة الخارجية فى الدار .. يظل جالسا وحده طرفا من الليل .. على ضوء مصباح خافت وأمامه كومة كبيرة من الليف وقطع التيل .. يجدلها فى مهارة مستخدما أصابع كلتا يديه ورجليه .. ليصنع بضعة أذرع من الحبال والخيوط والأربطه .. ولا يكف يداه عنها إلا عند سماعه صوت المؤذن وهو يشق سكون الليل مناديا ....... حى على الصلاه حى على الفلاح .. الصلاة خير من النوم .. وفى اليوم التالى يتوجه بما صنعت يداه إلى السوق سعيا على رزقه .. قبل أن يذهب إلى مكان عمله ليبيعها للتجار والصيادين بثمن بخس دراهم معدودة .. حتى يتمكن من توفير القوت الضرورى لهما .. وعلى هذا المنوال استمرت حياته .. لم يكن يطعم فى ليله من النوم إلا أقله .. وكذلك فى النهار لا يجلس خاملا دون عمل أبدا ...
كانت تشعر به فى كل مرة يفعل ذلك .. رغم حرصه دائما على ألا يزعجها أثناء قيامه من فراشه .. أو فى رجوعه إليه مرة أخرى .. متظاهرة والألم يعتصرها أنها مستغرقة فى النوم .. لما تعلمه من ضعف صحته وشحوب وجهه .. حتى لا تزيد من آلامه وأشجانه ومواجيده .. فى يوم رأته وهو يعمل فى النهار بكلتا يديه وقدميه .. تماما كفعل الليل .. وقد بان عليه الإرهاق والتعب .. وغارت عيناه وازداد وجهه شحوبا وذبولا .. أخذت تعاتبه وهى مشفقة عليه وعلى جسده النحيل الذى لا يحتمل كل هذا العناء .. واشتد عتبها عليه ولومها له طالبة منه أن يرفق بنفسه .. إلا أنه رد عليها قائلا والبسمة الحانية لم تغادر شفتيه مواصلا عمله .......
ــ صدقينى يا أزديه .. لذتى وراحتى ونعيمى .. فى هذا الذى تعتقدين أنه تعب وكدح ومشقه .. أما عذابى الحقيقى وشقائى وتعاستى .. فى الفراغ والراحة والخمول ...
ذكريات كثيرة تستهلك أحداثها من عمر الزمان .. ليالى وأيام طويلة طويله .. إلا أنها ترد على باحة الخيال كلمعة بارق خاطف فى جنح الليل البهيم ...

@ فى تلك السنة ذاتها انتقل الخليفة المنصور إلى مقره الجديد .. فى قصر آخر شيده فى مدينة بغداد سماه قصر الذهب .. إعتنى بمبانيه وملحقاته اعتناء كبيرا .. حتى أنه كان يعد فى زمانه تحفة فنية رائعة من تحف فنون العمارة وزخارفها ورونقها .. كان المنصور حريصا وهو يضع تصميمات مبانيه بنفسه .. أن يأمر ببناء مسجد خاص فى واجهته الأماميه .. وفى الناحية القبلية خلف أسواره أقام بيتا كبيرا لصاحب الشرطه وآخر لصاحب الحرس .. وإلى جوارهما دور صغيرة لإقامة الحراس والخدم .. كى يكونوا على مقربة منه عند الحاجة لهم ...
وفى الناحية الشرقية من القصر .. شيد المنصور قصور الأمراء وكبار رجال الدوله وكذلك دواوين الحكم .. وجعل من حولها خندقا عميقا مليئا بالماء يحيط بها من كل ناحية .. حتى يكون آمنا من أى هجوم مفاجئ يقوم به أعداؤه المتربصون له .. وزيادة فى الحرص والأمان بنى من فوق الخندق .. مائة وثلاثا وستون برجا فى كل برج حراسه المناوبون للمراقبة عن بعد ...
وذات يوم شوهد المنصور واقفا فى شرفة هذا القصر .. عاقدا يديه خلف ظهره .. بدا مهموما يكسو وجهه شلال جارف من حزن عميق .. يختفى من تحته بركان غضب عارم ..
أخذ يروح جيئة وذهابا .. بينما عيناه تتطلعان فى ضيق ولهفة والشرر يتطاير منهما إلى ساحة القصر الفسيحة التى تنتهى إلى البوابة الرئيسية للقصر .. منتظرا على أحر من الجمر وصول حاجبه الأول ووزيره الربيع بن يونس .. صاحب الرأى والمشوره وكاتم أسراره ...
كان قد أرسل إليه مع أحد الجلاوزة رسالة عاجلة يطلب إليه الحضور فى الحال .. وأخيرا رآه قادما من بعيد يمشى على عجل فى خطوات متقاربة حتى أنه كاد يتعثر فى عباءته .. صاح به فى صوت غاضب وهو لا يزال واقفا فى مكانه من الشرفه .......
ــ ما الذى أخرك عنى يا أبا الفضل .. ألم يخبرك خادمى أنى أريدك فى التو والحين !.. هيا أسرع وتعال إلى هنا يا رجل !..
لم تمض عليه غير ثوان حتى ولج الباب الكبير فى خطوات سريعه .. ارتقى الدرج وثبا وفى لمح البصر كان قد عبر الردهة إلى الشرفه .. وصوته اللاهث يسبق خطواته .. وقد زاد خوفه تحسبا لما سيقوله له أمير المؤمنين .. فلا علم له حتى هذه اللحظة لسبب استدعائه العاجل .......
ــ خيرا يا أمير المؤمنين .. جئتك من فورى عندما أخبرنى كبير الخدم أنك تريدنى على عجل !..
ــ أى خير .. من أين يا كبير الحجاب !.. ومن حولى كل هذا الغدر وتلك الخسة والخيانه ...
ــ ما هذا الذى تقول يا أمير المؤمنين .. غدر وخسة وخيانه ؟!.. قتل الله عدوك يا مولاى ...
ــ أجل غدر وخسة وخيانه .. إسمع أيها الحاجب ...
ــ أمر مولاى ...
ــ عليك فى التو والحين تنفيذ كل ما آمرك به ...
ــ طوع أمرك ورهن إشارتك يا مولاى ...
ــ إذهب فى الحال إلى ديوان الإنشاء .. خذ معك قائد الشرطة وبعضا من الحراس ...
تملكه خوف شديد وهو يرد متسائلا .......
ــ ديوان الإنشاء !.. لم يا مولاى ؟!..
ــ كى تأتوا بأبى أيوب إلى هنا ...
ــ من ؟. أبو أيوب الموريانى !.. كاتب الديوان ؟!..
ــ ما الذى جرى لك يا كبير الحجاب ؟!.. أجل أبو أيوب كاتب الديوان .. ألم تسمع ؟!..
تساءل الربيع غير مصدق .......
ــ أقبض عليه يا مولاى ؟!..
ــ أجل .. ضعه فى السلاسل والأغلال .. وبعد أن تفرغوا منه .. اقبضوا على أهله وأولاده وألقوهم جميعا فى سجن القتلة والخونه أسفل فناء القصر .. هيا انصرف لتنفيذ ما أمرنا به فى التو والحين ..
إصفر وجه الربيع وسرت فى جسده قشعريرة .. جعلت حروف الكلمات تخرج من فمه واجفة مرتعدة متعثرة .. وقد اصطكت أسنانه وارتعشت ركبتاه حتى أنه كاد يفقد توازنه فرقا وهلعا .......
ــ أبو أيوب .. ولم يا مولاى .. ما الذى فعله هذا الأحمق ؟!..
لم يتمالك نفسه فصرخ فى وجهه قائلا .......
ــ ما خطبك اليوم أيها الحاجب !.. ماذا دهاك ؟!.. أهذا وقت السؤال يا رجل .. قم لما أمرناك به .. وإياك أن تنتظر لحظة واحده ...
لم يجد أمامه إلا أن يغلق فمه .. وقبل أن يستدير خارجا أشار إليه المنصور قائلا فى حدة وحزم .......
ــ إسمع أيها الحاجب الأكبر .. إياك أن تسمح لأحد منهم بالماء أو الطعام قبل أن يقر هذا الخائن بالأماكن التى يخبئ فيها أمواله وثرواته .. بعدها أقتله شر قتله .. إجعل كل طرف من أطرافه فى أحد الخيول الجامحه ثم أطلقها كى تمزقه إربا .. أما أهله وأولاده فاقطعوا أيديهم وأرجلهم قبل أن تقطعوا رقابهم .. وبعد أن تفرغ منهم .. عد إلى هنا مرة أخرى .. لأعرف ما انتهيت إليه ...
شعر بالدنيا تسود أمام عينيه .. وكادت أن تفر من عينيه دمعة حرى .. وهو يحاول يائسا محاولة أخيرة أن يستعطف المنصور .. لمكانة صاحبه أبى أيوب عنده وصداقته له .. إلا أنه صرخ فى وجهه كالأسد الجريح .......
ــ لا شأن لك أنت ولا لغيرك فى هذا .. ليس هذا أوان الشفاعة والرجاء بعد أن حل الغضب وقضى الأمر .. أنت لا تعلم شيئا عما فعله هذا الخائن اللعين .. وعن فداحة ما ارتكبه من جرم فى حقى ...
أردف قائلا بصوت متهدج حزين وهو يغالب البكاء .......
ــ لقد .. لقد قتل ولدى جعفر .. هذا النذل الحقير .. قتل ولدى وفلذة كبدى ...
خرج مسرعا يتكفأ فى ثيابه لا يكاد يرى أمامه .. وقد أخذ الخوف منه مأخذا عظيما .. وهو يتمتم فى نفسه .......
ــ قتل ولده ؟. أى ولد ؟. ما هذه الألغاز والأحاجى التى أستمع إليها .. ما الذى يعنيه أمير المؤمنين بكلامه هذا .. ما هى الحكاية يا ترى ؟!.. ومن يكون جعفر هذا .. أنا لا أعلم أن له ولدا بهذا الإسم .. إننى لم أعد قادرا على فهم أى شئ .. لكن لا مناص من تنفيذ أوامره فى الحال .. وإلا قطع رقبتى أنا الآخر !..

على الفور أخذ وجهته إلى أبى أيوب فى ديوانه .. برفقته قائد الشرطة وعددا من الحراس المسلحين .. لم يكد يراه وسط هذا الجمع حتى اصفر وجهه .. وكاد يسقط مغشيا عليه .. علم أن أمره قد انكشف فأسلم نفسه طواعية إلى الحراس الذين قاموا بالقبض عليه فى غلظة ومهانة .. لا يليقان بمثله من كبار رجال الدولة .. لم يجرؤ الربيع أن يتبادل معه كلمة واحدة .. رغم آصرة الصداقة التى كانت تربطهما .. كان خائفا أن يشى به أحد إلى أمير المؤمنين أو يضعف أمامه ...
إقتاده بعد ذلك إلى ساحة السجن وألقاه هناك فى زنزانة وحده .. أما باقى أهله وأولاده فأودعهم زنازين أخرى .. فعل كل هذا وهو لا يزال فى حيرة من أمره .. وأخيرا يمم شطر داره وقد خارت قواه تماما .. وأخذ منه التعب كل مأخذ .. حتى لم تعد قدماه تقوى على حمله ...
رأته زوجته أم الفضل داخلا عليها وقد تبدلت سحنته وتجهمت أساريره .. نظرت إليه نظرة فاحصة وهى تعقد ما بين حاجبيها فى دهشة .. لاحظت خلالها تغير أحواله وأدركت أن وراءه أمرا خطيرا .. سألته فى إشفاق ولهفة .......
ــ إيه يا أبا الفضل .. ماذا دهاك ؟!.. إنك تبدو متعبا .. الإرهاق ظاهر على قسمات وجهك ...
رد فى نبرة يائسة .......
ــ أجل أجل يا أم الفضل ...
ــ ليس هذا فحسب .. بل وتبدو مهموما أيضا .. ما الأمر يا ترى ؟!..
أشار إليها براحة يده أن تكف عنه لسانها وهو يرد قائلا .......
ــ دعينى ألتقط أنفاسى أولا .. و .. ليتك تأتينى الآن بأى شراب بارد ...
خرجت فى الحال تلبى أمره .. بينما ألقى جسده المنهك على الفراش .. يقلب فى رأسه ما مر به فى يومه هذا من أمور غريبة لا يجد لها تفسيرا .. أسرعت إليه بكوب الشراب .. بعد أن تناوله منها ازدرده فى جوفه على عجل .. ثم أخذ يحدثها بما كان من أمره مع الخليفة المنصور وصديقه كاتب الديوان الأكبر .. وما مر به من أحداث كلها أحاجى فى هذا اليوم العصيب .. أخذت تستمع إليه ذاهلة لا تكاد تصدق ما يقول .. بعد أن انتهى من حديثه .. سألها عن ولده الفضل الذى صار له من العمر سبع سنوات فقالت .......
ــ خرج إلى درس القرآن منذ الضحى وعاد منه منذ قليل .. لكنى ألاحظ عليه أمرا ترددت أن أفاتحك فيه .. لكثرة مشاغلك ومسؤلياتك الملقاة على عاتقك ...
سكتت فاستحثها متسائلا .......
ــ أى أمر هذا يا أم الفضل ؟!..
ــ لاحظت أنه لا يجيد الحفظ كما ينبغى لأمثاله .. يبدو أن شيخه الذى يذهب إليه فى مسجد بغداد لا يتقن تعليمه !..
ــ صدقت يا أم الفضل .. لاحظت أنا أيضا ذلك .. إنه حتى اليوم لم يحفظ إلا جزءا واحدا من القرآن .. مع أنه كاد أن يكمل نصف العام مع شيخه هذا .. على أية حال بعد أن أنتهى من مشاغلى هذه .. سأضع حلا قاطعا لهذه المسأله ...
ــ هل قررت أمرا معينا بشأنه ؟!..
ــ أجل .. قد أرسله إلى أمير مكة ليدفع به إلى شيخها الكبير ومقرئها الأول إسماعيل بن قسطنطين .. إنه خير من يعلمه ويحفظه القرآن .. ذرينى الآن يا أم الفضل آخذ قسطا من النوم .. لا يزال أمامى اليوم أشغالا كثيره لم أفرغ منها بعد ...
تركها ودخل غرفته .. ألقى جسده المتعب المكدود على سريره وسحب الغطاء عليه .. لم تمض غير لحظات حتى راح يغط فى نوم عميق .. قام بعده أكثر نشاطا وقد زال عنه بعض التعب .. صلى العشاء وارتدى ملابسه وخرج قاصدا قصر الذهب .. حيث يقع السجن أسفل مبانيه ...
@ عبر البوابة الخارجية لقصر الذهب .. سار بضع خطوات أوصلته إلى باب جانبى يفضى إلى درج أسفل القصر .. أخذ يهبطه على مهل إلى أن وصل إلى بوابة السجن الرئيسية .. يتقدمه أحد الحراس حاملا فى يمناه مشعلا ...
ظل يسير متحسسا خطواته فى فناء طويل .. على جانبيه بعض المشاعل التى ينبعث منها ضوء خافت .. أفضى به الفناء فى نهايته إلى درج ضيق .. أخذ يهبطه متأنيا ومن ورائه حامل المشعل .. حتى وصل إلى طرقة طويلة إنتهت به إلى زنزانة شبه مظلمة .. يقف على بابها اثنان من الحراس الأشداء ...
أشار إلى أحدهم بيده فانحنى فى التو ليفتح له الباب .. ما إن تخطاه وتقدم بضع خطوات .. حتى وقعت عيناه على أبى أيوب جالسا القرفصاء فى أحد أركانها .. واضعا رأسه بين كفيه فى مذلة والسلاسل والأغلال فى يديه وقدميه .. لم يتبين ملامح وجهه فى أول الأمر .. وأخيرا رفع السجين رأسه متوجسا على صوت صرير الباب ووقع الأقدام .. كان وجهه يعتصر حزنا وندما .. نظر أمامه فرأى الربيع واقفا يحدجه بنظرات حادة جامده .. وإن لم تخل من بعض الإشفاق والأسى ...
لم يتمالك مشاعره .. أخذته نوبة من البكاء والعويل .. وهو يخفى رأسه بين راحتيه .. بينما جسده يهتز اهتزازا شديدا .. كأنما مسه طائف من الشيطان .. بعد أن هدأ قليلا سأله الربيع .......
ــ ما الذى فعلته أيها البائس .. إننى لم أر أمير المؤمنين حزينا غاضبا كما رأيته صبيحة هذا اليوم الأسود ؟!..
رد قائلا وقد عاوده البكاء والنحيب .......
ــ إنها مصيبة فادحه ...
قاطعه منزعجا .......
ــ مصيبة فادحه ؟!.. أية مصيبة تلك .. تكلم يا رجل ؟!..
ــ أجل مصيبة كبرى .. لكنى لم أكن أعرف .. وأنى لى أن أعرف ذلك السر .. يالى من أحمق غافل !..
عاود سؤاله وقد زادت حيرته وأخذته الشفقة عليه .......
ــ تكلم أيها المسكين .. أخبرنى يا رجل .. أية فعلة شنعاء تلك التى فعلتها .. إننى حتى هذه اللحظة لا أفهم شيئا .. كل ما سمعته هو قول الخليفة أنك قتلت ولده جعفر .. من يكون جعفر هذا ؟!..
رد قائلا وهو يغالب البكاء .......
ــ إنها حكاية طويله .. سأقصها عليك من بدايتها ...
جلس الربيع على حاشية إلى جواره .. وأخذ ينصت إليه وهو يقول .....
ــ منذ خمسة أعوام .. بعد أن أسست ديوان الإنشاء ببغداد .. أعلنت عن حاجة الديوان إلى مساعدين وكتبه .. يكون لديهم دراية وخبرة بمثل هذه الأمور .. أيامها تقدم كثيرون .. إلا أننى اخترت من بينهم خمسه .. كان فيهم شاب من الموصل .. لاحظت فيه الذكاء وتوسمت لديه النبوغ والتفوق .. سألته عن حاله فعلمت منه أنه نال قسطا وافرا من العلوم .. قربته منى وقدمته على إخوانه .. وأصبحت أعتمد عليه كثيرا فى أعمالى .. إلى أن صار مع الأيام ساعدى الأيمن وكاتم أسرار الديوان .. كان يستحق ذلك فعلا ...
قاطعه الربيع قائلا .......
ــ لعلك تقصد ذلك الشاب الذى أراه برفقتك دائما .. أذكر أن اسمه .....
قال ذلك ثم خبط براحة يده على جبهته قائلا كمن تذكر أمرا .......
ــ آه فهمت إنه هو إذن .. هيــــــه .. أكمل أيها البائس المسكين !..
ــ أجل إنه هو تماما .. وذات يوم .. بينما كنت فى ديوان الإنشاء .. إغتنمت فرصة خلو الديوان من الكتبة والخدم .. لم يكن فيه أحد من العاملين إلا أنا وذلك الشاب .. فقلت له ………………
ــ جعفر .. هل انتهيت من نسخ الرسائل التى تبقت من بريد اليوم ؟!..
ــ لم يتبق منها إلا ثلاث رسائل .. معذرة على تأخرى فى نسخها يا سيدى .. البريد كان مزدحما هذا الصباح على غير العاده ...
ــ أعلم يا ولدى .. وماذا عن بريد الأمس .. هل فرغت منه ؟!..
ــ أجل يا سيدى .. إنتهيت من كتابته ومراجعته .. لم يبق إلا وضع الأختام عليه ...
ــ حسن .. حسن ...
ثم أردفت قائلا وأنا أتحسس كلماتى .. بعد أن مرت لحظات من الصمت .. كنت خلالها أرتب أفكارى .. وأتدبر فى روية ما سأقوله .. كان فتى لماحا ذكيا .......
ــ جعفر .. هناك مسألة . أود أن أنبهك إليها .. أنت تعلم كم أحبك .. أجل كم أحبك كإبن من أبنائى .. وتعلم أيضا أننى قدمتك على إخوانك كلهم .. وقربتك منى لنباهتك وفطنتك .. أجل .. أنت تستحق ذلك .. بل أكثر منه و ……
قاطعنى فى حياء .......
ــ شكرا لك يا سيدى على تلك الثقة الغاليه .. أنا لا أؤدى إلا ما هو واجب على مثلى عمله ...
ــ ليتك لا تقاطعنى قبل أن أنتهى من كلامى .. لقد مضى عليك معنا حوالى خمسة أعوام .. منذ أسسنا ديوان الإنشاء ببغداد .. كانت وقتا كافيا أتاح لك أن تطلع على كثير من الأسرار .. وأن تقف على أمور لا علم لأحد بها .. إلا ......
أردفت قائلا وأنا أضغط على كل حرف .......
ــ إلا .. أنت .. وأنا .. حتى أمير المؤمنين المنصور نفسه .. لا يعلم عنها شيئا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى .. أعلم ذلك تماما .. وأحسب حسابه جيدا .. لكن .. لكن ما مناسبة هذا الحديث الآن ؟!.. هل أخطأت فى شئ .. أو بدر منى أمرا أغضبك ؟!..
ــ إنتظر .. لا تعجل على .. أنا لا أقصد شيئا مما قد يكون قد جال فى خاطرك .. بل أردت أن أذكرك بأهمية هذه الأسرار .. وضرورة كتمانها وحذرتك بالخصوص من ديوان أمير المؤمنين .. أفهمت يا ولدى ؟!..
ــ نعم يا سيدى أعلم هذا جيدا .. لكن عفوا .. إنى حتى الآن لا أدرى ما الذى ترمى إليه .. من وراء هذا ؟!..
ــ إسمع يا جعفر .. سأكون صريحا معك .. لقد لاحظت أمرا حيرنى كثيرا .. ولم أستطع فهمه .. ولا وجدت له تفسيرا عندى !..
ــ أى أمر هذا يا سيدى .. لقد أثرت مخاوفى والله ؟!..
ــ لاحظت أن أمير المؤمنين .. يختلس النظر إليك .. فى المرات التى كنت أصطحبك فيها عنده .. كان آخرها اليوم .. عندما كنت أعرض عليه البريد .. لاحظت أنه كان يرنو ببصره تجاهك كثيرا .. يبدو أنه مهتم بك لشئ لا أعلم كنهه حتى الآن .. هذا الأمر أثار شكوكى وحرك من مخاوفى !..
ــ من أى شئ يا سيدى .. ليتك تزيدنى إيضاحا ؟!..
ــ خشيت أن يكون فى نيته إستدراجك .. ومحاولة الإيقاع بك لمعرفة شئ من أسرار الديوان .. التى إئتمنتك عليها كل هذه السنين .. هذا كل ما فــى الأمر يا فتى !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى .. إنها المرة الأولى التى أعرف فيها أمرا كهذا .. لم يقع فى خاطرى أبدا .. أن يهتم أمير المؤمنين بمثلى أو يشغل نفسه بالنظر إلى .. وما لاحظت ذلك أبدا فى أى يوم من الأيام .. فمن أكون ؟!.. ما أنا إلا واحدا من المستخدمين الكثيرين .. فى ديوان من دواوينه العديده .. لكن على أية حال .. كن مطمئنا يا سيدى من هذا الجانب .. أنا أعرف جيدا كيف أحافظ على أسرار الديوان ...
ــ عظيم .. عظيم .. هذا عهدى بك أيها الفتى الموصلى .. أتركك الآن كى تتمكن من إكمال البريد .. وفى صباح الغد نلتقى بإذن الله ……………

@ سأله الربيع .......
ــ هيه وما الذى حدث بعد ذلك ؟!..
ــ بعد أن تركته وحده .. وبينما أنا فى طريقى إلى الباب الخارجى .. وسكون الليل يعم أرجاء المكان .. إلتقطت أذناى صوت وقع أقدام من الناحية الأخرى لقاعة الكتبة والمساعدين .. كان صاحبها يحاول جاهدا ألا يشعر به أحد .. ساورتنى الشكوك والهواجس .. وتوقفت مكانى برهة أتدبر الأمر .. ثم عدت أدراجى فى خفة .. إلى أن وصلت إلى باب جانبى كان مفتوحا .. نظرت بركن عينى من خلال فرجة فيه .. فرأيت أحد الجلاوزه العاملين بديوان المنصور يدخل خلسة على جعفر .. وهو يتلفت وجلا من حوله مخافة أن يراه أحد .. كان يبدو من حركاته أنه حريص جدا على ذلك ...
قاطعه الربيع فى لهفة .......
ــ هل سمعت ما دار بينهما من حديث ؟!..
ــ أجل .. سمعته يطلب منه فى صوت هامس .. أن يذهب فى الحال للقاء أمير المؤمنين فى قصر الذهب .. وزاد من ريبتى أنى سمعته يؤكد عليه .. أن يكتم خبر هذه المقابلة ولا يخبر بها أحدا ...
ــ هيه أكمل .. ماذا فعلت أنت ؟!..
ــ تواريت مكانى وأنا أحبس أنفاسى .. حتى غادر القاعة ثم تسللت من ممر جانبى .. أعرف أنه ينتهى إلى إيوان المنصور .. ومن ركن خفى فى مكان لا يرانى فيه أحد .. وقفت أرقب ما يجرى هناك فى الإيوان ...
ــ ماذا رأيت ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدنيه منه .. ويتجاذب معه أطراف حديث كله حب ومودة .. كأنه يعرفه منذ زمن بعيد .. بدا ذلك من قسمات وجهه ...
ــ هل تمكنت من سماع شئ ؟!..
ــ حاولت جاهدا أن أسترق السمع .. لعلى أسمع شيئا أو حتى ألتقط كلمة واحدة دون جدوى .. ذهبت محاولاتى كلها أدراج الرياح ...
ــ لعلك كنت تقف بعيدا عنهما ؟!..
ــ أجل كانا بعيدان عن مجال سمعى .. كما أن حديثهما كان يدور همسا .. غير أنى رأيت شيئا أثار حفيظتى !..
ــ ماذا رأيت .. أيها البائس المسكين ؟!..
ــ رأيت أمير المؤمنين وهو يدس فى يده رسالة معها بعض الأشياء .. تبين لى فيما بعد أنها عقد من الزمرد الخالص وكيس متخم بالدنانير ...
ــ هيه .. وماذا بعد ؟..
ــ فى اليوم التالى توجهت إلى ديوان الإنشاء .. كأنى لم أر شيئا بالأمس ...
ــ وهل تلاقيتما .. أنت .. والفتى جعفر ؟!..
ــ نعم دخلت عليه .. فوجدته يجلس وحده شاردا .. حتى أنه لم يشعر بى وأنا أقف أمامه .. قلت لنفسى أتصنع له وأحتال عليه .. ربما يخبرنى من تلقاء نفسه عن تلك المقابلة وما تم فيها بينه وبين الخليفة المنصور .. بادرته على الفور .. كأنى لم أر أو أسمع شيئا بالأمس ………………
ــ كيف حالك أيها الفتى جعفر ؟!..
ــ من ؟!.. سيدى أبا أيوب ؟!..
ــ أجل أبو أيوب أيها الفتى الشارد .. مالى أراك مهموما هكذا .. وفيم كل هذا الشرود .. هل تعانى من أية متاعب فى صحتك ؟!..
ــ لا .. الحمد لله أنا بخير ...
ــ إذن .. شغلتك إحدى بنات حواء ؟!..
ــ أبدا يا سيدى والله .. لا هذه ولا تلك .. إننى بخير حال .. غير أنى لم أنم ليلة أمس إلا سويعات قليلة .. نلتها فى وقت متأخر من الليل ...
ــ ورسائل الأمس .. هل فرغت منها ؟!..
ــ أجل يا سيدى لم أبرح الديوان ليلة أمس .. إلا بعد أن انتهيت من نسخها وطيها وغلقها ...
ــ رائع .. رائع ...
ثم أردفت بغير اكتراث .. وكأنى أسأل سؤالا عابرا .......
ــ هل يا ترى خرجت من الديوان عائدا إلى دارك فى التو ؟!..
ــ ماذا تعنى يا سيدى ؟!..
ــ لا شئ .. لكن !..
ــ لكن ماذا يا سيدى ؟!..
ــ ألم تذهب إلى أى مكان آخر .. أو .. تلتق بأحد مثلا .. وأنت فى طريقك إلى الدار ؟!..
ظهر عليه الإرتباك والحيره .. وهو يرد على سؤالى بصوت مرتعش مستنكرا قولى .......
ــ أحد .. مثل من !.. لا .. لم ألتق بأحد .. ولم أذهب إلى أى مكان ...
ــ لم الغضب يا بنى .. أنا لا أقصد أحدا بعينه .. لكن تذكر جيدا يا جعفر .. فلربما تكون ناسيا .. مثلا ؟!..
ــ لا .. لم ألتق بأحد ...
ــ تقسم على ذلك ؟!………………
----------

سأله الربيع .......
ــ هل أقر بالحقيقة أم ظل على إنكاره ؟!..
ــ إرتج عليه القول .. وتلجلج لسانه .. ولم يستطع مواصلة الكذب .. إلى أن فاجأته قائلا بنبرة حادة ولهجة قاطعه ………………
ــ لأول مرة تكذب على أيها الفتى .. لا أدرى كيف طوعت لك نفسك أن تنكر عنى أمرا .. أنا الذى وثقت فيك كل هذه السنوات .. وأنزلتك منزلة يغبطك عليها الكثيرون .. ألم تذهب بالأمس إلى ديوان الخليفة المنصور ؟!.. كنت أحسب أنك ستخبرنى بذلك الأمر من تلقاء نفسك .. أم ظننت أنى غافل عما يجرى ها هنا .. إياك أن تظن ذلك ؟!.. أنسيت ما قلته لك بالأمس ؟!.. هيا أخبرنى بكل كلمة دارت بينكما .. وإياك والكذب أو المراوغه ؟!………
عاود الربيع سؤاله .......
ــ وماذا فعل الفتى ؟!..
ــ لم ينطق لسانه بكلمة واحده .. بهت وانعقد لسانه من هول المفاجئه .. وبدا عليه الإرتباك الشديد .. لم يدر بخلده أنى على علم بتلك المقابله .. غادر الغرفة مسرعا .. وتركنى وحدى أضرب كفا بكف .. بعد أن تملكنى غضب شديد وثورة عارمه ...
ــ وماذا فعلت أنت ؟!..
ــ إستدعيت واحدا من رجالى المخلصين .. أمرته أن يتعقبه فى كل مكان يذهب إليه .. لم أنس أن أؤكد عليه ألا يغيب عن عينيه لحظة واحده .. وألا يدعه يغادر بغداد بأية حال .. وإن فعل يأتنى به سالما دون أن يمسه بأذى .. وأيضا دون أن يراه أحد ...
ــ ما الذى دفعك إلى هذا ؟!..
ــ خشيت أن يكون قد أسر بشئ للخليفة المنصور .. وزاد من مخاوفى إنكاره لتلك المقابلة وما دار فيها بينهما ...
ــ كيف إذن لقى حتفه ؟!..
ــ ذلك الغبى الذى أرسلته وراءه .. مع أنى أكدت عليه مشددا إن تمكن منه أن يأتينى به سالما وألا يمسه بسوء .. غير أنه لما رجع من مهمته .. قال لى …..................
ــ ظللت أتعقبه يا سيدى فى كل مكان يذهب إليه .. حتى رأيته يغادر بغداد سالكا طريق الموصل .. سرت وراءه إلى أن وصلنا إلى مكان مهجور لا يرانا فيه أحد .. باغته من الخلف محاولا الإمساك به وتقييد حركته .. غير أنه تمكن من الإفلات من قبضتى .. ولما حاولت مجددا أن أعيد الكرة .. فوجئت به يقاومنى بشدة .. حتى أنه كاد أن ينال منى .. واشتبكنا فى صراع عنيف كاد أن يفلت فيه منى .. فلم أشعر إلا ويداى تلتفان حول عنقه .. إلى أن توقفت أنفاسه وفارق الحياه ...
إختنق أبو أيوب بالبكاء .. حتى لم يعد قادرا على مواصلة حكايته والربيع ينظر إليه فى وجوم .. إلى أن هدأ بعض الشئ ثم قال .......
ــ بعد أن فارق الحياه .. أخذ يفتش فى جيوبه حتى عثر على الرسالة التى أعطاها له المنصور .. ولما قرأت ما فيها مادت الأرض من تحت أقدامى .. ولم أعد أرى شيئا أمامى من هول ما قرأت .. أتدرى ماذا كانت تحوى ؟!..
هز الربيع رأسه يمينا وشمالا .. ناظرا إليه فى ذهول وهو يقول .......
ــ إنها رساله كتبها أمير المؤمنين لامرأة أزدية من الموصل .. فهمت من فحواها أنها أم هذا الفتى .. كان المنصور قد تزوجها سرا أيام شبابه .. فى عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك .. ثم فارقها وهى لا تزال حاملا فى جعفر .. لأنه كان مطاردا من الأمويين .. وترك لها مكتوبا تحضر به إليه عندما تسمع به أميرا للمؤمنين .. غير أنها لم تعر هذا الأمر اهتماما .. وبعد أن أنجبت ولدها أسمته جعفرا كما أوصاها .. ثم ربته فى حجرها ودفعت به إلى مجالس العلم إلى أن صار كاتبا .. لقد عمل عندنا وبقى معنا كل هذه السنوات .. وأنا لا أعلم صلته بأمير المؤمنين .. ولا هو نفسه كان يعلم بذلك ...
قال الربيع معقبا كأنه تذكر أمرا .......
ــ آه .. إنها إذن تلك المرأة التى حضرت إلى هنا منذ أيام .. والتقى بها أمير المؤمنين وحده .. ولما سألته عن شأنها سكت ولم يجبنى .. آه حكاية عجيبة حقا ...
ثم قال يحدث نفسه .......
ــ والأعجب منها .. كيف تعرف هذا الثعلب الماكر على ولده !..
قال ذلك وهو يستدير خارجا .. تاركا أبا أيوب وحده فى هذا المكان الكئيب الموحش .. يندب سوء حظه ويواجه مصيره المحتوم الذى ينتظره ………

يتبع إن شاء الله ........................

رائد عبد السلام
12/11/2008, 17h22
حلقة أخري في ذلك العقد الماسي
يادكتورنا الحبيب.....
د: أنس
ألا يعد ذلك تقصيرا من جانبكم ؟؟
لم لا يطبع هذا الكتاب
ولو علي نفقة المؤلف ؟؟
أكاد أري بعين اليقين هذا العمل وقد تحول
إلي حلقات تليفزيونية تنير لنا سهرات رمضان
فهو بعد إضافتكم لبعض الرتوش الفنية سيناريو كامل
لا يفتقر إلي شيء من لوازم الدراما الغالية التي افتقدناها
بارك الله فيك ...ونفعك كما تنفعنا
:emrose:
فقط تذكر نبوءة أخيك الصغير
هامش : من هم الجلاوزة؟ خدم الملوك مثلا؟

د أنس البن
12/11/2008, 17h45
صديقى الحبيب الأستاذ رائد عبد السلام
لا أدرى ما أقوله لك على حسن ظنك بمثلى وتوصيفك لهذه الأوراق .. إلا أن أدعو لك بكل خير أعطاه الله عباده الصالحين ..
أما عن تقديم هذه السيره كعمل درامى .. فهذا بالنسبة لى حلم أظنه بعيد المنال .. والأسباب معلومة لنا جميعا .. وانا عن نفسى لا أهدف لأى مغنم مادى من ورائه وإن كنت مثلك أتمنى أن يرى النور

أما عن الجلاوزه فهو إسم كانوا يطلقونه على خدم الملوك فى ذلك الزمان
وأتركك مع بقية ما سبق من أحداث

د أنس البن
12/11/2008, 17h45
@ صبيحة اليوم التالى ذهب الربيع للقاء المنصور .. بعد أن نفذ أوامره وأجهز على حياة أبى أيوب .. بعد أن اعترف له بكل شئ وأقر بأماكن ثرواته كلها .. عندما دخل عليه مجلسه .. وجده يجلس وحيدا شاردا شاخصا بعينيه إلى أعلى .. وعلى أساريره إنطبعت أمارات الأسى والحزن الشديد .. وفى خطى وئيدة تقدم ناحيته .. وقال مواسيا وهو يبالغ فى إظهار الحزن والأسى على صفحة وجهه .......
ــ عظم الله أجرك فى ولدك يا أمير المؤمنين .. وأسكنه جنة الفردوس .. وألهمك جميل الصبر ...
أمن المنصور على كلامه .. وأشار إليه براحة يده ليجلس .. ثم قال بصوت يقطر أسى ولوعه .......
ــ إنها لكارثه فادحة والله .. مصيبة عظمى .. ولدى فى دارى على مقربة خطوات منى .. ويعمل فى ديوان من دواوينى .. وأنا لا أعلم ...
استطرد قائلا .......
ــ أظنك علمت بالحقيقة من هذا الخائن ؟!..
ــ أجل يا مولاى .. إعترف لى بكل شئ .. قبل أن آمر بقتله فجر اليوم كما أمــرت ...
ــ أتدرى يا أبا الفضل .. أننى لما رأيته أول مرة .. أحسست بشعور غريب ناحيته .. شعرت للوهلة الأولى .. أن شيئا ما يربطنى به .. ورأيت فيه شيئا منى .. منذ شهر مضى أرسلت فى طلبه سرا .. وظللت أسأله عن إسمه وإسم أبيه وأمه .. إرتبك ولم يجد ما يقوله لى .. فقلت له ألست من الموصل وأمك فلانة الأزديه !.. بوغت وتعجب من معرفتى بهذه الحقائق .. التى أخفاها عن كل من حوله ثم قص على قصته .. وفى هذا اللقاء عرفته أنى أبوه .. وحكيت له حكايتى مع أمه .. إلا أننى طلبت إليه أن يكتم هذا الأمر .. وألا يخبر به أحدا حتى أعلن ذلك بنفسى على الملأ .. ثم أعطيته رسالة لأمه بالموصل .. أطلب منها أن تعود معه .. مرت أيام كنت خلالها أنتظر وصولهما معا على أحر من الجمر .. لكنه لم يرجع ثانية أو يأتنى منه شئ .. ولما طالت غيبته تشككت فى الأمر .. وانتابتنى الظنون والهواجس .. أرسلت أحد رجالى إلى أمه .. وكنت عرفت منه مكانها .. ولما جاءتنى هنا وكان ذلك منذ أيام .. سألتها عن جعفر .. فاجئتنى بقولها أنها لم تره منذ سنوات .. جن جنونى وأرسلت رجالى على الفور يستطلعون الأمر ويقتفون الأثر .. حتى عثروا عليه أخيرا جثة هامدة .. عند حائط مهجور فى طريق الموصل .. تحريت المسئلة.. فعرفت من عيونى أن وراء هذه الفعلة الشنعاء .. واحدا من رجالى وخاصتى .. الخائن الحقير أبو أيوب الموريانى ...
ــ هون عليك يا مولاى هون عليك .. إن الله إذا أحب عبدا إبتلاه .. نسأل الله أن يعظم لك الأجر………………


@ مضت الأيام تترى .. وأم حبيبة ترقب ولدها يوما بعد يوم .. وهو يحاول أن يحبو على يديه ورجليه .. ثم محاولا الوقوف على قدميه .. فيتكفأ أحيانا ويثبت واقفا أخرى .. وتمر الأيام تتاليا .. فيحاول أن يمشى الهوينا خطواته الأولى على أرض الدار .. شيئا فشيئا وخطوة خطوه .. كان يسير خطوات ويتعثر أخرى .. حتى أكمل أخيرا عامه الرابع ...
كان يحلو للصغير أحيانا أن يتسلل إلى القاعة التى يستقبل فيها جده الأزدى زواره .. يجلس فى ركن منها مرهفا سمعه لأحاديثهم ومناقشاتهم .. التى كانت تدور بين الحين والحين فى أمور تتعلق بالدين وقضاياه وأحكامه .. ذلك أن الأزدى شأنه شأن الكثيرين من أهل زمانه رجالا كانوا أم نساء .. لديه دراية بكثير من أحكام القرآن والسنه .. ومعرفة بأقوال السلف وأخبارهم .. فهم لا يزالون حديثوا عهد بزمن النبوة وعصر الصحابة والتابعين ...
ومما يدل على معرفة الناس فى تلك الآونة .. بدقائق أحكام الشرع أن أم الشافعى "أم حبيبه" نبهت قاضى مكة ذات مرة لحكم شرعى غاب عنه .. لما أراد أن يفرق بينها وبين إحدى النسوة فى موقف الشهاده .. أراد أن يستمع لكل منهن على حدة فنبهته قائلة .......
ــ كيف تفرق بينى وبينها !.. ما يكون لك ذلك ...
سألها القاضى مدهوشا .......
ــ لم ؟!..
ــ الله تعالى يقول فى شهادة النساء ....... أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ………………
@ وفى الدار الواسعة التى يقيمون فيها بمكه .. رقد جده عبيد الله الأزدى طريح الفراش .. لا يفارقه إلا مرات قليله .. بعد أن بدأ الوهن يدب فى أوصاله .. وأخذت أمراض الشيخوخة تتسابق إلى جسده الضعيف .. حتى زادته وهنا على وهن وصارت قواه تخور وتضعف .. يوما عن يوم ...
وذات مساء بينما هو راقد فى فراشه .. وإلى جواره ابنته تناوله قدحا فيه خلاصة بعض الأعشاب الطبية .. بعد أن طحنتها ووضعتها فى الماء على النار لتغلى .. كان قد أحضرها من دكانه لتخفف عنه بعض آلام المرض .. إذا بها تلتفت إليه متسائلة .. وهو يحاول شرب الدواء على مهل .. ويداه ترتعشان .......
ــ أبى ؟!..
ــ نعم يا ابنتى ...
ــ ولدى محمد أكمل عامه الرابع ...
ــ إيه يا ابنتى .. ما أسرع الليالى والأيام .. من يصدق أنه قد مر عليك عامان هنا فى مكه .. مذ قدمنا من غزه .. تريدين أن تقولى شيئا ؟!..
ــ أجل .. أريد أن أدفع به إلى الكتاب ليحفظ القرآن ويتعلم علومه .. إنها وصية أبيه كما سبق وأخبرتك ...
ــ نعم الرأى يا ابنتى .. والله لو كنت قادرا على المشى .. لأخذته بنفسى لأحد القراء فى ساحة الحرم .. إنى أعرفهم جميعا .. كلهم أصدقاء لى ...
ــ لا عليك أنت من هذا يا أبى .. سآخذه بنفسى .. إلى كتاب واحد منــهم بعينه ...
ــ من يكون ؟!..
ــ كتاب الشيخ إسماعيل بن قسطنطين ...
ــ لم هذا الكتاب بالذات ؟!..
ــ إنها وصية إدريس .. لقد كلمنى عنه قائلا لى قبل أن يرحل إلى جوار ربــه "إن بقى هذا الشيخ على قيد الحياه فلا تذهبى لأحد غيره فإنه خير من يعلم ولدنا القرآن قراءة وحفظا" … لن أنس ما قاله لى ما حييت .. تلك وصيته بنصها يا أبى .. لا زلت أتذكرها وأسمع رجع صداها حتى اليوم ...
تنهد الأب بارتياح قائلا .......
ــ إيــــه يا ابنتى .. يرحمك الله يا إدريس .. حتى معلم القرآن .. لم ينس أن يذكره فى وصيته !.. حقا إنه أكبر معلم للقرآن .. إنه شيخ القراء فى مكة كما أخبرك ...
ــ أكبر معلم للقرآن !.. كيف ذلك يا أبى ؟!..
ــ أجل يا أم حبيبه .. لقد قرأ الشيخ إسماعيل على شبل بن عباد .. الذى قرأ على عبد الله بن كثير .. الذى قرأ على مجاهد .. تلميذ الصحابى الجليل عبد الله بن عباس .. لقد أخذ القرآن علما وقراءة من أصوله ومنابعه الصحيحه .. كابرا عن كابر ...
سكت قليلا واستدرك قائلا .......
ــ هنالك أمر .. لا أظنه قد غاب عنك يا ابنتى !..
ــ أى أمر ذلك يا أبت ؟!..
ــ تعلمين يا ابنتى .. أنه ليس لدينا ما يكفى لنعطيه أجرا لشيخ جليل مثله .. إنه أكبر القراء فى مكة وأعلاهم أجرا !..
ردت قائلة فى عزم وتصميم .......
ــ مهما يكن أجره .. لن أدفع بولدى لأحد سواه .. مهما كلفنى ذلك من مال أو جهد ...
ــ كيف يا ابنتى .. ماذا أنت فاعله ؟!..
ــ سأطلب من الشيخ أن يسمح له بالجلوس مع الصبية .. ولو مستمعا فى بادئ الأمر .. إلى أن تتيسر لى بعض الدراهم أو الدوانيق .. إنى لعلى ثقة أنه سيستجيب .. ولن يرفض رجائى ...
فرت من عينيها دمعة رغما عنها .. وهى تردف قائلة .......
ــ إنها وصية الراحل الغالى .. لن أضيعها أبدا مهما كلفتنى ………

@ صبيحة اليوم التالى إصطحبت الأم ولدها .. خرجت قاصدة ساحة المسجد الحرام .. كانت تبدو سعيدة وهى تمسك يده فى حنان .. بينما صورة إدريس لا تفارق خيالها .. وهما يسيران معا على قدر خطواته القصيرة المتقاربة .. حتى وصلا أخيرا إلى ساحة البيت الحرام ...
فى تلك البقعة المباركة من الأرض .. لا تتوقف الحركة ليلا أو نهارا .. حيث يرى الوافد إلى هناك صنوفا شتى من البشر .. جاءوا من كل فج عميق .. من شتى بقاع الأرض .. قاصدين زيارة البيت العتيق .. منهم من يطوف بالبيت .. منهم من يصلى فى خشوع عند مقام إبراهيم أو فى حجر إسماعيل .. وآخرون يقرأون القرآن .. وفى زوايا الساحة تنتشر حلق العلم والدرس .. وكتاتيب تحفيظ القرآن ...
ورغم تباين هذه التجمعات واختلاف ألوانها وأجناسها .. إلا أنه يجمعها ذكر الله تبارك وتعالى .. وفى ساحة البيت العتيق ترتفع أصوات الذاكرين إلى عنان السماء .. تدعوا ربا واحدا أحدا .. وبالقرب من هؤلاء وأولئك .. ينتشر نفر من الباعة من الرجال والنساء .. يفترشون الأرض فى أماكن متفرقه حيث يبيعون العطور والثياب القطنية والحريرية الموشاه .. والأردية والمساويك والبخور .. وأعواد المجامر والحلى وأدوات الزينه ...
أخذت تسأل وسط هذا الزحام الصاخب عن كتاب الشيخ إسماعيل .. بينما الولد يرقب ما يدور من حوله .. محملقا بعينيه الصغيرتين باهتمام ودهشه .. وفى طريقهما للكتاب .. وقعت عيناه على حلقة سفيان بن عيينه .. أكبر حلق العلم .. وعلى مقربة منها حلقة سعد بن سالم .. ثم حلقة مسلم بن خالد الزنجى .. أخذ الصبى الصغير ينظر فى إعجاب برئ إلى هذه التجمعات المتباينه .. وكأن لسان حاله يقول .......
ــ ليتنى أتمكن يوما ما من الجلوس مع هؤلاء القوم ...
وأخيرا وصلت أم حبيبه إلى زاوية الشيخ إسماعيل .. أكبر زاوية لتحفيظ القرآن الكريم .. لدى اقترابها منها وقعت عيناها على شيخ مهيب وقور .. فى حوالى الستين من عمره متخذا مجلسه فى صدر الحلقه .. على درج يشرف من فوقه على الصبية الجالسين من حوله .. وهم يكتبون ما يمليه عليهم .. وقفت فى طرف الحلقة إلى أن لمحها الشيخ فأدرك أن وراءها أمرا .. أشار إليها برأسه أن تقترب منه .. إمتثلت وسلمت عليه .. ثم قالت وهى تقدم ولدها .......
ــ سيدى الشيخ .. هذا ولدى محمد .. إنه يتيم .. مات أبوه بعد مولده بقليل .. وقبل وفاته أوصانى وأكد على أن آتى به إليك ليحفظ القرآن .. عندما يكمل الرابعة من عمره ...
سألها عن ولدها وقبيلته التى ينتمى إليها فأجابت قائلة .......
ــ أبوه إدريس بن العباس .. من ولد شافع وجده المطلب بن عبد مناف ...
هز رأسه قائلا وهو يحاول أن يتذكر .......
ــ إدريس .. إدريس .. آه تذكرته .. إنه حفظ القرآن فى صباه على يدى هنا حقا .. كان فى عمر ولده تقريبا وكان يزورنى من حين لآخر .. إلا أنه انقطع عنى زمنا .. ثم علمت أنه سافر منذ سنوات طوال .. للعمل فى بلاد الشام .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى الشيخ .. عشنا هناك بضع سنوات .. إلى أن مات ودفن هناك إلى جوار جده هاشم .. وقبل أن تصعد روحه إلى بارئها أوصانى ضمن ما أوصى .. ألا أدفع بولدى لأحد غيرك ...
ــ على بركة الله .. إذهبى أنت لشأنك ودعى هذا الولد الشافعى هنا .. وقبل الغروب أرسلى من يأخذه من هذا المكان .. على أن يأتينى هنا كل يوم قبل الضحى .. أفهمت يا امرأه ؟!..
ردت فى حياء وكأنما تبحث عما تقوله .. كانت تقدم كلمة وتؤخر أخرى .......
ــ أجل يا سيدى .. لكن .. لكن أريد أن أقول لك إنى ……
قاطعها الشيخ وهو يبتسم ابتسامة حانية .. فهم بفراسته مرادها .. وقرأ بعينيه الذكيتين ما يختلج فى رأسها .......
ــ إنك ماذا يا ابنتى .. هيه تكلمى .. لا عليك !..
ــ فى الحقيقة يا سيدى الشيخ .. أنا .. أنا لا أملك الآن من الدراهم ما أعطيها لك .. مقابل ما ستبذله من جهد مع الصبى ...
ــ فهمت .. لا عليك من هذا الآن .. ولا يشغلنك هذا الأمر أبدا .. إن ولدك يا ابنتى ذو نسب شريف .. وينتمى لأصول طيبة طاهره ...
شكرته بامتنان وانصرفت إلى دارها والسعادة تغمرها .. تاركة ولدها بين يدى الشيخ بينما صوته الأجش يتناهى إلى سمعها .. والصبية يرددون من ورائه بأصوات متباينة
::........ نون والقلم وما يسطرون .. ما أنت بنعمة ربك بمجنون .. وإن لك لأجرا غير ممنون .. وإنك لعلى خلق عظيم ........
ظلت أصواتهم تخفت شيئا فشيئا .. كلما ابتعدت خطواتها عن ساحة البيت العتيق .. وهى عائدة أدراجها إلى شعب الخيف ………………

@ مضت الأيام وتعاقبت الليالى .. والولد مواظب تماما على دروس القرآن .. يذهب إلى الكتاب كل يوم فى الضحى تارة بصحبة أمه .. وأخرى بصحبة جده أو خاله على .. يسلمه للشيخ ثم يتوجه إلى دكان العطارة القريب من ساحة الحرم .. وقبل الغروب يأخذه إلى دكانه لا يفارقه .. بل يظل معه إلى ما بعد صلاة العشاء .. ثم يعود به مرة أخرى إلى الدار .. ومع الأيام إعتاد الصبى أن يذهب بنفسه إلى دكان جده .. دون معونة من أحد بعد أن عرفت قدماه طريقهما إليه .. ومرات كثيرة كان يرجع وحده إلى الدار فى شعب الخيف ...
إعتاد الصبى أن يجلس فى حلقة شيخه فى مكان ثابت .. لا يغيره إلا إن اضطر .. ومن هذا المكان فى الركن الأيسر من الحلقه .. كان يعطى سمعه كله للشيخ .. منصتا إلى تلاوته لآى القرآن .. وعلى مر الأيام تفتحت ملكات الصبى .. وظهرت مواهبه وقدراته الفذة التى أودعها الله تعالى فيه ووهبها له .. فما إن يستمع للشيخ وهو يقرأ الآية مرة واحده .. حتى يحفظها على الفور ولا ينساها أبدا .. وكأنها طبعت فى ذاكرته .. لم يكن فى حاجة لأن يحفظه الشيخ وحده .. ويعيد عليه مرات كسائر أقرانه ...
حدث فى إحدى المرات .. بينما كان الشيخ جالسا فى مكانه المعهود وأمامه صبى .. يبدو من ثيابه وهيئته أنه من بيت ترف ويسار .. كما تشى ملامحه أنه ليس من أهل مكه .. بل من الوافدين إليها لتعلم القرآن .. وبقية الصبية متحلقين حول شيخهم .. كل واحد منهم يهمهم فى سره بصوت هامس .. مراجعا ما هو مدون أمامه فى اللوح الخشبى .. بينما الشافعى قابع فى ركنه وحده .. يتابع بأذنيه وعينيه حوارا يدور بين الشيخ وذلك الصبى المترف .. الذى جلس فى أدب أمامه متربعا .. وهو يضم ذراعيه على صدره .. بدا الشيخ نافذ الصبر ضيق الصدر وهو يقول له .......
ــ يا بنى .. إنك أتعبتنى كثيرا .. وأوجعت قلبى .. لقد بذلت معك قصارى جهدى مذ جئتنى مع أمير مكه الذى أوصانى عليك .. واستنفذت كل حيلة معك كى تحفظ ما ألقنه لك وما أتلوه عليك .. إننى لا أدرى سببا لنسيانك الدائم هذا .. ألك هوى فى شئ آخر .. إن لم تكن لك رغبة فى تعلم القرآن وحفظه صارحنى أيها الغلام .. ولا توجع قلبى أكثر مما أوجعته ...
رد الصبى قائلا فى أدب وحياء .. وهو ينظر من خلال عينين شبه دامعتين إلى موقع قدميه .......
ــ لا يا سيدى الشيخ .. لا رغبة لى فى شئ .. إلا حفظ القرآن وتعلمه ...
ــ إذن ما سبب نسيانك الدئم هذا .. إسمع يا ابن كبير الحجاب .. سأعطيك فرصة أخيرة .. فإن لم تستجب .. فلسوف أرسل إلى أمير مكة لكى يردك إلى والدك الربيع بن يونس فى بغداد ...
ــ سمعا وطاعة يا سيدى الشيخ ...
ــ عليك الآن أن تحفظ ما أمليته عليك صبيحة هذا اليوم .. وغدا بإذن الله تعيد على ما حفظته .. إتفقنا ؟!..
ــ أجل يا سيدى الشيخ ...
ــ إذن قم واجلس هناك بعيدا .. فى آخر الحلقه ...
قام الصبى مطرقا رأسه حياء وعيناه مغرورقتان بالدموع .. جلس وحده حزينا فى أحد الأركان البعيده .. لم تمض إلا لحظات حتى تقدم الشافعى منه .. جلس إلى جواره .. أخذ يربت على كتفيه فى براءة وود .. وهو يقول له .......
ــ أنا إسمى محمد بن إدريس .. وأنت .. ما اسمك ؟!..
رد عليه بصوت حزين .......
ــ إسمى الفضل بن الربيع ...
سأله الشافعى عن بلده .. فأجاب قائلا .......
ــ أنا عراقى من بغداد .. وأبى هو الربيع بن يونس كبير الحجاب فى قصر أمير المؤمنين .. وأنت من تكون ؟!..
ــ أنا من ولد شافع .. جدنا المطلب بن عبد مناف .. جد رسول الله[صلى الله عليه وسلم ] ...
صمت برهة ثم قال .......
ــ سمعت كلام الشيخ معك .. لكن لا تيأس يا أخى الفضل .. سأجلس معك وأعيد عليك الآيات .. التى أملاها عليك سيدنا ...
أدار الفضل رأسه ناحيته .. نظر إليه متعجبا ثم سأله فى دهشة وهو يمسح دموعه .......
ــ هل حفظتها أنت ؟!..
إبتسم الشافعى قائلا .......
ــ أجل حفظتها .. ما وجه الغرابة فى ذلك ؟!..
قال الفضل وقد زادت دهشته .......
ــ كيف لا أعجب .. وأنا أعلم أن الشيخ لم يلقنك هذه الآيات .. ولم أسمعك تقرأها عليه من قبل !..
أجابه الشافعى والإبتسامة لم تغادر شفتيه .......
ــ سوف أخبرك بكل شئ .. وأشرح لك الأمر لكن عليك الآن أن تفتح آذانك لى جيدا .. ردد من ورائى ما أقول .. وستحفظ هذه الآيات بإذن الله ولن تنساها بعد ذلك أبدا………………


@ وفى اليوم التالى .. بينما الصبية جالسون فى الحلقة .. وكل منهم يهمهم فى صوت خفيض ما حفظه من آيات .. إذ دخل عليهم الشيخ إسماعيل .. فى خطواته الوئيدة متكأ على عصاه .. إتخذ مجلسه فوق الدرج .. وضع عصاه إلى جانبه .. ثم أخذ يدور بعينيه الفاحصتين يتفقد الصبية .. إلى أن وقعت عيناه على الفضل بن الربيع .. نادى عليه .......

ــ تعال إلى هنا يا ابن الربيع ...

قام الولد من مكانه وهو يبدو أكثر ثقة بنفسه من البارحه .. لم لا يكون كذلك وهو لم يغادر الكتاب بالأمس برفقة الشافعى .. إلا بعد أن حفظ الآيات تماما .. تقدم حتى صار قبالة الشيخ الذى قال له .......

ــ هيه كيف حالك اليوم ؟!..

ــ بخير حال يا سيدى ...

ــ هل حفظت ما أمليته عليك بالأمس .. أم لا زلت على عهدك ؟!..

فوجئ به يرد عليه بالإيجاب .. وبدأ يقرأ فى ثبات وثقة .......

ــ ا ل ر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .. ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه بشير ونذير .. وأن استغفروا ربكم .....

قاطعه الشيخ .......

ــ صدق الله العظيم .. فتح الله عليك يا ولدى .. أخيرا بدأت تجيد الحفظ وتتقن التلاوه .. أخبرنى كيف تمكنت من حفظ هذه الآيات .. ما الذى جد عليك يا ابن الربيع ؟!..

أخبره بما كان من أمر الشافعى معه بالأمس .. وكيف قرأ عليه هذه الآيات من الحفظ .. تعجب الشيخ والتفت من حوله متسائلا .......

ــ أين الولد الشافعى ؟!..

رآه فأشار إليه مناديا .......

ــ تعال يا ولدى .. أدن منى ها هنا .. أنا لم ألقنك هذه الآيات .. ولم أقرأها عليك .. كيف حفظتها ؟!..

رد قائلا فى حياء .......

ــ إننى يا سيدى أعى كل آية أستمع إليها منك .. وأظل أرددها إلى أن أحفظها تماما .. ثم لا أنساها أبدا بعد ذلك ...

نظر إليه بإعجاب وانفرجت عن شفتيه ابتسامة عريضة .. ثم خبط على كتفيه مشجعا .. وقال له بصوت متهدج .. بعد أن أدناه منه وأجلسه إلى جواره .......

ــ مثلك يا ولدى لا يليق به إلا أن يكون كذلك .. وكيف لا .. وأنت ابن عم رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. إسمع يا ابن شافع .. لقد قررت أمرا .. من الغد إن شاء الله .. إذا أنا خرجت للصلاه أو لأى أمر آخر .. فأنت هنا مكانى .. تملى على إخوانك ما تسمعه أو تحفظه حتى أعود .. إننى أرى فيك رجل علم .. لن يجود الزمان بمثله ...


@ إستطاعت أم حبيبه بعد جهد وعناء .. أن تدخر رغم ضيق الحال .. بعض الدريهمات .. تعطيها للشيخ إسماعيل كما وعدته من قبل فى أول لقاء معه .. لم يكن ولدها قد أخبرها بما جرى له مع الشيخ .. وما قاله له منذ أيام .. فى واقعة الفضل بن الربيع ...

وبينما هى فى طريقها إلى الكتاب .. ظلت تفكر فيما ستقوله له .. وأى حجج تتعلل بها .. أخذت تبحث عن عذر تعتذر به عن تأخرها عليه .. وهى تشعر بالحرج الشديد من لقاء الشيخ بعد طول غياب .. وعندما وصلت إلى الزاويه .. فوجئت به يرحب بها .. ويلقاها فى حفاوة بالغه .. لم تدر لها سببا فى بادئ الأمر .. إلا أنها شكرته فى حياء بعد أن تنفست الصعداء .. كانت تتوقع لقاء جافا باردا ...

مدت يدها فى جيبها وهى تقول فى خجل .......

ــ لا تؤاخذنى يا سيدى .. تأخرت عليك كثيرا .. ها هى عشرين درهما .. أعلم أنها دريهمات قليلة .. لا تكافئ ما تبذله من جهد مع الصبى .. غير أنى فى القريب العاجل إن شاء الله .. سوف أسعى جهدى لإحضار مثلها .. وربما أكثر منها ...

تركها الشيخ حتى تفرغ من كلامها .. دون أن يقاطعها وهو ينظر إليها باسما .. ثم رد فى نبرات هادئة قائلا .......

ــ أمسكى عليك دراهمك أيتها الأزديه ...

ــ كيف يا سيدى الشيخ .. لم ترد على دراهمى .. إنها بعض حقك ؟!..

ــ ليس لى بها حاجه .. وأرجو ألا تعيدى ذلك مرة أخرى ...

إنزعجت قائلة فى وجل وخوف .......

ــ لم يا سيدى الشيخ ؟!.. هل فعلت الآن ما أغضبك .. آه أنه ولدى .. هل أغضبك ولدى .. لذلك لن تكمل معه دروس القرآن .. هل ……

قاطعها ضاحكا .......

ــ على رسلك يا امرأه على رسلك .. هونى عليك .. إنك لم تغضبينى .. وكذلك هذا الولد الشافعى .. كل ما فى الأمر .. أنه لا حق لى فى تلك الدراهم ...

ــ ما هذا الذى تقوله يا سيدنا ؟!..

ــ أجل .. لا حق لى فيها .. إن ولدك صار يساعدنى فى عملى .. ويجلس أحيانا مكانى هنا .. على رأس الحلقه ...

نظرت إليه فاغرة فاها .. لا تفهم ما يعنيه بكلامه .. ما معنى أن ولدها .. الذى لم يكمل عامه الخامس .. يساعده ويجلس أحيانا مكانه !.. معقول هذا ؟!..

أخذ يشرح لها ما كان من ولدها منذ أيام .. وأعلمها بتلك الموهبة التى أنعم الله بها عليه وحباه بها .. إزدادت دهشتها .. لمعت الفرحة فى عينيها وهى تخبر للشيخ .. إن ابنها لم يخبرها بتلك الحكايه .. وأن هذه أول مرة تعلم بهذا الأمر .. استأذنت تاركة ولدها بين يديه .. وهى ترمقه بعينين ملؤهما الإعجاب والزهو والحنان ...

الله الله .. ها هى بشائر صدق رؤياها تهل عليها .. تذكرت إدريس وهو يعبر لها رؤياها .. تذكرت تأكيده لها وهو على فراش الموت .. أن ولدها سيكون عالم قريش المنتظر .. ولما رجعت إلى الدار .. قصت على أبيها وأمها .. ما كان من أمرها اليوم مع الشيخ .. وما قاله لها عن ولدها ...


يتبع إن شاء الله ........................

د أنس البن
17/11/2008, 15h16
@ أربع سنوات مضت على تلك الواقعه .. والشافعى لا يزال فى كتاب الشيخ .. مواظبا على دروس القرآن تجويدا وحفظا .. وفى يوم .. نادى عليه جده عبيد الله الأزدى .. سأله وهو راقد فى فراشه .......
ــ لك الآن من العمر ثمانية أعوام يا ابن إدريس .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا جدى ...
ــ وهل يا ترى ختمت القرآن ؟..
ــ لم يبق لى إلا جزء واحد .. لكن !..
أمسك الصبى لسانه حياء .. إستحثه متسائلا وهو ينظر إليه فى إعجاب .......
ــ لكن ماذا يا ولد إدريس .. تكلم .. قل ما عندك ؟!..
ــ أنت تقول القرآن بالهمزه ...
ــ ماذا فى ذلك يا ولدى ؟!..
ــ لقد علمنا الشيخ إسماعيل أن ننطق القرآن .. هكذا بدون الهمزه ...
إبتسم الجد متسائلا .......
ــ وهل ذكر لكم سبب ذلك ؟!..
ــ أجل يا جدى .. قال لنا إن القرآن ليس مشتقا من قرأ .. وإلا كان كل ما قرئ قرآنا .. وإنما هو إسم مثل التوراه والإنجيل ...
ــ الله الله .. فتح الله عليك يا ولد إدريس .. أتدرى أنك علمتنى اليوم مسألة لم أكن أعلمها من قبل .. ما شاء الله .. والآن هيا أسمعنى بعض آيات من القرآن ( بدون همزه ) ...
تربع مكانه وبدأ يتلو فى خشوع .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم "الرحمن .. علم القرآن .. خلق الإنسان علمه البيان .. الشمس والقمر بحسبان .. والنجم والشجر يسجدان .. والسماء رفعها ووضع الميزان .. ألا تطغوا فى الميــزان" …………………


@ فى دار رحبة تقع على مقربة من ساحة المسجد الحرام .. خصصت لتكون مقرا للإماره .. جلس أمير مكة واليمن فى صدر قاعة الحكم .. وبينما يتجاذب أطراف الحديث مع كاتب ديوانه بعد أن فرغ من أعماله .. إذ دخل عليه أحد الحراس قائلا .......
ــسيدى الأمير .. صاحب البريد بالباب ...
ــ من أين أتى .. وما شأنه ؟!..
ــ يقول إنه يحمل رسالة عاجلة من قبل أمير المؤمنين .. أبــى جعفــر المنصور ...
أشار إليه أن يدخله فى الحال وهو يتساءل فى نفسه متوجسا.. يا ترى ما يكون وراء رسول الخليفه القادم من بغداد .. لم يقطع عليه هواجسه إلا دخول الرجل عليه .. تناول منه الرسالة .. عاين الختم عليها فإذا هو ختم أمير المؤمنين .. قبله وهب واقفا وكل من معه تعظيما وإجلالا لخليفة المسلمين .. كان هذا دأبهم عندما ترد عليهم رسائله ...
بدأ يقرأ ما فيها ....... " بسم الله الرحمن الرحيم " من أمير المؤمنين أبى جعفر المنصور إلى أمير مكة والطائف أما بعد ....... قررنا مستعينين بالله ومتوكلين عليه الحج بالناس هذا العام .. سيكون بصحبتنا إبن أخينا أمير المدينه إبراهيم بن يحى .. وعددا من الأمراء وكبار رجال الدوله .. فإذا وصلك كتابى هذا .. أعلم من معك .. وابعث مناديا ينادى فى أهل مكه .. وزد لهم فى العطايا والهبات .. وأقم الولائم للناس كل ليلة .. ووسع عليهم طوال الموسم والسلام ...
طوى الرسالة فى عناية وهو يكتم دهشته .. ثم أخذ يملى على كاتبه ردا عليها .. تناولها رسول المنصور وانصرف .. وعقب انصرافه أخذ الأمير يتمتم فى سره قائلا .. وقد أخذه الدهش والعجب .......
ــأمير المؤمنين ؟.. ما الذى دهاه يا ترى ؟!.. لقد أدى فريضة الحج آخر مرة منذ ست سنوات .. ويأمرنى بأن أجزل العطايا والهبات لأهل مكه .. وأقيم الولائم لهم كل ليله !!.. ما سبب هذا الجود والسخاء الذى اعتراه .. وهو البخيل الملقب بأبى الدوانيق .. إنه لا ينفق الدراهم إلا بالكاد ..من المؤكد أن فى الأمر شيئا.. هذا الأمر العجيب لا تفسير له إلا شيئا واحدا .. أن تكون النهايه .. أجل لابد أنه يشعر بدنو أجله وقرب رحيله عن الدنيا .. ولم لا .. إن صحته فى تأخر مستمر منذ حادثة مقتل ولده جعفر ……
@ فى اليوم التالى وفى شعب الخيف .. خرجت أم حبيبه ومعها وحيدها الشافعى .. وخرج أبوها وأمها وإخوتها وجيرانهم من دورهم يستطلعون الأمر .. كان المنادى يجوب الطرقات والأزقة راكبا بغلته .. ومن حوله جمع من الصبية والرجال والنساء .. مرددا بصوته الأجش العالى .......
ــإلى أهل مكة والطائف .. يعلن أمير المؤمنين .. أبى جعفر المنصور .. أطال الله بقاءه .. وأمد فى عمره .. وأعلى فى العالمين ذكره .. أنه عزم على الحج بالناس هذا العام .. وبهذه المناسبة السعيده .. فإنه أصدر أوامره العالية السامية .. أن تمد الولائم .. لجميع الناس كل ليلة .. بدءا من اليوم .. وحتى نهاية موسم الحج .. أمام ساحة دار الإماره.. كما أمر حفظه الله .. أن يمنح كل واحد من أهل مكه .. عشرون درهما من بيت مال المسلمين .. وعلى من حضر أو سمع هذا النداء .. أن يعلم الغائب ...
@ ذهب الشافعى إلى الكتاب نشيطا كعادته كل يوم .. وكان قد انتهى قبل أيام من حفظ القرآن وتجويده كله .. وفى طريقه إلتقى برفيق الحلقة وصاحبه الفضل بن الربيع .. وقد صارا صديقين حميمين .. لم ينس الفضل أن الشافعى هو الذى اجتهد معه .. وساعده فى حفظ أجزاء القرآن التى كان ينساها .. وأنه أعاد إليه ثقته بنفسه .. ولم ينس له الشافعى بدوره .. أنه بسببه أعطاه فرصة فريدة لم يعمل لها ولم يتكلفها .. ليكتشف الشيخ مواهبه ويعرف قدراته الفذه .. وسرعة حفظه لكل ما يسمعه .. حتى أنه أبى أن يأخذ من أمه درهما واحدا كما تقدم ...

وفى الطريق كان الصديقان يتحاوران .. تارة فى مودة تسبقها براءة الطفولة ونقاؤها .. وتارة أخرى يتسابقان فى العدو .. وهى الهواية المحببة للشافعى إلى جانب شغفه بالرمايه .. كانا يتباريان فى إصابة الهدف بالنبال وهما سعداء .. وأخيرا وصلا إلى الكتاب يلهثان من شدة التعب .. جلسا يلتقطان أنفاسهما وهما يتضاحكان فى براءة وصفاء .. بعد أن أعطيا لبدنهما حقه .. أثناء ذلك حضر الشيخ إسماعيل وهو يتوكأ على عصاه .. وبدأ يتخذ مجلسه فــوق الدرج ...

أخذ الشيخ يتفقد الصبية فى إمعان وهو يدور عليهم بعينيه بعد أن سكنت أصواتهم وجوارحهم عندما رأوا الشيخ داخلا عليهم .. أخيرا وقعت عيناه على الشافعى والفضل وهما يجلسان متجاوران .. إبتسم ابتسامة ذات مغزى وأشار للشافعى الذى كانت عيناه معلقة به أن يدنو منه ثم سأله .......
ــ ختمت القرآن منذ أيام يا شافعى .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا سيدى الشيخ ...
ــ إقرأ علينا إذن .. إقرأ .. آخر آيات سورة التوبه ...
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم .. فإن تولوا فقل حسبى الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" ...
ــ صدق الله العظيم .. ما اسم السورة التى تليها ؟!..
ــ سورة يونس ...
ــ أين نزلت ؟!..
ــ نزلت كلها فى مكه .. إلا أربع آيات منها نزلت فى المدينه ...
ــ إقرأ آية منها ؟!..
ــ هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا .. وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب .. ما خلق الله ذلك إلا بالحق .. يفصل الآيات لقوم يعلمون ...
ــ عظيم .. عظيم .. إقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ....... ط ــ س ــ م ...
ــ ط .. س .. م .. تنزيل من الرحمن الرحيم .. كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعملون .. بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ...
ــ صدق الله العظيم .. يكفى منك هذا يا ولدى .. كنت أريد أن أطمئن على حفظك للقرآن قبل أن تفارقنا بإذن الله ...
صمت برهة وأردف .......
ــ لكنى أود أن أوصيك بأمرين ...
ــ وما هما .. يا سيدى ؟!..
ــ أولاهما .. أن تقوم لسانك بأن تعرف قواعد اللغة العربيه .. وأصول النطق الصحيح لها .. وهذا أمر لن يتيسر لك تحصيله إلا فى الباديه ...
ــ معذرة سيدى .. فإنى لا أفهم ما تقصده ...
ــ عندما تعود إلى الدار فى المساء .. سل جدك الأزدى .. ولسوف يشرح لك المسألة برمتها ...
ــ سمعا وطاعة يا سيدى .. والوصية الثانيه ؟!..
ــ أوصيك يا ابن أخى بعد أن تتعلم أصول اللغة العربية وفنونها .. أن تعكف على طلب علوم الحديث والفتوى ...
مرت لحظات صمت والشيخ يحيط كتفى الشافعى بيمناه .. قبل أن يقول له فى حنان أبوى ضاف ومحبة خالصه .......
ــ وأظنك ستفعل يا ابن أخى .. إنك ما خلقت إلا لتكون مثل هؤلاء .. ( وأشار بيمناه على حلق العلماء من حوله فى ساحة الحرم ) .. سر على بركة الله وفى كنف رعايته وفضله ...


@ لبث الشافعى طيلة النهار يقلب فى رأسه الصغير .. ما سمعه من شيخ الكتاب .. وهو فى عجب من كلامه .. ما الذى يعنيه يا ترى من ورائه ؟!.. ما معنى أن يقوم لسانه .. وأن يتعلم اللغة العربية الصحيحه ؟!.. ولماذا طلب إليه الخروج إلى الباديه .. أى شئ سيجده فيها ؟!.. هل هناك قوما يتكلمون لغة أخرى .. أفكارا كثيرة .. أسئلة لا جواب لها .. عند من هم فى مثل عمره .. أحاطت به .. تزاحمت فى رأسه الصغير .. وجعلته فى حيرة من أمره ...
لم يصبر أن يأتى المساء حتى يعود إلى الدار ليسأل عنها جده .. قرر أن يتوجه إليه من فوره فى دكان العطارة عقيب مغادرته ساحة الحرم .. كان الشيخ منهمكا فى ترتيب بعض البضائع المكدسة أمامه .. ورصها على الأرفف فى نسق بديع .. ألقى عليه السلام وأخبره بما كان من أمر الشيخ إسماعيل معه .. إبتسم جده قائلا .. وهو ينفض يديه من الغبار العالق بهما .......
ــ أجل يا ابن إدريس .. أخلص لك الشيخ النصيحه وأصدقك القول .. إن أمامك رحلة طويلة لا مناص لك من القيام بها .. إن كنت راغبا فى أن تستأنف طريق العلم .. وتمضى فيه ...
ــ لم أفهم بعد يا جدى .. ما الذى تقصده ؟!..
ــ سأشرح لك الأمر .. العرب عامة بما فيهم نحن القرشيون .. خالطوا أبناء الأمم الأخرى بحكم السفر الدائم والترحال وشغلهم بالتجاره .. وأيضا لوجود كثير من العجم بينهم .. كان من نتيجة كل ذلك أن هجنت لغتهم العجمه .. فلم تسلم ألسنتهم من بعض اللحن وغريب القول .. وفقدت لغتهم شيئا غير قليل من نقائها ...
إزداد عجبا وقال مقاطعا .......
ــ رغم فصاحتنا .. وبلاغتنا المعروفة عنا .. نحن أهل الحجاز ؟!..
ــ أجل .. رغم فصاحتنا وبلاغتنا .. لكن رغم ذلك .. وهذا من لطف الله بنا .. بقيت جماعة من العرب .. هم أهل الباديه .. لم يخالطوا أى جنس .. ولم يتعاملوا فى شؤونهم مع غير العرب .. لذلك سلمت لغتــهم من أى لهجات دخيلة .. وبقى لسانهم العربى الأصيل على حاله .. لم تشبه شائبه ...
صمت برهة وأردف قائلا .......
ــ هل سمعت الحديث المروى عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. والذى قال فيه ....... إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف ...
ــ أجل .. سمعته غير مرة من الشيخ إسماعيل ...
ــ عظيم .. هذه الأحرف يا ولدى لها تأويلات كثيره .. من ذلك مثلا أنها تشير إلى سبع لغات من قبائل العرب .. ورغم أنهم اختلفوا فى تعيين هذه القبائل السبعه .. إلا أن قريشا وهذيل لم يختلف عليهما أحد .. فهذيل إحدى جماعات ست لا تؤخذ اللغة الصحيحة إلا عنها .. وهم من أفصح العرب لسانا .. وأعذبهم لغة وأحسنهم بيانا ...
ــ آه .. لهذا السبب نصحنى الشيخ إسماعيل .. أن أذهب من فورى إلى الباديه ؟!..
ــ أجل يا ولد إدريس .. أجل .. عليك بعد أن تنتهى مناسك الحج .. أن تعد نفسك إن شاء الله للرحيل إلى الهذليين .. هناك .. فى الباديه .. تخالطهم وتعيش بينهم .. وتحيا حياتهم وتعرف كلامهم .. وأيضا تحفظ أشعارهم وحكمهم ...
ــ سمعا وطاعة يا جدى ..
قالها الفتى سعيدا .. إلا أنه ارتسم على وجهه تساؤل .. هم أن يتكلم غير أن حياءه منعه .. فاستحثه جده قائلا .......
ــ ألمح فى عينيك تساؤلا .. أليس كذلك ؟!..
ــ بلى يا جدى .. لكنى لا أريد أن أشق عليك بكثرة السؤال ...
ــ سل ما بدا لك .. لا يزال أمامنا متسع من الوقت .. قبل أن نغلق الحانوت ...
ــ كنت أود أن تسمعنى شيئا من أشعارهم ؟!..
ضحك فى حنان قائلا .......
ــ إيه يا ولد إدريس .. ما أكثر ما قالوا .. إن لهم من القصائد ما يوقر مائة بعير وزياده .. إسمع مثلا قول شاعرهم أبى ذؤيب الهذلى .. فى الحكم والوصايا .......
أمن المنون وريبه تتوجــع ؛ والدهر ليس بمعتب من يجزع ...
وتجلدى للشامتين أريهموا ؛ أنى لريب الدهر لا أتضعضع ...
والنفس راغبة إذا رغبتها ؛ وإذا تــرد إلى قليــل تقنــع ...
ــ الله الله .. شعر بديع حقا .. ليتك تسمعنى مزيدا من شعرهم هــذا يا جــدى ؟!..
ــ إسمع يا ولدى قول شاعرهم .......
مالى أحن إذا جمــالك قربت ؛ وأصــد عنك وأنت منى أقرب ...
وأرى البلاد إذا سكنت بغيرها ؛ جدبا وإن كانت تطل وتخصب ...
ــ شوقتنى بكلامك هذا إلى الرحيل إليهم .. أعدك أنى لن أغادر ديارهم بإذن الله تعالى .. حتى أحفظ عن ظهر قلب كل ما قالوه ...
رد معقبا وهو يربت على كتفيه .......
ــ أنا على ثقة من ذلك يا ولدى ...
ثم أردف قائلا وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزى .......
ــ أذكرك أيضا أن براعتهم .. ليست فى اللغة والشعر فحسب .. بل هم أيضا بارعون فى فنون الرماية والقتال .. أليست تلك هواياتك .. أيها الولد القرشى ؟!..
أطرق الصبى رأسه حياء .. دون أن يتكلم أو يعقب .. واستأذن تاركا جده يواصل عمله فى الدكان ...


@ ظل الخليفة المنصور يعانى فى الشهور الأخيرة آلاما مبرحه .. فى النهار يكابد الآلام ويجاهد فى إخفائها .. وفى الليل لا يهنأ بفراش أو يلتذ بمنام .. بل تظل عيناه ساهرتان .. كأن بينهما وبين النوم خصومة ثأر أو قطيعة رحم .. لكنه كان يتحامل على نفسه .. متظاهرا بالقوة وشدة البأس .. أمام المحيطين به من أهله أو أعوانه .. فإذا ما صار فى خلوة وحده .. أعطى لمشاعره العنان ولنفسه الحق .. أن تتحرك شفتاه بالآهات والأنات .. بينما يبث ربه شكواه ...
ومع توالى الأيام ضعفت مقاومته وخارت قواه تماما .. حتى أنه لم يطق صبرا على قسوة الآلام .. أسلم الأسد العباسى نفسه لليأس واستسلم للفراش أخيرا .. بعد أن نال منه المرض وأنهك قواه .. وفى إحدى الليالى بينما هو فى فراشه وقت الظهيره .. والشمس قد تكبدت السماء .. جلست زوجته أروى بالقرب منه .. لا ترفع عنه عينان مليئتان حنانا وإشفاقا .. وهو يردد فى صوت هامس كأنما يناجى نفسه .......
المرء يأمل أن يعيش ؛ وطول عمر قد يضره ...
تبلى بشاشته ويبقى ؛ بعد حلو العيش مره ...
وتخونه الأيــام حتى ؛ لا يرى شيئــا يسره ...
كم شامــت بى إن ؛ هلكت وقائل لله دره ...
قالت وهى تجاهد أن تحبس دموعها .. مظهرة أمامه الثبات ورباطة الجأش .. مستنكرة عليه تشاؤمه ويأسه .. بينما تشاغلت بمسح جبينه براحة يدها .......
ــ ما هذا الذى تنشده يا أبا عبد الله !.. ولم كل ذلك التشاؤم واليأس ؟!..
سكتت برهة ثم أردفت قائلة .. بعد أن رسمت شبح ابتسامة على شفتيها .......
ــ إنها وعكة عارضه .. سرعان ما تزول كسابقتها .. ستقوم بعدها معافى سليم البدن بإذن الله .. إن الله تعالى لم يخلق داء إلا خلق له دواء .. أليس كذلك يا أمير المؤمنين ؟!..
ــ صدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. لكن أكملى بقية الحديث .. إلا الموت .. أجل إلا الموت يا أروى .. لقد ولدت فى شهر ذى الحجه .. ووليت فى شهر ذى الحجه ...
قال ذلك ثم تنهد قائلا .......
ــ وهجس فى نفسى أنى أموت هذا العام .. فى نفس هذا الشهر .. إنى أشعر بدبيب الوهن فى جسدى .. وأن صحتى فى تأخر يوما عن يوم ...
ردت وهى تغالب البكاء .......
ــ لقد أرسلنا منذ أيام فى طلب طبيب من الهند .. معروف ببراعته وحذقه .. فى مداواة علل البطن والمعدة التى تعانى منها ...
رد قائلا وهو يشيح بيده بعيدا فى ضجر ويأس .......
ــ طبيب !. ماذا يفيد طبيب الهند أو غيره .. صدقينى يا أم موسى .. لا جدوى من وراء ذلك كله .. لقد تمكنت العلة منى واستحكم الداء ...
تحولت عن مجلسها واقتربت منه .. وهى تطوق عنقه بيدها قائلة .......
ــ حفظك الله من كل سوء .. إذا اعتل أمير المؤمنين .. إعتل الناس جميعا ..
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأحكى لك حكاية عن واقعة حدثت لى فى صباى .. لم أروها لأحد قبل اليوم إلا لواحد من الحكماء .. رويتها له فى الكوفه بعد أن توليت الخلافه .. ولم يسمعها منى بعد ذلك أحد .. إلا أنت الآن يا أروى ...
ــ حكايه !.. أية حكاية تلك يا أبا عبد الله ؟!..
ــ إنه منام غريب .. رأيته فى صباى .. لا زلت أذكره كأنى أراه الآن ...
أخذ يلتقط أنفاسه لحظات .. ثم استأنف قائلا وهى تنصت له .......
ــ رأيت كأنى فى المسجد الحرام بمكه .. ورسول الله [صلى الله عليه وسلم ] داخل الكعبه .. ونفر كثير من الناس ملتفون من حولها .. وإذا بمناد يخرج قائلا .......
ــ أين عبد الله .. فأسرع أخى أبا العباس السفاح ودخل الكعبه .. ثم خرج وبيده لواء أسود .. ثم نودى مرة ثانيه ....... أين عبد الله .. فقمت أنا وعمى عبد الله بن على نستبق .. فسبقته حتى أتيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. فعقد لى لواء وأوصانى بأمته .. ثم عممنى بعمامة كورها ثلاثا وعشرين كورا .. بعدها إستيقظت من نومى .. وأنا فى حيرة من أمرى .. أخذت وقتها أسأل نفسى .. ما تأويل هذه الرؤيا يا ترى .. هل أدركت تأويلها يا أم موسى ؟!..
ــ ما وجه الغرابة والعجب فيها .. أقسم أنها رؤيا واضحة وضوح النهار .. ليست فى حاجة لمن يتأولها أو يعبرها.. إنها تنبئ بما صرت إليه .. أنك ستكون ذات يوم خليفة على المسلمين .. وأنه سيكون لك شأن كبير .. وهذا ما حدث تماما ...
ــ ألم تدركى منها .. أمرا آخر ؟!..
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله .. هلا أفصحت ؟!..
ــ بعد أن توليت أمور الخلافه .. تذكرت هذه الرؤيا .. أرسلت فى التو رسولا يأتينى بأحد الحكماء المعبرين من الكوفه .. قال لى ………………
ـ رؤياك هذه يا أمير المؤمنين .. والعمامة التى كورها رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] على رأسك ثلاثا وعشرين مره .. تشير إلى زمن ولايتك ومدة خلافتك .. وأيضا إلى ما يتبقى من عمرك .. ثلاثا وعشرين سنه ..
ــ أفهمت يا أم موسى ؟!.. فى شهر ذى الحجة القادم .. ونحن على أبوابه .. تكتمل هذه السنوات ...
ردت قائلة دون أن تعقب على كلامه .. محاولة أن تغير مجرى كلامه .....
ــ دع عنك هذه الهواجس .. أظنك أرسلت فى استدعاء ولى العهد ؟!.
أجابها متثائبا وهو يميل على جانبه الأيسر .......
ــ ولدى محمد المهدى .. أجل .. ليته يعجل بالقدوم من الرى ...
ــ لم يا أمير المؤمنين ؟!..
رد باقتضاب وهو يميل برأسه على الوساده .......
ــ لدى الكثير .. مما أود أن أقوله له ...
لاحظت أنه يريد أن يستريح على فراشه .. قامت ناحية الباب .. وأمرت خادمه ألا يسمح لأحد بالدخول عليه .. إلا بإذن منها .. خرجت تاركة زوجها وهو فى حالة بين النوم واليقظه ..
وإذا به بعد أن صار وحده .. يرى شعاعا من الضوء فى ركن الغرفه .. حاول أن يتبين مصدره .. فإذا به يلمح وهو يدقق النظر مستجمعا قواه .. شبحا يقف ساكنا فى آخر الغرفة .. كأنما انشقت عنه الأرض .. أخذ يحدق النظر فيه .. محاولا أن يستبين ملامحه .. غير مصدق عينيه .. فإذا الواقف بعيدا عنه شيخ نحيل .. تحيط به هالة من ضوء خافت .. يرتدى ثيابا بيضاء .. له وجه مضئ تزينه لحية طويله .. وأسفل عينه اليمنى شامة سوداء ...
رآه المنصور وهو يقترب منه على مهل .. نظر إلى قدميه .. فإذا هما لا تلمسان سطح الأرض .. كانتا ترتفعان عنها قليلا .. كأنه يمشى على الهواء .. إنتابه الفزع .. كاد قلبه ينخلع من هول المفاجأه .. ظل يفرك عينيه .. يتأكد أنه لا يزال يقظا لم ينم بعد .. وأن الذى يراه حقيقة ليس مناما أو تخيلا .. وهو يتمتم بشفتيه بعض الأدعيه .. أخيرا سأل بصوت مرتعش متحشرج .......
ــ من أنت بالله عليك .. كيف دخلت غرفتى .. الأبواب كلها موصده ؟!..
ــ السلام عليك أولا .. لا تخف يا أبا جعفر ...
ــ وعليك السلام .. من أنت .. بشر أم ...؟!..
ــ لا يهم هذا .. إنما أتيت لأبلغك رسالة أيها الخليفة الراحل .. ثم أمضى بعدها لحالى ...
ــ رساله !.. أية رسالة تلك ؟!..
ــ أبا جعفر إسمعنى جيدا .. إنك ملكت ما ملكته ؛ والأمر فيه إلى سواكا ...
سأله المنصور وقد جف حلقه وزاد خوفه .......
ــ زدنى فهما أهى النهايه ؟!..
ــ أبا جعفر ....... قد حانت وفاتك وانقضت ؛ سنوك وأمر الله لابد واقع ...
فهل يا ترى من كاهن أو منجم ؛ لك اليوم من أمر المنايا مانع ...
ــ قد علمت .. لكنى عزمت على حج البيت هذا العام .. إنها آخر أمنية لى فى هذه الدنيا .. فهل لى إليها من سبيل ؟!..
ــ إمض لما أنت عازم عليه أيها الراحل .. لكنه أمر مبرم وقضاء فصل ...
إنتهى الشيخ الشبح من كلامه .. ثم استدار واختفى .. فجأة كما جاء .. كأنما انشقت عنه الأرض .. بينما راح المنصور فى سبات عميق .. بعد أن شعر بالسكينة كأنما نزلت على قلبه وغمرت جوانحه ...

@ مضت ساعات .. وبينما الشمس فى طريقها للغروب .. والظلال تتكاثف فوق سطح القصر .. صحا المنصور من نومه .. فتح عينيه ليرى امرأته واقفة إلى جواره .. تجفف بمنشفة فى يدها .. ما تراكم على جبينه من عرق غزير .. وهى تقول له بعد أن زينت فمها ابتسامة حانيه .......
ــ نوم العافية إن شاء الله يا أمير المؤمنين .. إنك تبدو الآن أحسن حالا ...
أجابها قائلا وهو يأخذ نفسا عميقا .......
ــ أجل أجل الحمد لله .. أشعر الآن ببعض الراحة والسكينه ...
صمت برهة ثم سألها .......
ــ هل بالباب أحد ؟!..
ــ أجل يا أمير المؤمنين .. الطبيب ...
ــ طبيب !.. أى طبيب هذا ؟!..
ــ أنسيت يا مولاى .. الطبيب الذى أرسلنا فى طلبه من الهند .. وصل منذ ساعة .. إلا أنه آثر الإنتظار .. إلى أن تصحو من نومتك ...
رد المنصور وعلى شفتيه ابتسامة ساخره .......
ــ الطبيب !.. ما جدوى الطبيب .. بعد الذى رأيت ...
ــ ماذا تقول يا أبا عبد الله ؟!..
ــ لا شئ لا شئ أدخلوه ما دامت تلك رغبتكم ...
فيما كان الطبيب منهمكا فى فحصه .. دخل ولى العهد يلهث على عجل .. وقد بدت عليه آثار رحلة طويلة شاقه .. وقف مكانه يستمع إلى الطبيب .. وهو يحاور المنصور ويسأله عن شكواه .. وفى نهاية الحوار بينهما .. قال الطبيب موجها كلامه له .......
ــ هذا الذى تشكو منه يا أمير المؤمنين .. من غلبة المرة الحمراء .. سأعد لك دواء من السفوف اليابسه .. مع بعض المركبات الحاره .. على أن تقل من الطعام ...
إستدار الطبيب خارجا .. فى اللحظة التى نظر المنصور فيها لولده المهدى .. نظرة فهم منها أنه يريد أن يختلى به .. فلما صارا وحدهما .. قال له فى صوت واهن .. وهو يمد يده إليه ليدنيه منه .......
ــ إنى عزمت يا ولدى .. على الخروج إلى الحج .. غدا إن شاء الله .. على أن تبقى أنت هنا مكانى .. تدير أمور البلاد .. لقد أرسلت رسالة بذلك منذ أيام .. إلى أمير مكه .. أعرفه فيها بما عزمت عليه ...
قاطعه متوسلا .......
ــ معذرة يا أبى .. ما هذا الذى عزمت عليه !.. أعتقد أنك لا تحتمل فى مثل هذه الحال .. رحلة طويلة شاقة كرحلة الحج .. إننا فى أيام شديدة الحراره .. والطريق غير ممهد من بغداد إلى مكه ...
رفع المنصور راحته طالبا منه ألا يسترسل فى توسلاته .. ثم قال له .......
ــ يا ولدى لا تجزع .. إنها النهايه .. نهاية رحلة الحياة التى لابد منها .. لا جدوى من كلامك هذا .. ليت أجلى يأتينى وأنا بمكه ...
ثم تنهد قائلا .......
ــ ليتنى أدفن فى ترابها الغالى ...
رد وهو يغالب دموعه .......
ــ أنت وما عزمت عليه يا أمير المؤمنين ...
قال المنصور .......
ــ أدن منى يا ولدى .. أعطنى كل سمعك .. فإنى أوصيك بخصال .. ليتك تعمل بها ...
ــ السمع والطاعة يا أبت ...
ــ إعلم أن السلطان لا يصلح إلا بالتقوى .. ولا تصلح رعيته إلا بالطاعه .. ولا تعمر البلاد بمثل العدل .. واعلم أن أقدر الناس على العفو .. أقدرهم على العقوبه .. وأعجز الناس من ظلم من هو دونه .. إتق الله يا ولدى .. فيما أعهد إليك من أمور المسلمين من بعدى .. والزم الحلال .. فإن ثوابك فى الآجل .. وصلاحك فى العاجل .. إياك وتبذير أموال الرعيه .. وعليك بشحن الثغور .. وضبط الأطراف وتأمين السبل .. وباشر أمورك بنفسك .. وكن حسن الظن بربك .. سئ الظن بمن حولك .. من عمالك وكتابك .. تفقد من يبيت على بابك .. وسهل إذنك للناس .. ولا تنم .. فإن أباك لم ينم .. منذ ولى الخلافه .. وما غمضت عينى إلا وقلبى يقظان .. هذه وصيتى إليك .. والله خليفتى عليك ...
سكت برهة وسأله .......
ــ أين ولديك .. موسى وهارون ؟!..
ــ بالباب يا أبت مع أمهما الخيزران .. ينتظرون أن تأذن لهم ...
إفتر فمه عن ابتسامة باهتة وهو يقول .......
ــ يا لها من امرأة محظوظة .. وكيف لا تكون .. وهى امرأة أمير المؤمنين من بعدى .. وأم لأميرين للمؤمنين .. إيــــه .. من يدرى .. قد تكون جدة لأمير المؤمنين .. إحرص على هذا الأمر يا ولدى .. لا تدع الخلافة تخرج من ولدنا أبدا .. مهما كلفك هذا ..
ثم أخذ يقول لنفسه .. بعد أن دخل أحفاده عليه وقبلوا يديه .......
ــ اللهم بارك لى فى لقائك يا رب العالمين .. اللهم إن كنت عصيتك فى أمور كثيرة .. فقد أطعتك فى أحب الأشياء إليك .. شهادة ألا إله إلا الله مخلصا ...


@ بعد أيام .. بينما أهل مكة يستعدون للخروج إلى جبل عرفات .. إذا بصوت المنادى يقرع آذانهم .. وهو يجوب الطرقات .. ناعيا إليهم أمير المؤمنين .. الذى وافته المنية قبل أن يدخل مكه بمرحلة واحده .. هرع الناس فزعين خارج منازلهم .. يستطلعون الأمر ويتناقلون النبأ .. بينما صوت المنادى من بعيد يردد قائلا .......
ــ أمير المؤمنين .. دعى فأجاب .. ولبى نداء ربه محرما .. سبحان الحى الذى لا يموت .. سبحان الباقى بعد فناء خلقه ...
وفى دار عبيد الله الأزدى التف كل من فى البيت حوله فى فضول وانتباه وهو يحكى لهم .......
ــ مات المنصور .. وهو فى طريقه إلى مكه .. بعد أن أحرم من الرصافة .. وساق البدن أمامه .. وبعد أن جاوز الكوفة بمراحل .. إشتد عليه المرض عند بئر ميمون .. القريبة من مكه ...
سأله على .......
ــ هل يدفن هنا .. أم سيعودون به إلى بغداد ؟!..
ــ قيل إنه سيدفن هنا بمكه .. عند ثنية المعلاه بالحجون .. كما أوصى ...
ــ وهل تمت البيعة لولى العهد .. محمد المهدى ؟!..
ــ قيل أن الربيع بن يونس .. ذلك الوزير الداهيه .. أعمل الحيله وأخبر من معه .. أن المنصور يطلب منهم أن يبايعوا لولده المهدى .. كان ذلك بعد أن فارق الحياه .. لكن الربيع لم يشأ أن يعلمهم بذلك .. إلا بعد أن تمم البيعة للمهدى ………………
---------

@ قبل وفاته بأيام قليلة .. كان المنصور قد انتهى من إقامة قصر جديد .. أطلق عليه قصر الخلد .. خارج مدينة بغداد فى مكان طيب الهواء بعيدا عن الزحام .. دفعه لإقامته أن هذه المدينة سرعان ما ازدحمت بالتجار والصناع .. وطالبى العلم الذين رغبوا فى المقام بها .. الوافدين إليها من كل حدب وصوب .. وشاءت إرادة الله تعالى .. أن يموت المنصور بعد فراغه من إقامة هذا القصر .. لم يكتب له أن يقيم فيه ولو يوما واحدا .. وأول من دخله ولده أبو عبد الله المهدى .. بعد أن أصبح أميرا للمؤمنين .. وفى أول لقاء له بالأمراء والقاده ورجال الدوله .. فى قاعة الحكم بقصر الخلد .. إتخذ المهدى مجلسه فى الصدارة .. شابا طويلا فارعا .. أسمر اللون جعد الشعر .. له من العمر ثلاثة وثلاثين عاما .. نظر إلى الربيع .. خاطبه فى تؤدة ونبرة حزن فى صوته .......
ــ إقرأ على الحاضرين .. الرسالة التى أملاها عليك أمير المؤمنين .. قبل أن يرحل إلى جوار ربه ...
ــ السمع والطاعة يا أمير المؤمنين .. بسم الله الرحمن الرحيم ....... من عبد الله المنصور أمير المؤمنين .. إلى من خلف بعده .. من بنى هاشم وشيعته من أهل خراسان وعامة المسلمين ...
سكت الربيع وقد خنقه البكاء وأبكى الحاضرون معه .. إغتنمها أحد الشعراء فرصة فقام منشدا .......
عجبــا للذى نعى الناعيان ؛ كيــف فاهــت بموته الشفتان ..
ضم أطراف ملكه ثم أضحى ؛ خلــف أقصاهم ودون الدانى ..
ذو أناة ينســى لها الخائف ؛ الخوف وعزم يلوى بكل جنان ...
ذهبت دونه النفوس حذارا ؛ غيــر أن الأرواح فى الأبدان ...
قال أمير المؤمنين مستنكرا بكاءهم وانتحابهم .......
ــ قد أمكنكم البكاء وغلبكم .. أنصتوا أصلحكم الله ...
ثم أشار للربيع بيمناه الذى واصل قراءة الرساله .......
ــ أما بعد .. فإنى كتبت كتابى هذا إليكم فى آخر أيامى فى الدنيا .. وأنا على عتبات الآخره .. أسأل الله ألا يفتنكم بعدى .. وألا يلبسكم شيعا وألا يذيق بعضكم بأس بعض .. وأذكركم بالبيعة لولدى محمد المهدى .. أميرا للمؤمنين من بعدى .. ومن بعده لولده موسى والسلام ...
طواها الربيع والتفت للحاضرين قائلا فى ثبات وحزم .......
ــ وبالأمس أيها الأمراء والقاده .. بايعنا أبا عبد الله المهدى .. أميرا للمؤمنين ...
قبل أن ينهضوا من أماكنهم لتجديد البيعه .. أشار لهم المهدى أن يلتزموا أماكنهم .. ثم قال بصوت جهورى .. بعد أن خيم الصمت أرجاء المكان .......
ــ بسم الله الرحمن الرحيم ....... إن الأرض يورثها من يشاء من عباده .. والعاقبة للمتقين أما بعد .. فإنا أمرنا بأخذ البيعة الآن .. لولدنا موسى وليا للعهد ولقبناه بالهادى .. ومن بعده لأخيه هارون ولقبناه بالرشيد .. تلكم وصية الخليفة الراحل .. كما أمرنا بإطلاق سراح كل المحبوسين .. إلا من كان محبوسا على دم .. أو سعى فى الأرض فسادا .. كما أصدرنا بيانا بأسماء أمرائنا وعمالنا على البلاد والثغور .. وأوصينا بتقصير المنابر فى كل المساجد .. إلى مقدار منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم ] .. وتغيير كساء الكعبة وطلائها بالخلوف .. وأن يبدأ العمال والصناع والفعلة من الغد .. فى حفر الركايا وبناء المصانع والدور والقصور .. على طول الطريق من العراق إلى الحجاز .. كى يكون آمنا طيبا للمسافرين والحمد لله ...


@ دخل العام الهجرى الجديد .. أخذت أم حبيبه تعد العدة وتجهز ولدها للرحيل إلى الباديه .. أعدت له شيئا من الزاد وبعض الملابس والأغطيه .. ونفحته بما تيسر لديها من دراهم .. وقبل أن يغادرا مكه استأذنها فى الذهاب إلى شيخه إسماعيل بن قسطنطين ليسلم عليه .. إلتقى فى الكتاب بصديقه الفضل بن الربيع .. الذى لم ينته بعد من دروس القرآن .. وقبل أن يفترقا شد الشافعى على يديه مودعا .. وهو يقول له .......

ــ وداعا يا صديقى الحبيب .. ليت الأيام تجمعنا ونلتقى يوما مرة أخرى .. حتما سنلتقى بإذن الله .. قلبى يحدثنى بذلك يا أخى الفضل ...
رد قائلا وهو يغالب دموعه .......
ــ ليت الأيام تجمعنا .. لأرد لك معروفا طوقت به عنقى .. وجميلا لن أنساه لك طيلة عمرى .. لولا أن من الله على بصحبتك يا أخى .. لما تمكنت من مواصلة دروس القرآن .. إنك أعدت إلى ثقتى بنفسى ………………

@ إنطلق الشافعى بصحبة أمه إلى الباديه .. فى البقاع الجبلية القريبة من مكه .. حيث تعيش قبائل بنو هذيل .. كان الطريق وعرا والرحلة شاقة مضنيه .. وفى الطريق أثناء سيرهما .. فوجئت أم حبيبه بولدها يسألها .......
ــ أماه ...
ــ نعم يا قرة عينى ...
ــ ليتك تحدثينى عن أبى ...
تعجبت من سؤاله .. تلك أول مرة يتوجه لها بسؤال كهذا .. لم تدر له سببا .. إلا أنها ردت قائلة .. بعد أن مسحت دمعة فرت من عينيها رغما عنها ....... أبوك يرحمه الله .. لم أر مثله فى الرجال .. فى سماحة خلقه وطيبته .. كان قليل الكلام كثير التفكر .. لم يقل لى يوما لشئ لم أفعله لم لم تفعليه .. لم أره أبدا غاضبا أو حانقا .. كان راضيا على الدوام .. قانعا بما قسمه الله لنا .. وقبل أن يفارق الحياه .....
إختنق صوتها بالبكاء .. لم تستطع مواصلة الكلام .. سكت الصغير إجلالا لصمتها .. لم يطلب منها أن تواصل الحديث .. غير أنها بعد لحظات أردفت قائلة .......
ــ قبل أن يفارق الحياة يا ولدى .. أوصانى عليك ...
ــ ماذا قال يا أمى ؟!..
ــ كانت آخر كلماته قبل أن يفارق الحياه ....... إحرصى على ولدنا .. ضعيه دوما بين عينيك .. فلسوف يكون له شأن كبير .. إنه عالم قريش .. عالم قريش .. بعدها أسلم الروح إلى بارئها ...
سألها الغلام فى براءة .......
ــ وأين هو الآن يا أمى ؟!..
ردت قائلة .. وهى تنظر إلى الأفق البعيد .......
ــ إنه فى عالم الخلود .. فى جوار ربه ...
أخيرا وصلا إلى الباديه .. لم تتركه إلا بعد أن اطمأنت عليه .. وسلمته بنفسها لشيوخ هذيل .. أوصتهم به .. بعد أن عرفتهم بنسبه وشرفه ………
@ عاش الشافعى معهم سنوات .. يحيا حياتهم .. يتكلم كلامهم .. يردد أشعارهم .. ينتقل بانتقالهم من مكان لآخر .. لم يغادرهم أكثر من سبعة أعوام .. هبط بعدها إلى مكه وهو دون الخامسة عشره بقليل .. فتى أسمر .. نحيفا ضامرا كأنه عود من خيزران .. بحرا فى اللغة والأدب والشعر .. يحمل فى صدره أكثر من عشرة آلاف بيت .. من أشعار بنى هذيل بإعرابها ومعانيها .. ويحمل شعر الشنفرى كله .. صار بتلك الثروة الهائلة .. واحدا ممن يؤخذ عنهم النطق الصحيح للغة العربيه .. وحجة بلسانه العربى الفصيح .. تعلم عندهم أيضا فنون الرماية التى كان يهواها .. حتى صار بارعا فيها .. ولما عاد إلى داره .. وجدها وقد خلت من ساكنيها .. إلا أمه التى أصبحت تعيش بمفردها .. علم منها أن جدته ماتت منذ عامين .. ومن بعدها جده الأزدى بعد معاناة طويلة مع المرض .. وأن دكان العطارة آل إلى خاله على .. الذى تزوج وانتقل إلى دار أخرى .. عاشت أم حبيبه مع ولدها .. واهبة حياتها كلها له .. تنتقل معه حيث رحل .. حاملة على كاهلها مهمة إعداده وتنشئته .. عملا بوصية زوجها .. لم تنس أبدا كلماته التى قالها لها .. قبل أن يفارق الحياه .. ولا يزال رجع صداها يرن فى أذنيها .. وهو يقول لها .......

ــ إحرصى على ولدنا يا أم حبيبه .. ضعيه دوما بين عينيك .. فلسوف يكون له شأن كبير .. إنه عالم قريش .. عالم قريش .. الذى لم يأت بعد ...

*******



تم بعون الله الفصل الأول
من السيره الشافعيه
ونبدأ بعد استراحة فى سرد أحداث
الفصل الثانى


يتبع إن شاء الله الفصل الثانى ........................

abuzahda
24/11/2008, 03h42
الله
يا دكتور أنس
أبطال روايتك ،
أناسٌ مثلنا من دمٍ و لحم
ليسوا كتلك الدمى اليابسة التي عبأ رؤسنا بها صناع الدراما التاريخية

هذه فرصة طيبة ، لتعرف أمهاتنا أن : أم حبيبة إمرأة عادية
تتثاءب عند اليقظة المبكرة ، ولها جارة عند المخاض

بوركت يا دكتور أنس ، إذ قاومت غواية الزركشات اللفظية
مستخدماً لغة وسطية . تضع ساقاً عندنا و أخرى في التراث
و لم يستدرجك البحث في الأسانيد ، فتستعير المهجور من ألفاظه.
:emrose::emrose:
:emrose:ياسيدي:emrose:
قل للمدعين:
" الآن يُريحُ الإمامُ سَاقـَه "

د أنس البن
24/11/2008, 17h55
شاعرنا الكبير سيد ابو زهده
ساكن القلوب
كلماتك هذه وسام على صدرى وتاج على رأسى
لقد أراحتنى كثيرا , لأنك لا تعلم كم ترددت فى نشر تلك الأوراق لتصورى أنها مجرد نزوه من مدع لا يحق له ولوج عالم المبدعين , وأنى يكون مثلى منهم
بوركت بكل حرف كتبته بما لا يحصى عددا
أنس

رائد عبد السلام
24/11/2008, 18h46
آمين
وبوركت أيضا يا حكيمنا وطبيبنا
د: أنس
علي هذه الواحة الفواحة الروّاحة
التي نتطهر فيها من أدران عصرنا الذي نحياه
دعواتنا لك بالصحة ...والثوابُ باقٍ
بحول وقوة
من ألهمك هذه الصفحات المباركة
سبحانه وتعالي

هامش : أأخبرك سراً ....سيدي؟؟
أحيانا أعود من العمل مرهقا...فأجد صفحات جديدة من (عالم قريش) ..فيعزّ علي ما تبذله من جهد جهيد ..فأقرأ جزءاً بلا اتفاق..لأترك تعليقاً
وياللعجب ...أجد نفسي قد استُدرجت ...ونسيت إرهاقي ..وأكملت قراءة الصفحات كلها ...قد يكون صدق الجهد وصدق التعبير هو الذي يجذب القاريء في تلك الصفحات الرائعة

د أنس البن
25/11/2008, 09h31
الفصل الثانى


من السيره الشافعيه



مكه 165 هجريه


@ مكث الشافعى زمنا عقيب رجوعه من الباديه .. معايشا لأحوال أهلها ولوعا بما كان يلقاه سمعه منهم ليل نهار .. مرددا ما يحفظه من أشعارهم وحكاياتهم وآدابهم .. وأخبار العرب وبطولاتهم .. وما وعاه واكتسبه فيما مضى من أعوام مع أهلها .. وبين قبائلهم وعشائرهم من طباع وعادات ..
حاول غير مرة أن يتردد على حلق العلم والدرس فى ساحة الحرم ليكمل مسيرة العلم التى بدأها فى نفس المكان .. فى كتاب الشيخ إسماعيل .. إرضاء لأمه .. وتحقيقا لحلمها ورغبتها وأمنية عمرها .. التى كانت تلقيها الى مسامعه وتذكره بها بين الحين والحين .. أن ترى ولدها يوما من الأيام .. ليس واحدا من علماء مكة المعروفين فحسب .. بل كبيرهم .. الذى يقصده الناس كافة .. وتشرئب اليه أعناقهم .. وهم يشيرون عليه قائلين :: هذا هو عالم قريش الذى ملأ الأرض علما ...
ساقته قدماه الى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه .. أكثر حلق العلم شهرة وأكبرها .. لبث بين يديه أياما لم يجن خلالها إلا الملل مما يسمع .. تحول الى حلقة مسلم بن خالد الزنجى .. ظنا منه أنه سيجد فيها لونا آخر من العلم والحديث .. أبدا لم يعثر على بغيته .. كانت كسابقتها .. راح الى غيرها وغيرها .. وفى كل مرة كان يضيق صدره .. ولا يجد فى نفسه صدى لما يلقى الى مسامعه .. ولا فى وجدانه قبولا ..
حاول أن يرهف حواسه ويجمع قواه الى ما يقوله فقهاء الحرم من علوم الحديث والفتوى .. لكن هيهات .. لم يصادف كلامهم ولا مضمون حديثهم هوى فى نفسه أو ميلا إليه .. لم يجد همة أو رغبة تدفعه أو تشجعه على استمرار الدرس .. أو متابعة تحصيل هذه الألوان من العلوم ..
كان قلبا وقالبا يشعر بفتور لا يدرى له سببا , إزاء مجالسة علماء وفقهاء الحرم وارتياد حلقهم والتزود منهم والأخذ عنهم .. لكنها حداثة عهده بالباديه وتأثره بما سمعه وتلقاه وشاهده عند الهذيليين .. متخما بأشعارهم غارقا فى آدابهم وفنونهم ولوعا مفتونا بها ..
حاول أن يبوح لأمه بما يعتمل فى نفسه .. إلا أن لسانه لم يقو على الشكوى .. وجد فى نفسه حرجا شديدا فى بثها حقيقة مشاعره .. عالما بمدى حرصها على مواصلته رحلة العلم .. تذكر خاله "على" أصغر أخواله سنا وأقربهم إلى قلبه .. ليعرض عليه الأمر ويحدثه بما يعتمل فى نفسه من صراع .. بين هوى نفسه وأمنية أمه التى تلح عليه فى خاطره دوما .. أيرضى أمه ويجلس مرغما فى حلق الدرس التى لم يجن منها شيئا .. متظاهرا أمامها بالقناعة والرضا .. أم يكون صادقا مع نفسه ويمضى فيما يرضيه ويحقق ما تميل إليه نوازع نفسه .. غير أنه لم يجد أى جرأة على البوح بمكنون فؤاده حتى لأقرب أخواله إلى قلبه وأحبهم إليه ..
لم يعد أمامه بعد أن أعيته الحيل وعدم الوسيلة فى خلع ثوب الشعر والأدب عن نفسه .. وتحرير شغاف قلبه من أسر هذا الأطار المحكم الذى أحاط به وملك عليه نفسه واستهواه .. لم يعد أمامه إلا أن يجالس الناس .. يحدثهم بما وعاه من أخبار العرب وآدابهم .. وسير البطولات والمغازى .. أو ينشدهم ما حفظه من أشعار الحماسة والفضائل والحكم .. إستمر على تلك الحال زمنا لم ينقطع فيه يوما عن مجالسة القوم منتظرا ما يقضى به الله فيه ..
وكما توقع الفتى وحسب حسابه .. أثار هذا النهج منه امتعاض أمه وقلقها لما علمت به .. وهى التى لم تكن ترضى لولدها بديلا عن علوم القرآن ودروس الفقه والحديث .. لم تيأس أبدا رغم كل هذا من تحقيق أمنيتها .. فى أن يجالس وحيدها شيوخ الحرم .. يتضلع من علومهم .. يحلق معهم فى تلك الآفاق السامقة مع علوم القرآن والسنة والحديث .. إنها تعده منذ نعومة أظفاره لحمل أمانة العلم وإعداده ليكون عالم قريش .. الذى يملأ الدنيا علما .. تصديقا لوصية أبيه لها وهو على فراش الموت .. ومحققا صدق رؤياها التى أتحفها الله بها وهى فى أرض غزه .. بينما هو لم يزل جنينا فى أحشائها ..
وذات يوم عند عودته للدار راجعا من حلقته تلك .. فوجئ بها وهى تلقاه بوجه عابس متجهم على غير عادتها معه .. كانت تتحرى دوما ألا تقع عينه عليها وهى غاضبة أو حزينه .. وألا يرى منها دوما إلا مشاعر ومظاهر الرضا والبهجة والسرور .. لم يحدث أبدا أن دخل عليها يوما إلا وتلقاه بوجه باسم مشرق .. حتى لو كانت تتحلقها من كل الجهات هموم الدنيا ومشكلاتها ..
كانت ترد على أسئلته باقتضاب وهى تشيح بوجهها عنه .. حاول أن يلاطفها .. يمازحها .. عله يسبر أغوارها .. يعرف سر تغير مشاعرها تجاهه .. إنها أمه البارة الطيبه .. وهبت له سنى عمرها .. صباها .. عصارة حياتها .. فتح عينيه عليها طفلا .. تضمه دوما إلى صدرها .. تحيطه بحنانها وعطفها .. لم تفارقه لحظة واحدة منذ مولده .. إلى أن صار غلاما فتيا فى الخامسة عشر من عمره ..
ترددت .. لم تفاتحه بما يختلج فى نفسها .. أو تخبره باستنكارها من عزوفه عن حلق العلم ومجالسة العلماء .. عن امتعاضها من جلوسه على رأس حلقة .. يحكى للناس الأساطير والسير والأشعار .. كانت ترى كل ذلك ضرب من ضروب الهزل ومضيعة للوقت والجهد .. كل مرة تحاول فيها مفاتحته لمسئله لترده عن ذلك .. تجد شيئا خفيا يمنعها .. يمسك عليها لسانها رغما عنها .. أخيرا خرجت عن صمتها وتحفظها بعد أن طف الصاع وفاض الكيل .. لم تطق صبرا وهى تراه يلح عليها لمعرفة ما بها .. أجابته متسائلة فى حدة وجفاء لم يعهده منها .....
ــ تريد أن تعرف ما بى حقا ؟!. قل لى أنت .. أخبرنى .. ما هذا الذى يتداوله الناس من حديث عنك هذه الأيام .. يا ابن إدريس ؟!.
كانت تسأله متظاهرة بانشغالها فى إعداد الطعام .. متحاشية النظر تجاهه .. كى لا تقع العين على العين أو تلتقى نظراتهما .. حتى وهى غاضبة منه .. لا تحب له أن يتأذى برؤية ملامح الغضب والحزن على وجهها ..
حاول بذكائه أن يمتص فورة غضبها بعد أن أدرك بلماحيته قصدها .. وهو الفتى النابه اللبيب ابن آبائه .. رد عليها مبتسما متظاهرا هو الآخر بعدم معرفته سبب تساؤلها .. بينما تختلس عينيه النظر إليها حياء .....
ــ خيرا يا أم الشافعى .. ماذا سمعت عن ولدك ؟..
ردت والنظرة اللوامة الغاضبة لم تفارق عينيها .. ولا نبرات صوتها العاتبه .....
ــ لا أدرى .. ما الذى أقول لك يا ابن إدريس .. إيه .. لم يكن هذا أملى فيك ولا رجائى منك ..
ــ أماه .. ماذا بلغك عن ولدك ؟..
ــ يقولون .. أنك تتصدر كل يوم .. حلقة .. كبيرة .. فى الحرم .. يجتمع الناس فيها من حولك .. ألم تفعل ذلك ؟.
ــ أى بأس فى ذلك يا أماه ؟!.
ــ أجب على سؤالى .. ألا تفعل ؟.
ــ بلى يا أمى .. أجلس فى الحرم والناس مجتمعون من حولى يستمعون ..
ــ يستمعون ؟!. أى شئ يسمعونه منك .. أو يتعلمونه منك ؟..
ــ أعلمهم حكم العرب .. وأحدثهم عن سير البطولات والمغازى .. ونوادر الشعوب .. وأنشد عليهم أفضل ما قالته العرب .. من أشعار الحماسة والفضائل .. و ..
ــ كفى .. كفى .. أنت من يقول ذلك .. أنت !. ولد إدريس .. حفيد المطلب بن عبد مناف الهاشمى .. لا أكاد أصدق ما أسمعه منك .. لا أكاد أصدق .. هل تعلمت القرآن وحفظته تلاوة وأحكاما فى صباك .. ثم رحلت إلى البادية ومثت فيها عدد سنين .. من أجل إضاعة عمرك فى هذا العبث ولغو الكلام ..
ــ أماه .. ما حيلتى يا أم .. وقد رجعت من البادية بتلك البضاعه .. التى أعرض منها على القوم كل ليلة .. ما ينفعهم ويفيدهم .. و ..
قاطعته فى الحال محتدة غاضبة وقد علا صوتها .....
ــ بضاعة مزجاه .. لا قيمة لها .. ولا وزن ..
إستأنفت قائلة وقد انطفأت قليلا جذوة غضبها .. ناظرة إليه مشفقة .. وفى صوتها نبرة لين وحنان ....
ــ يا ولدى .. يا نور عينى ومهجة قلبى .. لما ذهبنا بك إلى الباديه .. لم يكن ذلك إلا بقصد تقويم لسانك .. ولتتعلم اللغة العربية الصحيحة من منابعها وجذورها الأصيله .. كانت البادية وسيلة إلى هدف أسمى .. لا غاية كما ظننت .. مثلك يا ولدى لم يخلق لهذا العبث .. إن ما تعكف عليه عبث وهزل لا يليقان بمثلك يا ولدى .. أليس كذلك .. تكلم ..
أطرق الفتى برهة لا يجد ما يرد به .. وقد تندى جبينه خجلا .. وأخيرا نطق بما لم يكن يريد ذكره .....
ــ أمى .. صدقينى .. سأقول لك الحقيقة التى لم أكن أحب البوح بها .. بعد عودتى من الباديه .. حاولت مرارا أن أستقر فى إحدى حلق الدرس بالحرم .. ذهبت إلى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه .. وذهبت إلى حلقة مفتى مكة الأكبر مسلم بن خالد الزنجى .. ثم إلى حلقة سعيد بن سالم .. وحلقة داود العطار .. وغيرهم وغيرهم .. صدقينى يا أمى .. كم جلست إلى هؤلاء الصفوة الخيار من علماء مكة وشيوخها .. لكن .. لكن .....
قاطعته متسائلة ....
ــ لكن ماذا يا ولدى .. تكلم ..
ــ كانت تنتابنى يا أماه آنذاك .. أمورا ومشاعر .. لا أدرى كيف أعبر عنها ..
واصلت سؤالها مشفقة لهفه ....
ــ ماذا يا قرة عينى .. صارحنى بدخيلة نفسك ..
ـ أجل يا أمى .. حاولت أن ألقى إليهم سمعى .. أن أعى ما يقولون .. دون فائده .. هم فى واد وأنا ... لكن .....
ــ استحثته ملهوفة ....
ــ لكن ماذا يا ولدى ..
ــ إطمئنى يا أماه .. قرى عينا .. حتما سيأتى بإذن الله .. ذلك اليوم الذى أنتهى فيه عن هذا .. وأعود لمجالسة العلماء والفقهاء .. وأنهل من علومهم ..
رفعت كفيها إلى السماء داعية متوسلة .. وعادت الأبتسامة الصافية تزين شفتيها .. ولسانها يلهج بالدعاء .. أن يعجل الله تعالى بهذا اليوم .. وأن يسبب الأسباب التى تدفع عن ولدها تلك الأهواء ..........
إلى أن كان يوم .....................



@ لم يطل انتظار الأم الصابره .. ولا الشافعى .. لهذا اليوم المنتظر المرتقب من كليهما .. كأنما كانت السماء فاتحة أبوابها جميعا لاستقبال دعوات الأم وتوسلاتها .. وكأنما الأقدار لولدها بالمرصاد .. تدفعه دفعا إلى طريقه المرسوم الذى خطه القلم الأعلى فى كتاب الأزل .. وجاءت لحظة التحول الفاصله ......
بينما هو ذات مرة يتصدر مجلسه بالقرب من ساحة الحرم .. فى مكان اعتاد الناس على الجلوس اليه فيه .. ومن حوله التف نفر غير قليل من رواد حلقته .. على اختلاف ألوانهم وأعمارهم .. مابين جالس أو واقف .. يدفعهم الشغف والغرام بالإنصات لهذا النوع من الحكايات والأساطير المشوقه ..
كانوا يرهفون السمع لكل كلمة ينطق بها .. كعادتهم كل يوم .. متحفزون لمعرفة المزيد من حكاياته المليئة بالأحاجى والمعانى والعبر.. منتبهون مترقبون لما تسفر عنه الأحداث المتلاحقه .. أبصارهم مثبتة عليه لا تتحول عنه .. وهم جميعا مأخوذون بأسلوبه البديع فى عرض فصوول رواياته وبراعته فى جمال سردها .. أخذ أحدهم يستحثه على مواصلة الحديث قائلا فى لهجة ملؤها الشغف والنهم لسماع المزيد ......
ــ حكاية عجيبة حقا مثل كل حكاياتك يا ابن شافع .. رائع .. كلنا فى شوق لمعرفة ما حدث بعد ذلك .. إلى أين توجه نبى الله سليمان بن داود .. قى رحلته بعد ذلك ؟.
قى تلك الأثناء .. بينما السائل يطرح تساؤله .. وقبل أن يجيبه الشافعى ملبيا رغبته .. كان أحدهم يتقدم من أحد الأركان ناحية الحلقه .. كان رجلا فى حوالى الأربعين من عمره أو يزيد قليلا .. يظهر من ملامحه ولباسه أنه غريب عن مكه .. وتبدو على سيماه علامات الحشمة والوقار .. بدا أنه مأخوذ بطريقة الشافعى وأسلوبه فى الإلقاء .. ونبرة صوته وفصاحته ولغته التى تنساب من ذاته المنطلقة كجدول الماء العذب الرقراق .. المتدفق فى سلاسة ونعومة بوقعها البديع على الآذان ..
إستطاع هذا الوافد الغريب بعد جهد وهو يزاحم بين الصفوف .. أن يجد مكانا يقف فيه على مقربة منه .. حتى يتمكن من سماع ما يقول .. رمقه الشافعى بركن عينه وهو يتقدم ناحيته .. إلا أنه تجاوزه وعاد لما كان عليه مستأنفا حكايته ......
ــ ثم أمر سليمان الريح أن تحمله ذات مره ليتفقد البلاد والأمصار .. مضت به من بلد الى بلد .. وهو يرقب ما تقع عينه عليه من تحته .. من مشاهد عجيبة وغرائب تأخذ باللباب .. ظل على تلك الحال فى تجواله .. إلى أن لمح نسرا كبيرا هائل الحجم .. يقف ساكنا أعلى قبة قصر عتيق .. تنطق أحجاره بقدمه .. حينئذ أمر سليمان الريح أن تقف به قبالة هذا النسر ..
قاطعه أحدهم ......
ــ يقينا أراد التحدث إليه ومحاورته .. كعادته .. أليس كذلك ؟!
أعقبه آخر ......
ــ ولم لا يفعل .. وقد علمه ربه منطق الطير ..
أجالهما الشافعى ......
ــ هذا ما حدث .. ظل يسأله ويحاوره .. سأله فيما سأل .. عن الزمن الذى مضى عليه وهو على تلك الحال .. ساكنا أعلى القصر ..
ــ هل يا ترى أجابه النسر ؟.
ــ أجل .. قال له .... لى يا نبى الله سبعمائة سنه .. أقف مكانى لا أبرحه .. هكذا كما ترانى ..
تعجب سليمان من قوله .. ثم عاد وسأله عمن بنى هذا القصر .. فأجاب النسر ..... لا علم عندى يا نبى الله .. هكذا وجدته .. لكن انظر لما هو محفور على بابه .. فإن فيه الفائدة والحكمه .. خذها وعلمها للناس ..
إنبرى أحد الجالسين مقاطعا ....
ــ ماذا وجد سيدنا سليمان الحكيم ؟!
ــ إصبر يا رجل .. لا تعجل .. لما قال له النسر ذلك .. أمر الريح أن تنزله أمام باب القصر .. فلما صار قبالته تماما .. دقق النظر فرأى أبياتا من الشعر مكتوبة عليه ..
همهم الحضور بصوت خافت قائلين .... أبياتا من الشعر ؟!. أبياتا من الشعر ؟!.
قاطعهم الشافعى بإشارة من يده قائلا .....
ــ لا تعجلوا يا إخوانى .. فيم العجب يا قوم .. كانت أبياتا من أشعار المواعظ والحكمه ..
إنبرى أحدهم قائلا فى لهفة ....
ــ ليتك تسمعنا تلك الأبيات .. فما أعذب إلقائك للقوافى ..
ــ تقول الأبيات .................

خرجنا من قرى اصطخر .. إلى القصر فقلناه


فمن يسأل عن القصر .. فمبنيا وجدناه


فلا تصحب أخا السوء .. وإياك وإياه


فكم من جاهل أردى .. حكيما حين آخاه


يقاس المرء بالمرء .. إذا ما المرء ماشاه


وفى الناس من الناس .. مقاييس وأشباه


وفى العين غنى للعين .. أن تنطق أفواه


أخذ السامعون يتسابقون فى إظهار عبارات استحسان وسرور .. اختلطت ببعضها طالبة منه المزيد من حكاياته المشوقه .. وكلامه السائغ العذب الذى هو لذة للشاربين .. لم يقطع لغط القوم إلا مؤذن الحرم .. وهو يشق عنان السماء بصوته العذب مناديا الله أكبر الله أكبر .. إنفض المجلس فى لحظات وتفرق الجمع .. كل فى ناحية تاركين الشافعى وحده كدأبهم كل مره .. إلا ذلك الرجل الغريب الذى شد انتباهه أسلوب الشافعى العذب فى الحكى .. وطريقة نطقه للكلمات وجرسها على الأذن وسرده المشوف للأحداث .. ظل واقفا متسمرا مكانه .. مسددا بصره إلى الفتى الشافعى لا يحيده عنه ..
وبينما الشافعى يجمع شتات نفسه متأهبا للقيام إلى الصلاه .. إذ وقعت عيناه للمرة الثانية على ذلك الغريب عن البلاد وهو يرمقه فى إعجاب .. كان باديا من زيه وهيئته وسمته .. أنه من أهل العراق الوافدين لزيارة البيت العتيق .. تقدم نحوه وحياه قائلا .....
ــ أهلا بك وسهلا يا سيدى .. هل من خدمة أستطيع تأديتها لك ؟.
أجاب وعلى شفتيه ابتسامة ودودة صافيه .........
ــ ما اسمك أيها الفتى المكى ؟.
ــ أنا .. محمد بن إدريس الشافعى .. من ولد شافع بن السائب .. وجدى المطلب بن عبد مناف القرشى .. وأنت ؟.
هز رأسه باسما وقال ......
ــ عبد الملك بن قريب الأصمعى .. حضرت من البصرة لآداء مناسك العمرة وأعتكف بضعة أيام فى تلك الرحاب الطاهره ..
ما كاد ينطق إسمه حتى هب الشافعى واقفا فى إجلال .. وقد تملكته دهشة وعمه السرور .. ثم راح يقول والكلمات تتسابق على شفتيه .. بعد لحظات من صمت عقدت الدهشة فيها لسانه من وقع المفاجأة عليه .....
ــ من ؟. الأصمعى ؟. عالم اللغة وراويتها الأكبر .. حللت أهلا ونزلت سهلا .. ليتك تقبل معذرتى على جهلى بك .. كم سمعت عنك كثيرا يا سيدى .. وعن علمك الغير .. لكن لسوء حظى لم يسعدنى زمانى بلقائك إلا اللحظه .. كم تشوقت يا سيدى لرؤياك والجلوس بين يديك .. إنك علم كبير من أعلام اللغة العظام ..
إبتسم الشيخ قائلا دون أن يعقب على كلامه .....
ــ هيا بنا نصلى أولا فريضة العصر .. ثم يكون لنا حديث أيها الفتى القرشى الشريف ..
@ بعد أن فرغ الناس من صلاتهم قام وأخذ بيد الشافعى وأخذا يشقان طريقهما وسط الزحام .. إلى أن جلسا فى ركن وحدهما بعيدا عن الضوضاء .. بادره الأصمعى .....
ــ هذه أول مرة أستمع إليك يا ابن شافع .. بالأمس تناهى صوتك إلى مسامعى وأنا فى طريقى إلى الحرم .. سمعتك تحكى للناس السير والأخبار وفصيح شعر العرب .. أيضا سمعتك تردد من أشعار أبى ذؤيب الهذيلى قصيدته التى يقول فيها .... وعيرها الواشون أنى أحبها ..
ــ وتلك شكاة ظاهر عنك عارها .. أجل يا سيدى الشيخ .. ما أفصح شعر هؤلاء القوم وما أعذبه ..
ــ صدقت يا فتى .. واليوم سمعتك تروى من الحكايات وأيام الناس .. من علمك كل هذا يا فتى قريش .. وكيف تأتى لك أن كل هذه المعارف .. بل تعيد سردها من الحفظ .. وأنت الفتى الغض لم تبلغ عامك السادس عشر بعد .. كما علمت منك ؟..
ــ لا شئ يا سيدى .. غير أنى بعد أن حفظت ما بين دفتى المصحف .. خرجت إلى البادية فى صباى .. وأخذت عن أهلها كل أشعار الهذيليين .. وكذلك شعر الشنفرى ..
إعتدل الأصمعى مدهوشا ثم قال ......
ــ لعلك تقصد بعض أشعارهم ؟!.
ــ لا يا شيخنا .. حفظت كل أشعار الهذيليين وشعر الشنفرى كله .. لم أترك نظما لهم إلا وعيته عن ظهر قلب ..
عاود سؤاله وهو يضغط على كل حرف من حروف كلامه ....
ــ ماذا تقول ؟! إن هذا لشئ عجاب .. تحفظ كل أشعار بنى هذيل .. وشعر الشنفرى .. وأنت فى هذه السن ؟!. لا أكاد أصدق ..
ــ لقد أصدقتك القول يا سيدى .. إننى أعى هنا أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر بألفاظها وإعرابها ومعانيها ..
لم يتمالك نفسه فتحول عن مجلسه وأحاط كتفى الشافعى بيديه .. يربت عليهما إعجابا وحبورا .. ونظرة تقدير وسرور فى عينيه قائلا له ....
ــ إسمع يا بنى .. بعد الذى سمعته منك .. أتمنى أن تسدى لى معروفا .. إن قبلت ..
ــ على الرحب والسعه .. حبا وكرامة يا سيدى ..
ــ أمنيتى أن أقرأ عليك ديوان الهذيليين .. على أن تصحح لى ما أقرأ .. فتكون معلمى .. وأنا تلميذك ..
أطرق الشافعى رأسه خجلا وتواضعا .. ثم رد على استحياء ....
أيها الشيخ الجليل .. من أكون حتى أكون معلما لأستاذ اللغة العرية وراويها الأكبر .................
لم يدعه يكمل فقال مقاطعا وهو يربت على كتفيه للمرة الثانيه .....
ــ لا عليك يا ولدى .. دعك من هذا .. فالعلم لا يؤخذ بالسن .. سأزيدك بيانا ... أشعار البادية عامة .. وهذيل خاصة .. من أهم مفاتيح اللغة العربيه .. والجهل بها وبأمثالها قد يؤدى بالمرء إلى لحن القول وعدم فهم النصوص فهما سديدا .. لذلك لما سمعتك يا ولدى تجيد كلامهم ونطق عباراتهم .. إنتابتنى سعادة غامره وسررت أيما سرور .. فى تلك اللحظة تمنيت أن أقرأ عليك أشعارهم لتصححها لى .. ولعلى لا أفشيك سرا إذا قلت لك أنها كانت أمنيتى منذ سنوات .. إلى أن لقيتك اليوم .. إيه يا ولدى .. لعلها بركة زيارة البيت العتيق والطواف به ..
سكت الشيخ هنيهة ثم استدرك قائلا .....
ــ لكن .. تبقى مسئلة مهمه ..
ــ تفضل يا سيدى الشيخ ..
ــ خيرا إن شاء الله .. إنها نصيحتى إليك .. رأيت لزاما على أن أسديها لك يا ابن أخى ..
نظر إليه متسائلا فقال له ......
ــ إسمع يا بنى .. علمت منك لما أخبرتنى بنسبك .. أنك سليل أشراف ذوى رفعه .. ويعز على ألا يكون فى علوم الدين والفقه .. هذا النسب الشريف وكل ما أنعم الله عليك به من البلاغة والفصاحه .. ليتك تجعل فهمك هذا فى مسائل الدين وقضاياه .. إن فعلت .. وأمكنك أن تجمع مع فصاحتك وذكائك .. علوم الفقه والحديث .. أقول لك ستكون سيد أهل زمانك .. أجل يا ولدى .. تسد أهل زمانك .. ومن يدرى .. ربما تكون أنت .. عالم قريش المنتظر ...
لمح الدهشة فى عينيه فاستأنف قائلا ......
ــ لا تعجب من كلامى يا بنى .. مثلك لم يخلق لرواية الحكايات والسير وأيام الناس وأخبار البوادى .. مثلك لم يخلق لمثل هذا أبدا ..
ــ الحقيقة يا سيدى .. أننى لما عدت من الباديه .. كانت تلك وجهتى .. حاولت مرات كثيره مجالسة العلماء .. هنا .. فى ساحة الحرم .. غير أنى لم أجد همة لذلك أبدا .. كان الفشل حليفى كل مره .. لكنى أعدك أن أعيد الكره وأستجمع الهمه .. لعل الله تعالى يعيننى يوما .. على تحقيق تلك الأمنية الغاليه ..
إنتهى من كلامه فشد الأصمعى على يديه مودعا إلى لقاء فى الغد .. يبدأ معه فيه دروس الأدب والشعر .. تبعه الشافعى بعينيه إلى أن صار بعيدا عن ساحة الحرم .. ولما صار وحده قام تجاه حجر إسماعيل وجلس فى ركن وحده بعد أن استبدت به الأفكار .. واستولت عليه الهواجس .. وهو يقلب فى خاطره ما سمعه قبل قليل من الأصمعى .. أخذ يستعيد كلامه مرات ومرات بينه وبين نفسه .. ورجع صدى صوته يملأ أذنيه فى موجات متتابعة وهو يقول له ..... مثلك لم يخلق لهذا .. ربما تكون أنت عالم قريش المنتظر .....
أخذ يحدث نفسه .... ما الأمر ؟! هذه الكلمات كم سمعتها بنصها من أمى .. وهى تلح على بها .. ومن قبل كم قال لى جدى ذلك الكلام .. ظل ماكثا فى حيرته .. إلى أن رأى نفسه كأنه واقف فى مفترق طرق .. وهو حائر لا يدرى فى أيها يسير .. تزاحمت عليه الهواجس والأفكار والظنون .. حتى شعر أن الأرض تميد تحت قدميه .. وأنه يهوى إلى واد سحيق .. وضع رأسه بين يديه .. وأسند ظهره إلى حجر إسماعيل حيث كان يجلس .. وراح يغط فى نوم عميق .. لم يشعر بعده إلا ويدا حانية تمسح ما تراكم من عرق غزير على جبهته وخديه ................

يتبع إن شاء الله ................................

NAHID 76
29/11/2008, 18h19
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد الفاضل الدكتور انس البن
حفظك الله ورعاك سيدى
اشكرك على كل هذا المجهود الجميل
واخيرا وجدت مكان تنشر فية السيرةالشافعيه بعد ان ظلت قابعة فى درج مكتبك سنين وانت تحلم بان تقع فى يد مخرج ينشرها ويخرجها
والحمد لله قد عرضتها على قطاع كبير من الاخوة المقدرين لهذا العمل وخرجت الى النور كما تمنيت
اهنئك واهنئ نفسى بهذا العمل الرائع
تحياتى

محب الاصيل
29/11/2008, 18h23
شاعرنا الكبير سيد ابو زهده
ساكن القلوب
كلماتك هذه وسام على صدرى وتاج على رأسى
لقد أراحتنى كثيرا , لأنك لا تعلم كم ترددت فى نشر تلك الأوراق لتصورى أنها مجرد نزوه من مدع لا يحق له ولوج عالم المبدعين , وأنى أكون مثلى منهم
بوركت بكل حرف كتبته بما لا يحصى عددا
أنس

يا د. أنس
لا يحق لك تواضعاً أن تصف جهداً كالذي يظهر في هذا العمل بأنه " نزوة من مدع".
حاشاك سيدي.
وها نحن معك حتى يستوي هذا الجهد الطيب على عوده نقرأ ونتابع.
وأعذرني فإنني لست ناقداً ولا من اهل الحرفة كالشاعر والقاص صاحب القلم الثرِّ " أبي زهده"
ولكني أقرأ واتأمل..
بوركت سيدي.
محب الاصيل.:emrose:

د أنس البن
01/12/2008, 11h09
فتح عينيه ليبصر خاله "على" جالسا على ركبتيه إلى جواره ينظر إليه باسما .. أخذ يحرك عينيه ويهز رأسه حتى يفيق من نعاسه متسائلا فى دهشه .....
ــ من .. خالى على ؟. معذرة . لم أدر ما حدث لى .. شعرت بدوار شديد والأرض تميد بى أسفل منى .. بعدها أخذتنى سنة من النوم .. لكن الحمد لله .. أنا الآن أحسن حالا ..
رد خاله ضاحكا .....
ــ ماذا تقول يا ابن إدريس !. سنة من النوم !. تقول سنة من النوم .. إنك كنت مستغرقا فى سبات عميق .. كأن فراش النوم خاصمك زمنا ..
أجاب وهو يجذب نفسا عميقا .....
ــ آه يا خال .. لعلك على حق .. لكنى رأيت فى تلك النومة ما شرح صدرى .. وأزال عنى هما كان جاثما على صدرى ..
ــ هم ؟!. أية هموم تلك التى تتحدث عنها .. أين أنت منها يا فتى ؟!.
حكى له الشافعى ما كان من أمر الأصمعى معه قبل أن يغلبه النعاس .. ثم أردف قائلا .....
فلما نمت .. رأيت فيما يرى النائم أنى أصلى صلاة الجماعة فى ساحة الحرم .. هناك إلى جوار المقام ......
وأشار إليه بيمناه .. ثم أردف متمما ....
ــ وأنا أنظر تجاه القبله .. رأيت رجلا لم أره من قبل .. لا أعرفه .. لكن يبدو من ملامح وجهه أنه من أهل مكه .. له مهابه .. وعلى صفحة وجهه سمات أهل التقوى والوقار .. تقدم وصلى بالناس إماما .. حتى إذا فرغ المصلون من صلاتهم .. أقبل الشيخ على الناس يعلمهم ....
ــ هيييييه .. وماذا بعد يا فتى ؟.
ــ دنوت منه وقلت له .... هل لك أن علمنى أيها الشيخ مما علمت رشدا .. لكنه حدجنى بنظرة فاحصة ولم يجبنى .. جلست مكانى لا أفتح فمى وأنا فى عجب من أمره .. إلا أنه فاجأنى بشئ عجيب ......
إستحثه خاله فى لهفة .....
ــ ماذا فعل ؟!.
ــ مد يده فى كمه وأخرج ميزانا .. ناوله لى وقال ..... أيها الفتى القرشى .. خذ .. إليك هذا الميزان .. إنه لك .. ثم مسح بيده على رأسى واختفى .. ثم صحوت من نومى لأراك جالسا أمامى تمسح بيدك على جبهتى ..
سأله على بعد أن مرت لحظات من الصمت كان ذهنه فيها شاردا ....
ــ هل تتذكر أوصاف هذا الشيخ الذى صلى بكم إماما وناولك الميزان ؟.
ــ نعم يا خال .. أتذكره جيدا .. مع أنها أول مرة ألقاه .. إن هيئته لم تفارق خيالى مذ وقعت عينى عليه فى المنام .. وكأنها محفورة فى رأسى .. إنه رجل نحيل فى حوالى الخمسين من عمره .. له لحية طويله .. وتحت عينه اليمنى شامة سوداء .. وتحيط بوجهه هالة من النور ..
إنتفض على واقفا كاللديغ وهو يقول .....
ــ أواثق مما تقول ؟!. تلك أوصافه حقا ؟!.. إن هذا شأن عجيب ..
لم يكد الشافعى يجيبه مؤكدا له القول .. حتى قال له فى عجلة وهو يشده من يده ....
ــ إذن .. هيا بنا ..
ــ إذن هيا بنا ..
سأله الشافعى مستغربا ....
ــ إلى أين ؟!.
ــ قلت لك هيا بنا .. بعد قليل تعرف كل شئ ..
وانطلقا ............................

يتبع إن شاء الله ................................

د أنس البن
03/12/2008, 08h29
دار الخلافه



........ فى الوقت الذى كان الشافعى يكابد فى مكة أحداثا وتقلبات .. تدفعه شيئا فشيئا إلى الطريق الذى رسمته الأقدار له .. ليكون أحد الأئمة العظام وعالم قريش المنتظر .. كانت أحداثا أخرى تجرى فى دار الخلافة فى بغداد .. مرت فيها سبع سنوات على أمير المؤمنين محمد المهدى خليفة للمسلمين .. ومذ تولى الخلافة وهو يتخذ نهجا مغايرا لوالده الخليفة الراحل .. فبينما كان المنصور مهموما بتثبيت الدعائم القوية لحكمه ولولده من بعده .. غارقا فى شئون الداخل وما فيه من صراعات داخل بلاط الحكم .. يواجه فى حزم شديد كافة الحركات المناهضة لحكمه .. باحثا عن منابع الفتن والقلاقل سواء فى بلاد العرب أو العجم .. كان أكبر همه وحرصه ألا تخرج الخلافة من أسرة أجداده بنى العباس ..
لكن الخليفة المهدى كان بخلاف أبيه .. يضع فى أولويات حكمه التعرف على الحضارات المختلفه والتواصل معها .. وتوطيد علاقاته مع حكامها .. وتأمين حدود الدولة الإسلاميه على اتساعها .. تميز عهده بنشاط عسكرى كبير .. بعد أن تسلم حكما مستقرا قوى الدعائم شديد الأركان .. إستطاع أن يدير معارك ناجحة خارج البلاد .. متخذا مواقف أكثر حدة وصلابه ضد الفرس وبيزنطه ..
وذات يوم .. بينما هو مستلق على فراشه .. ومن أمامه صحافا فضية ملئت بما اختلف لونه وشكله من ثمرات الفاكهه والحلوى .. إذ دخلت عليه زوجته "الخيزران" ومن ورائها جاريتها تحمل على يديه صينية مستديرة من الفضة الموشاة بالذهب .. فوقها دورق كبير للشراب وعددا من الأكواب والقوارير .. ألقت عليه نظرة عابرة وهى لا تزال لدى الباب .. رأته متكأ على جانبه الأيمن مسندا كتفه وذراعه فوق حاشيتين .. أدركت على الفور من قسمات وجهه العابسة وجمود ملامحه وهيئته .. أن ثم أمورا هامة تشغل باله وتملك عليه فكره .. توقفت مكانها قليلا قبل أن ينتبه لوجودها .. وهى لا تزال ترمقه بعينها الفاحصه تحاول أن تسبر أغواره .. أو تقرأ غوامض مكنونات سطور قلبه .. صرفت جاريتها فى صمت وهى لدى الباب وتناولت منها صينية الشراب ..
عادت خطواتها تدب فى رشاقة مرة .. وصل وقعها إلى مسامع الخليفه .. رفع رأسه قليلا ليراها تخطو نحوه بخطى وئيدة فى خفة ودلال .. حاول اختلاس ابتسامة من بين شفتيه لعلها تستر باطنه المهموم .. إلا أن شفتاه خانتاه لتأتى الإبتسامة باهة فاترة رغما عنه .. بدت كأنها مرآة ظهرت عليها صورة قلبه بكل ملامح الحزن والهم .. رأت الخيزران بما حباها الله من ذكاء وفطنه تلك الصورة القاتمه .. إبتدرته بابتسامة كلها أنوثة ودلال قائلة ....
ــ جئتك بشراب الورد يا أمير المؤمنين .. علمت من إحدى جواريك أنك أمرت به ..
حاول أن يصلح جلسته قائلا وهو يتنحنح قليلا ....
ــ تحضرين الشراب بنفسك يا أم موسى .. أين الجوارى .. أين الخدم .. ليس أكثر منهم فى قصرنا العامر ..
ردت بصوتها العذب .. والإبتسامة الرقيقة لم تغادر شفتيها ....
ــ عامر بك يا أمير المؤمنين .. أنسيت أنى كنت ضمن جواريك قبل أن تتزوجنى يا أبا موسى ..
سكتت برهة واستأنفت قائلة ....
ــ لكن .. مالى أراك على غير عاداتك .. تبدو قلقا .. مهموما ..
لم يأتها منه جوابا على سؤالها فقالت ....
ــ ليتك تقاسمنى همومك .... ثم استدركت وهى تنتقى كلماتها .....
ــ أعلم أنه لا يجوز لى أن أتدخل فى أمور البلاد وخصوصيات الحكم .. لكنى أسأل إن كان ما يشغلك شأنا يخصك أنت ؟..
أجابها وهو يتناول كوب الشراب من يدها .....
ــ لم يعد هناك ما أخفيه عنك يا أم موسى .. لكنه أمر شغلنى منذ زمن .. وصرت أشعر أن أيامى فى هذه الدنيا باتت قليله ..
أشار لها بيده يسكتها لما همت بمقاطعته .....
ــ أرجوك يا أم موسى .. لا تقولى شيئا .. منذ أيام كان عندى ذلك الرجل الداهيه قارئ النجوم .. نوبخت .. كنت أرسلت فى طلبه .. طلبت منه أن يقرأ طالعى .. واستحلفته بالله أن يصدقنى القول وألا يخفى عنى شيئا .. أخذ يعد الجداول ومكث ساعات يحسب حسابات طويله وأخيرا قال لى .... ما بقى لك من عمر فى هذه الدنيا بات قليلا .. لم يتبق لك إلا أياما معدودات .. سألته عما تبقى لى منها .. فأبى أن يخبرنى .. ولما ألححت عليه قال لى .........
ــ ماذا قال لك يا أمير المؤمنين ؟..
ــ أكد لى أنى أموت بالسم .. إيه .. ليتنى ما أرسلت فى طلبه .. ليتنى ما سألته ..
قاطعته وقد بدا عليها الإنزعاج والدهش .....
ــ ماذا دهاك يا أبا موسى .. هذا رجل دعى مخرف مأفون.. أى حديث هذا !. كذب المنجمون يا أمير المؤمنين .. أيزعم هذا المعتوه أنه يعلم الغيب . إن الآجال من أمور الغيب التى لا يعلمها إلا الله وحده ..
ــ ماذا دهاك أنت يا خيزران .. كل ذلك أعلمه .. لكن هذا اللعين حاذق فى صنعته بارع فى تلك العلوم .. إن له مواقف كثيرة مع أبى .. لم تكذب له فيها نبوءة أبدا .. ما علينا .. كلامه هذا حرك عندى ما كان يشغلنى .. وزادنى حيرة على حيره .. وهما على هم ..
ــ ماذا تعنى يا أبا موسى .. أثرت مخاوفى ؟!.
ــ إييييييه .. ماذا أقول لك .. إنها مشكلة المشاكل ..
سألت ونظرة إلحاح وقلق تقفز من عينيها .....
ــ بالله عليك .. أخبرنى ..
ــ أعنى ولاية العهد ..
ــ ولاية العهد !. ماذا جد فيها .. ألم تأخذ البيعة منذ سنوات لولدنا موسى وليا للعهد ؟!. ومن بعده لأخيه الأصغر هارون ؟!.
ــ بلى .. وتلك هى القضية التى أقضت مضجعى .. واستولت على خاطرى وفكرى زمنا .. لا أدرى كيف أعالجها الآن بعد أن قررناه فيما مضى .. إستجابة لوصية والدى الخليفة الراحل أبى جعفر المنصور .. أيامها كانا فى سن الصبا .. لم تتفتح مواهبهما بعد .. ولم تظهر قدرات كل منهما .. لكن الآن .. بعد أن اشتد عودهما وأصبحا شابين فتيين .. بان الفرق واضحا بينهما .. عقلا .. وقوة .. وصلابه .. وكما تعلمين أن ما يهمنا فى المقام الأول .. أن تظل الخلافة بأيدينا .. بنو العباس .. ولا يخفى عليك ما يفعله بنو عمنا الطالبيون .. وكيق ينازعونا فى هذا الأمر .. ويتربصون فرصة مواتية ينقضون فيها ويستولون على دار الخلافه ..
ــ فهمت .. تريد إذن أن تعيد أخذ البيعة لهارون وليا للعهد .. وتقدمه على أخيه موسى ..
ــ تماما .. تماما ذلك ما أبغيه ..
ــ لكن يا أمير ال.....
قاطعها بإشارة من يده وقال .....
ــ إسمعى يا أم موسى .. سأبين لك الأمر .. إن هارون ولدى تربى على يدى يحي بن خالد البرمكى .. ولزمه زمنا تعلم منه الكثير من فنون الحرب والسياسة .. حتى أنه صار لا يناديه إلا بيا .... أبت .. ولن أنس له أنه أثبت بعد المعارك التى قادها والبطولات التى حققها .. أنه هو الأجدر والأحق بولاية العهد .. لقد قاد جيوشنا إلى بلاد الروم وهو دون السابعة عشر من عمره .. وفتح أعتى الحصون فى سمالو وطرسوس .. وفى الشهر الماضى رجع بعد أن أحرز انتصارات رائعه على جيوش الإمبراطوره إيرينى .. بعد اجترائهم وتطاولهم علينا .. تمكن فى أن يتوغل ببسالة داخل أراضيها .. حتى وصل إلى البسفور .. هذه الإنتصارات المتوالية يا أم موسى .. كان لها أكبر الأثر فى تثبيت دعائم دولتنا .. ودعم حدودنا ورجوع هيبتنا من جديد لدى الفرنجه ..
ــ هل تصدقنى إذا قلت لك .. إن هذا الأمر جال بخاطرى أنا الأخرى منذ زمن .. كم وددت لو فاتحتك فى شأنه .. غير أنى تهيبت منك .. وخشيت أن تتصور أنى أنحاز لولدى الأصغر ..
ــ وضعت يدك على لب المسأله .. تلك هى القضية التى شغلت بالى وأهمتنى .. كيف السبيل إلى وسيلة لا تحدث فتنة .. أو تنتهى إلى شقاق وخصومة بين الأخوين .. ما أكثر أعداء المتربصين بنا شرقا وغربا .. فتنة كهذه يمكن أن تجعلهما فريسة سهلة ولقمة سائغة لأعدائنا ..
ــ وعلى أى شئ نويت يا أمير المؤمنين ؟..
ــ ولدى موسى الآن فى جرجان .. وليس أمامى إلا أن أبعث رسالة إليه مع حاجبنا الفضل بن الربيع .. أشرح له فيها ما نويت عليه .. وآمره أن يحضر على الفور إلينا لأخلعه من ولاية العهد أمام القوم .. وأولى مكانه أخاه هارون ..
ــ أوتظنه يفعل ؟!..
ــ ليته لا يخيب فيه ظنى .. أتمنى أن ينصاع لأمرنا .. حتى لا يضطرنى إلى إرغامه على القبول به ..
ــ وإن أبى .. ماذا أنت فاعل ؟..
ــ سأسافر بنفسى إلى جرجان .. ولن أرجع إلا وهو معى .. أو .. أو يقضى الله أمرا كان مفعولا .......


فى دروب مكة وشعابها الضيقه .. كان على الأزدى يرافقه إبن شقيقته الشافعى .. يسيران فى همة بخطى متسارعه .. بينما الأخير يضرب كفا بكف وهو لا يدرى إلى أين ينتهى بهما المسير .. حاول أن يستعلم من خاله عن وجهتهما .. أو يخرجه عن صمته دون جدوى .. لم يظفر منه بكلمة تشفى غليله .. غير قوله له لما زاد إلحاحه عليه .....
ــ إصبر يا فتى .. بعد قليل سترى بنفسك .. وستعرف كل شئ ..
سلم أمره لله .. وكف لسانه عن السؤال .. إلى أن وجد خاله يتوقف عن سيره فى نهاية طريق ضيق .. نظر إليه ثم نظر أمامه فلم ير غير بناية وحيدة متهالكة من الطوب اللبن .. قبل أن يمد يده ليطرق الباب .. إستوقفه الشافعى معترضا طريقه .. يرجوه متوسلا ..........
ــ أستحلفك بالله للمرة الأخيرة يا خال قبل أن تطرق الباب .. أن تخبرنى لماذا أتيت بى إلى هنا .. ومن صاحب هذه الدار التى وقفت بنا أمامها .. إنها أول مرة تقع عينى عليها ؟!..
إبتسم قائلا ....
ــ لم العجله .. لحظات قليله وسترى بنفسك .. لكن على أية حال سأخبرك بإسم صاحب الدار .. كى تهدأ نقسك ويطمئن قلبك .. هذه دار العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. ألم تسمع به ؟.
ــ بلى .. سمعت به .. وأعلم أنه من أهل الزهد والصلاح .. لكنى لم أره من قبل ..
إبتسم خاله إبتسامة ذات مغزى قائلا ....
ــ أواثق أنك لم تره من قبل .. بل أظنك رأيته ..
تعجب من سؤاله منكرا عليه قوله .....
ــ قلت لك أنى لم أره من قبل أبدا .. كل ما أرجوه أن تعرفنى عن سبب مجيئنا إليه ..
ــ لا تعجل يا ابن إدريس .. لا تعجل .. عندما تراه ستفهم كل شئ ..
مط الفتى شفتيه وهو ينتحى جانبا وإن لم تفارقه الدهشة والعجب من مسلك خاله .. متمتما فى سره .... أقول له لم أره قبلا .. يؤكد لى فى ثقة . بل رأيته .. كيف .. كيف ذلك ؟!.. لم يخرجه من شروده وظنونه .. إلا صوت صرير الباب وهو ينفتح على جارية سوداء عابسة الوجه جامدة القسمات تطل برأسها من ورائه .. قال لها على من فوره بعد أن ألقى إليها بالسلام ....
ــ هلا سمحت لنا بالدخول .. نريد الشيخ لأمر هام ..
كانت الجارية على معرفة به من قبل .. فكم من مرات أتى للشيخ برفقة والده عبد الله الأزدى .. أشارت لهما بالدخول دون رد أو تعقيب .. لم تمض غير لحظات حتى خرج عليهما الشيخ من خلوته يتوكأ على عصاه .. وما كادت عين الفتى الشافعى تقع عليه .. حتى خرجت منه شهقة كادت تزهق منها روحه .. حاول أن يكتمها مستجمعا شتات نفسه مرددا بصوت خافت ..... يا إلهى .. لا أكاد أصدق ما تراه عيناى .. أحقيقة ما أرى .. غير معقول .. أيمكن أن يكون هو ؟!. أجل .. والله إنه هو .. هو بشحمه ولحمه وثوبه .. حتى الشامة التى رأيتها على خده !...
فى تلك الأثناء كان خاله "على" يرقبه باسما .. لقد صدق حدسه .. هو إذن الشيخ الذى رآه فى منامه .. كان "على" يعلم الكثير عن كرامات الفضيل بن عياض وعلو منزلته .. كم حدثه أبيه الأزدى فى ذلك الشأن .. وروى له بعضا منها ..
بعد أن سلما .. أشار لهما الشيخ بالجلوس .. وبعد لحظات صمت نظر إلى الشافعى وقال له وهو يهز رأسه باسما .....
ــ أهلا بك يا ابن إدريس .. أخيرا أتيت .. تود معرفة تأويل رؤياك .. أليس كذلك ؟!.
هز رأسه فاقدا قدرة النطق بكلمة واحدة بعدما عقدت الدهشة لسانه .. وازداد عجبه وهو لا يزال مصوبا بصره تجاه الشيخ كالمأخوذ .. لا يملك أن يحول وجهه عنه أو تطرف له عين ..
ــ إسمع أيها الفتى القرشى .. قبل أن أجيبك .. أود أن تعى ما سأقوله لك .. إجعل هذه الكلمات نصب عينيك .. أنت تحمل فى صدرك كتاب الله .. وحامل القرآن هو من حملة راية الإسلام .. لا ينبغى له أن يلهو مع اللاهين أو يسهو .. ولا يجوز له اللغو مع أهل اللغو والمراء .. ينبغى لحامل القرآن ألا يكون له إلى الخلق حاجة أبدا .. ولا إلى الخلفاء فمن دونهم .. بل إن حوائج الخلق ينبغى أن تكون إليه .. أفهمت .. يا فتى ؟..
ــ أجل .. فهمت ووعيت .. يا سيدى الشيخ ..
سكت الشيخ ناظرا إلى موضع قدميه .. ولما طال صمته إستحثه الشافعى متسائلا .....
ــ وماذا عن المنام ؟..
ــ سأخبرك .. إن ما شهدته اليوم وأنت نائم بين الحجر والمقام .. بشرى من الله لك .. سوف تبلغ أعلى الدرجات يوما أيها الفتى .. سوف تكون لك الإمامة فى العلم وأنت على السبيل والسنه ..
ــ والميزان ؟!.
ــ علمك حقيقة الشئ كما هو فى نفسه ..
ــ بم تنصحنى يا سيدى ؟..
ــ إشرع يا ولدى من الغد فى تلقى دروس الفقه والحديث .. إلزم حلقة أبا محمد سفيان بن عيينة الهلالى .. أعرف أنه من العلماء العاملين .. واغتنم الوقت فإنه رأس مال العبد .. إياك أن تضيع منك لحظة من عمرك فيما لا ينبغى .. العمر يا ولدى قصير مهما طال .. والزاد قليل مهما كثر .. الدنيا غمها لا يفنى .. وفرحها لا يدوم .. وفكرها لا ينقضى ..
ثم قام ومد يده مسح بها فى حنان على رأس الشافعى وهو يتمتم فى سره كلمات كأنه يدعو له .. قبل أن يستدير صاعدا فى صمت إلى حيث مكانه فى خلوته .....


@ خرج الشافعى من دار الشيخ إنسانا آخر .. كأنما كان سقيما طال به السقم حتى إذا آيس من الشفاء , صحا فجأة من نومة ليجد العافية ردت لبدنه وروحه مرة واحده .. لم يهدأ يوما واحدا بعد هذا اللقاء الروحى الرفيع .. لم يذق للراحة طعما فى نهاره .. ولا للفراش لذة فى ليله .. وهو يرتاد منهوما حلق العلم فى ساحة البيت العتيق .. يجنى من كل رحيق زهرها .. متنقلا بينها كالنحلة العاملة الدؤوب .. يسأل , يحاور , ينصت , وكله نهم وشغف للمعرفة وتحصيل ما فاته من العلوم , ووعاء علمه فى طلب المزيد على الدوام لا يمتلئ أبدا ..
فتارة تلقاه فى درس إمام الحرم ومفتيه الأول الفقيه العابد صوام الدهر مسلم بن خالد الزنجى , وتارة أخرى فى حلقة شيخ المحدثين سفيان بن عيينه , كان يتخذ حلقته عند المقام , والفتى ملازم حلقته كما أوصاه الفضيل , يصغى إليه وهو يقول لمن حوله من طالبى العلم ................
ــ حدثنى إبن أبى نجيح عن مجاهد فى قوله تعالى : "ورفعنا لك ذكرك" .. أى لا أذكر يا محمد إلا ذكرت معى كما فى الشهادتين , أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..
وفى أمثال هذه الدروس , بعد أن ينتهى الشيخ من رواية الحديث وتوثيق أسانيده , يتابع الشافعى ما يدور من أسئلة ونقاش , بين الحضور وبين الشيخ .......................
ــ شيخنا , هل يجوز السلام على المصلى , وإذا سلم , هل يرد عليه السلام ؟.
ومن نبع السنة النبوية الصافى والشيخ حديث عهد بها يجيب .....
ــ عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن عبد الله قال : كنا نسلم على رسول الله "ص" وهو فى الصلاه قبل أن نأتى أرض الحبشه , فكان يرد علينا , فلما رجعنا منها أتيته لأسلم عليه فوجدته يصلى فسلمت عليه فلم يرد , جلست , حتى إذا قضي صلاته أتيته فقال "صلى الله عليه وسلم " : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء , وإن مما أحدث الله عز وجل ألا تتكلموا فى الصلاه" ......
وينصت له وهو يلقى على أسماع تلاميذه حكمه ومأثوراته .............
ــ إعلموا أيها الناس أنه ما أنعم الله على العباد نعمة أفضل من معرفتهم لا إله إلا الله , وأنها فى الآخرة بمنزلة الماء فى الدنيا , قال تعالى " "وجعلنا من الماء كل شئ حى أفلا يؤمنون" , فكما أنه لا حياة لشئ فى الدنيا إلا بالماء , كذلك لا إله إلا الله بمنزلة الماء فى الدنيا , من لم تكن معه لا إله إلا الله فى الدنيا فهو ميت , ومن كانت معه فهو حى .....
ويستمع لمن يسأله ......
ــ يا أبا محمد أخبرنى عن قول أحدهم : لأن أعافى فأشكر أحب إلى من أن أبتلى فأصبر , وقول الآخر : اللهم رضيت لنفسى ما رضيت لى . ما تقول فيهما ؟..
ــ القول الأول أحب إلى ..
عقب السائل مستغربا إجابة الشيخ ....
ــ كيف .. وقد رضى الأخير لنفسه , ما رضيه الله له ؟!..
ــ لا تعجب .. إنى قرأت القرآن فوجدت صفة نبى الله سليمان عليه السلام مع العافية التى كان فيها : "نعم العبد إنه أواب" .. ووجدت صفة أيوب عليه السلام مع البلاء الذى كان فيه : "نعم العبد إنه أواب" .. فاستوت الصفتان حال العافيه وحال البلاء , ولما وجدت الشكر قام مقام الصبر واعتدلا , كانت العافية مع الشكر أحب إلى من من البلاء مع الصبر ..
كم من مرة استمع له الشافعى وهو ينصح تلاميذه ......
ــ أيها الأبناء , إذا كان نهارى نهار سفيه وليلى ليل جاهل , فما أصنع بالعلم الذى كتبت !. ومن رأى أنه خير من غيره فقد استكبر .. كونوا أيها الأبناء كما قال عيسى عليه السلام : "أوعية الكتاب وينابيع العلم" .. واسألوا الله رزق يوم بيوم , واعلموا أن أول العلم الإستماع ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر ..
كل هذا الفيض من العلوم والنصائح والمعارف , والشافعى متربع فى الحلقة لا ينبس ببنت شفه , منتبها منصتا لكل كلمة فيها , لا يفارقها إلا إذا شق عنان الفضاء صوت مؤذن الحرم مناديا للصلاه ..
إستقر الشافعى فى ساحة البيت الحرام لا يكاد يبرح مكانه فيها إلا فى المساء عائدا إلى داره .. عرف بين الناس بذلك فكانوا فكانوا يشيرون عليه قائلين ... ما أعجب حال هذا الفتى , أقرانه فى اللهو واللعب , وهو كما ترون لا يفارق حلق العلم والدرس , لا يكاد يغادر إحداها إلا ليلحق بغيرها .. وانتشرت سيرته بين الناس حتى أن أحدهم لقبه "عاشق المعرفه" , وعرف بين الناس بذلك اللقب , واستمروا ينادون به عليه .. كان هذا اللقب يسبق إسمه إذا ناداه أحد , أو إذا مر بقوم فى طريقه , أو حتى فى السوق وهو يشترى حاجياته ..
لكن واجهته مشكلة تدوين وحفظ هذا الكم الهائل من الأحاديث والمسائل والفتاوى التى يتلقاها بسمعه , من أين له بالدنانير والدراهم التى يشترى بها القراطيس التى يكتب عليها , وهو لا يزال يعانى من ضيق ذات اليد وقلة المال .. لكنه رغم ذلك لم يعدم الحيله , كان يجمع وهو فى طريقه إلى داره بشعب الخيف , ما يعثر عليه من سعف النخيل وينتقى منها ما يصلح للكتابة عليها .. وعندما يصل إلى داره يظل عاكفا عليها طرفا من الليل , على ضوء المصباح الخافت , يدون فى صبر وأناة ودأب ما اختزنه فى ذاكرته مما سمعه فى يومه من أحاديث وفتاوى ..
وذات ليلة وهو راجع إلى الدار , فتحت أمه الباب لتجده ممسكا فى يمناه بعض اللفافات , وفى الأخرى أشياء بدت لغرابتها مثيرة للدهشه .. لم تتمكن من التعرف عليها للوهلة الأولى .. وهى تتفحصها بعينيها متعجبة ونظرة استنكار فى عينيها .. لم تجد مناصا من سؤاله وهى لا تزال على حالها من الدهشة والتعجب .....
ــ ما هذه الأشياء الغريبة التى أراها معك يا ولدى ؟!..
إبتسم قائلا وهو يضعها بحرص جانبا ....
ــ كما ترين يا أماه .. قطعا من الخزف والجلود وبعضا من عظام أكتاف الإبل العريضه ..
عاودت سؤالها وقد ازدادت دهشتها ....
ــ أمرك عجيب .. خزف وجلود وعظام أكتاف الإبل ؟!. ماذا تصنع بها ؟!.
أجابها مداعبا وقد اتسعت ابتسامته ....
ــ وما تظنين أنى فاعل بها يا أم الشافعى ؟..
هزت كتفيها بامتعاض فأجابها ....
ــ أدون عليها ما أسمعه من أحاديث وفتاوى ..
ــ تدون عليها ؟!. على هذه الأشياء !. وهل أمثالها يصلح للكتابة عليها .. كيف ؟!.
ــ أجل يا أمى .. لا تعجبى .. كنت أكتب على سعف النخيل كما تعلمين .. غير أنى لا أجد أحيانا ما يناسبنى منها .. ظللت أبحث عن أشياء أخرى تصلح للكتابة عليها .. فلم أجد إلا عظام أكتاف الإبل العريضة .. وتلك القطع من الخزف والجلود .. تلك هى المسأله ..
ــ وأى مكان يسع هذه الأشياء لتحفظها فيه ؟!.
ــ سأضعها هناك .. فى تلك الجرار الفارغه ..
إسمع يا ولدى .. ما رأيك فيمن يدلك على وسيلة أيسر وأنفع .. ولن تكلفك شيئا ؟..
ــ دلينى عليه يا أمى .. من هذا الذى يعرف تلك الوسيله ..
ــ أنا يا ولدى ..
ــ أنت يا أماه ؟!.
ــ أجل .. ما عليك إلا أن تذهب إلى أحد دواويين الكتابة .. أو القضاء أو الحسبه .. وتطلب من الكتبة بها أن يعطوك بعضا من الظهور .. لن يبخلوا عليك ببعض منها ..
ــ تقصدين يا أماه تلك الأوراق المكتوب عليها من جهة واحده , لأستفيد من الجهة الأخرى , الخاليه من الكتابه .. الله الله , وسيلة لا بأس بها حقا .. ما أروعك يا أمى .. رأى سديد حقا , ولا أدرى لم تخطر لى هذه الفكرة من قبل .. لكن يا أماه سيطلبون ثمن تلك الأوراق .. وأنا كما تعلمين !!..
ــ لا عليك يا ولدى من هذا .. إذهب أنت إليهم .. سيعطونها لك هبة دون مقابل ..
ــ نعم الرأى يا أمى .. على كل حال أفرغ من الكتابة على هذه الأشياء , ثم أستوهب الظهور .......

@ مرت أياما صار خلالها للشافعى منزلة من شيوخ الحرم , مقربا منهم معروفا لهم جميعا , لما يرونه منه من إقبال ونهم على الدرس وتحصيل العلوم , ومقدرة فذة على استيعاب علومهم وفهمها .. وذات مره بينما هو جالس بجوار شيخه سفيان بن عيينه وهو متصدر حلقته بجوار المقام بفناء زمزم يقول ........
ــ عن الزهرى عن على بن الحسين أن صفية بنت حيى أم المؤمنين قالت له أن النبى "صلى الله عليه وسلم " كان معتكفا بالمسجد , قالت فأتيته فتحدثت عنده , فلما أمسيت انصرفت , فقام رسول الله "صلى الله عليه وسلم " يمشى معى , فمر به رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا , فناداهما وقال : "إنها صفيه بنت حيى" فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيرا , فقال رسول الله "ص" : "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم" ........ كيف تفهمون فقه هذا الحديث ؟. أيكم يخبرنى أيها الأبناء ..... قالها وهو يجول بعينيه عليهم ..... رفع أحدهم يده قائلا .....
ــ أراد رسول الله "صلى الله عليه وسلم " رد اتهام الرجلان له .. وأن ينفى ما وقع فى قلبيهما من سوء ظن به ..
أشاح الشيخ بوجهه عنه محركا رأسه يمنة ويسره , دلالة على عدم رضاه عن جوابه , ثم عاد ينظر لمن حوله وعاود سؤاله للمرة الثانيه .... لم يجبه أحد .. إتفت إلى الشافعى قائلا .....
ــ وأنت يا أبا عبد الله .. ألا تجيب ؟.
رد فى أناة الواثق ....
ــ بلى يا سيدى .. لدى جوابا ..
ــ تكلم إذن .. لم لا تجيب ؟!. تكلم ..
ــ إن كان القوم اتهموا النبى "صلى الله عليه وسلم " , أو حاك فى صدورهم منه شئ , لأصبحوا كفارا باتهامهم , لأن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " لا يتهم أبدا , إنه أمين الله فى أرضه , فهم بادئ ذى بدء لم يتهموه ..
عاد الشيخ يسأله ...........
ــ فلأى سبب إذن قال لهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم " ذلك ؟..
ــ كان هذا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " على الأدب والتعليم لأمته ..
ــ كيف ؟..
ــ أى إذا كنتم هكذا فافعلوا كذلك , أو إذا مر أحد على رجل منكم يكلم امرأة هى منه بنسب , فليقل له إنها فلانه وهى منى بنسب كذا , حتى لا يظن بكم ظن السوء , ولا تكونوا عونا للشيطان عليه ..
إبتسم الشيخ وظهرت البشاشة على وجهه ناظرا بإعجاب إلى الشافعى .. ثم قال لمن حوله ......
ــ أسمعتم .. هكذا يكون الفهم فى أمور الدين .. جزاك الله خيرا يا شافعى .. ما نسمع منك إلا كل ما نحبه ..... سكت برهة وأردف .....
ــ أيها الناس .. إعلموا أنه لم يعط أحد فى الدنيا شيئا أفضل من النبوه .. ولم يعط بعد النبوة أفضل من العلم والفقه .. ولم يعط فى الآخرة أفضل من الرحمه ........

@ حدث أخيرا ما كان أمير المؤمنين يتوقعه ويحسب حسابه .. أبى واستكبر ولده موسى الهادى أن يخلع نفسه من ولاية العهد طواعية .. رفض العودة مع الفضل بن الربيع إلى بغداد .. قرر الخليفة المهدى أن يخرج بنفسه إلى جرجان .. مستصحبا معه يحي بن خالد البرمكى .. ليأتى بولده رغم أنفه إلى قصر الخلد .. ليخلعه من ولاية العهد قسرا .. أمام الأمراء والقادة وكبار رجال البلاط ..
وأثناء رحلته التى دبرتها له الأقدار , بالقرب من بلدة اسمها ماسباذان , أدركه التعب من طول الرحلة واعتلال صحته .. أمر رجاله أن يحطوا رحالهم وينصبوا خيامهم بضعة أيام قبل أن يستأنفوا رحلتهم .. وبينما رجاله قائمون على حراسته خارج خيمته التى قرر أن يستريح بداخلها , إذ فزعوا على صوت استغاثة من داخل الخيمه .. هبوا مرة واحدة مهرولين داخل الخيمة ليجدوا الخليفة يصرخ من شدة الألم طالبا الغوث .. كان أول من أدركه يحي بن خالد البرمكى الذى ارتمى جزعا على فراشه .....
ــ مالك يا مولاى .. أى مكروه أصابك ؟..
أشار ناحية قدمه وهو يتلوى من الألم .....
ــ ثعبان لعين .. لدغنى هنا .. فى قدمى .. وفر من هذه الناحيه .. صدقت نبوءة المنجم نوبخت .. تماما كما أخبرنى .. سأموت بالسم .. أجل إنها النهايه ..
قاطعه يحى وقد خنق البكاء صوته .....
ــ على رسلك يا أمير المؤمنين .. فداؤك نفسى .. إنك بخير ..
ــ لا , لا.. إنها النهاية حتما .. أعدوا القافله .. سنعود إلى بغداد .. وأنت يا يحى أكمل الرحلة إلى جرجان , وأتمم ما قمنا من أجله .. أعلم ولدى موسى أنى قد خلعته من ولاية العهد , والخلافة من بعدى لولدى هارون الرشيد .. أفهمت ؟..
قال وصوته لا يزال باكيا تخنقه العبرات .....
ــ دعنا من هذا الآن يا مولاى .. ننزع السم من قدمك أولا .. وبعدها نفعل كل ما أمرت به ..
وقبل أن يتم كلامه ارتمى على قدمه محاولا امتصاص الدم , والخليفة يقول فى صوت واهن أخذ يخفت شيئا فشيئا , بينما العرق يتساقط غزيرا من جبهته ووجهه .........
ــ يا برمكى لا فائده , قلت لك لا فائده , إنى أشعر بالسم يسرى فى دمى .. قضى الأمر , هيا دعونى وحدنى , ولا تسمحوا لأى أحد يدخل على حتى آذن له ..
ولما صار وحده , وخلت الخيمة إلا منه , حاول أن يغمض عينيه , إلا أنه لم تمض لحظات حتى انتبه مذعورا , على صورة شبح انسان يقف أمامه , وهو لا يدرى من أى مكان دخل عليه خيمته .. إنه نفس الشبح الذى ظهر من قبل للخليفة المنصور .. وهو الذى أتى الشافعى فى منامه .. العابد الزاهد الفضيل بن عياض .. نظر إلى المهدى نظرة ثاقبة ثم قال .....
ــ كأنى بهذا البيت قد باد أهله .. وقد درست أعلامه ومنازله ..
لم يشعر بنفسه إلا وهو يجيبه مرتجلا , بينما جسده يرتعد فرقا وخوفا ....
ــ كذاك أمور الناس يبلى جديدها .. وكل فتى يوما ستبلى فعائله ..
جاوبه الشيخ .....
ــ تزود من الدنيا فإنك ميت .. وأنك مسئول فما أنت قائله ..
رد المهدى .....
ــ أقول بأن الله حق شهدته .. وذلك قول ليس تحصى فضائله ..
حوار دار بينهما , إختفى بعده الشبح فجأة كما جاء , ولم تمض غير أيام قلائل إلا والخليفة المهدى فى ذمة مولاه , وتولى الخلافة من بعده ولده موسى الهادى قبل أن يخلعه أبوه من ولاية العهد , غير أن خلافته لم تدم أكثر من خمسة عشر شهرا , بعد أن وافته المنية وهو فى ريعان الشباب , وانعقدت الخلافة من بعده لأخيه هارون الرشيد أميرا للمؤمنين ..........

@ ظل الشافعى على هذا المنوال مثابرا , منقطعا لدروس العلم والفقه والحديث , يتعلم , يسأل , يدون ما يسمعه فى همة لا تعرف مللا أو كلل , نسى تماما أياما كان فيها ينشد الشعر ويحكى سير الشعوب وأيام العرب , على رواد مجلسه من أهل مكة وزوار الحرم , حتى أن بعضهم من رواد مجلسه القديم لما غلبهم الشوق إلى حكاياته , حاولوا استمالته مرة ثانيه لكن خاب سعيهم وذهبت جميع محاولاتهم أدراج الرياح .. كلما بحثوا عنه لا يجدوه إلا مرابطا فى حلق العلم لا يغادر إحداها إلا ليذهب لأخرى , وأخيرا يئسوا من بلوغ مرادهم , فتركوه مع شيوخه ينعم بما يلقاه عندهم .. ومع الأيام تكونت عنده ملكة ومقدرة على فهم النصوص ومراميها واستنباط الأحكام منها للفتوى , لكنه لم يفعل برغم أن شيخه سفيان بن عيينه حاول أن يدفعه للفتيا , قال له ذات مره .............

ــ شكى لى بعض الناس أنهم جاؤك لتفتيهم , فأبيت , لم يا ولدى ؟!.
ــ يا سيدى , ما يكون لمثلى فى تلك السن المبكرة أن يفتى فى أمور الدين ..
ــ لكنى أرى أنك أهل للفتيا , آن لك أن تفتى يا ولدى ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , لا يحل لأحد أن يفتى فى دين الله , إلا من كان عارفا بكتاب الله , بناسخه ومنسوخه , ومحكمه ومتشابهه , وتأويله , وتنزيله , ومكيه ومدنيه , وما أريد به , ويكون بعد ذلك بصيرا بأحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " , والناسخ والمنسوخ منها , ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن , ويكون بصيرا باللغة , بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن , ويستعمل هذا مع الإنصاف , ويكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار , وبعد هذا تكون له قريحة .. فإذا كان له هذا فله أن يفتى فى الحلال والحرام , وإلا سكت عن الفتيا .. وأنا يا سيدى ما حصلت بعد , ذلك كله ..
ــ أجل أجل .. صدقت يا بنى .. صدقت ..
ومع هذا البيان من الشافعى لشيخه , كان إذا سأل أحدهم شيخ مكه سفيان بن عيينه فى مسألة , يشير إلى الشافعى ويقول ..... عليكم بهذا الفتى المطلبى فاسألوه .. .. إنه أفضل فتيان أهل زمانه .. إنه فتى لم تعرف له صبوه ...
واستمر الشافعى يلح فى طلب المزيد من المعرفه , تأبى نفسه إلا أن تجلس فى صفوف التلاميذ وطلاب العلم , رغم إجازة الشيوخ له أن يفتى ويعلم .. قال مرة لواحد من أصحابه كان يحثه ويلح عليه أن يترأس حلقة من حلق العلم ..... إن على أن أتفقه أولا .. ولو ترأست حلقة .. فلا سبيل لى إلى التفقه ..
كان على يقين من أنه إن ترأس حلقة علم قبل أن يستوفيه , فلن تتاح له معرفة ما لم يعرف , لم يحاول قط الجلوس فى مقعد الأستاذ المعلم مفضلا الإبحار فى خضم محيط العلوم والغوص فى أعماقه البعيدة المتراميه , وهذا ما دفعه يوما لسؤال شيخه سفيان بن عيينه ..........
ــ عندى شئ يدفعنى دفعا للتزود من علوم أهل المدينه .. دار الهجره ..
ــ عظيم يا ولدى .. عليك إذن بإمامهم وشيخهم .. مالك بن أنس الأصبحى .. قبل سنوات سافرت إليه , وسمعت منه الكثير ..
ــ إذن لا أضيع وقتا .. أسافر إليه .. وأختلف إلى حلقته ومجلس علمه ..
إبتسم الشيخ قائلا .....
ــ على رسلك يا شافعى .. لا تعجل ..
ــ لم يا سيدى ؟!.
ــ قبل أن تشد الرحال إليه .. يلزم أن تقرأ كتابه أولا ..
ــ تعنى كتابه الموطأ ؟.
ــ أجل .. إنه صفوة علم مالك .. وجماع الحديث الصحيح ..
ــ وأين لى به ؟.
ــ لا تبال بهذا الأمر .. سأدلك على صديق لى يعيره لك بضعة أيام .. عليك خلالها أن تعى كل ما حواه .. وبعد أن تفرغ منه .. لك ما شئت .. تشد الرحال إلى المدينه وتحظى بالجلوس إلى إمامها ..
سكت برهة وأردف ....
ــ ألم تسمع حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم " : "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم , فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينه" ..
ــ بلى .. سمعت هذا الحديث .. لكن آااااااااه .. تعنى ...
ــ أجل كانت إشارة نبوية من رسول الله "صلى الله عليه وسلم " قبل مائة وسبعين سنه , إلى إمامها مالك بن أنس .. إن أهل المدينة يا ولدى لم يجمعوا على أحد بعد الشيخين أبى بكر وعمر , إلا على إمامهم وشيخهم مالك ..........

@ فى اليوم التالى انطلق الشافعى إلى الحجون , قاصدا دار صديق شيخه سفيان , مستعيرا منه موطأ مالك على وعد أن يرده له بعد أيام يكون قد فرغ فيها من قراءته .. رجع إلى داره والسعادة تغمره , حاملا كتابا بين دفتيه حوالى ألف حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم " .. ظل عاكفا على صفحاته يحفظ ما فيها فى نهم مواصلا الليل بالنهار , وفى نهاية اليوم التاسع كان قد أتى على آخر صفحات كتاب , دونه الإمام مالك فى أربعين سنة كامله .. بينما الأم ترقبه بإعجاب به ممزوج بإشفاق عليه لما يكابده من جد وسهر , على ضوء مصباح خافت , تحيطه بحنانها وعطفها , جالسة إلى جواره تعينه وترعاه , تشجعه بابتسامتها الدافئه التى لا تفارقها وهى تنظر إليه ..
وبعد أن أتى على آخر كلمة فى الكتاب وقد وعى كل ما حواه , إلتفت إلى أمه قائلا وهو يطويه .....
ــ الحمد لله , الآن يا أمى انتهيت من قراءة موطأ مالك ..
ــ تنتهى من سفر ضخم كهذا فى تسعة أيام , عجيب والله يا ولدى !..
ــ أجل يا أماه , بل وحفظت فى رأسى كل ما جمعه الإمام من أحاديث رسول الله "ص" ..
صمت برهة وأردف .....
ــ لذلك عزمت على أمر , هل تعينينى عليه ؟!.
ــ تكلم يا ولدى , خيرا إن شاء الله ..
ــ عزمت على مواصلة رحلة العلم ..
ــ مواصلة رحلة العلم ؟!. إلى أين يا قرة عينى ؟.
ــ المدينه .. بى شوق يدفعنى للتعرف على علوم أهلها .. سنرحل إليها سويا إن شاء الله , إن وافقتنى على ذلك ..
إلتفت إليه خاله على , وكان يتابع حوارهما وهو مستلق على ظهره ناظرا إلى سقف الدار , قال مستنكرا .....
ــ لا أفهم إلحاحك فى الرحيل إلى المدينه , أى فائدة تعود عليك وقد نهلت من علوم أكابر شيوخ مكه وعلمائها .. لم التعب والنصب , وفيم الغربة والفراق يا أبا عبد الله ؟!. الناس هنا لا حديث لهم إلا عنك .. أمرك عجيب والله !..
تلقى الشافعى كلامه المحتد بابتسامة , تاركا العنان لبصره منطلقا ولخياله سابحا فى الفضاء الممتد من أمامه عبر نافذة مفتوحة على مصراعيها وهو يقول كأنما يحادث نفسه ......
ما فى المقام لذى عقل وذى أرب

من راحة فدع الأوطان واغترب

سافر تجد عوضا عمن تفارقه

وانصب فإن لذيذ العيش فى النصب

إنى رأيت وقوف الماء يفسده

إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب

الأسد لولا فراق الغاب ما افترست

والسهم لولا فراق القوس لم يصب

والشمس لو وقفت فى الفلك دائمة

لملها الناس من عجم ومن عرب

والتبر كالترب ملقى فى أماكنه

والعود فى أرضه نوع من الحطب

فإن تغرب هذا عز مطلبه

وإن تغرب ذاك عز كالذهب

كانت للشافعى موهبة خصبة نادره فى نظم الشعر , وملكة قادرة حاضره دربها العلم وصقلها دوام تحصيله .. غير أن نفسه أبت أن تنخرط فى سلك الشعراء , ولم ترد له أن يمضى فيه إلى آخر الدرب , وهى تلتمس السمو إلى ما هو أعظم وأرقى , الفقه وعلوم الدين والحديث , كان يعى تماما معنى قول الله تعالى ووصفه لأحوال الشعراء : "والشعراء يتبعهم الغاوون , ألم تر أنهم فى كل واد يهيمون , وأنهم يقولون ما لا يفعلون" .. ذات مرة حاول واحد من أصحابه أن يشجعه على احتراف الشعر , لما أعجبه سلاسة نظمه وسرعة بديهته , فقال له ....
ولولا الشعر بالعظماء يزرى .. لكنت اليوم أشعر من لبيد

بعد أن انتهى من سرد أبياته , نظرت إليه أم حبيبه باسمة وهى تقول ...
ــ حفظك الله يا ابن إدريس .. ما أجمل الشعر منك نظما وإلقاء .. دائما تتحفنا بالحكم ومأثور القول .. قاطعها "على" وهو على حاله من الدهشة من كلام ابن شقيقته ......
ــ أختاه , ألم تري ولدك بعينى رأسك وقد أتى على كتاب مالك شيخ المدينه .. ووعى كل ما حواه !. ألم يقل ذلك بلسانه الآن !.. ما الداعى إذن للسفر ومفارقة البلاد والأهل ؟!.
إنبرى الشافعى قائلا ......
ــ كل هذا صحيح , لكن يا خالى العزيز , إمام كبير وشيخ جليل مثل مالك بن أنس , لا يجوز أبدا أن يفوتنى لقاءه , والتزود من بحر علومه شفاها , آه , ليتنى أدركت فقيه الكوفه , إمام أهل الرأى , أبى حنيفه , والله لو كان فى آخر بلاد الدنيا لرحلت إليه ..
مرت لحظات من الصمت قطعها الشافعى بقوله .....
ــ أتعجب يا خال من كلامى !. سأحكى لك حكاية سمعتها من شيخى سفيان بن عيينه ..
إنتبه خاله معتدلا فى جلسته قائلا .....
ــ ماذا قال شيخك ؟.
ــ حكى لنا ذات يوم ...........
ــ سمع جابر الأنصارى وهو بالمدينه , أن عقبة الجهنى لديه حديث فى القصاص .. خرج على الفور إلى السوق واشترى بعيرا شد عليه رحله , ومضى إليه حيث يقيم فى رحلة استمرت شهرا كاملا , وأخيرا لقى عقبه , سأله عن سبب قدومه إليه فقال له ... جئت لأسمع منك حديثا لم يسبق أن تحدث به أحد غيرك , تحدثت به عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم " فى القصاص , ورغبت فى سماعه منك مشافهة قبل أن يموت أحدنا .............
واستأنف الشافعى .........
ــ فهذا رجل قطع تلك الرحلة الشاقة من أجل حديث واحد يعلمه , لكنه أراد أن يستوثق من صحته من راويه .. وأنت يا خال تعجب من سفرى إلى شيخ عنده مائة ألف حديث .. والله لو قضيت عمرى كله أسافر فى طلب العلم , فلن أتوانى عن ذلك أبدا , حتى لو رحلت إلى آخر بلاد الأرض .....
سأضرب فى طول البلاد وعرضها .. أنال مرادى أو أموت غريبا ..
فإن تلفت نفسى فلله درها .. وإن سلمت كان الرجوع قريبا ..
رد خاله ضاحكا وقد انفرجت أساريره .....
ــ من ذا الذى يقدر على أن يجاريك فى حججك , فضلا عن قوافيك يا ابن إدريس .. ليس عندى ما أقوله لك بعدما سمعته منك , إلا أن أدعو الله لك أن يبلغك مرادك .. كنت أعلم منذ البداية أن الغلبة ستكون من نصيبك ..
تضاحك الجميع , بينما أخذت أم حبيبه تربت بيدها على ظهره فى حنان , قائلة ....
ــ أنت وما عزمت عليه .. على بركة الله يا ولدى .. سنرحل إلى المدينة سويا إن شاء الله , بعد أن تعد عدتك للسفر ..
صمتت هنيهة ثم نظرت للفضاء الممتد من أمامها قائلة ........
ــ إيه يا ولدى .. تلك هى المرة الثانية التى أسافر فيها للمدينه .. لم أشاهد أرضها منذ وفاة إدريس ..
ــ متى كانت المرة الأولى يا أماه ؟..
ــ منذ زمن طويل .. بعد أن تزوجت بعام واحد , شددنا الرحال إليها لزيارة الروضة النبوية الشريفه .. ونزلنا أيامها عند عمك يعقوب ...........

يتبع إن شاء الله ................................

سلمى القمر
08/12/2008, 18h13
د/انس
اتمنى بس من حضرتك لو مش هدايقك انى اعرض اعمالى الشعرية هنا وحضرتك تقولى رايك سواء مدح او نقد لانى اكيد هستفيد من حضرتك مع العلم انى بعرضها على دكاترة لغو عربية بكلية الاداب لكن لى الشرف ان استمتع براى حضرتكم

عبد الحميد سليمان
16/12/2008, 19h49
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب والأديب الكبير الدكتور أنس00تحية من الله مباركة طيبة اليك والي زوجك وأهلك ومحبيك ومريديك--وبعد أخي الكريم لم يكن من دأبي ان أقرأ متعجلا واحكم متسرعا نزقا, وما كان لمثلي ان يكون كذلك00لقد قرأت بامعان ووعي كبيرين لهذا النص الأدبي التاريخي الرائع ودعني أحييك وأشد علي يديك ذلك انني وجدت ساحة رائعة من الأصالة اللغوية والتأثر الأسلوبي بالقرآن الكريم وتلك عندي من أعظم علامات وحاجات الأديب الحقيقي ودع عنك من تفزعهم تلك الثقافة القرآنية فيرفضونها وقد غلفوا جهلا فاحشا وعجزا فاضحا بكبر زائف وهروب ساذج 00أخي الحبيب 00ارتقيت بالنص بحسن اختيار الموضوع وأهمية الشخصية واحساس سليم مخلص بواجب الأديب ودوره00وسقت لنا من المصادر التاريخية أحداثا صغتها بلغة الأديب ورحابة الأدب فأنقذت النص من غلظة السوق التاريخي الجاف وكأني أراك تنهج نهجا أتعشقه وألوذ اليه دائما ذلك ان اشكالية العلاقة بين الادب والتاريخ والأديب والمؤرخ في تقديري المتواضع قد وجدت فيك عنوانا صحيحا لفهمها والتعبير عن صيغها المطلوبة المقبولة وكأني أراك وقد نظرت الي أديبنا واستاذنا الدكتور طه حسين في روائعه علي هامش السيرة والوعد الحق وعلي وبنوه والفتنة الكبري وسرت في غير تقليد تابع ولا اقتداء هزيل في نفس ذلك السياق الراقي00أخي الحبيب 00دعني أصارحك انني قد عشت دهرا مع أساتذتي في التاريخ وانا بين مطرقة مناهجهم وموضوعيتهم القاسية ,وأنسام روح الأدب والابداع فكنت كقن أثقلته القنانة وذابت نفسه شوقا الي الانعتاق والحرية فلما أمكن له ذلك لم يدخر وسعا ولم يأل جهدا00أديبنا الكبير الراقي 00تهنئة عارف ومقدر ومعجب ورفيق درب وصديق00 وبارك الله فيك ونفع بك وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته00د/عبد الحميد سليمان

د أنس البن
17/12/2008, 09h02
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الحبيب والأديب الكبير الدكتور أنس00تحية من الله مباركة طيبة اليك والي زوجك وأهلك ومحبيك ومريديك--وبعد أخي الكريم لم يكن من دأبي ان أقرأ متعجلا واحكم متسرعا نزقا, وما كان لمثلي ان يكون كذلك00لقد قرأت بامعان ووعي كبيرين لهذا النص الأدبي التاريخي الرائع ودعني أحييك وأشد علي يديك ذلك انني وجدت ساحة رائعة من الأصالة اللغوية والتأثر الأسلوبي بالقرآن الكريم وتلك عندي من أعظم علامات وحاجات الأديب الحقيقي ودع عنك من تفزعهم تلك الثقافة القرآنية فيرفضونها وقد غلفوا جهلا فاحشا وعجزا فاضحا بكبر زائف وهروب ساذج 00أخي الحبيب 00ارتقيت بالنص بحسن اختيار الموضوع وأهمية الشخصية واحساس سليم مخلص بواجب الأديب ودوره00وسقت لنا من المصادر التاريخية أحداثا صغتها بلغة الأديب ورحابة الأدب فأنقذت النص من غلظة السوق التاريخي الجاف وكأني أراك تنهج نهجا أتعشقه وألوذ اليه دائما ذلك ان اشكالية العلاقة بين الادب والتاريخ والأديب والمؤرخ في تقديري المتواضع قد وجدت فيك عنوانا صحيحا لفهمها والتعبير عن صيغها المطلوبة المقبولة وكأني أراك وقد نظرت الي أديبنا واستاذنا الدكتور طه حسين في روائعه علي هامش السيرة والوعد الحق وعلي وبنوه والفتنة الكبري وسرت في غير تقليد تابع ولا اقتداء هزيل في نفس ذلك السياق الراقي00أخي الحبيب 00دعني أصارحك انني قد عشت دهرا مع أساتذتي في التاريخ وانا بين مطرقة مناهجهم وموضوعيتهم القاسية ,وأنسام روح الأدب والابداع فكنت كقن أثقلته القنانة وذابت نفسه شوقا الي الانعتاق والحرية فلما أمكن له ذلك لم يدخر وسعا ولم يأل جهدا00أديبنا الكبير الراقي 00تهنئة عارف ومقدر ومعجب ورفيق درب وصديق00 وبارك الله فيك ونفع بك وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته00د/عبد الحميد سليمان

أستاذنا الجليل دكتور عبد الحميد بك سليمان
قرأت بعنايه ما سطره قلمك لى من كلمات غاليه لها شأنها الخاص لأنها تصدر من عالم جليل يزن الكلمات بميزان العلم الذى لا يجامل أبدا
لكن أستاذنا المفضال , هذا كثير والله على , وأدهشنى كثيرا ما قرأته فى سطورك , لأنى لم أكن أتوقع أبدا أن يكون لهذا العمل المتواضع جدا تلك المكانه , وكثيرا ما كنت ألوم نفسى على جرآءتها فى اقتحام عالم المبدعين ولست منهم وإن كنت قارئا نهما لإنتاجهم منذ صباى المبكر
على كل حال تلك الكلمات النيرة أعادت لى ثقتى بنفسى وأخاف أن يصيبها الغرور والعجب , وقد سمعت من قبل ما أسعدنى من آراء أساتذة أفاضل أحمل لهم ولكم كل التقدير والعرفان
دمت لنا ودام لنا قلمك المشبع بعبق الماضى الأصيل
ودامت أقلام أحبابنا جميعا فى يوتوبيا سماعى كما يحلو لصديقنا العزيز إسلام أن يصف به منتدانا الأصيل ..

د أنس البن
17/12/2008, 09h03
أشكرك من قلبى أخى محمد حمدان على كلماتك المشجعه الطيبه للضعفاء من أمثالى وحمد الله على سلامتك ........
شكرا من القلب يا أخت ياسمين ومرحبا بك ...

د أنس البن
17/12/2008, 09h03
@ لم ينتظر الشافعى , قام يسابق الزمن قاصدا دار أمير مكه , وكان يمت له بصلة قرابة من جهة أبيه .. قص عليه حكايته ثم قال فى ختام كلامه ....
ــ وأخيرا فرغت فى الأيام الماضية من قراءة موطأ الإمام مالك ..
ــ عظيم .. وماذا أنت فاعل بعدما فرغت منه ؟..
ــ عقدت العزم إن شاء الله على السفر إلى المدينه , وألتقى بإمامها لأتزود من علومه وعلوم أهلها ..
ــ لكن !. رحلة كهذه يا ابن أخى فيها مشقة كبيرة عليك .. وأنت كما أراك لا زلت فى مقتبل العمر ..
ــ سيدى الأمير .. من فاته التعليم وقت شبابه .. فكبر عليه أربعا لوفاته ..
تبسم قائلا .....
ــ أصبت الرميه .. على كل حال .. هل بوسعى أن أقدم لك أى معونه ؟. مالا مثلا .. لا تستحى منى .. أطلب ما يكفيك .. إن لك حق القرابه والرحم .. وأنت طالب علم .. أحق الناس بالعون والتأييد ..
ــ أشكرك يا سيدى على هذا الكرم والفضل الكبير .. أنا لم آت إليك طالبا للمال .. ما أفلح فى العلم إلا من طلبه بالقله .. كنت أبحث عن القرطاس فيعز على امتلاكه . إنما سعيت إليك لأمر آخر ..
ــ مجاب إن شاء الله ..
ــ أريد منك كتابا لشيخ المدينه .. مالك بن أنس .. أتقوى به على لقائه ..
هز رأسه أسى وأسفا وقال .......
ــ إيه .. طلبت منى ما لا أستطيع فعله .. إنى أتهيب من الكتابة له ..
نظر إليه الشافعى متعجبا فعاجله بقوله .....
ــ يا ولدى أنت لم تر الشيخ .. لكنى سأفعل شيئا آخر .. سأعطيك كتابا لأمير المدينه .. إسحق بن سليمان الهاشمى .. أشرح له المسئله وأوصيه أن يصحبك بنفسه للقاء الشيخ ..
ــ ولم أشق عليه .. يكفى أن آخذ كتابا منه ..
ــ قلت لك يا ابن إدريس إنك لم تر إمام المدينه .. وعندما تراه بإذن الله .. ستفهم كل شئ وتعرف صدق كلامى ..
قال العبارة الأخيره وهو بمسك بريشته ويضعها فى المحبره مسطرا فى عناية كتابا لأمير المدينه .. طواه ووضع الخاتم عليه ثم أعطاه للشافعى قائلا له وهو يودعه .....
ــ فى سلام الله يا ابن أخى .. رحلة مباره ومقاما طيبا فى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم " .. ليهنك العلم يا ولدى ..
@ خرج من دار الإمارة والرسالة لا تزال بيده .. راح يدب فى طرقات مكة لا يلوى على شئ .. بعد أن عاودته الهموم وألقت به فى دوامات الفكر .. ظل يحدث نفسه ... ما العمل وأنا لست صاحب حرفة أتكسب من ورائها أو أوفر المال .. ماذا عن رحلة المدينة وما يلزمها من نفقات لشراء دابتين وما أتزود به من قوت وملبس .. وما سوف أحتاجه فى المدينة لكراء دار أقيم فيها مع أمى ..
كانت نهمته وحرفته طلب العلم وتحصيله .. وهى مهنة لا تجلب درهما ولا دينارا .. ويدرك أكثر من غيره ما تعانيه أمه من عسر الحال وضيق المعيشة وإن تظاهرت بخلاف ذلك .. لم يشأ لأن يرهقها من أمرها عسرا أو يشق عليها أو يحملها ما لا تطيق .. لكنه لا يجد حيلة فى مقابل سلطان العلم الذى ملك عليه أمره واستولى على جماع فكره .. ولما انتهى فى المساء إلى داره .. دخل على أمه ومرآة وجهه انطبع عليها بغير حول منه ما كان يكابده فى باطنه من هموم ..
رمقته بعينها لحظة ولوجه من الباب وفى الحال أدركت بفراستها وقرأت مكنون فؤاده وما أهمه وفهمت سر معاناته , قبل أن يسارع بإخفائها وراء ابتسامة باهتة حاول أن يرسمها على شفتيه .. تشاغلت عنه متظاهرة أنها لم تره .. حتى إذا جلس والتقط أنفاسه عاقدا يديه من خلف رأسه .. نظرت إليه متسائلة .....
ــ إيه يا ولدى .. أين كنت .. لم تأخرت هكذا على غير عادتك ؟.
لم تنتظر إجابته وأشارت إلى يده قائلة ....
ــ آه .. يبدو أنك ظفرت ببغيتك ..
ــ تلك الرساله ؟.. إنها توصية من الأمير إلى أمير المدينه ..
ــ الحمد لله .. كل الأمور إذن تجرى وفق مرادك ..
وقبل أن يرد معفبا , إقتربت منه وعلى شفتيها بسمة حانية ودوده بينما تخرج من طيات ردائها صرة , ناولتها له قائلة ...
ــ أمسك هذه يا ولدى ..
تناولها متعجبا .....
ــ ماذا يا أماه , نقود ؟!..
ــ أجل يا ولدى .. عشرون دينارا كامله ..
ــ أجل يا أمى .. لكن كيف .. من أين ؟. أنا أكثر من يعلم أنه لا يتوفر لك درهم واحد تدخرينه ؟!..
حاولت تجاهل سؤاله وهى تبحث عن إجابات مبهمة دون جدوى .. لم يتمكن لها أن تمضى فى مراوغته .. وجدت منه إصرارا على معرفة الحقيقة ....
ــ إسمع يا ولدى .. سأخبرك بكل شئ ..
أرسل إليها نظرة استفسار ملؤها الشفقة , قالت على إثرها ....
ــ يا ولدى .. رحلة المدينه يعوزها دابتين وزادا للسفر .. لهذا رهنت الدار مقابل ستة عشر دينارا , وكان معى أربعه أتممت بها العشرين ..
هم بأن يعقب مستنكرا وفد تغير وجهه .. غير أنها أسكتته بإشارة قاطعة بيدها وهى تقول .....
ــ أصلحك الله يا ابن إدريس .. هذه الدار لا يقيم بها أحد سوانا .. ما الداعى لتركها مغلقة مدة غيابنا .. وفى المدينة سوف نحل فى دار عمك يعقوب , أنت لا تعرفه , آخر مرة زارنا كنت صغيرا فى المهد ..
ــ يا أم .. وبعد رجوعنا من المدينة عن شاء الله , كيف يكون الحال ونحن بلا دار نأوى إليها ..
ــ لا عليك أنت من ذلك .. دع هذا لحينه .. لعل الله يعوضنا دارا خيرا منها .. هيا يا ولدى خذ المال ودبر شئونك .. هيا .. لا تكن عنيدا صلب الرأس مثل أبيك ..
أكب على يد أمه يقبلها وعيناه ترتعشان بالدمع , بينما اخذت تمسح على رأسه بحنان الأم الطيبة الصامده , وهى تضمه باكية إلى صدرها .......


@ فى نفس العام الذى كان الشافعى يعد العدة للرحيل إلى المدينه , إعتلى هارون الرشيد كرسى الخلافة بعد وفاة أخيه موسى الهادى وهو فى ريعان الشباب , فى ظروف غامضة تضاربت فيها الأقاويل واختلفت الآراء وتباينت الروايات .. كان الخليفة الراحل على وشك خلع أخيه هارون من ولاية العهد وأخذ البيعة لولده جعفر وليا للعهد وهو دون السابعه .. بينما كانت أمه الخيزران تتمنى تقديم أخيه هارون عليه فى الخلافة فى حياة أبيهما المهدى كما أسلفنا .. لكن جرت المقادير على غير ما أرادا , لتكون بداية الجفوة والخلاف بين الأم وولدها , والتى كانت تزداد يوما عن يوم , حتى انتهت إلى القطيعة الكامله بعدما وصل الجفاء إلى ذروته , وحدث ما كان متوقعا حدوثه بين يوم وآخر , وكانت المواجهه والصدام الأكبر بين الأم وولدها الخليفة موسى الهادى فى لقاء عاصف , حيث بلغ به الغضب مداه من تدخلها فى شئون الحكم , وجاءته الفرصة يوما ليصب عليها جام غضبه , وما كان يضمره من كراهية لها , لما جاءته لتكلمه فى حاجة ضمنتها لأحد أتباعها , إنفجر بركان عضبه وهو يقول لها .....
ــ ألم يأن لك أن تكفى عن هذه الأمور .. لقد صبرت عليك كثيرا .. إنتظرت أن تغيرى من مسلكك هذا .. لن أسمح لك بعد اليوم بالتدخل فى شئون الحكم .. وأن تفعلى ما كنت تفعلينه فى الماضى أيام أبى .. مالك أنت وأمور البلاد .. سبق وأرسلت لك رسالة أحذرك فيها .. أن تخرجى من خفر الكفاية إلى بذاءة التبذل .. ليس من قدر النساء الإعتراض فى أمور الملك ...
أخذ صوته يعلو ويزداد حدة وهو يصرخ فيها ....
ــ ما هذه المواكب التى أراها تغدو وتروح إلى بابك !. أليس لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك .. أحذرك من فتح بابك بعد اليوم لمسلم أو ذمى .. والله لئن بلغنى أنه وقف ببابك أحدا من قوادى أو خاصة رجالى لأضربن عنقه ولأقبضن ماله .. متى أفلح خليفة له أم !!..
كان لقاء عنيفا فاصلا إستمعت فيه الخيزران الأم إلى ما لم يطرق سمعها من قبل .. وانتشر أمر هذا اللقاء بين الناس وكان قرينة كبرى ومدعاة لأن تشير أصابع الشك والإتهام إلى الأم لما مات ولدها الخليفة فجأة وهو فى السادسة والعشرين من عمره , قيل أنها دست له السم فى طعامه عن طريق واحدة من جواريه , لكن الحقيقة التى لم يكن على علم بها إلا القليل من خاصته لقلة شكايته , أنه كان يعانى قرحة فى معدته ..
وفى نفس الليلة التى مات فيها , تمت البيعة لأخيه هارون أميرا للمؤمنين .. ومن عجائب الأقدار أنه قبل وفاته بيت النية وعقد العزم على قتل أخيه الرشيد ويحي البرمكى الأب الروحى له وأقرب المقربين إليه .. لم ينس له أنه سافر إلى حيث يقيم فى جرجان ليخلعه من ولاية العهد , وألقاه فى السجن أسفل القصر ينتظر مصيره , لكن يد القدر سبقت إليه ..
لذلك لما تولى الرشيد وجلس على كرسى الخلافة , كان أول قرار له شفاهة إلى حاجبه الفضل بن الربيع .........
ــ إذهب فى التو إلى السجن أسفل القصر , وأخرج منه "أبى" يحي , وأحضره إلى هنا , لا تتأخر ..
إستدار الفضل خارجا على مضض منه , لما كان يحمله فى قلبه ميراثا أبويا من كراهية دفينة للبرامكة جميعا , ونفوذهم يزداد يوما عن يوم ..
وفى طريقه أخذ يحدث نفسه وعلامات الغضب والكراهية على وجهه .... تبا لهم أولئك الدخلاء الغرباء الذين أتوا ديارنا قادمين من بلخ , إن كان هذا حالهم ونفوذهم أيام الخليفة الراحل , فماذا هم صانعون بعد تولى الرشيد أمور الخلافه , وهو الذى شرب لبانهم وتربى فى أحضانهم وتعلم منهم أكثر من عشرين عاما , إنه لا يحاطب يحى إلا بيا "أبت" ..
أخيرا وصل إلى باب السجن وأخرج منه يحى متظاهرا بالفرحة مقدما له التهانى وظل يلاطفه حتى وصلا ديوان الرشيد .. ما إن لمحه قادما حتى نزل من على كرسيه مقبلا عليه مسلما مهنئا ثم قال له ....
ــ لا تحزن يا أبت على ما أصابك .. قلدتك منذ الساعة أمر الرعيه , تحكم فيهم بما ترى من صواب , إعزل من شئت واستعمل من تراه صالحا , وهذا خاتمى معك ..
قال ذلك وهو يلبسه خاتمه بنفسه , ثم نظر إلى يساره نظرة ذات مغزى حيث كان إبراهيم الموصلى جالسا وقال له مبتسما .....
ــ إيه يا موصلى .. ألن تطرب أسماعنا .. إنه يوم بهجة وسرور ..
إنحنى إبراهيم ممتثلا وهو يحتضن عوده الذى لا يفارقه واعتدل فى جلسته , وبدأت نغمات عوده الشجية تملأ أرجاء المكان على صوته الرخيم العذب وهو يقول ...
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة .. فلما تولى هارون أشرق نورها

بيمن أمين الله هارون ذى الندى .. فهارون واليها ويحي وزيرها


يتبع إن شاء الله ................................


@ إتخذ الشافعى وأمه طريقهما قاصدين المدينه .. وعلى راحلتيهما مضيا يسلكان طريق الهجرة الذى مشى على حبات رماله قبل مائة وسبعين عاما , جده رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ومعه صاحبه الصديق الأكبر فى رحلة المجد والخلود .. أشار لشافعى لأمه وهو يحدثها على غار ثور الذى اختبأ فيه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصاحبه عن عيون طالبيه من مشركى مكه .. أخذت تمر على خاطره فى تتابع سريع أحداث التاريخ القريب وذكرياته العطره التى رواها له الأجداد بلسان المقال وتحكيها فى صمت جليل بلسان الحال جبال مكة ووديانها , وسهولها وحبات الرمال المترامية أمام عينيه , التى ارتوت وتعطرت بدماء الشهداء الأبرار .. رأى من خلالها الفرسان الأوائل من جيل الصحابة العظام وهم قادمون صوب مكة يقودهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لنصر الله المبين وللفتح الأكبر .. رأى الناس وهم يدخلون فى دين الله أفواجا مرددا معهم ... لا إله إلا الله وحده .. صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده .. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم .. لا حول ولا قوة إلا بالله ..
أفاق من من ذكريات رحلة عطرة بقيت آثارها تروى أحداثها وإن طواها الزمن .. إلتفت إلى أمه قائلا .....
ــ إذا أذنت لى يا أم ؟.
ــ نعم يا ولدى ..
ــ أن أمضى وقت السفر فى قراءة القرآن , كنت قد عقدت العزم على ذلك قبل أن نتهيأ للرحيل , أريد أن يكون زادنا فيها آيات الذكر الحكيم , وأن أتقوى بها على لقاء شيخ المدينة وإمامها الأعظم ..
ــ أنت وما عزمت يا أبا عبد الله ..
مرت أيام ثمان , ختم القرآن خلالها ست عشرة مره .. ختمة فى الليل ومثلها فى النهار .. إلى أن بدأت تلوح فى الأفق من بعيد شيئا فشيئا أشجار المدينة الوارفة الظلال وباسقات النخيل .. أخذت تداعب وجوههما نسماتها الرقيقة التى تعطرت بأنفاس رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه الأعلام .. لبثا ساعة فى ضيافة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى روضته الشريفة .. مفتتحين بها قبل أن يتوجها إلى دار عمه يعقوب بن العباس الشقيق الأكبر لأبيه إدريس والذى استقر فى المدينة بعد زواجه من إحدى بناتها وله منها ولد وحيد اسمه يوسف , يقارب عمره ابن عمه الشافعى .. شاب عاقل رصين متدين .. تلقى هو الآخر نصيبا من العلم ويعمل مع أبيه فى تجارته ..

يتبع إن شاء الله ............

لامست نسمات الصباح الباردة فى رفق وجه الفتى المكى من نافذة إلى جواره .. نهض على إثرها من فراشه سعيدا متفائلا تنطق أساريره بالبشر والبهجة .. شاعرا بنشاط وحيوية تسرى فى جسده الضامر .. وأنه أصبح أكثر قوة مما كان عليه قبل أن يلقى جسده المنهك من طول الرحلة على الفراش .. لم يشعر إلا وفراشه يبتلع جسده المكدود مستغرقا ليلته فى نوم عميق .. كما يقول العرب فى أمثالهم ... "طعام الجائع هنئ وفراش المتعب وطئ" ..
أمضى طرفا من الليل قبل أن يروح فى سباته العميق , فى حديث هامس مع إبن عمه يوسف , شريكه فى الفراش .. كانت تلك أول مرة يلتقى فيها أبناء العم ويرى كل منهما الآخر .. سأله عن رحلته الشاقة المضنيه , وما لقيه خلالها عبر ممرات الصحراء الوعرة ودروبها الشائكه , ظل يحكى له
عما لقيه أثناءها من متاعب وعذابات , زاد منها أنه لم يضع جنبيه على فراش لين خلالها , لم يهنأ بدنه ولم تقر عينه برقدة تريحه من مشاق السفر ومعاناته .. روى لابن عمه كيف كان يختلس لحظات من الزمن اختلاسا كأنه يستعيرها , يغفو خلالها كالمغشى عليه لا يلبث بعدها حتى يهب مستيقظا , راجعا لما كان عليه من مواصلة الرحلة وقراءة القرآن .. حكى له عن سبب قدومه وأمه إلى المدينه , وأنه عزم على مواصلة رحلة العلم التى بدأها فى مكه , مرورا برحلته الى الباديه ثم جلوسه بعد ذلك إلى شيوخ الحرم .. أفصح له عن وجهته فى المدينه وعزمه على لقاء إمامها أولا واخذ العلم عنه قبل أن يختلف إلى علماء المدينة الآخرين والأخذ عنهم , والتعرف على أحوال أهلها وكيف علمهم وعملهم بالكتاب والسنه .. وأثناء حديثه الممتد الهامس لم يشعر بنفسه إلا وهو بتثائب رغما عنه وراح يغط فى نوم عميق , وابن عمه يرقبه بنظرة ملؤها الشفقة والإعجاب بأحوال هذا الفتى المثابر الدؤوب ..*

يتبع إن شاء الله ............
*
@ فرغ من صلاته وأخذ يرتدى ملابسه على عجل وعيناه على باب الدار لا تبرحان كأنه يتعجل الخروج إلى ما هو قادم إليه , بدا وكأنه عاشق متيم يتلهف لقاء الحبيبة بعد طول غياب ونوى .. أجل , ها هو يتقدم خطوة أخرى فى سبيل تحقيق حلمه وهدفه الأسمى , بعد أن أخذ على نفسه العهد ألا يذيقها طعم الراحة حتى تتحقق رغبة أمه وأمنية أبيه الراحل , كان ذلك بعد لقائه الروحى البرزخى فى مكه مع الشيخ العارف الفضيل بن عياض ..
إنتهى من ارتداء ملابسه وسوى هندامه وتطيب , بينما عينى أم حبيبه تتابعه فى صمت وهو يتحرك جيئة وذهابا فى الغرفه , وهى فى عجب من أمر هذا الفتى الذى يحاول أن يسابق الزمان ويطوى الأيام .. أخذت تضرب كفا بكف محدثة نفسها ....... ما بال الفتى فى عجلة من أمره هكذا , إنه لم ينفض عن جسده غبار السفر بعد , لم تمض عليه فى المدينة إلا ساعات معدودات , وها هو يستعد للخروج ومواصلة الجهد والعمل , أى فتى هذا ..
تركت حديث النفس جانبا وارتفع صوتها بالسؤال مبدية عجبها ودهشتها , بينما يداها مشغولتان فى إعداد طعام الإفطار وهى تساعد زوجة عمه التى جلست قبالتها ......
ــ إيه .. أراك وقد تهيأت للخروج ؟..
ــ أجل يا أماه ..
ــ هكذا مبكرا . إلى أين ؟..
إلتفت إليها باسما بينما يداه تبحثان فى طيات ثيابه عن المكان الذى دس فيه كتاب التوصيه .......
ــ أنسيت يا أم الشافعى , أخرج لما جئنا من أجله ..
ــ ماذا تقول يا ولدى . تخرج الآن . فى هذه الساعة المبكرة تذهب لشيخ المدينة مالك ؟..
ــ لا يا أم , لم يحن بعد ميعاد اللقاء ..
عاودت سؤالها وقد توقفت يدها عن تقليب العصيدة على النار ....
ــ مادام الأمر هكذا, فيم العجلة إذن يا ولدى؟..
ــ أماه , على أولا أن أتوجه إلى دار أمير المدينه محمد بن إسحق الهاشمى ..
ــ أمير المدينه . لم ؟..
ــ كى أسلمه هذا الكتاب , كتاب التوصية الذى تحصلت عليه من أمير مكه ..
ــ آه , وبعد أن تسلمه كتاب التوصيه , ماذا أنت فاعل ؟..
ــ والله لا أدرى يا أماه , هذا يتوقف على ما يقرره الأمير , قد أذهب وحدى للقاء الشيخ , وقد نذهب سويا , لا أدرى .. إيه , كم انا فى شوق للقاء شيخ المدينة ونجمها الثاقب مالك بن أنس ..
ردت وهى تعاود تقليب العصيدة على النار فى حركات متتابعه ....
ـــ هكذا أنت يا ولدى , تستبق الزمان ..
رد فى الحال مرتجلا ......
ومن رام العلا من غير كد .. أضاع العمر فى طلب المحال
أروم العز ثم أنام ليلا .. يغوص البحر من طلب اللآلى .....
ــ أعلم مدى لهفتك وحرصك يا ولدى على لقاء الشيخ , لكن لن يضيرك أن تنتظر قليلا , نحن لا نزال فى أول النهار , اليوم كله بطوله أمامك تفعل فيه ما تشاء على راحتك ..
قاطعها فى الحال قائلا .....
ــ لم أنتظر يا أعظم الأمهات ؟..
ــ كى تتناول طعام إفطارك , او بعضا منه , إنك لم تذق للزاد طعما منذ البارحه , وأعلم أنك بت الليل على الطوى , تمهل يا ولدى , لحظات قليله وأرفع العصيدة من على النار , ألست تحبها وتشتهيها ؟..
رفع رأسه ناظرا لأمه وقد فرغ من تسوية هندامه , ثم انطلق قائلا بعد لحظات صمت وتأمل ....
العلم يا أماه ليس يناله .. من همه فى مطعم أو ملبس
إلا أخو العلم الذى يعنى به .. فى حالتيه .. عاريا أو مكتسى
فلعل يوما إن حضرت بمجلس .. كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
إلتفت إليها عمه يعقوب قائلا وهو فى مكانه حيث كان ينتقى وغلامه بعض أثواب القماش والعباءات ويرتبها ويحصى عددها قبل نقلها لمتجره .....
ــ أم حبيبه , أريحى نفسك , الولد سر أبيه , دعى الفتى وما يهوى , يبدو عنيدا صلب الرأس مثل أخى إدريس , كان رحمه الله إذا عقد العزم على أمر , لا يهدأ ولا يستريح حتى ينتهى منه .. تلك كانت خصلة فيه , ويبدو أن ولدك ورثها عنه ..
شاركته ابتسامته قائلة ......
صدقت والله يا أبا يوسف , كان أبو كما قلت , لكن ما حيلتى أمام فتى كهذا , لسان ينطق بالحكمة وعزيمة أمضى من الحسام المهند , على كل حال أنت وشأنك يا ولدى , على بركة الله , أنار الله لك طريقك ..
إستدار ناحية باب الدار وقبل أن يبلغه إستوقفه صوت ابن عمه يوسف من داخل غرقته مناديا عليه بصوت عال .......
ــ مهلا يا ابن العم , مهلا , إنتظر لحظة واحده , بالله عليك لا تخرج حتى أفرغ من ملابسى أنا الآخر , كى آتى معك , لأدلك على دار الأمير قبل أن أذهب للسوق ..

يتبع إن شاء الله ............
*
@ مكثا يقطعان الطريق إلى دار الإمارة فى حديث متواصل , وفى منتصف الطريق ساد الصمت بينهما , بدا الشافعى ساهما شاردا كعادته عندما يكون مقدما على أمر مهم , أخذ يرتب أفكاره ويهئ نفسه لهذا اللقاء المرتقب مع الأمير وهو لم يره من قبل , أخيرا وصلا دار الإماره وأمكنه بعد جهد جهيد أن يدخل عليه مجلسه رغم كثرة مشاغله .. لم يبد حارس الباب فى البداية أى استجابة لتوسلات ابن عمه أن يسمح لهما بمقابلة الأمير , كان الحارس فظا متعنتا معهما بحجة انشغال الأمير , ولم يسمح لهما إلا بعد أن لوح له الشافعى غاضبا برسالة أمير مكة وعليها خاتمه قائلا له .......
ــ إسمع أيها الحارس , كف عن الجدال , لابد لى من لقاء الأمير اليوم , إن معى رسالة مهمة له من أمير مكة واليمن ..
تراجع الحارس عن عناده وتغيرت لهجته فبدا أكثر تأدبا وهو يرد قائلا ....
ــ لم تخبرنى أن معك رسالة من مولاى أمير مكه .. حسنا .. على أية حال , إنتظر هنا ريثما يفرغ الأمير من لقائه مع رجال الدواوين وشيوخ القبائل ..
ثم استدرك قائلا وهو يراه يستعد للجلوس مكانه .....
ــ لكن اعلم أنه ربما يطول انتظارك ..
ــ لا بأس .. سأنتظر ..
إقترح عليه ابن عمه أن يذهب معه حيث دكان تجارته فى السوق يتبادلان أطراف الحديث , حتى لا يتسرب الملل إليه من طول الإنتظار وحيدا , لكنه شكره قائلا ........
ــ أفضل انتظاره هنا , حتى لا تفوتنى فرصة لقائه اليوم .. إذهب أنت على بركة الله إلى تجارتك ودعنى , وعندما أنتهى من المقابلة سأمر عليك فى السوق ..
شد على يديه مودعا وهو يقول له .....
ــ كما تحب .. سأذهب الآن إلى أبى فى سوق الثياب .. إنه قريب من هنا , سل أى إنسان على دكان يعقوب وسيدلك على مكانه فى التو ..
@ فرغ الأمير من قراءة الرسالة على مهل وهو يمر بعينيه على سطورها , طواها والتفت ناحية الشافعى قائلا وهو يحدق فيه بعين فاحصة مدققة يحاول سبر أغواره ومعرفة دخيلة نفسه .....
ــ نعم .. تريد إذن مقابلة الشيخ فى لقاء خاص ؟..
ــ أجل سيدى الأمير ..
ــ لكى تقرأ عليه الموطأ وتتعلم منه ؟..
ــ أجل .. ما رحلت من مكة إلى هنا إلا من أجل تحقيق تلك الغايه ..
ــ لكن .. لكن يا ولدى هذا كثير على فتى غض مثلك .. ألا تعلم أنه لا يختلف إلى إمام دار الهجره ولا يجالسه إلا من هم أكبر منك كثيرا ..
سكت برهة ثم واصل تساؤلاته .....
ــ وتريد منى أن أصحبك إلى داره ؟..
ــ تفضلا وتكرما منك ..
ــ إسمع إلى أيها الفتى المكى وافهم ما أقول .. هذا الأمر ليس هينا كما تظن .. إنه لأمر عسير بلوغه حتى على أمثالنا من رجال الحكم والأمر والنهى .. إيه يا ولدى ماذا أقول لك .. هل لك مطلب آخر ؟.
فغر فاه دهشة وقد تبدل حاله وبدا مهموما وهو يجيب ....
ــ أبدا يا سيدى .. لآ أبغى إلا ما جئت من أجله .. تلك هى أمنيتى الوحيده التى قدمت لأجلها ..
ــ هون عليك يا ولدى .. هل لك دار بالمدينه ؟..
ــ أقيم فى دار عمى يعقوب بن العباس الشافعى ..
رجع برأسه إلى الوراء , وأخذ يردد إسمه هامسا كمن يحاول أن يتذكره ثم قال ......
ــ آه تذكرته .. أليس هو تاجر الثياب والأردية الموشاه ؟..
ــ بلى هو يا سيدى ..
ــ أجل أجل .. وهل تحترف حرفة أو تجيد صنعة تتكسب منها ؟.
ــ حرفتى وصنعتى ونهمتى يا سيدى هى طلب العلم والتفقه فى الدين .. لقد تعلمت على يدى شيوخ مكه ونهلت الكثير من علومهم .. وكل ما أتمناه أن آخذ العلم على يدى شيوخ المدينه وأهلها ما استطعت إلى ذلك سبيلا ..
ــ تريد إذن جمع علوم أهل الحجاز جميعا .. لا بأس ..
أطرق برهة , ثم رفع رأسه لتلمع فى عينيه نظرة إعجاب بالفتى وهو يقول له ......
ــ يا لك من فتى مثابر دؤوب , أدركت من فحوى كلامك مدى قوة إرادتك وعزيمتك , وشدة ولعك بالمعرفة وتحصيل العلوم , لكن يا ولد شافع , أهون على أن أمشى على قدمى حافيا من جوف المدينة إلى جوف مكه , من المشى إلى باب شيخنا مالك .. ليتنا إذا رحنا إليه وأصابنا تراب العقيق ثم وقفنا على بابه يفتح لنا , لا تعجب , يا بنى أنت لم تره ولم تقف على بابه من قبل ..
صمت بهة ثم قال فى نبرة أسى .....
ــ هيهات هيهات , أتعلم أنه لم يغادر داره مذ أعوام طويله بعد أن اجترأ عليه أحد ولاة الخليفة المنصور بالضرب الموجع , ثم أمر رجاله أن يدوروا به فى الأسواق , لما أحل القوم من بيعتهم له قاشلا حديثه المعروف ..... ليس على مستكره يمين وليس على مستكره بيعه , فما وهنت عزيمته ولا لانت له قناه , بل أخذ ينادى بأعلى صوته وهم يدورون به فى الأسواق ..............
.... ألا من عرفنى فقد عرفنى ومن لم يعرفنى فأنا مالك بن أنس الأصبحى , أول لكم طلاق المكره ليس بشئ وليس على مستكره يمين ولا بيعه .....
ــ فلما علم المنصور بما جرى له صرخ فى رجاله ............. أدركوه وعودوا به إلى داره , وبعد سنوات جاءه فى موسم الحج وألح فى الإعتذار له بعد أن شعر بالذنب تجاهه من جراء تلك الفعلة الشنعاء .. إيه كانت أياما عصيبة قاسيه ..
ــ أجل يا سيدى .. أمير مكة قال لى شيئا كهذا , حتى أنه تهيب أن يخط رسالة توصية إليه , ولما سألته فى ذلك قال لى مثلما قلت ..
ــ على أية حال يا بنى لن أخذلك , إذهب الآن لشئونك وارجع إلى بعد صلاة العصر , سوف أكون بانتظارك هنا إن شاء الله , لكى نذهب سويا إلى دار الشيخ ..

راح الشافعى يقطع الساعات الطويلة فى جولة تعرف خلالها على معالم مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وآثارها الطيبه .. بدأ بزيارة البقيع الذى يضم ثراه الطيب رفات آل البيت والصحابة والتابعين الأبرار , ومن بينهم رفات أجداده القرشيين العظام , قرأ الفاتحة على أرواحهم ودعا لهم , ثم يمم وجهه شطر المسجد النبوى , لبث ساعات فى العبادة والصلاة وقراءة القرآن فى الروضة الشريفه .. إبتهل إلى الله فى تلك البقعة المباركة من الأرض أن يوفق فى لقاء مالك وأن يكتب له القبول عنده .. بعد ذلك اتخذ طريقه إلى دكان عمه يعقوب فى سوق الثياب بالقرب من الحرم , ظل فى حديث مع عمه وابن عمه يوسف إلى أن رفع المؤذن النداء لصلاة العصر , وبعد أن ختم صلاته توجه إلى دار الأمير الذى كان ينتظره , إنطلقا وحدهما بعد أن أشار الأمير إلى حراسه ان يلزموا أماكنهم وألا يتبعه أحد ..................
*
يتبع إن شاء الله ............

@ على مهل وفى خطوات متأنية أخذا يشقان طرقات المدينة وأزقتها الضيقة يلفهما صمت عميق , إلى أن توقفا أمام إحدى الدور القديمه .. كانت رغم قدمها دارا رحبة أمام بابها فناء واسع تتناثر على جانبيه أشجار الصفصاف العتيقة العاليه وهى تظلل بأغصانها الوارفة فناء الدار.. وفى الركن الأيمن كانت ثلاث نخلات متوسطات الطول تخرج من أصل واحد فى منظر بديع فريد , لم تقع عينى الفتى على مثله من قبل .. مال الأمير على الفتى هامسا ......
ــ وصلنا أخيرا .. هذه دار إمامنا وشيخنا مالك ..
ــ ما أجملها من دار وما أطيب ريحها ..
ــ هل تعلم لمن كانت قبل أن تؤول لشيخنا ؟. كانت للصحابى الجليل عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ..
قرع الباب برفق والفتى من خلفه ينتظر مترقبا أن يفتح الباب ويطل الشيخ منه عليهما .. إبتسم متفائلا وهو يقرأ عبارة منقوشة على باب الدار "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" وكأنها إشارة إلى باب الجنه ..
لم يطل انتظارهما , خرجت إليهما فى الحال الجارية السوداء التى تقوم على خدمة سيدهامنذ عشرات السنين لم تفارقه يوما .. نظرت إليهما صامتة نظرة تساؤل , بادرها الأمير وكانت تعرفه .......
ــ أخبرى مولاك أنى بالباب ..
إستدارت دون أن تجيبهما أو تسمح لهما بتخطى عتبة الدار , عادت بعد لحظات انتظار مرت كأنها دهر ......
ــ يقول الشيخ إن كانت لك مسألة أو فتوى فارفعها فى رقعة وسيأتيك جوابها , وإن كان شأنا آخر فيوم المجلس معلوم , فانصرف يرحمك الله ..
ــ أيتها الجاريه , إنى أريده لشأن آخر ..
ــ ماذا تعنى ؟..
ــ قولى له إن معى كتابا من امير مكة فى أمر مهم ..
إنطلقت منه زفرة حرى مع آخر كلمة قالها وهو ينظر للشافعى نظرة يقول له من خلالها بعين الحال ..... أرأيت يا فتى ؟. ألم أقل لك ؟..
عادت الجارية بعد برهة وفى يدها كرسى لسيدها الذى خرج أخيرا كأنه ملك متوج تعلوه المهابة والوقار .. كان رجلا طوالا جسيما أشقر , أزرق العينين , يرتدى عباءة خضراء من فوق ثياب تبدو بيضاء ناصعة البياض , وعلى رأسه عمامة ينسدل طرفيها على كتفيه , وله لحية كثيفة وشارب مفتول لا يحفه .. ناوله الأمير وهو لا يزال لدى الباب , الرسالة بعد أن حياه وسلم عليه , ثم ظل مكانه واقفا ريثما يفرغ الشيخ منها ..
أخذ يردد النظر إليهما فى دهشة وهو يقرأ الرساله , يقرأ بضع كلمات ثم ينظر للأمير تارة وللفتى أخرى , وعلامات الغضب والحنق ترتسم على وجهه شيئا فشيئا , حتى بلغ منه الضيق مداه , فانطلق صائحا فى وجه الأمير محتدا ..........
ــ ما هذا .. ماذا تعنى كلمات تلك الرساله .. كيف طوعت لأمير مكة نفسه أن يخط كلاما كهذا ؟.. سبحان الله .. لا حول ولا قوة إلا بالله .. منذ متى وعلم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يطلب بالوسائل والوسائط ..
*
إستمر الشيخ فى إطلاق سهامه الغاضبة والأمير منكمش مكانه مطرقا فى حياء لاينبس ببنت شفه .. أدرك الشافعى أن المقابلة ستنتهى إلى طريق مسدود , وأنه عائد من هذا اللقاء صفر اليدين لا محاله , ماذا يفعل والأمير واقف إلى جواره ساكنا لا يقدر على النطق بكلمة واحده .. قرر فى لحظة فاصلة أن يفعل شيئا , إستخار الله تعالى , وتمتم فى سره كلمات ثم تنحنح قائلا ........
ــ أكرمك الله وعافاك سيدى الشيخ ..
ــ نعم أيها الفتى المكى ..
ــ إنى فتى مطلبى من بنى المطلب جد شافع بن السائب , حفظت القرآن مبكرا وأنا فى الرابعه على يد شيخ مكة وقارئها الأكبر إسماعيل بن قسطنطين , ثم خرجت إلى الباديه , مكثت مع أهلها بضعة أعوام , ثم بعد ذلك تلمذت على يد محدث مكه سفيان بن عيينه , ومفتيها مسلم بن خالد الزنجى , وختمت رحلتى بكتابكم الموطأ , قرأته بل وحفظته عن ظهر قلب قبل أن آتى إلى هنا , واليوم يا سيدى أنا هنا جئتك من مكة لأتعلم وأتفقه من علومكم وأتعرف على فقه أهل المدينة منكم .. ليتك تأذن لى ..
كان الشيخ شديد الذكاء ذو فراسه , لم يضع عينيه من على وجه الفتى , ظل يحدجه أثناء حديثه بنظرات فاحصة ثاقبة متأنيه , إلى أن انتهى من بيانه سأله وقد سكت عنه الغضب وسكنت نفسه ......
ــ ما اسمك أيها الفتى القرشى ؟..
ــ محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ قلت أنك من ولد شافع بن السائب .. أليس كذلك ؟..
ــ بلى يا سيدى ..
ــ يا محمد إتق الله , واجتنب المعاصى , فسيكون لك يوما شأن ومكانة .. إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورا , فلا تطفئه بالمعصيه ..
ــ نعم وكرامة يا سيدى ..
ــ إسمع يا ولدى .. فى الغد تمضى إلى دار حبيب الكاتبى ..
ــ لم يا سيدى ؟..
ــ هو الذى يتولى أمر القراءة لى .. أبلغه أن يأتى كى يقرأ علينا الموطأ ..
ــ عفوا سيدى الشيخ , إن شئت تسمع عنى صفحا منه , فإن استحسنت منى أكملت وإلا تركت .. إنى أقرأه من الحفظ ..
ــ على بركة الله .. فى الغد تأتينى فى نفس الموعد ..

يتبع إن شاء الله ............

@ جلس بمفرده ينتظر الشيخ فى قاعة رحبة واسع , خصها للقراءة والدرس .. أخذ يجول ببصره يتأمل أرجاء المكان , وقد أخذته الدهشة من روعته وفخامته وحسن تنسيقه , أول مرة تقع عيناه على مكان كهذا .. شاهد أعواد البخور الهندى والغلام يضعها فى مجمرة من النحاس ,وخيوط دخانها الأبيض تلتف حول نفسها وهى ترتفع لأعلى , ناشرة عرفها , تملأ المكان سحرا وغموضا وروعه .. لاحظ الوسائد المريحة والنمارق المتناثرة يمنة ويسه , فى كافة زوايا المجلس , وقد أعدت لراحلة تلاميذ الشيخ ورواده وهم جلوس بين يديه ..
وبينما هو على تلك الحال من الدهشة سابحا بعينيه فى جنبات القاعة الفسيحة مأخوذا من روعتها وبهائها , إذ خرج عليه الشيخ كهيئة الملوك , مرتديا ثوبه الأبيض النقى ومن فوقه طيلسان أخضر , وعلى رأسه قلنسوة متركة , ورائحة الطيب تسبقه وقد بان عليه أنه اغتسل وتطيب ومشط لحيته , هكذا دأبه وحاله كلما يكون فى لقاء مع أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
لم ينتبه الشافعى لوجوده وهو واقف مكانه يرقبه وهو مأخوذ من روعة المكان مستغرق فى دهشته , ألقى عليه التحية واتخذ مجلسه قائلا ....
ــ أعجبتك القاعه ؟..
ــ لم أر يا سيدى فى مثل أبهة وروعة هذا المكان , وحسن تنسيقه وطيب ريحه ..
ــ إعلم يا ولدى أن الله ما أنعم على أحد إلا أحب أن يرى أثر نعمته عليه , وبالخصوص أهل العلم , ينبغى لهم أن يظهروا مرؤاتهم فى ثيابهم , إجلالا للعلم ومنزلته الكبرى .. لقد بلغنى يا بنى أن العلماء يسألون يوم القيامة عما يسأل عنه الأتبياء .. التواضع يا بنى فى التقى لا فى الثياب , وعلى هذا كان السلف الصالح .....
صمت برهة أردف بعدها ......
ــ لكم عانيت فى سنوات عمرى الأولى من ضيق الحال وشظف العيش .. حتى أنى بعت سقف دارى لأتعلم .. مرات كنت لا أجد ثمن الطعام , فأبيع من متاع دارى لأطعم أبنائى ..
كان الشافعى يستمع لحديث شيخه وعلامات الدهشة على وجهه .. نظر الشيخ إليه قائلا .....
ــ لا تعجب يا فتى من قولى .. سأحكى لك واقعة حدثت معى أيام الخليفة المنصور , منذ أعوام طويله .. جاءنى ذات يوم أبو جعفر المنصور أمير البلاد وقتئذ , وجلسنا نتحدث ونتحاور ساعات .. وفى نهاية حديثنا قلت له أذكره وأوصيه .....................
ــ يا أمير المؤمنين تفقد أحوال الرعية , ولتكن لك أسوة فى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ..
ــ أتظن يا شيخ المدينة أنى لا أفعل . ألست إذا بكت طفلتك من الجوع , أمرت أهلك أن يحركوا حجر الرحى لئلا يسمع الجيران بكاءها ؟.
ــ والله لا يعلم بهذا الأمر أحد إلا الله عز وجل .. كيف علمت به يا أمير المؤمنين ؟.
ــ قد علمته يا أبا يحى .. قد علمته .. أفمن يعلم هذا , لا يعلم أحوال رعيته .................
لم يشأ أن يقاطع الشيخ فى حديثه وهو ينصت متعجبا .. ثم بدأ يعتدل فى جلسته إستعدادا لقراءة أول صفحات الموطأ , بعد أن أذن له الشيخ مشيرا بيده .. وفى صوت رخيم خفيض بدأ يقرأ .......
ـــ بسم الله الرحمن الرحيم .. حدثنى العلاء بن عبد الرحمن , أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهره يقول , سمعت أبا هريره يقول , سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهى خداج غير تمام " .. قال قلت يا أبا هريره إنى أحيانا أكون وراء الإمام , قال فغمز ذراعى وقال : يا فارسى إقرأ بها فى نفسك , إنى سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول "قال الله عز وجل .. قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل " ...........
إستمر الشافعى فى قراءته , بينما نظرات الشيخ تتابعه وهو يهز رأسه إعجابا بلسانه الفصيح ونطقه الصحيح وصوته الرخيم الخفيض .. كان الإمام يكره الصوت العالى فى القراءه وكذلك الشافعى .. حانت منه التفاتة إلى أصابعه وهو يقلب الصفحات بعد أن ينتهى من قراءة ما فيها .. لاحظ حرصه على أن يتصفحها صفحا رقيقا بين أصابعه , حتى لا يؤذيه أو يجرح خاطره سماع حفيفها .. إبتسم الشيخ ونادرا ما يفعل , وهز رأسه إعجابا وسرورا من فطنة الفتى وأدبه ..
رفع رأسه من فوق الكتاب ناظرا إلى الشيخ ليرى إن كان قد مل السماع او أصابه التعب من طول زمن القراءة , إلا أنه أشار إليه قائلا ......
ــ زدنا يا فتى قريش , ما أجمل قراءتك وما أعذب وقعها على الآذان .. أكمل فلا يزال أمامنا فسحة من الوقت ..
قال ذلك ثم نادى على غلامه ليحضر الطعام .. ما لبث غير بعيد حتى أقبل حاملا فى يمناه طبقا عليه صفحتان , فى إحداهما لبن وفى الأخرى تمر , وفى يده اليسرى إبريق ماء .. قال له الشيخ آمرا .....
ــ هيا اغسل علينا يا غلام .. ولا تنسى ما أمرتك به من قبل , فى أول الطعام لرب البيت , وفى آخره للضيف ..
لمح فى عينى الشافعى نظرة استفسار فقال له .....
ــ رب البيت يدعو الناس إلى طعامه , فحكمه أن يبتدئ بالغسل , وأن يتأخر فى آخر الطعام ترقبا لمن يدخل , ليأكل معه ........

يتبع إن شاء الله ............

@ مكث الشافعى أياما , مواظبا على مواعيده التى خصه بها الشيخ , خلافا للأوقات التى يلتقى فيها تلاميذه ومريدوه وطلاب علمه , كان يقرأ كل يوم صفحات من الموطأ والشيخ يسمع له , شارحا بعض الأحكام مبينا له مقاصد الشرع فيها .. ويوما بعد يوم كان يزداد إعجاب الشيخ به , طالبا منه أن يقرأ المزيد , وهو يقلب صفحات الكتاب الضخم واحدة بعد الأخرى .. وذات مرة بينما الشافعى مسترسلا فى قراءة أحد الأحاديث , إستوقفه الشيخ قبل أن ينتقل إلى الحديث الذى يليه .......
ــ مهلا أبا محمد , إنتظر ..
ــ نعم يا سيدى ..
ــ أعد قراءة هذا الحديث مرة أخرى ..
ــ لم يا سيدى .. هل أخطأت فى شئ ؟..
ــ لا .. لا .. لكنى أود أن تسمعنيه مرة ثانيه ..
ــ سمعا وطاعه ..
فوجئ الشيخ به يطوى الكتاب ويعيد نص الحديث من ذاكرته كما قرأه .......
ــ حدثنا عبد الله بن أبى بكر عن عمرو بن سليم قال , أخبرنى أبو حميد الساعدى قال , قالوا يا رسول الله كيف نصلى عليك ؟.. قال "قولوا اللهم صلى على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم , وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم , إنك حميد مجيد" ..

ما كاد يفرغ من تلاوة الحديث حتى بادره الشيخ متعجبا .....
ــ أخبرنى يا ولدى , كيف اتفق لك أن تقرأ الحديث بنصه من الحفظ ؟.
أطرق حياء وهو يجيبه ............
ــ من نعم الله على يا سيدى , أنى أسمع الشئ أو أقرأه مرة واحده , فأحفظه فى الحال , ولا أنساه بعد ذلك ..
ــ منذ متى ؟..
ــ منذ صباى وأنا فى كتاب الشيخ إسماعيل .. كنت أستمع إليه وهو يلقن أحدهم الآية فأحفظها , وأنصت إلى ما يمليه عليهم , فأعيد كل ما سمعته نصا بعد أن يفرغ الشيخ ..
هز رأسه سرورا متمتما فى نفسه .... ما أعجب ما أراه منك أيها الفتى القرشى .. لقد صدق ظنى فيك مذ وقعت عينى عليك أول مره .......
*
يتبع إن شاء الله ............

@ إلى أن كان يوم , ومع آخر صفحات السفر الضخم .......
ــ عن الوليد بن عبد الله أن المطلب المخزومى أخبره أن رجلا سأل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما الغيبه ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع" قال يا رسول الله , وإن كان حقا ؟. فقال "صلى الله عليه وسلم" "إذا قلت باطلا فذلك البهتان" …
طوى الكتاب ثم نظر للشيخ …..
ــ إيه يا ولدى .. كتاب جمعته فى أربعين سنه .. قرأته على فى بضع أيام ..
ــ أربعين سنه ؟.
ــ أجل يا ولدى .. أربعين سنه وأنا عاكف عليه .. تريد ان تقول شيئا .. لديك سؤال ألمحه فى عينيك ..
أجاب متلعثما …..
ــ أجل .. غير أنى ……..
ــ آه .. فهمت .. تود معرفة حكاية الموطأ معى , متى بدأت فيه , وكيف جمعت أحاديثه .. أليس كذلك ؟..
تعجب من شدة فراسة الشيخ وحدة بصيرته , كأنه كتاب مفتوح أمامه …
ــ بلى .. هذا ما أردت معرفته ..
ــ قبل أن أجيبك أود أن تجيبنى أنت .. كم حديثا قرأت فيه ؟..
ــ نيفا وألف حديث ..
ــ الذى لا تعلمه أنى كتبت بيمنى تلك , ومن هذه المحبره أكثر من مائة ألف حديث .. وأننى أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. وأدركت أقواما لو استسقى بهم الناس لسقوا ببركتهم وقد سمعوا من العلم والحديث شيئا كثيرا .. ومع كل هذا , لم آخذ عن واحد منهم كلمة واحده ..
ــ عفوا يا سيدى .. كيف تدع أقوالهم وتترك رواياتهم وما يحدثون به , ولماذا قلت أنهم ليسوا من أهل هذا الشأن , وهم على ما هم عليه من التقى والورع ؟..
ــ ما أخبرتك بهذا إلا لكى أعطيك قاعدة تضعها دوما أمام عينيك , وإياك أن تنساها .. إحفظها فى خزانة ذاكرتك .. لا تأخذ العلم من أربعه .. أتسمعنى ؟.
ــ أجل .. زدنى بيانا ..
ــ لا تأخذه من سفيه ولا من صاحب هوى يدعو إلى بدعه , ولا من كذاب يكذب فى أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وأخيرا وهو الأهم .. لا تأخذه من شيخ له فضل وصلاح وعبادة , إن كان لا يعرف ما يحمل ولا ما يحدث به .. أفهمت ؟..
ــ أجل أجل .. فهمت قصدك يا سيدى الشيخ ..
ــ نعود لحكاية الموطأ .. أخذت أنتقى من هذه الأحاديث , أنقص منها وأراجع مرة بعد أخرى , ولا أعتمد إلا المجمع عليه , والذى يتوافق مع عمل أهل المدينه , حتى وصلت إلى عشرة آلاف حديث من مائة ألف .. ومرت أيام بعدها أتانى أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ..
ــ متى كان ذلك ؟..
ــ منذ حوالى ثلاثين سنه .. فى موسم الحج .. يومها زارنى فى دارى القديم .. كانت دارا متواضعة الحال .. ليست ميسورة رحبة كهذه الدار ..
المهم , أخذ يحدثنى فيمن مضى من السلف والعلماء .. فوجدته أعلم الناس بالناس .. ثم تكلمنا فى الفقه كذلك , فوجدته أعلم الناس كذلك بما اجتمعوا عليه وأعرفهم بما اختلفوا فيه .. حافظا لما روى , واعيا لما سمع .. وفى زيارة ثانية له , عرضت عليه الموطأ , وبعد أن قرأ ما دونته فيه قراءة متأنية قال لى .............
ــ يا أبا يحى .. ليتك تعيد كتابته , واجتنب شواذ ابن مسعود , وشدائد ابن عمر , ورخص ابن عباس , واقصد أوسط الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمه .......
ــ وماذا وجدت فى كلامه ؟..
ــ علمت أنه قد أصدقنى النصيحه .. فعكفت عليه مرة أخرى بضع سنين .. وظللت أنتقى منه .. ثم بوبته أبوابا حتى صار كما تراه ..
ــ وهل عاود أمير المؤمنين قراءته ؟..
ــ أجل .. فى العام الثامن والأربعين بعد المائه , أتفق أن جاء للحج أيضا , بعد أن اطلع على الموطأ فى صورته الأخيره , قام بزيارتى وقتها ليعتذر عما فعله معى أمير المدينه أيامها .. لقد ضربت حتى انخلع كتفى , حتى أنى لم أعد أستطيع تحريك يدى اليسرى ولا زلت .. لا زلت أذكر ما دار من حديث بينى وبين الخليفة المنصور .. قال لى معتقدا أنه يرضينى ويرد الإعتبار لى .............
ــ قرأت كتابك قراءة متأنية .. وعزمت على أمر , ليتك توافقتنى عليه ..
ــ أصلح الله الخليفه .. ما هو ؟..
ــ عزمت إن شاء الله تعالى على أن آمر بكتابك , فينسخه الكتبة نسخا كثيرة , أبعث بها إلى أمصار المسلمين , نسخة لكل مصر , فما قولك يا إمام ؟..
ــ أجبنى أولا عن سبب ذلك , لم تريد أن ترسل به إلى الأمصار ؟..
ــ قصدت من وراء ذلك أن آمرهم بالعمل بما فيه .. وألا يتعدونه إلى غيره .. وأن يتركوا ما سواه من العلم المحدث ..
أطرق برهة مستغرقا فى تفكير عميق ثم قال ........
ــ لا تفعل يا أمير المؤمنين .. لا تفعل ..
ــ ما الذى يمنعنى ؟..
ــ الناس قد سبقت إليهم أقاويل .. وسمعوا احاديث .. وسردوا روايات .. وأخذوا بما سبق إليهم .. فعملوا به ودانوا له ..
ــ وماذا عليهم أن يعملوا بما فى كتابك من أحكام .. إن فيه العلم الصحيح الناسخ لكل ما لديهم ؟..
ــ يا أمير المؤمنين .. إن ردهم عما اعتقدوه لشديد .. وأشد منه أن تفرض عليهم رأيا يخالف ما عندهم .. دع الناس وما هم عليه .. وما اختاره أهل كل بلد منهم لأنفسهم .. إن ذلك أصلح لهم ..
ــ إذن أجلسك فى البيت الحرام بمكه .. وأحمل الناس على علمك .. وأعهد إلى الأمصار يوفدون إليك وفدهم .. ويرسلون إليك رسلهم فى أيام الحج .. تعلمهم علم أهل المدينه .. وتحملهم على الصواب فى أمور دينهم ..
ــ يا أمير المؤمنين .. لا تنس أن لكل قوم سلفا وأئمه .. فإن رأيت إقرارهم على حالتهم , فدعهم وشأنهم .. إن هذا هو الأصوب لهم ..
ــ ليتك توافقنى يا إمام ؟..
ــ إعفنى يعف الله عنا وعنك .. ويغفر لنا ولك ..
ــ لعمرى لو طاوعتنى على ذلك .. لأمرت به من اليوم ..
*
يتبع إن شاء الله ............*
@ تعلق سمعه بالشيخ وهو يواصل سرد حكاية الموطأ قائلا ......
ــ إيه .. يرحم الله الخليفة المنصور ويغفر له ما سلف من أمره ..
ــ معذرة شيخى .. يتلجلج فى صدرى سؤال غير أنى أجد حرجا منه .. فهل تأذن لى ؟.
ــ سل ما بدا لك يا ولدى .. ولا حرج إن شاء الله
ــ قلت يا سيدى أنك رفضت طلب المنصور إلزام أهل الأمصار بالعمل بما جاء من أحكام فى الموطأ وألا يتعدونه إلى سواه ؟..
ــ أجل أجل .. هذا ما قلته ..
ــ كيف يتفق هذا وأنت تقدم عمل أهل المدينة .. بل تقول إن الناس تبع لهم باعتبار دارهم دار الهجره وبها نزل القرآن ..
ــ وأزيدك أكثر من ذلك أنى جعلت بعض عمل أهل المدينة مقدم على الحديث الصحيح .. وبعضه مقدم على خبر الآحاد .. وبعضه مقدم على الرأى .. ومع ذلك لم أقل أبدا أن عملهم حجة لازمة لجميع الأمه .. وإنما هو منى على الإختيار لما رأيت العمل عليه .. ولم أدع قط أنه لا يجوز العمل بغيره .. بل هو مجرد إخبار منى بعمل أهل بلدى .. ولم يجمع أهلها إلا على نيف وأربعين مسئله ..
ــ أطمع أن تعلمنيها ..
ــ فى عجالة أقول لك أنى قسمت تلك المسائل إلى ثلاثة أقسام .. كل قسم منها له حكمه .. فيما بعد سوف أفصلها لك .. أفهمت يا ولدى ..
ــ بارك الله فيك يا شيخى .. نعود إلى حكاياة الموطأ ..
ــ أين توقفنا ؟.
ــ عند آخر لقاء لك مع الخليفة أبى جعفر المنصور ..
ــ تذكرت .. مرت سنوات ورحل المنصور إلى جوار ربه .. وتولى الأمر من بعده ولده محمد المهدى .. جاءنى هو الآخر فى هذه الدار وفى نفس هذا المكان .. كان ذلك فى موسم الحج منذ عشرة أعوام .. قال لى ....................................
ــ أبا عبد الله .. إن القضاة فى سائر الأمصار يرفعون إلى أقضياتهم فأجد فيها اختلافا كثيرا وتباينا فى الأحكام .. ورأيت أن تعرض عليك بحججها , لتمضى فى كل قضية منها برأى أو بحكم قاطع , يمنع بعده العمل بخلافه ..
ــ أطال الله عمر أمير المؤمنين .. أما هذا الصقع من بلاد المغرب (وأشار بيده ) قد كفيتك إياه , فإن أهله يمضون أحكامى .. وأهل الشام فيهم الرجل الذى تعرفه
ــ الأوزاعى .. أجل أعرفه جيدا ..
ــ أما عن أهل العراق , فإنهم أهل ناحية , قالوا قولا تعدوا فيه طورهم , فاتركهم على حالهم ..
ــ لم أقصد من وراء ذلك يا أبا عبد الله إلا أجعل حتى آخر الدهر حكما واحدا صوابا فى كل قضيه , بدلا من تلك الأحكام الكثيرة المتناقضة التى اختلط الصواب فيها بالخطأ .. ليتك توافقنى وأنا آمر به من الغد .........
واستمر الشيخ يحكى ................
ــ وانتقل المهدى إلى جوار ربه العام قبل الماضى .. وتولى من بعده ولده موسى الهادى , غير أنى لم أره مذ كان يأتينى مع أخيه هارون وهما صبيان صغيران , يجلسان فى حلقة العلم .. يرحمه الله لم تدم خلافته أكثر من عام وبعض عام , إلى أن تولى أمر المسلمين من بعده منذ بضعة أشهر هارون الرشيد ..
ــ أظنه كان يحج بالناس هذا العام ؟.
ــ أجل , وزارنى هنا بعد أن أتم مناسك الحج وقبل أن تأتينى أنت هنا بأيام .. ليتك كنت حاضرا هذا اللقاء .. سأحكى لك جانبا مما دار بيننا من حديث .. كان الرشيد ودودا متلطفا معى وهو يقول ..................
ــ يا إمام دار الهجرة وشيخها , حاجبنا الربيع بن يونس حكى لى أخبار المحنة التى عرضت لك أيام جدى المنصور , ومن قبل أخبرنى أبى أن ما فعله معك بكار الزبيرى أمير المدينة وقتئذ , وما ألحقه بك من إهانة وتعذيب وأذى كان بغير علم الخليفه , إعتقد هذا الأبله بحماقته أنه يرضى بذلك الخليفة ويزيده بتلك الفعلة الشنعاء قربا منه ..
ــ لتعلم يا أمير المؤمنين أنى أخرجت من ذاكرتى كل هذه الأحداث وإن كانت آثارها لا تزال باقية على جسدى .. أما جدكم الخليفة المنصور فإنى قد نزهته عن الأمر بذلك أو الرضا به ..
ــ الحمد لله .. أرحت قلبى يا إمام ..
ــ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان .. ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا .. ربنا إنك رؤوف رحيم ..
ــ صدق الله العظيم .. إسمع يا إمام .. أود منك الرأى والمشورة فى أربعة أمور ..
ــ تفضل يا أمير المؤمنين ..
ــ الأولى أن تأذن لى فى تعليق الموطأ بالكعبه .. والثانيه أن أحمل الناس على العمل بما فيه من أحكام ..
ــ أما عن هاتين المسئلتين تعليق الموطأ بالكعبه وحمل الناس على أحكامه .. فإن هذا كله لا يجوز فعله , لأن أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وإن لم يختلقوا فى الأصول , إلا أنهم اختلفوا فى الفروع وتفرقوا فى البلدان , وكل واحد منهم مصيب عند نفسه ..
ــ لندع هاتين المسألتين جانبا .. ما تقول فى إعادة بناء منبر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجعله من الذهب الخالص والفضه ؟.
ــ دعه على حاله يا أمير المؤنين .. إنه أثر من آثار رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , أرى ألا تحرم الناس منه ..
ــ لم تبق إلا المسئلة الرابعه , ليتك توافقنى عليها يا أبا يحى .. ما قولك أن يقوم نافع بن نعيم إماما يصلى بالناس فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ أصلح الله الخليفه .. إن نافع إمام فى القراءه , ولا يؤمن أن تبدر منه فى المحراب بادرة فتحفظ عليه .. إتركه فى مقامه وعلى مكانته ..
ــ أنت وما تشاء يا إمام .. هل من وصية قبل أن أغادر إلى بغداد ؟.
ــ بلغنى يا أمير المؤمنين أن الخليفة عمر بن الخطاب كان على فضله وتقدمه , ينفخ للناس عام الرمادة تحت القدور حتى يخرج الدخان من بين لحيته .. والله تعالى رضى منكم بأقل من ذلك .. فاتق الله فى رعيتك ............
إمتد حديث الإمام مع الشافعى حتى دخل الليل وفى نهايته قال له ..........
ــ تلك هى قصة الموطأ مع الخلفاء الثلاثه المنصور والمهدى والرشيد .. ليتنى أكون بهذا قد أجبت سؤالك ؟.
وقبل أن يهم بالنهوض من مجلسه ليستريح إلتفت إليه قائلا ......
ــ نصيحتى لك يا ولدى ألا تسكن الريف فيضيع علمك , واكتسب الدراهم من عملك ولا تكن عالة على أحد , واتخذ لك ذا جاه ظهرا لئلا تستخف بك العامه , ولا تدخل على ذى السلطنة إلا وعنده من يعرفك , وإذا جلست عند كبير فليكن بينك وبينه فسحة , لئلا يأتى إليه من هو أقرب منك فيدنيه ويبعدك , فيحصل فى نفسك شئ .. داوم يا ولدى على حضور حلق العلم والدرس بالمدينه فما أكثرها , وزاحم بمنكبيك ولا تدخر فى هذا أى جهد .. أخيرا أذكرك ألا تبرح المدينة عائدا إلى مكه حتى آذن لك أو يدركنى الموت .. أنت ولدى الذى رزقت به فى أخريات أيامى ..

يتبع إن شاء الله ............

@ بعد أن بات ليلته فى ضيافة شيخه , رجع فى الصباح المبكر إلى دار عمه يعقوب وهو يسحب وراءه ثلاثة أفراس خرسانيه أهداها له مالك .. قص على أهل الدار ما كان من أمره مع الشيخ إلى أن ختم الموطأ , وفى ختام كلامه قال والكل يرهف السمع له فى شوق وفضول ..............
ــ يا عم إنه إمام حجه , ما أعلم إلى الآن شيئا أصح بعد كتاب الله من موطأ مالك ..
ردت أم حبيبه ونبرة عتاب فى صوتها ........
ــ شغلتنا عليك كثيرا بالأمس يا ولدى .. وازدادت مخاوفنا لما أقبل الليل ولم تأت من درس الشيخ كعادتك .. لم تأخرت هكذا ؟.
إبتسم وهو يقول فى حياء ............
ــ لقد امتد الحديث بنا ولم نشعر إلا والليل يزحف علينا , ولما حاولت القيام مستأذنا فى الرجوع إلى الدار , منعنى الشيخ وأصر على أن أبيت معه وألا أخرج فى هذا الوقت المتأخر , وفى الثلث الأخير من الليل وقبل انفجار نور الصباح قرع على الباب قائلا ........
ــ الصلاة يرحمك الله ..
ثم دخل على مرة ثانية وهو يحمل بنفسه إناء الماء لأتوضأ منه ..
قاطعه ابن عمه يوسف وقد بدا كأنه غير مصدق ........
ــ الإمام يحمل لك بنفسه إناء الماء .. عجيب والله ..
ــ هذا ما حدث والله يا ابن العم , لقد راعنى ذلك أيضا وأثار دهشتى مثلك , ولما رأى الشيخ ذلك منى قال ...........
ــ يا ولدى لا يرعك ما ترى , فخدمة الضيف فرض ..
واستمر الشافعى ......
ــ المهم تجهزت للصلاه وصليت الفجر معه فى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وجلس كل منا فى مصلاه إلى أن طلعت الشمس على رؤوس الجبال كالعمائم على رؤوس الرجال , ثم رجعنا إلى الدار ثانية ..
سأله عمه .......
ــ وبعد أن ختمت الموطأ , ماذا أنت فاعل يا ابن إدريس ؟.
ــ من الغد إن شاء الله سأتحرى دروس العلم فى المدينه وأداوم عليها .. علمت أن هناك حلقة إبراهيم بن سعد الأنصارى وحلقة عبد العزيز بن محمد الدراوردى وعبد الله بن نافع الصائغ وغيرهم .. ليتنى أتمكن من جمع ما فى حوزتهم من علوم كما فعلت مع شيوخ مكه ..
ــ وما تلك الأفراس الخرسانيه .. لمن تكون ؟. والله ما رأيت كراعا مثلها , لو قدمت المصابيح إلى جلودهن لأوقدت ..
إبتسم الشافعى قائلا ...........
ــ إنها لى يا عماه ..
شهق الجميع وهم يقولون فى نفس واحد.......
ــ ماذا تقول ؟. لك ؟.
رد ضاحكا .........
ــ طبعا لم أشتريها .. إنها هدية الشيخ يا عماه ..
ــ هدية من الشيخ . كل هذه الأفراس ؟.
ــ والله يا عم ما إن رأيتها واقفة لدى الباب وأنا خارج من داره , لم أزد على أن قلت ....................
ــ الله .. ما أحسن تلك الأفراس .. وما أجملها ..
ــ إنها هديتى لك يا أبا عبد الله ..
ــ يا سيدى .. ما يكون لى ذلك .. إنه لكثير ..
ــ قلت هى كلها لك ..
ــ إذن دع لنفسك واحده ..
ــ لم ؟.
ــ كى تركبها .. أتكون لديك كل هذه الكراع من مهارى خراسان , وتسير على قدميك ؟.
ــ يا شافعى إنى لأستحيي من الله تعالى ومن رسوله "صلى الله عليه وسلم" أن أطأ أرضا فيها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بحافر دابه ..

يتبع إن شاء الله ............

د أنس البن
17/12/2008, 09h03
176 هجريه ــ على ضفاف دجله

@ على الشاطئ الغربى لنهر دجله , يقع قصر الخلد , المكان المحبب الأثير إلى قلب الرشيد .. فيه يجد راحته وتصفو نفسه عندما يكون متعب البدن أو مكدود النفس .. وإلى جواره من جهة الجنوب قصر يعرف بدار القرار لزوجته زبيده إبنة عمه جعفر إبن أبى جعفر المنصور الخليفة العباسى الراحل .. كانت زبيده تفاخر دوما على سائر نساء الرشيد بهذا النسب الهاشمى , وبه نالت درجة القرب والمنزلة الأولى عند الرشيد .. وبين هذين القصرين يقع قصر الأميرة العباسه , شقيقته وأحب أهله إلى قلبه ..
وعلى الجهة الشرقية المقابلة لضفاف دجله , إتخذ البرامكة قصورهم التى كانت آية فى الأبهة والفخامة والروعه , ولهم قصور فى اماكن أخرى غيرها لا تقل فخامة أو أبهة عن قصور الرشيد , يقيم فيها يحى بن خالد البرمكى وأولاده جعفر والفضل ومحمد وخالد , وهم الأربعة الذين كانت لهم اليد العليا فى شئون دولة الرشيد , بل كانوا هم الحكام الحقيقيين الذين يديرون أمور الخلافة , حتى أن محمد الأمين ولد الرشيد وولى العهد , إتخذ قصرا له خلف قصر جعفر البرمكى , وفيه كانا يقضيان سويا سهرات السكر واللهو وسماع المغنيات ورقص الجوارى ..
أما الفضل بن يحى البرمكى فإنه كان على النقيض من أخيه جعفر , لا يرى إلا مكتئبا عابسا , مقطب الجبين قليل التبسم . تغلب عليه الجهامة وملامح الكبر الشديد , غير أنه كان سخى اليد أكثر كرما وبذلا للمال من جعفر , ولهذه الخصلة وحدها أحبه الناس ومالوا إليه رغم جهامته وتكبره , بينما كانوا يحبون فى الوزير جعفر مرحه وتواضعه وميله للفكاهة والدعابة , وحضور مجالس الشراب والسماع والأنس .........

@ وفى إحدى القاعات المنعزلة فى إحدى هذه القصور , إتخذها الفضل البرمكى خصيصا ليختلى فيها عندما تكون لديه بعض الأمور المهمة فى إدارة الحكم .. جلس وحيدا على إحدى الوسائد مستغرقا فى كتابة بعض أوراق أمامه على طاولة خشبية لم يضع عليها سوى المحبرة والريشة وبعض الرسائل .. وبينما هو مستغرق فى عمله ما بين قراءة وكتابه , لا يشعر بشئ حوله , إذا بالباب ينفتح فى رفق ليدلف منه أحد غلمانه على مهل .. تقدم بضع خطوات وهو يمشى وجلا على استحياء ثم توقف مكانه يضع قدما ويرفعها , مترددا فى السير خطوة أخرى , إنه يعرف طبائع مولاه وأنه لا يحب أن يقطع عليه أحد خلوته فى تلك القاعه , إلا فى أهم وأحرج الأمور التى لا تحتمل الإنتظار , بل لا يحسن فيها ..

وقف الغلام ساكنا لئلا يقطع عليه استغراقه , منتظرا أن يتحول سيده بوجهه ناحيته أو يستشعر وجوده .. طال انتظاره أن يلتفت إليه فاضطر إلى أن يتنحنح قليلا كى ينتبه له فالأمر لا يحتمل .. شرع الفضل برأسه مستفسرا بعينين غاضبتين , بادره الغلام قائلا قبل أن يصب عليه جام غضبه ......

ــ بالباب رسول معه رسالة من قبل مولاى أمير المؤمنين ..

أخذ يتمتم فى سره متأففا وقد زاد ضيقه وضجره .....

ــ أية رسالة تلك فى جوف الليل , وفى ذلك الجو المطير العاصف .. ما الأمر يا ترى ؟.

قالها وهو يومئ إليه برأسه أن يدخله , ولم تمض غير لحظات إلا والرسالة بين يديه , نظر إلى غلافها فوجد عليها الخاتم السرى الخاص , ما إن فضه وفتحها وقرأ ما فيها حتى هب واقفا كاللديغ وهو يطوى أوراقه على عجل ويضعها فى خزانة خاصه ثم نظر إلى غلامه نظرة فهم منها ما يريده , سبقه مسرعا إلى خارج القصر ليعد له قاربا من قواربه يعبر به إلى الشاطئ الآخر من دجله للقاء أمير المؤمنين ..

@ أخذ يحث النوتى بإشارات من عينيه الحادتين أن يسرع من حركة مجدافه .. أمير المؤمنين يطلبه فى هذه الساعة على عجل , الخطب جلل ولابد والأمر هام وخطير .. مكث يضرب أخماسا فى أسداس محدثا نفسه بينما يقلب فى رأسه كلمات الرساله .... أجل , أمير المؤمنين لا يخط رسالة غامضة بتلك الكلمات الحاده , ولا يدعونى للقائه فى هذا الوقت المتأخر إلا لأمر خطير .. أجل , لابد أن مصيبة وقعت .. ما الأمر يا ترى ؟!.
كانت ضربات المجداف مع قطرات المطر فى تتابعها وتلاحقها كأنها مطارق من حديد تنزل على رأسه الذى يموج بالخواطر والهواجس كباطن هذا النهر الذى تبدو صفحته هادئة وادعه , بينما القارب يشق عباب ماء دجلة فى نعومة وانسياب ..
وبعد دقائق مضت كأنها دهر كانت حافة القارب تلامس الشاطئ فى مكان ترسو فيه أمام حديقة القصر التى بانت أشجارها الوارفة , وزهورها تنشر عبقها فى الأفق أريجا عطرا , مختلطا برائحة البخور المتصاعد فى تموجاته من نوافذ القصر , وقد أضئ بالمصابيح والشموع , فأضفى عليه ألوانا من السحر والغموض مع انتصاف ساعات الليل ..
نزل مهرولا على عجل بعد أن مد له حارسه خشبة يعبر عليها , لم تكد قدماه تطأ الشاطئ حتى أخذ يشق طريقه على عجل فى خطوات متلاحقة مجتازا أسوار القصر الأربعة وأبوابه العالية الضخمة , وقف الحراس أمامها فى ثبات كأن على رؤوسهم الطير .. أخذ يمر من قاعة لأخرى ومن باب إلى غيره , حتى انتهت به قدماه إلى حيث يجلس الرشيد فى قاعته .. كان جالسا وحده ممسكا بيده قضيبا من الأبنوس المرصع بالذهب , ومن تحته الزرابى الثمينة التى تناثرت من فوقها جلود النمور تلمع فى كل ناحيه , تعلوه قبة عظيمة تزينت بزخارف من النقوش العربيه , بينما أرخيت على مجلسه ستارة من المخمل والحرير الدمشقى , وأمامها وقف حارس خاص يدعى صاحب الستاره , ومن حول الرشيد انتشر حراسه ورجاله وخاصته فى مشهد مهيب جليل ..
لمحه صاحب الستارة قادما من بعيد فسبقه للداخل ليخبر الرشيد الذى أمره أن يدخله فى الحال , بعد أن أشار لمن حوله من رجاله وحراسه أن يغادروا القاعة ويتركوهما وحدهما .. وقبل أن يتقدم الفضل صوب الرشيد ألقى عليه نظرة سريعة فاحصة , سبر خلالها أغواره وقرأ سطور مكنون فؤاده وأدرك أنه يخفى فى باطنه كآبة وهما ثقيلا , من وراء قناع زائف من السرور والبهجة , تلك كانت سمته وطبيعته أمام زواره وحراسه مفضلا أن يدارى همومه وأحزانه أمام الناس , كارها أن يراه أحد كذلك إلا نفر قليل من خاصة رجاله وخلصائه .. والفضل شأنه ككل البرامكه , يتفرد بذكاء حاد وبصيرة نافذة , خاصة مع الرشيد وهو الذى تربى معهم ورضع لبانهم ..

بعد أن خلت القاعة إلا منهما , نظر إليه الرشيد شاردا ثم بادره قائلا بعد أن مرت لحظات من الصمت , لم يكن يسمع خلالها إلا صوت القضيب يدق به على الأرض وهو يقبض عليه بيمناه دقات رتيبة متتالية تبعث على الملل وتثير الخوف .........
ــ إقترب منى يا أخى الفضل .. تعال هنا , إجلس بجانبى ..
ــ لبيك أمير المؤمنين ..
ــ أعلم أن الوقت متأخر .. لكنى أرسلت إليك فى شأن هام ..
ــ طوع أمرك يا مولاى ..
ــ هل تذكر ذلك الطالبى الذى خرج عن طوعنا , معلنا تمرده علينا ..
ــ أيهم تعنى يا أمير المؤمنين ؟.
ــ يحى بن عبد الله بن الحسن ..
أطرق برهة ثم رفع رأسه قائلا ............
ــ أليس هو شقيق محمد وإبراهيم أبناء عبد الله بن الحسن , اللذان قتلا بعد أن أعلنا تمردهما على جدك الخليفة المنصور ؟.
ــ بلى , هو بعينه , غير أنه تمكن أيامها من الفرار مع أخيه إدريس وهما صبيان صغيران .. ومنذ سبعة أعوام ظهرا فى موقعة "فخ" التى هزم فيها ابن عمهما الحسين بن على بن الحسن (المثلث) , ثم نجحا فى الفرار للمرة الثانيه , وتوجه إدريس ناحية بلاد المغرب , وفيها جمع البربر من حوله وأسس دولته كما تعلم .. لكن أمر هذا الفتى لا يشغلنى الآن , سوف يكون لى معه شأن آخر بعد أن أفرغ له , فلا قبل لى بمحاربته لبعد المسافة من ناحيه , ومن ناحية أخرى لشدة مراس أولئك البربر فى القتال ..
ــ ما الذى يشغل بال أمير المؤمنين إذن ؟.
ــ الذى يشغلنى يا أخى الفضل , أمر يحي بن عبد الله ..
ــ هل بلغك عنه شئ يا مولاى؟.
ــ أجل .. منذ قليل علمت من بعض عيوننا أنه ظهر فى بلاد الديلم الجبلية جنوب بحر الخزر , وأن له زمنا يدعو لنفسه سرا فى مبتدأ الأمر , وعلمت انه تمكن هناك وقويت شوكته , وبايعته جموع كثيرة من سائر الأمصار من البلدان المجاوره .. ولا يخفى عليك ما يشكله ذلك من خطر جسيم على دولتنا وتهديد لهيبتها ..
ــ تماما يا مولاى .. وماذا قررت ؟.
ــ أسمع منك أولا ..
ــ إن رأيت أن نحاربه فنحن جاهزون للحرب تماما , ومستعدون لملاقاته بجند وعتاد لا قبل له ولا لغيره بها .. وإن رأيت خلاف ذلك فالأمر إليك ..
ــ أعطنى رأيك أيها الوزير .. نفاوضه أم نأخذه بالقوه ؟.
ــ أرى يا مولاى , أنا لو بدأنا حوارا معه وسمع منا وسمعنا منه , فلربما يظن بنا ضعفا وربما يتشدد أو يبالغ فى شروطه ومطالبه ..
ــ ترى إذن أن نأخذه بالقوه ؟.
ــ لا يا مولاى .. لم أقل ذلك .. بل على العكس أرى أن نبدأ بمحاورته أولا ..
ــ ماذا تعنى بالله عليك , أفصح يا أبا محمد , فإنى لم أعد أفهمك ..
ــ ما أعنيه يا مولاى , أن نفاوضه وفى الوقت نفسه نلوح أمامه بالقوة والبأس ..
أطرق قليلا دون تعقيب ثم رفع رأسه قائلا ...........
ــ آه .. فهمت .. نعم الرأى والمشوره ..
مرت لحظات صمت قال بعدها فى حده ...........
ــ إبدأ من غد إن شاء الله فى إعداد جيش كبير قوامه خمسون ألفا أو يزيد , القتال فى تلك البلاد البعيدة ليس بالأمر الهين , وخذ معك ماتشاء من أموال وهدايا وتحف إلى أصحاب الرى وجرجان وطبرستان وقومس وغيرها , وسأعطيك كتابا ومائة ألف درهم تعطيها لصاحب الديلم حتى يأتى لك بهذا الطالبى كى تفاوضه ..
ــ يتبقى أمر واحد يا مولاى ..
أومأ برأسه مستسفسر فقال ............
ــ ليتك تكتب له كتابا بالأمان , ربما أحتاجه وأنا أفاوضه , أبذل قصارى جهدى معه لإقناعه بالتخلى عن طموحاته وأطماعه فى الحكم , وأن يعود معى ليعيش بيننا معززا مكرما ..
ــ لا بأس نعم المشوره .. رأى سديد يا أبا محمد , سأكتب فى التو كتابا بالأمان أشهد عليه القضاة والفقهاء ومشيخة بنى هاشم .. وطمئنه حالة تخليه عن تمرده وعصيانه أنى سوف أستقبله هنا ضيفا عزيزا مكرما ..
أطرق برهة وقال ..........
ــ ليته يفعل .. أما إن عاند كأسلافه .......
عاجله الفضل قائلا ..............
ــ إن ركبه العناد يا مولاى , فسنعرف كيف نؤدبه , سيرى رجاله وأنصاره منا ما لا يتصورنه من هول وجحيم , سوف أرميهم بنيران من جهنم وأدك بلادهم على من فيها وما فيها حتى تصبح قاعا صفصفا , وأعدك ألا أرجع إلا ورأسه تسبقنى إليك يا مولاى ..
نظر الرشيد إليه نظرة فخار ورضا , ثم أمسك الريشة بينما بدأت أساريره تنفرج قليلا , أخذ يخط على منضدة أمامه رسالة الأمان ثم طواها وهو ينظر لأحد حراسه آمرا .........
ــ حاجبنا الفضل بن الربيع ..
لم تمض سوى لحظات حتى كان بين يديه فى انتظار أوامره , وهو يحاول إخفاء ما اعتراه من وجوم وضيق وغل دفين لدى رؤيته لغريمه وعدوه اللدود الفضل بن يحي البرمكى .. كان يكن له ولسائر البرامكة كراهية شديده .. وفى أقل من طرفة عين أخفى كل ذلك خلف ابتسامة مصطنعة رسمها بمهارة على شفتيه , لقد تعلم الكثير من طرق الخداع واستعمال الحيلة من أبيه الوزير الداهيه الربيع بن يونس الذى عمل فى بلاط المنصور والمهدى والهادى وظل مع الرشيد بضع سنوات قبل أن يفارق الدنيا ..
عاجله الرشيد .........
ــ أدن منى يا ابن الربيع , خذ هذا الكتاب واذهب به إلى كل الأمراء والفقهاء ومشايخ بنى هاشم كى يوقعون عليه , وبعد أن تنتهى سلمه للفضل بن يحي , وافعل كل ما يأمرك به وكن رهن إشارته , داوم الإتصال به وبلغنى بكل ما يجرى أولا بأول إلى ينتهى من مهمته , أفهمت ؟.
ــ أية مهمة يا مولاى ؟.
ــ وزيرنا البرمكى سيعلمك بكل شئ ..
ــ أمر مولاى ..
قالها وهو ينحنى متقهقرا خطوات قبل أن يستدير خارجا , وقد ارتسمت على شفتيه نفس الإبتسامة العريضة الزائفه , تلك الإبتسامة التى تخفى فى باطنها بركانا يفور بالغضب والحنق ولسان حاله يقول ..... أنا الفضل بن الربيع , إبن الحاجب الأول , أكون تحت إمرة هذا الفارسى سليل المجوس عبدة النار , ألم تكفهم المكانة والمنزلة التى وصلوا إليها بالحيلة والدهاء .. والله لن يغمض لى جفن أو يهدأ خاطرى حتى أضع بيدى نهايتهم ..

يتبع إن شاء الله ................................


@ تعلق الشافعى بأستاذه مالك تعلق الولد بأبيه , وهو يلازمه كظله لا يفارقه إلا بعد ان ينتهى من درسه , أول من يجئ إلى حلقته متخذا مكانه إلى جوار شيخه , وآخر من يغادرها ..
وحلقة الإمام كانت تنعقد إما فى روضة مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , وإما فى داره وهو الأكثر التى لم تكن تبعد كثيرا عن مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , حلقة عامرة بحق تعج بالمريدين وطلاب العلم الوافدين إليه من شتى بقاع المعموره على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم , حتى أن البعض منهم من كثرة الزحام لا يجد مكانا يجلس فيه إلا حيث دخل على بب الدار , بينما أحد مريديه وهو معن بن عيسى , يتخذ مجلسه كل يوم على عتبة الدار , يدون فى أوراق معه كل كلمة يسمعها من الشيخ ..
شاهد الشافعى فى تلك الأيام الأمين والمأمون , ولدى الرشيد وهما صبيان صغيران يجلسان فى أدب وحياء أمام الشيخ , ينصتان إلى حديثه وقد عق كل منهما ذراعيه على صدره , وبرفقتهما مؤدبهما المرافق لهما فى رحلة العلم , كان الرشيد قبل أن يرسل ولديه إلى المدينه أوصى مؤدبهما قائلا .......
ــ إنى دفعت إليك مهجة نفسى وثمرة قلبى , فاجعل يدك عليهما مبسوطة وطاعتهما لك واجبه , كن لهما بحيث وضعك أمير المؤمنين , أقرئهما القرآن وعرفهما الأخبار والأشعار , وعلمهما السنن وبصرهما بمواقع الكلام , وامنعهما من الضحك إلا فى أوقاته , وخذهما بتعظيم بنى هاشم إذا دخلوا عليهما , وقومهما ما استطعت بالقرب والملاينه , وإلا فالشدة والغلظه ..
ومن خلال تلك الحلقة المالكيه توطدت علاقة الشافعى ببعض روادها وصارت له معهم صداقة وألفه , منهم شاب مصرى رزين حليم , يصغر الشافعى ببضع سنين إسمه عبد الله بن عبد الحكم , ينتمى لواحدة من العائلات المصرية العريقة ذات الجاه والمنزلة الكبيرة فى أرض الكنانه , قدم من مصر بعد أن نال قسطا من العلوم على يد فقيهها الكبير الليث بن سعد .. توطدت علاقة الشافعى به وصارت تربطهما مع الأيام صداقة متينة تزداد يوما عن يوم , لهذا كثيرا ما كانا يشاهدان وهما معا حلقة الدرس , حيث يجلسان متجاورين فى مكان واحد , حتى إذا انتهى الشيخ من درسه يقومان معا ولا يفترقان إلا فى المساء على باب دار أحدهما ..
ومع تعاقب الأيام صارت للشافعى منزلة خاصة فى وجدان شيخه , يؤثره بها على بقية أقرانه , بل كثيرا ما كان يدنيه منه ويقربه من مجلسه , مغتنما كل مناسبة ليثنى عليه وعلى نباهته وقدراته الفذة فى حفظ النصوص وفهمها , وتمكنه من استنباط الأحكام والفتاوى منها بأسلوب فريد وفهم , جعله يتفوق به على سائر أقرانه ويسبقهم ..
هذا الأمر لقى قبولا وارتيحا فى نفوس أصحاب الشافعى ومحبيه وأولهم صديقه المصرى , وفى المقابل أثار حفيظة وغيرة آخرين من ذوى النفوس المريضه , حتى أن أحدهم وصل به الغل إلى أن يتدنى من الغيرة التى تفرضها المنافسة بين الزملاء إلى الحقد البغيض المدمر , كان شابا ثريا من العاملين فى بلاط الرشيد بالعراق إسمه حماد البربرى , أرسله الخليفة الراحل موسى الهادى قبل أشهر من وفاته مع جماعة آخرين ليأخذوا الفقه عن مالك , وبعد تولى الرشيد طلب منهم أن يستمروا فى تحصيل علومهم والتزود من علوم الدين , حتى يكونوا مؤهلين بعد ذلك لتولى مناصا فى القضاء والإماره ..
كان حماد البربرى هذا أكثرهم غيرة من الشافعى وحسدا له لدرجة تمنى الضرر له , لنبوغه وتفوقه ولمنزلته عند شيوخ المدينة جميعا وعند مالك على الأخص , تصور أن ثراءه وقربه من رجال الحكم والبلاط سوف يعطيه تميزا ومنزلة لدى الشيخ على حساب أقرانه , أما أن يأتى هذا الشاب المغمور الفقير وتكون له كل تلك المنزله والقرب من شيوخه , فهذا مما لم تقدر نفسه الضعيفة على تحمله , وامتلئ قلبه بالحقد عليه حتى أنه كان يتحين فرصة تواتيه ليوقع بينه وبين الشيخ أو بين زملائه , شفاء لغليله وإخمادا لنيران الحقد والكراهية المتأججة فى صدره .. حتى جاء يوم وقعت حادثة عابره , إلا أنها رغم طرافتها , كان لها أثر كبير بعد سنوات فى تغيير مجريات الأمور فى حياة الشافعى , وتعيين مسار حياته بقية سنوات عمره ....................

@ كان لحماد البربرى زميل فى الحلقه ورفيق يأنس به هو محمد بن الحسن الشيبانى الذى كان يغار هو الآخر من الشافعى ولا يبادله الود , لكن غيرته لم تمنعه من أن يقدر له علمه وفهمه لقضايا الفقه ومسائله واستنباط الفتاوى والأحكام .. ومحمد بن الحسن يكبر صديقه حماد قليلا فى السن وفيه بدانة ظاهره وهو عراقى أيضا ولد بالكوفه ونشأ بها غير أنه ينتمى لأصول شاميه , تأثر بمدرسة أبى حنيفه ومنهجه فى استنباط أحكام الشرع وإن لم يجالسه كثيرا , فقد توفى الإمام وهو لا يزال حدثا فى الثانية عشرة من عمره , لكنه تلقى العلم على يدى أبى يوسف أكبر تلاميذ أبى حنيفه وأفضل معين لمذهبه الكبير ..
وبينما الصاحبان يتجاذبان أطراف الحديث , وهما يتناولان عشاءهما فى الدار التى يقيمان فيها معا , منذ قدومهما من العراق إلى المدينه , إذ قال لصاحبه ...........
ــ أعلمت بما حدث اليوم للرجل الحضرمى ؟.
ــ أى حضرمى تعنى يا حماد ؟.
ــ الذى أتى الشيخ فى الصباح يسأله عن يمين الطلاق الذى وقع منه ..
ــ آه .. تقصد تاجر الطيور صاحب حكاية القمرى ؟. ماذا جد فى أمره , ألم تره يمضى لحاله بعد أن أجابه الشيخ ؟.
ــ بلى رأيته , لكن اسمع واعجب معى , بعد أن أفتاه الشيخ بصحة وقوع اليمين وأن امرأته طالق , خرج الرجل مهموما كسيف البال , كما رأيناه جميعا ..
قاطعه صاحبه محتدا وقد انفتحت شهيته لمعرفة الحكايه ........
ــ لم تأت بجديد , كل ما قلته أعلمه , هل جد فى الأمر شئ ؟.
ــ صبرا , صبرا , سأخبرك بكل شئ ..
ــ وأنا كلى آذان مصغيه ..
ــ الفتى المكى , المغرور , الذى يزعم أنه مطلبى قرشى وأن جده شافع من ولد عبد مناف , وهم فى الحقيقة من موالى أبى لهب !.
ــ من تقصد يا رجل الذى لم يسلم من لسانك اللاذع ؟.
أردف ضاحكا بعد أن اتسعت ابتسامته ................
ــ آه , تقصد محمد بن إدريس ؟. يا صديقى , هلا كففت عنه شر لسانك !.
ــ نعم إنه ذلك المكى المخادع الذى تمكن بدهاء ولؤم أن يكون الأقرب منا جميعا فى حلقة العلم إلى قلب الشيخ الإمام , حتى أنه صار يؤثره علينا جميعا ويدنيه من مجلسه ..
ــ دعك من كل هذا الآن , أكل حكايتك , ما خطبه ؟.
ــ لمحته بركن عينى وهو يتسلل خارجا من الحلقة وراء ذلك الحضرمى , فأدركت أن فى الأمر شئ , لم أنتظر لحظة واحده , قمت أنا الآخر دون أن يشعر بى أحد حتى أنت , وسرت من خلفهما وظللت أتبعهما حتى رأيته يستوقف الرجل بعد أن صارا بعيدين عن دار الشيخ , إختبأت خلف جدار لما سمعته ينادى عليه قائلا ......................
ــ أخا الإسلام .. يا أخا الإسلام ..
إلتفت الرجل خلفه ونظر إليه نظرة ضيق واستياء فقال له الشافعى ....
ــ أجل , أنادى عليك , هلا أعدت على مسألتك يرحمك الله ؟.
ــ ماذا تعنى , لا أفهمك ؟.
ــ التى كنت تسأل الشيخ فيها قبل الآن , منذ لحظات ؟.
ــ ولم أعيدها عليك , لقد سألت شيخك وأستاذك عنها وأجابنى بما سمعت . ألم تكن حاضرا , ألم تسمع ما قلت وما قال ؟.
ــ بلى سمعت .. لكنى أود سماع مسألتك بنصها منك كما حدثت , وأعدك أنك لن تأسف على ما أضعته من وقتك ..
قال وقد بدا ضجرا نافذ الصبر ...............
ــ حكايتى كما حدثت وكما رويتها للشيخ أنى أعمل بائعا للطيور النادره , وبالأمس بعت قمريا لواحد من زبائنى , فلما كان العشية عاد ورده على قائلا ........ قمريك هذا لا يصلح .. فلما سألته عن السبب , قال إنه لا يصيح , حلفت له يمين طلاق أنه لا يهدأ من الصياح , ثم عدت فندمت على هذا اليمين , ولما أتيت الشيخ فى حلقة العلم وسألته أجابنى بما سمعت ..
ــ أجل سمعته لما قال لك إن يمينك قد وقع وامرأتك طالق , ولا سبيل لك عليها بعد اليوم ..
ــ ما دمت قد سمعت الحديث كله , فدعنى وشأنى ولا تزد على همى ..
ــ سؤال أخير لن أسألك شيئا بعده ..
ــ أنت سألتنى من قبل وأجبتك , فدعنى لشأنى واذهب لحالك عافاك الله ..
ــ يا رجل , سؤال واحد فحسب ..
لم ينتظر جوابه فعاجله على الفور .....
ــ قل بالله عليك , أيهما أكثر , سكوت القمرى أم صياحه ؟.
نظر إليه وقد تبدل سخطه وضجره دهشة واستغرابا وقال ....
ــ سكوته أم صياحه ؟. ما الذى يعنيك فى أيهما أكثر أو أقل ؟. ما دخل ذلك الأمر فى يمين الطلاق والمصيبة التى جلبتها لنفسى . عجيب أمرك أيها المكى ؟!.
ــ أرجوك تكلم ..
ــ مع أنى فى عجب من سؤالك ولا أجد له محلا , إلا أن صياحه أكثر من سكوته ..
إبتسم الشافعى وربت على كتف الرجل قائلا .........
ــ إرجع إلى بيتك وامرأتك , يمينك لم يقع وامرأتك غير طالق ..
ــ ماذا تقول !. يمينى .. إمرأتى ..
ــ قلت لك يمينك لم يقع وامرأتك غير طالق ....................
عاد حماد البربرى يقول لصاحبه .............
ــ ما كاد هذا الدعى ينتهى من قوله وفتواه ويستدير عائد إلى حلقة العلم كأن لم يفعل شيئا , إلا وأبرصت الحضرمى وقد تسمر فى مكانه فاغرا فاه فى ذهول وهو يضرب كفا بكف وقد ملكه الدهش .. والله لا أدرى كيف طوعت له نفسه أن يجترئ على الفتوى , بل وأكثر من ذلك يتطاول على مقام شيخه ومعلمه ويخطئ فتواه للحضرمى ويهدمها من أساسها .. أسمعت يا ابن الحسن بشئ كهذا من قبل , والله إن هذا لشئ عجاب ..
ــ أجل .. شئ عجيب حقا .. لكن أرى يا صاحبى أن نحسن الظن به إلى أن نلقاه , من يدرى ربما يملك دليلا على صحة فتواه ..
رد ساخرا
ــ نحسن الظن .. دليل !. أى دليل هذا الذى تنتظره منه .. أخبرنى أنت , علمنى ربما أكون غافلا عنه , ما علاقة سكوت القمرى أم صياحه بيمين طلاق وقع من الرجل , أخبرنى ..
ــ والله لا علم لدى ..
ــ أرأيت .. ألم أقل لك .. لقد تعدى هذا الفتى كل الحدود , لكنى سأضع اليوم حدا لاجتراءاته وغروره ..
ــ أرجوك يا صديقى أن تتمهل , ولا تتعجل الحكم على صاحبنا ..
ــ دعنى يا ابن الحسن .. سأبلغ الشيخ الآن بكل ما جرى , إنها ليست المرة الأولى ..
ــ أوقد فعل مثلها من قبل ؟.
ــ كثير , كم من مرة سمعته بأذنى وهو يفتى لبعض الناس بخلاف ما يقول الشيخ .. بل فعل ما هو أدهى وأمر .. لقد بلغ من صلفه وغروره أن جرؤ على استنكار وهدم كثير من آراء أستاذنا وشيخنا أبى حنيفه .. ومع كل أفعاله تلك , يقدمه الشيخ علينا ويقربه منه !..
ــ وماذا أنت فاعل الآن ؟.
ــ كما قلت لك , سنذهب سويا لملاقاة الشيخ , وسأخبره بكل ما رأيت وسمعت .........................


@ وفى الحال اتخذا طريقهما إلى دار مالك , وهناك انبرى حماد يخوض فى حديثه للشيخ ويحكى له ما رآه وما سمعه , بل وزاد من عنده زورا وبهتانا ما لم يقله الشافعى أو يفعله , ظنا منه أنه بذلك يثير حمية الشيخ وغضبه على تلميذه الأحب إلى قلبه , وختم افتراءاته بقوله ...............
ــ ليس هذا فحسب يا سيدى , بل سمعته بأذنى هاتين وهو يقدح فى فتواك ويسفه للحضرمى كلامك . و .........
قاطعه فى حزم ويده تسبق بالإشارة إليه .........
ــ حسبك ما قلت .. لا تزد كلمة واحده .. إياك ..
ثم التفت إلى عبد الله بن الحكم المصرى طالبا منه أن يبحث عن صديقه ويأتيه به فى التو .. كان يعلم أنهما صديقان حميمان وأنه أعرف الناس بمكان الشافعى .. إنطلق من فوره وهو مملوء بمشاعر متشابكه من الأسى والخوف على صاحبه , وقبل أن يغادر القاعة كاد أن يفقد حلمه المعروف عنه وهو يلتفت إلى الخلف محدجا حماد بنظرة نارية غاضبة , كم كان يتمنى لو ينقض عليه ويوسعه ضربا قصاصا لصاحبه منه بما اغتابه بل بهته به ..
لم يكد يبتعد خطوات عن دار الشيخ حتى لقى الشافعى وهو قادم ناحيته من الجهة المقابله , أقبل عليه ملهوفا وأخبره بالأمر وهو مشفق عليه مما سمعه , محاولا أن يستعلم منه عن حقيقة المسئله ودليله على صحة فتواه , ومدى يقينه من صحة استنباطه للحكم واستناده لقاعدة أصوليه , أو هو حض اجتهاد منه بغير سند قوى , بدت لهفته فى سؤال صاحبه رغم يقينه من رجاحة عقله , مبديا خوفه عليه مما ينتظره , غير أنه فوجئ بصاحبه يقول له بابتسامة حانيه وفى لهجة الواثق ...........
ــ هون عليك يا صاحبى , لا تخف على أخيك , إن هى إلا لحظات وندرك شيخنا , وسترى وتسمع كل شئ , كن مطمئنا .......................

يتبع إن شاء الله ................................

إبتدره الشيخ بعد أن أذن له بالجلوس مكانه ........
ــ بلغنى عنك اليوم حديث , لعل صاحبك أبلغك به ..
رد الشافعى فى ثقة وقد بدا هادئا ....
ــ بسم الله الرحمن الرحيم .. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ..
ــ صدق الله العظيم .. لذلك أرسلت فى طلبك لأسمع منك ..
ــ طوع أمرك ..
ــ ماذا قلت بالأمس لصاحب مسئلة القمارى ؟.
ــ أفتيته أن لاشئ عليه ..
ــ ويمين الطلاق ؟.
ــ لم يقع ..
ــ ألم تك حاضرا بالأمس , وسمعتنى وأنا أجيبه بخلاف ذلك ؟.
ــ بلى .. سمعت ..
ــ كيف إذن أجبته بما تقول ؟.
ــ لقد سألته سؤالا واحدا .. أيهما أكثر صياح القمرى أم سكوته ..
ــ وماذا قال لك ؟.
ــ أجابنى أن صياحه أكثر ..
ــ وهذا أعظم , أى شئ فى صياح القمرى وسكوته ؟.
صرخ البربرى ساخرا متشفيا وقد انفرجت أساريره , ظنا منه أنه نال من غريمه .....................
ــ أرأيت .. ألم أقل لك أنه تجرأ عليك , وأفتى بغير علم ولا هدى ..
حدجه الشيخ بنظرة غاضبة آمرا إياه ألا يتدخل فى النقاش وألا يقاطع الشافعى , ثم أشار للأخير أن يستمر فى حديثه .........
ــ أجبته بما قلت يا سيدى , لأنك حدثتنى عن عن عبد الله بن يزيد , عن أبى سلمه , عن فاطمه بنت قيس , أنها جاءت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقالت : يا رسول الله , إن أبا جهم ومعاويه خطبانى , فأيهما أتزوج ؟. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .. [ أما معاويه فصعلوك لا مال له , وأما أبو جهم , فلا يضع عصاه ] ..
ومع تحذير الشيخ , نسى البربرى لشدة غيظه , وقال مقاطعا فى نبرة ساخره ...........
ــ أمرك عجيب , تراوغ ولا تعترف بأنك أخطأت , ما دخل حديث فاطمه بنت قيس بيمين الطلاق وما ............
أسكته الشيخ بنظرة نارية غاضبه , ثم التفت للشافعى قائلا وهو يهز رأسه إعجابا وسرورا , وبدأت ملامح البشر تهل على صفحة وجهه بعد أن أدرك مراده وفطن لإجابته وعلم القاعدة الأصولية التى استند إليها فى فتواه ......
ــ أكمل يا بنى .. أكمل ..
ــ رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يعلم أن أبا جهم يأكل وينام ويستريح , فلما قال لها إنه ى يضع عصاه , كان ذلك على المجاز , والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته .. ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" يخاطب العرب بكلامهم وعلى قدر عقولهم , لذلك لما سألت بائع الطيور عن صياح القمرى وسكوته وقال إن صياحه أكثر , علمت أنه لما حلف بالطلاق للرجل أنه لا يكف عن الصياح , كان ذلك على المجاز ..
ــ لذلك أفتيته أن يمينه لم يقع وأن امرأته ليست طالق .. فتح الله عليك يا ولدى وزادك علما ومعرفه ..
ثم أعطى وجهه لتلاميذه الذين جلسوا كأن على رؤوسهم الطير , وهو يهز رأسه طربا ........
ــ أسمعتم .. كيف استنبط الحكم ؟. ألم أكن منصفا عندما قدمته عليكم وجعلته أقربكم مجلسا منى ؟. ألا يستحق أمثاله أكثر من ذلك ؟.
ثم استدار عن شماله إلى حماد البربرى الذى بدا عابسا مقطب الجبين ونظر إليه نظرة ذات مغزى وهو يشير بسبابته جهة الباب .........
ــ ألم يأن لك أن تكف عن أفعالك تلك ؟. وعن وشاياتك بغير حق , كف لسانك وإلا فلا مكان لك ولأمثالك عندى ..
مرت لحظات من صمت جليل هدأ فيها غضب الشيخ قال بعدها لمن حوله وهو يشير إلى الشافعى ........
ــ أيها الأبناء , هذا ولدى , وأنى أجيز له الفتيا من اليوم ..
ثم أردف وهو يملأ منه عينين حانيتين ........
ــ بارك الله فيك يا أبا عبد الله , الحمد لله الذى مد فى أجلى لأرى مثلك , أمثالك يا ولدى هم الذين يتوجب إسناد القضاء والفتيا إليهم ..
ثم أخذ يتمتم فى سره بصوت خفيض ......
ــ والله لم يأتنى قرشى أفهم منه , إنه أجدر الرجال بأن يكون عالم قريش , أجل عالم قريش الذى أخبر به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ثم علا صوته ........
ــ أيها الأبناء إحفظوا عنى ما أقول : من أحب أن يجيب عن مسئلة أو يفتى برأى منكم , فليعرض نفسه على الجنة والنار , ثم يجيب بعد ذلك ........


إنفض مجلس الإمام ومضى كل إلى سبيله إلا ذلك العراقى البدين محمد بن الحسن , تقدم تجاه الشافعى نادما حزينا وقد طوعت له نفسه مجاراة صديقه فى وشايته , وأخ يعتذر فى حياء ...........
ــ إن لم تصفح عنى , لن تسامحنى نفسى على سوء ظنى بك , وعدم تقديرى لعلمك وفهمك , ويشفع لى أنى كنت أنظر إليك بعين السخط لا بعين الرضا ..
إبتسم الشافعى وهو يقول مرتجلا بينما يدره تربت على كتفه ملاطفا وهدئا من روعه ...........
ــ وعين الرضا عن كل عيب كليلة .. ولكن عين السخط تبدى المساويا
فإن تدن منى تدن منك مودتى .. وإن تنأ عنى تلقنى عنك نائيا
كلانا غنى عن أخيه حياته .. ونحن إذا متنا أشد تفانيا
ــ أفهم أنك سامحتنى , وغفرت لى سوء ظنى ؟.
ــ عافاك الله يا ابن الحسن وغفر لى ولك , الله وحده يعلم أنى لا أحمل ضغينة لأحد , ولم تحدثنى نفسى أبدا بأى مساءة من أحد ولا تجاه أحد , حتى أخى حماد فإن يدى ممدودة إليه , ليته يقبل دعوتى ويساعدنى فى إزالة ما بنفسه مما يحمله على , وأن يتخذنى صديقا وأخا له , إن ما جمعنا إنما هو مجلس علم واحد , ليتك تأخذنى إلى داره ..
ــ الحمد لله , أزحت عن قلبى هما ثقيلا بصفحك عنى , أما عن صاحبى سأعمل إن شاء الله على أن أجمعكما معا فى القريب كى تصفو النفوس والضمائر ..
ــ ليتك تفعل فى التو ..
ــ إن شاء الله رب العالمين .. إسمع يا صديقى , لقد عزمت على العودة بعد أيام إلى العراق , فإن حملتك قدماك لبلادنا يوما , عاهدنى أن تزورنى , إن لى دارا فى بغداد وأخرى بالكوفه , سل من تلقاه عن دارى سيدلك على الفور ..
ــ عهد على إن شاء الله أن أزورك , إذا جئت بلادكم , ليتنى أتعرف على علمائكم وأتزود من علومهم ..
ــ بهذه المناسبه أحيطك علما بأنى سأشرع فور عودتى فى تصنيف أحاديث شيخنا مالك , لقد جمعت الكثير من علومه وفتاواه , وكذلك فعلت من قبل وأنا فى بغداد فيما وعيته من مسائل إمام أهل الرأى أبى حنيفة النعمان , شيخنا فى العراق ..
ــ هل أدركته ؟.
ــ أجل أدركته وأنا صبى دون العاشره , لا أزال أتذكر مجلسه العامر وما سمعته منه , حضرته مرات ورأيته وأنا بصحبة والدى ..
ــ فى مجلس علمه ؟.
ــ أحيانا فى مجلس علمه بالمسجد , وأخرى فى متجره بالكوفه , يرحمه الله رحل وأنا فى الثانية عشره ..
ــ إيه .. أبى حنيفة النعمان .. من أراد أن يتبحر فى العلم فهو عيال على أبى حنيفه .. لم يسعدنى زمانى بلقائه والجلوس بين يديه , لقد ولدت فى نفس العام بل فى نفس اليوم الذى رحل فيه إلى جوار مولاه , هكذا علمت من جدى الأزدى ..
ما كاد يستدير وهو يشد على يدى صاحبه مودعا , حتى وجد غريمه يسدد إليه نظرات نارية غاضبه ملؤها الحقد والكراهيه , بان فى أساريره أنه تأبط شرا ونوى أمرا ولسان حاله يقول ..... أنا , حماد البربرى , سليل أكبر عائلات الكوفه وأعرقها , أصبح أضحوكة أقرانى , الأيام بيننا أيها المكى , سأعرف كيف أؤدبك وأقتص منك , لن تفلت من يدى مهما طال الزمن ..
لم يأبه الشافعى لنظراته النارية , بل كان يرثى لحاله متمتما فى سره دعاء إلى الله له أن يصرف عنه وأن ينقى سريرته من الغل والحقد وأن يغفر له , ثم مضى فى طريقه يرافقه صاحبه وصديقه الحميم عبد الله بن عبد الحكم , الذى بدا مسرورا مستبشرا وهو يحيطه بنظرات الزهو والفخار ..


@ مكثا يقطعان طريقهما فى أحاديث شتى , آثرا إمضاء بعض الوقت معا قبل أن يعودا إلى الدار ليصيبا عشاءهما , أخذا يسيران معا فى طرقات المدينة وأزقتها , يمشيان خطوات إذا توافقا فى الرأى ويتوقفان لحظات إن اختلفا , يستأنفان السير بعدها , كأن خطواتهما إيقاعات تصور كلامهما وتحاكيه , مستأنسين بحديثهما الودود بعد يوم حافل بالمواقف , قال له صاحبه ........

ــ الحمد لله الذى نصرك على رؤوس الأشهاد , ونصرك على هذا الوغد وكشف سوء نيته , كاد يوقع العداوة بين الشيخ وبينك ويوغر أصحاب إخوانك عليك ..

ــ أسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل ..

ــ كنت موفقا فى جوابك على الشيخ وفى اسستنباطك للحكم , حتى ان الشيخ أجاز لك الإفتاء , هنيئا لك ..

ــ أما عن الفتوى , لم يحن أوانها بعد , لقد جمعت فقه مكه على يد فقهائها الخمسه يتقدمهم سفيان بن عيينه , كذلك فقه المدينة كله , لكن ما زال أمامى بلاد لا حد فيها للعلم ..

ــ أى بلد هذا يا أبا عبد الله ؟.

ــ العراق , عالم مترامى الأطراف , عالم زاخر يموج بالعلوم والمعارف , هناك وبعد أن أرتوى من علوم أهلها , وأتعرف على ما خلفه شيخهم الأكبر أبو حنيفه من علوم جمه , ربما أجلس يوما للدرس والفتيا , لن تغيب عنى أبدا كلمات شيخنا مالك .. "من أحب أن يجيب عن مسئلة أو يفتى برأى, فليعرض نفسه على الجنة والنار ثم يجيب بعد ذلك" .. وقال لى قبل ذلك , "لقد أدركت أقواما إذا سئل أحدهم مسئلة , تراه كأن الموت أصبح قاب قوسين أو أدنى منه" ......

ــ أفهم أنك عقدت العزم على الرحيل إلى العراق ؟.

ــ ليس بعد يا صاحبى , أمامى أمران ضروريان , أنتهى منهما قبل أن أخطو تلك الخطوة الكبيره ..

ــ أمران ضروريان , ماذا تعنى ؟.

ــ أنت صديقى الوفى الذى أهداه الله لى فى المدينه , سأقول لك , أولهما أن أستن بسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..

عاجله مبتسما ......

ــ أن تتزوج , صحيح ؟.

ــ أجل يا صديقى .. قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرا له من زوجة صالحه" .. أسأل الله تعالى أن ييسر لى الزوجة الصالحه , إنها خير متاع الدنيا ..

ــ والأمر الثانى ؟.

ــ أن أجد عملا أتكسب منه , سأحاول البحث عند أى من الولاة عن عمل يعيننى على أعباء المعيشه ..

أردف قائلا وهو يراه متعجبا من قوله كأنه يستنكر أن يبحث مثله عن مصدر رزق , وهو حامل لعلوم شريفة تغنيه عن التكسب ........

ــ لا تعجب يا صاحبى , صاحب العلم إن لم يكن فى بيته دقيق لا يصح أن يستشار فى شئ , وأنا لا أحب أن أعيش كلا على أحد أو عالة عليه ..

ــ معك حق , اما عن الزوجه الصالحه , فدع هذا الأمر لى , أنا أعرف لك زوجة فيها كل الصفات التى عينها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذا أمرتها أطاعتك وإذا نظرت إليها سرتك وإن أقسمت عليها أبرتك وإن غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك ..

ــ بارك الله فيك يا ابن عبد الحكم .. من تكون ؟.

ــ إبنة خالى , إسمها حميده وأبوها نافع بن عيينه بن عمرو , وهى عثمانية الأصل , جدها الأكبر عثمان بن عفان وهو جد أمى .. لن أجد لها خيرا منك ولن أجد لك خيرا منها ..

ــ على بركة الله , متى نلتقى بأبيها ؟.

ــ أبوها توفى منذ زمن بعيد , كان يسكن هنا بالمدينه وترك ابنته وهى لم تكمل الخامسة من عمرها وحيدة فى حجر أمها ..

تمتم فى نفسه .......

ــ وحيدة فى حجر أمها , يا لها من مصادفة عجيبه ..

عاد يسأل صاحبه .......

ــ ومن يكفلها إذن ؟.

ــ عمها , ليس لها قريب غيره , يسكن فى دار ملاصقة لدارهم , هنا فى المدينه , وهو من سنلتقى به إن شاء الله .. أما الأمر الثانى وهو العمل , فلا تحمل له هما دعنى أرتبه لك مع الوالى .. ها قد وصلنا إلى الدار , تفضل نكمل كلامنا بالداخل ..

شكره الشافعى وودعه على أن يلتقى به فى الغد فى حلقة مالك ..
يتب ....@ إستدار بعد أن ودع صاحبه راجعا إلى دار عمه , مضى فى طريقه يقطع طرقات المدينة وأزقتها الضيقه فى جنح الليل والظلام يلفه من كل جانب , وبينما هو ماض فى طريقه بخطى رتيبة متأنيه , تناهى إلى سمعه وقع أقدام من خلفه , لاحظ أنها تتعقبه حيث يسير , حاول أن يبطئ فى خطاه فلاحظ من خلفه يبطئون كذلك , أسرع فأسرعوا , أبطأ فعادوا لما كانوا عليه , حينئذ أدرك دون أن يلتفت وراءه أنه مطلوب وأن من خلفه ليس واحدا بل أكثر , وقف مكانه لحظة يفكر فيما يفعله , فوجئ بجماعة أخرى تقطع الطريق عليه من أمامه , حاول أن يدقق النظر بعد أن اعتادت عينه ظلمة الليل , لمح عيونا غادرة كئيبة تنطق بالشر , أدرك أنه قد أحيط به , حاول أن يستدير كى يعود أدراجه لكنه تسمر مكانه وهو يرى الثلاثة الذين كانوا يقتفون أثره يسدون عليه الطريق , أخذ يعمل فكره فى عجل يتدبر الأمر وعواقبه ..... ماذا أفعل , إنهم كثر وأنا وحدى , والمكان قفر موحش لا حس فيه لمخلوق إلا نباح متقطع لبعض كلاب ضالة آت من بعيد , زاد من وحشة المكان وكآبته ..*

فى تلك اللحظة وقبل أن يستقر على وسيلة يتخلص بها من براثنهم , هجم عليه واحد منهم تصورا منهم انه يكفيهم مؤنته , رأوه ضامر العود فظنوا به ضعفا واستكثروا أن يهجموا عليه جميعا أو ينقضوا عليه بجملتهم مرة واحده , فوجئت عصابة الشر بصاحبهم ينطرح أرضا بضربة واحدة من الشافعى , لم يكن لديهم دراية بما اكتسبه من فنون القتال والنزال لما رحل إلى البادية فى صباه , وتعلم مهارات كثيره فى الكر والفر , لكن منع ضمور بدنه ونحافة عوده من ظهور قوته المكنونة فى جسده ..*

تقدم آخر ظنا منه أنه أشد بأسا من صاحبه غير أنه لقى نفس المصير وانطرح أرضا , تبادلوا معا نظرات ذات مغزى , وفى الحال هجموا عليه جميعا هجمة واحده وهم يحكمون الدائرة من حوله, ويضيقون منها شيئا فشيئا حتى صارت كأنها قبضة يد , بعد أن أيقنوا أنهم لن ينالوا منه فرادى .. تكاثروا عليه وظلوا يكيلون له ضربات وركلات ولكمات متلاحقة فى كل مكان تطوله أيديهم وأرجلهم , حاول عبثا أن يتفلت منهم أو يقاومهم , لم يتركوه إلا بعد أن أوسعوه ضربا حتى غاب عن الوعى لا يستطيع حراكا , والدماء تنزف بغزارة من جرح غائر فى جبهته .. أفاق الشافعى وهو ملقى مكانه على يد حانية تمسح على رأسه , حاول وهو يتأوه بصوت خافت فتح عينيه فى الظلمة الحالكة ليستبين ملامحه , ظل يدقق النظر إليه حتى تمكن أخيرا أن يتعرف عليه , إنه صديقه المصرى الذى قفل راجعا به إلى داره حيث اغتسل وبدل ملابس بعد أن حاول تضميد جراحه , ولما أفاق تماما وأمكنه الكلام سأل صاحبه متعجبا من وجوده إلى جواره وقد افترقا عند داره . فقال ...........*

يتبع إن شاء الله ............*

الصفحه * * * * *92*

ــ أبدا يا صاحبى . كل ما فى الأمر أنه بعد أن تركتنى ومضيت وحدك , حاك فى نفسى وخطر لى أنه ربما يصيبك مكروه , لا أدرى كيف هجم على ذلك الخاطر وما الذى جعلنى أتوقع ذلك !. ربما نظرة الغل والغضب التى لمحتها فى عينى حماد , كان يحدجك بها وأنت خارج من دار الشيخ , إرتبت لحظتها فى أمره وخشيت أن يلحق بك أذى منه , وحدث ما توقعته , لهذا قفلت راجعا خلفك لأجدك على الحال التى كنت عليها والدماء تغطى وجهك وملابسك ..*

سأله بنبرات صوت حزين .........*

ــ أتظن أنه من دبر تلك المكيده ؟.*

ــ ومن يكون سواه !. ليس ظنا بل أنا على يقين من هذا , لقد قرأت الشر مسطورا فى عينيه فى نظرته النارية لك ..*

عقب مرتجلا فى نبرات صوته تلبست باللوعه وهو يبث أناته وآهاته ........*

ــ دع الأيام تفعل ما تشاء .. وطب نفسا إذا حكم القضاء*

ولا تجزع لحادثة الليالى .. فما لحوادث الدنيا بقاء*

وكن رجلا على الأهوال جلدا .. وشيمتك السماحة والوفاء ..

إنتهى من كلامه ثم نظر لصاحبه نظرة فهم منها أنه يريد الرجوع إلى داره ثانية*

ـــ هيا يا صاحبى خذ بيدى ..

ــ إلى أين فى تلك الساعه ؟.*

ــ إلى دار عمى يعقوب , إنهم فى قلق الآن من تأخرى على وبالأخص أمى , لم يسبق لى أن تأخرت خارج الدار إلى هذا الوقت المتأخر فى الليل ..*

ــ ماذا تقول يا رجل , أجننت , كيف أطاوعك على ذلك وأنت بهذه الحال , أرح جسدك الآن على الفراش فما أحوجه للراحه , وتناول هذا الشراب الدافئ ريثما أرجع إليك , سأذهب أنا الآن إلى داركم وأطمئنهم جميعا عليك ..*

رآه يحاول الكلام فبادره قائلا ..........*

ــ أعرف ما تريد قوله , كن مطمئنا لن أخبرهم بما حدث , إسترح أنت الآن ..*

هز رأسا متعبا ولم يعقب ..*

يتبع إن شاء الله ..........*

الصفحه * * * * *93*

@ لم تمض إلا أيام قليله وكانت المدينة كلها تناقل نبأ الإعتداء الآثم على الشاب المكى الذى أحبه أهلها , لقربه من شيخهم فى مجلسه وأحب تلاميذه إلى قلبه , عرفوا أن وراء تلك الفعلة الشنعاء حماد البربرى زميله العراقى فى حلقة الشيخ .. راح الخبر ينتشر ويشيع حنى وصل إلى مسامع مالك , لاحظ تغيب الشافعى أياما عن حلقته على غير عادته , نادى على صاحبه المصرى بن عبد الحكم ليستجلى منه حقيقة الأمر , فأخبره بالقصة كلها كما وقعت , ثارت ثائرة الشيخ واستولى عليه غضب عارم , أرسل فى طلب حماد الذى اختفى هو الآخر من الحلقة بعد تلك الحادثه , ولما مثل أمامه قال له محتدا غاضبا .........*

ــ أفى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وفى حرمه الآمن تفعل فعلتك الشنعاء تلك؟. كيف طوعت لك نفسك ذلك أيها الأحمق , هل أعمتك الغيرة وسود الحقد قلبك إلى أن تسلط من يتحرش بزميل لك فى العلم , ألم أحذرك مرات من قبل ألا تتعرض للشافعى بالقول وأن تكف عنه لسانك , فتفعل ما هو أدهى وأمر , أذى وضرب وإهانة ؟!. إسمع يا هذا , من الساعة لا مكان لك فى مجلسى , بل لا مكان لك فى المدينة كلها , هيا احزم متاعك وارحل إلى بلادك وإلا أرسلت إلى أمير المؤمنين فى شأنك وأعلمته بحقيقة أمرك , هيا اغرب عن وجهى وإياك أن تقع عينى عليك بعد اليوم ................*

يتبع إن شاء الله ......................................

رزق المصرى
21/12/2008, 12h26
سيدى
على بركة الله
ربنا يعينك

abuzahda
26/12/2008, 04h38
الأخوة عموم شعب يوتوبيا سماعي

على بعد "كليك" هنا (http://www.sama3y.net/forum/showthread.php?t=54074) ، يوجد عمل أدبي عبقري يقترب من التمام
لم يكف مبدعه عن التواضع ، بينما على مقربة منه أعمالي "المتواضعة حقاً" بالقياس عليه ، مثبتة
و لأنني لازلت أجهل هرمية الإدارة بسماعي . فلا أعرف على وجه الدقة من له حق تثبيت الأعمال (لتيسير الإستمتاع بها)
فقد فكرت في مراسلة الدكتور أنس البن لأرجوه تثبيت ذلك الذي أنا بصدد الحديث عنه
ثم تداركت أن الدكتور أنس البن هو نفسه مبدعه الذي ما كفّ عن "التقليل" من قدر نفائسه
و لظروف الوقت فإني أتشرف بالمرور على تلك الدرة التأريخية لسيرة سيدنا الإمام الشافعي ، كلما يسر الله ، لنسخ ما أُنجز
ثم طباعته ، فيتيسر لي قراءته أينما شاء الله
فهل تساعدوني في المناداة بالتثبيت؟ (ثبتكم الله)

سمعجى
26/12/2008, 05h13
شاعرنا الكبير سيد أبو زهدة

سبقتني يا عم سيد ( دايماً سَبَّاق في الخير )

و لو تـَرَكنا الأمرَ للدكتور أنس ،، و ما نعرفه عنه من خـَلاق ٍ وتواضع ٍ شديد ،، فربما قام بحذفِها من باب ( إنكار الذات )،،، تـَصَوَّر !

ما خطه الدكتور أنس هنا ،، هو كما أسلفتَ ( عملٌ عبقريٌ ، و دُرَّة ٌ تأريخية ) ،،
و التي أتمنى أن تطاولَ هامتي مُزنها ،، فأتجرأُ على تعليق ٍ يليقُ بها ،،

تلك دُرَّةُ اليقينِ ، فاعقِلوها

ثـَبِّتوها

unicorn
26/12/2008, 06h10
جازى الله عليها د. انس البن خير الثواب و الاجر
طبعا لابد من تثبيتها
هل ينفع ان يدخل هذا العمل الفريد دائرة النسيان و تطوى صفحاته و صفحات فوقه , و حرمان من يدخل سماعى لاول مرة اليوم من متابعته فى أرشيف سماعى الادبى ؟؟؟
فضلا عن قيمتها الادبية و التاريخية و الدينية التى لا تقدر بثمن .
طبعا انادى معكما شاعرينا و أستاذينا الكرام بتثبيت سيرة الامام الشافعى (رضى الله عنه ) , و التنويه عنها بعد تمامها فى الصفحة الرئيسية للمنتدى كأحد أعمال سماعى الفريدة .
أعانك الله يا دكتور انس على إكمالها و أثابك عنها و عنّا خيرا .

رائد عبد السلام
26/12/2008, 06h46
عمي الغالي /سيد ابو زهدة
ما شاء الله عليك ياعم سيد
صحيح كلنا بنقرأ عالم قريش من أول ما
أيقونة المنتدي
د: أنس
بدأ في كتابتها بس عمر ما حد فكّر في موضوع التثبيت ده
يمكن علشان عمي أنس أصلا (مُثبّت) في قلوبنا هو وأعماله
الله ينور
وعلي بركة الله

سيادة الرئيس
26/12/2008, 08h29
يثبت الموضوع و بنوع غراء فخم يليق بصاحبه

محمد حمدان
26/12/2008, 09h58
[quote=abuzahda;261218]الأخوة عموم شعب يوتوبيا سماعي

على بعد "كليك" هنا (http://www.sama3y.net/forum/showthread.php?t=54074) ، يوجد عمل أدبي عبقري يقترب من التمام
لم يكف مبدعه عن التواضع ، بينما على مقربة منه أعمالي "المتواضعة حقاً" بالقياس عليه ، مثبتة
و لأنني لازلت أجهل هرمية الإدارة بسماعي . فلا أعرف على وجه الدقة من له حق تثبيت الأعمال (لتيسير الإستمتاع بها)
فقد فكرت في مراسلة الدكتور أنس البن لأرجوه تثبيت ذلك الذي أنا بصدد الحديث عنه
ثم تداركت أن الدكتور أنس البن هو نفسه مبدعه الذي ما كفّ عن "التقليل" من قدر نفائسه
و لظروف الوقت فإني أتشرف بالمرور على تلك الدرة التأريخية لسيرة سيدنا الإمام الشافعي ، كلما يسر الله ، لنسخ ما أُنجز
ثم طباعته ، فيتيسر لي قراءته أينما شاء الله
فهل تساعدوني في المناداة بالتثبيت؟ (ثبتكم الله




و الله يا أخى الفاضل / الأستاذ سيد ابوزهده
منذ قرأت الحلقه الاولى واننى اشعر وكاننى
اقرأ كتاب على غرار ( على هامش السيره)
للدكتور طه حسين وكنت حين اقرأ هذا الكتاب
اشعر و كأننى اعيش فى شعاب مكه المكرمه
بكل تفاصيلها و دروبها بل وخباياها التى لا
يعرفها الا اهلها الذين تم وصفهم وصفا دقيقا
وهذا ما حدث لى بالفعل عند قراءة الكلمات
الاولى من السيره الشافعيه .



وفكرت فى الكتابه الى الدكتور انس
ولكنى تراجعت خوفا من ان يفهم
كلامى على غير المقصود منه حيث
اننى جديدا بالمنتدى ومازلت احرج
من مراسلة اعضاء الاداره
لذا فاننى أ ضم صوتى المتواضع الىجانب
اصواتكم واقول





((((((ثبتها و توكل))))))

سمعجى
26/12/2008, 13h48
تمَّ التثبيت بنجاح :mdr:

مبروك علينا دُرّة السيرة الشافعية ( مُـثـَبَّتة ) في قلوبنا :emrose:

رائد عبد السلام
26/12/2008, 14h41
أستاذنا الكبير الشاعر /كمال عبد الرحمن
(سمعجي)
كل الشكر
من كل عين قارئة وكل قلب واعٍ
جزاك الله خيرا
يا أستاذ الأساتذة

د أنس البن
27/12/2008, 04h54
أحباب قلبى جميعا
والله ما انا عارف اقول لكم إيه
دا كتير على والله الكلام الكبير ده
الموضوع وما فيه إن ربنا سبحانه وتعالى خلقنى كده
يعنى لاتواضع ولايحزنون , ده سلوكى العادى جدا وده تصورى الطبيعى لحقيقة الأمر , لأن الحكايه إيه علشان أبسط المسئله , أن من يستطيع التواضع أو من يتواضع لابد ان يكون له معاملات مع الكبر والتكبر
وأنا معرفش أتكبر أبدا على أى شئ حتى لو مش آدمى , بمعنى أنى لم أذق للكبر طعما طول عمرى , وده بالنسبه لى شئ لاكلفة فيه أبدا , لأن من يسلك مسلكا ونقيضه لابد أن يتكلف ويجاهد نفسه فى كل مره يتغير فيها من حال لحال, وده شئ أنا بشعر به فى نواحى اخرى من السلوك أحاول أن أجاهد نفسى كى أتحول من حال إلى نقيضه , إنما فى مسئلة ما يسمى بالتواضع الأمر سجيه جبلت عليها ونشأت عليها
ليس معنى ذلك أنه ليست لى عيوب , أبدا , عيوبى أكثر من أحصيها عددا وأجاهد كثيرا للتخلص منها ولازلت ,
ما علينا المهم .. أقبل أياديكم جميعا وعظيم إمتنانى للحبيب الذى لم أره جسدا ومبنى وإن تعايشت معه روحا ومعنى , فصار بالنسبة لى أعز وأغلى من أخ ولدته أمى , الصديق الحبيب الشاعر الأديب سيد ابو زهده
ومحبتى ومودتى للشاعر الأديب المثقف كمال عبد الرحمن وأشكره على كرمه ولطفه بتثبيت السيره الشافعيه
ولكل إخوتى وسادتى أبو مندور ورائد عبد السلام ومحمد حمدان وكل شعب سماعى الجميل المحترم
ولاتنسونا من دعواتكم مددنا فى الدنيا وزادنا فى الآخره
فإن ألسنة الخلق أقلام الحق.........................

رغـد اليمينى
28/12/2008, 02h40
http://up106.arabsh.com/s/uobq2ecl0u.gif (http://up106.arabsh.com/)

أُستاذى الجليل و المُبدع القدير


(( د. أنس البن ))


تحية إعجاب وتقدير لشخصك الكريم ولقلمِكَ النادر الوجود والإحساس
لا أُخفيكَ سيدى الفاضل فقد مكثتُ على صفحاتك الثرية ساعاتٍ متواصلة فى شوق لمُتابعة الآحداث ،
أذهب وأعود أتكأ على قلمى..فيأبى أن يكتب شئ فإنه لن يفى حقك أمام إمتاعنا بهذه السيرة العطرة عن جليل الشأن رفيع المقدار عظيم الدرجة عند أهل العلم,

ناصر الحديث والسنة والمحدث الفقيه الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع, هذا الإمام الذى يصل نسبه إلى أبن عم النبى صلى الله عليه وسلم ،يحتاج فى

مناقبه لمجلدات كان من الإئمة الفضلاء الذين لايمل من سيرته .
سوف أتناول الحديث بدايةً عن جماليات السرد القصصى فى الإعجاز والسيرة النبوية العطرة
والتى تطرقت إليها عند الكتابة بدأً من المُقدمة ونشأته
ومراحل تنقله من بلدة لآخرى لنشر رسالته الطيبة
وبين هذا وذاك وجدتُ إتصال مُكثف بالمتن القرآنى والخوض في فضاءاته الرحبة،
فقد إندمج الذهن فى فضاء سيرته وهذا هو العامل الآهم لنجاحها
فقد تحقق التلاقح والتلاحم على متن هذه الكوكبه العطره لسيرة إمامنا الجليل رحمه الله
ومن ثم نجاحها لدى المُتلقى بدليل مُتابعتها بشغف
رحم الله الامام ونفعنا الله بعلمه، وجزاك الله جنانـا من الرحمن

همسة لكَ سيدى من خلال قرأتى بين الفصول ومراحل
تطور السرد والربط المٌتقن بينهما وجدتُ هفوة أرجو أن يتسع صدركَ لها
وهو عند كتابة النبى ( ص )
فضلاً سيدى فلا ينبغى للمؤمن أن يحرم نفسهُ الثواب والآجر لِمُجرد أن يُسرع فى إنهاء ما كتبهُ
بإختصار "صلى الله عليه وسلم "بــــ ( ص ) أو ( صلعم )
حقاً علينا أن نتعبد لله بالصلاة على نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم لفظــاًَ وكتابة ..
ولآنى ألتمس لكم صفاء النية وما يحوى القلب من نقاء
والحق ما قاله الذهبى ، فإن النيات صنعة العلماء ، والِعلمُ إذا أثمر العملّ وضع صاحبه على طريق النجاة
ولتكتمل جمالية السرد عند نشرها فى مربدأدبى أوعلى الشبكة العنكبوتية على الوجه العام كانت لىّ هذه الوقفة.
وسوف أُتابع معك هذا العمل الراقى الطيب الجميل إذا سمحت لى بذلك ،،
دمت ودَام خير مِدادِكَ الوارف،،
فى رعاية الله وأمنه
،

http://up106.arabsh.com/s/uobq2ecl0u.gif (http://up106.arabsh.com/)

د أنس البن
28/12/2008, 06h01
همسة لكَ سيدى من خلال قرأتى بين الفصول ومراحل
تطور السرد والربط المٌتقن بينهما وجدتُ هفوة أرجو أن يتسع صدركَ لهاوهو عند كتابة النبى ( ص )
فضلاً سيدى فلا ينبغى للمؤمن أن يحرم نفسهُ الثواب والآجر لِمُجرد أن يُسرع فى إنهاء ما كتبهُ
بإختصار "صلى الله عليه وسلم "بــــ ( ص ) أو ( صلعم )
حقاً علينا أن نتعبد لله بالصلاة على نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم لفظــاًَ وكتابة ..


شهادة تقدير أخرى لها قيمتها تتوج رأسى
من المارده صاحبة الكلمات الندية العطره
والرأى السديد دوما
والتى افتقدنا وجودها الرائع بعرفه الذكى
سعدت كثيرا بملاحظتك المهمه
وهذا هو ما أريده من كل الأحباب
وقد قمت بتصويب ما فاتنى
إلا ما سهوت عنه عن غير قصد
أرجو المتابعه والتنبيه لأى ملاحظة أو رأى
ألف شكر
................

ياسمين24
04/01/2009, 20h10
السلام عليكماستاذى الجليل واعتذر لاننى سمحت لنفسى بان اقول هذا فأنه والله لشرف ان تكون سيادتك استاذا لنا ما اروع ما كتبت وانا متأكده من ان الكثيرين منا لم يكونوا يعرفون عن الشافعر غير انه صاحب مذهب الشافعيه اواكثر من هذا بقليل واقول لك يا سيدى اننى منذ بدأت اقرأ هذه السيره الرائعه التى سطرتها اقلامك وانا لا استطيع ان اتوقف فلقد كتبتها بشكل يجذب كل الانتباه والفكر لهذا النابغه لقد قرأت حوالى ثلث ما كتبت حتى الان ولا اطيق صبرا حتى اكمل ولكننى لم استطيع ان انتظر حتى اكتب لكم لاشكركم على ما تعطينا مما من الله به عليك ومما اختبأ كثيرا فى مكتبك اكمل يا استاذى فتح الله عليك وكلنا اذان صاغيه واعين مفتوحه ومتلهفه

abuzahda
14/01/2009, 01h39
أستاذنا الجميل
كنز العلم و التواضع
الوالد الدكتور أنس
طال بنا الشوق يا سيدنا
:emrose:
أعادكم الله سالماً غانماً و حرمكم المصون
الست ناهد هانم
لتواصلا نشر الأنس و البهجة في ربوع أرواحنا

سلمى القمر
25/01/2009, 15h09
انا رجعت تانى يا دكتور بجد شكرا على كلامك حضرتك وكل الناس هنا وانا بجد هفضل اكتب هنا على طول

د أنس البن
08/02/2009, 10h04
الأخت ياسمين
الأخت سلمى القمر
أخى وحبيبى شاعر الغلابه وحامل مفاتيح خزائن هموم الوطن .. سيد ابو زهده
أنا تحت أمركم وعدت إليكم ثانية .. مع السيره الشافعى ومولانا الشيخ قاضى الشريعه ...

أبو مروان
08/02/2009, 17h15
الحمد لله على سلامتك ورجوعك الى الأهل والأحبة وجزاك الله عنا خير الجزاء على هذا السرد الساحر الشيق والتوثيق المثين ...ربنا يطول عمرك ويزيد عطاؤك أيها الأخ الكريم ....

د أنس البن
08/02/2009, 17h19
أشكرك من قلبى أخى د. أبو مروان ........

محمد حمدان
08/02/2009, 17h33
االله . . . الله . . . الله
الله يا دكتور انس الله
الله على رائحة المسك و العنبر
الله على الحروف والكلمات التى
تشع روحانيات و تجليات
الله على السيره العطره
الله على الوصف الحى
الكامل المتكامل
الله يفتح عليك يا شيخنا الجليل
وعالمنا الكبير
وفخرنا و تاج رؤوسنا
جزاك الله كل الخير

ياسمين24
08/02/2009, 18h04
عودا احمد يا استاذى العزيز و ادامك الله لمحبيك بالف صحه وعافيه فهيا اكمل ابداعك واسعدنا بهذه السيره العطره

محمد حمدان
13/02/2009, 06h43
يتبع ............................





شكره الشافعى وودعه على أن يلتقى به فى الغد فى حلقة مالك ..






استاذنا و معلمنا و أديبنا الكبير
الدكتور / أنس

لن أمل أن اكرر وأقول : عمل رائع الى
أبعد الحدود كأنى اتجول معك ومع سيرتك
فى بلدان العرب كلها بأدق تفصيلاتها وشعابها
وحوار فلسفى عميق
رائع جدا يا دكتور أنس وفى انتظار درر جديده
من هذا الكنز الثمين

د أنس البن
13/02/2009, 12h42
أشكرك من أعماق قلبى أخى محمد حمدان على كلماتك المشجعه , والله إنها تزيد ثقتى من نفسى وتدفعنى لتكملة هذه السيرة الطيبه , لعل أحدا من كتاب السيناريو أو أساتذة الإخراج التليفزيونى الذين يستهويهم هذا اللون من قصص التاريخ يقرأه ويظهره للنور ....

د أنس البن
13/02/2009, 17h16
شكر واجب

يسعدنى ان أتقدم بالشكر للصديق الأستاذ سامى عبد العزيز على متابعته الدقيقه وتفضله بتصحيح الأخطاء اللغويه حتى يكون السياق متوافقا مع صحيح قواعد النحو والإعراب
وأرجو بشده من أى زميل متخصص فى اللغه أن يتفضل بتنبيهى إلى أى خطأ لغوى فى السياق فضلا عن أخطاء الكيبورد فهذه أمرها يهون




:::::::::::::::::::::::

د أنس البن
14/02/2009, 11h09
177 هجريه الرشيد فى الحجاز

@ بدا الرشيد مسرورا فى أوج سعادته , بعد أن أنهى وزيره الفضل بن يحى البرمكى الفتنة بسلام دون إراقة دماء من هنا أو هناك , ورجع من بلاد الديلم بصحبته غريمه يحي بن عبد الله الطالبى , بعد تمكنه من إقناعه بالرجوع عن عصيانه , وأن يحل فى البلاد ضيفا كريما ومواطنا صالحا , إستطاع مد بساط الأمل له ووعد بحياة هادئة رغيده , ينعم فيها بكل سبل المتعة والراحه والهناء .. إنهما أبناء عمومة جدهما عبد المطلب بن هاشم ..
ولدى عودته من مهمته توجه فى التو حيث الرشيد وأخبره بما كان ......
ــ خرجت يا مولاى فى خمسين ألف رجل بالخيل والعتاد يتقدمهم صناديد القاده , ولما وصلنا إلى طالقان الرى فى مكان شديد البرودة كثير الثلوج يقال له "أشب" , مكثنا فيه أياما أرسلت خلالها مبعوثا بكتاب منى إلى صاحب الديلم وأجزلت له العطايا كما أمرتنى , حتى يسهل لنا خروج الطالبى والسعى لإقناعه بقبول الصلح , فلما أتانى أعطيته كتاب الأمان والحمد لله أن وفقنا إلى إخماد الفتنة فى سلام دون الحاجة إلى قتال وإراقة دماء ..
ــ أحسنت صنعا .. الحمد لله الذى طهر يدى من دمه , ما أكثر الدماء التى ارتوت بها رمال الصحراء طيلة العقود الماضيه فى حروب جرت بين أبناء العمومه .. الحمد لله .. المهم أين هو الآن ؟.
ــ أكرمت وفادته و،زلته فى دارى ضيفا عزيزا كريما , ريثما أدبر له ولمن معه فى القريب العاجل إن شاء الله دارا خاصة تكون لائقة بهم ..
ــ شرحت صدرى أيها الوزير .. فى الغد إن شاء الله نلقاه هنا ..
صمت برهة نظر بعدها للفضل قائلا وهو يشير بسبابته ......
ــ أظننى لست فى حاجة لأحذرك , ضعه تحت المراقبة الدائمه , لا تدعه يغيب عن ناظريك لحظة واحده .. أنا أعرف الناس بأبناء العم , ليس هينا عليهم الرجوع عن عنادهم , أو نسيان حلم الخلافة والحكم ..
كان يحلو للرشيد بعد تلك الحادثة أن يردد أبيات من قصيدة نظمها أحد الشعراء المداحين فى حق الفضل بن يحى البرمكى ....
ظفرت فلا شلت يد برمكية .. رتقت بها الفتق الذى بين هاشم
على حين أعيا الراتقين التآمه .. فكفوا وقالوا ليس بالمتلائم ..
واستمر الوزير الفضل بن يحى يخدمه بنفسه ويرعاه طيلة ضيافته فى قصره , قائما على شئونه ومصالحه مدة من الزمن , أبى خلالها أن يدع أحدا سواه يقوم على خدمته , إلى أن صار يحيا آمنا لا يعكر صفو حياته كدر فى دار كبيرة تليق بقدره ومنزلته تقع على ضفاف دجله , يعيش فيها مع أهله وبعض أنصاره المقربين الذين أتوا معه من الديلم ..........


@ إستتب الأمر للرشيد واطمأنت نفسه بعد خمود الفتن والقلاقل حول النزاع على خلافة المسلمين , لذلك قرر أن يذهب للحج هذا العام , كان الرشيد يحج عاما ويغزو عاما , ظل على ذلك النهج مدة خلافته إلى أن لقى ربه , وحج مرة ماشيا على قدميه , قال فيه أحد المادحين :
فمن يطلب لقاءك أو يرده .. ففى الحرمين أو أقصى الثغور
وما حاز الثغور سواك خلق .. من المتخلفين على الأمور ..
ولم يكن حج البيت وحده دأب الرشيد , بل كان محافظا على كل التكاليف فريضة كانت أم نافله , وله كل يوم مائة ركعه يصليها فى جوف الليل ..
وفى هذه الرحله وهى الخامسه إلى أرض الحجاز خرج ومعه كعادته جمع من الفقهاء والقضاه وأبنائهم , من بينهم هذه المره قاضى القضاه أبو يوسف بن يعقوب الأنصارى , ومن رجاله المقربين إختار أن يكون معه الفضل بن الربيع ..
وبينما ترابط قافلة الحجيج فى مكه , وقد انتهوا من آداء مناسكهم وبدأوا فى الإستعداد لرحلة المدينة المنوره , إذ فوجئ الفضل بن الربيع بالرشيد يدخل عليه خيمته , هب واقفا وقد أخذته الدهشه .......
ــ مولاى أمير المؤمنين , مرحبا بك , تأتى بنفسك إلى خيمتى !. , لو أرسلت إلى فآتيك !..
رد الرشيد وقد بدا شاردا مهموما ......
ــ قد حاك فى نفسى يا أبا العباس شئ , فانظر رجلا صالحا فى مكة نذهب إليه , نسأله النصيحة والموعظه قبل أن نشد الرحال إلى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ كما تحب يا مولاى , هنا فى مكه كثير من الصالحين أهل الورع , لكنى أعرف منهم رجلا تقيا ورعا صالحا , لا مثل له فى البلاد كلها ..
ــ من يكون ؟.
ــ الفضيل بن عياض , شيخ الزاهدين وإمام أهل التقوى ..
ــ أوتعرف داره ؟.
ــ أجل يا مولاى .. ذهبت مرات إليه ..
ــ هيا بنا إليه .. الآن ..


@ أخذا يقطعان الطريق سيرا على الأقدام وهما متخفيان عن العيون كى لا يتعرف عليهما أحد من أهل مكه , حتى أتيا أخيرا على دار عتيقة , وهى الدار التى أتاها الشافعى قبل اثنى عشر عاما مع خاله , وقبل أن يهم الفضل بقرع الباب , تناهى إلى أسماعهما صوته وهو يقرأ القرآن فى صلاه , كان الصوت آتيا من حجرة أعلى الدار , إستوقفه الرشيد بإشارة منه وانتظرا حتى يفرغ من صلاته , وبعد طرقة خفيفة جاءهما صوته من داخل الدار ........
ــ من بالباب ؟.
أجابه الفضل ........
ــ أمير المؤمنين هارون الرشيد ..
رد وهو لا يزال داخل الدار ...........
ــ مالى ولأمير المؤمنين .. ليس لى به حاجه ..
أجابه الفضل مستنكرا ............
ــ سبحان الله .. له عليك حق الطاعة يا شيخ .. أليس له طاعة عليك ؟.
جاءهما صوت أقدام الشيخ نازلا على مهل من على سلم خشبى , فتح الباب ثم استدار صاعدا درج البيت دون أن يسلم عليهما , وفى ركن من أركان خلوته جلس صامتا بعد أن أطفأ السراج وعم المكان ظلام دامس .. أخذ الرشيد ووزيره يبحثان فى الظلام عن كفه ليسلما عليه , سبقت كف الرشيد إلى يد الفضيل الذى عاجله بقوله وهو يتناول راحة يده مسلما عليه ........
ــ يا لها من كف .. ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله ..
تمتم الفضيل وهو يتأوه فى سره ...... آه .. البداية هكذا إذن , والله ليكلمنه الشيخ الليلة بكلام نقى من قلب تقى ..
قال الرشيد .....
ــ هيا لما جئناك له يرحمك الله ..
ــ لأى شئ جئتما ؟.
ــ الموعظة والنصيحه ..
ــ إسمع يا خليفة المسلمين .. لما ولى الخلافة عمر بن عبد العزيز دعا سالم بن عبد الله بن عمر ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوه وقال لهم ..... إنى قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا على .. فعد الخلافة بلاء وعددتها انت وأصحابك نعمه ..
سرت رعدة شديدة فى جسد الرشيد رغما عنه وهو يسأله بصوت خافت .......
ــ صدقت والله .. وبماذا أجابوه يا شيخنا ؟.
ــ قال له سالم .... إن أردت النجاة من عذاب الله , صم عن الدنيا وليكن إفطارك منها الموت .. وقال له محمد بن كعب .... ليكن كبير المؤمنين عندك أبا وأوسطهم اخا وأصغرهم ولدا ..
ــ ورجاء بن حيوه ؟.
ــ قال له .... أحب للمسلمين ما تحب لنفسك , واكره لهم ما تكره لنفسك ..
ــ وأنت يا شيخنا الزاهد , ما تقول لى ؟.
ــ أقول لك .. هل معك مثل هذا , أو من يشير عليك بمثل هذا ..
غلب الرشيد البكاء والشيخ يكلمه , وأخذ بكاؤه يشتد وصوت نحيبه يعلو , حتى ان وزيره الفضل شرع برأسه مستاء وهو يقول للشيخ مع تقديره لمنزلته وعلو شأنه .........
ــ مهلا يا شيخنا , رفقا بأمير المؤمنين ..
ــ تقتله أنت وأصحابك يا ابن الربيع وأرفق به أنا !. يا خليفة المسلمين جدك العباس جاء رسول الله "صلى الله عليه وسلم" طالبا منه أن يوليه الإماره فقال له "صلى الله عليه وسلم" ... "إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامه , فإن استطعت ألا تكون أميرا فافعل" ..
إشتد بكاء الرشيد ونحيبه وهو يقول له راجيا ........
ــ زدنى يرحمك الله , زدنى ..
ــ يا حسن الوجه , أرأيت الناس وهم يطوفون بالبيت العتيق , وهم يسعون بين الصفا والمروه ؟.
ــ أجل , أجل رأيتهم ..
ــ كل واحد منهم سوف يسأل عن نفسه يوم القيامه , أما أنت ستسأل عنهم جميعا , فإن استطعت ان تقى هذا الوجه نار جهنم , فافعل .. وإياك أن تمسى أو تصبح وفى قلبك غش لأحد من رعيتك ..
سأله باكيا ......
ــ أعليك دين أيها الشيخ ؟.
ــ أجل ..
ــ لمن ؟.
ــ دين لربى لم يحاسبنى بعد عليه , الويل لى إن سألنى أو ناقشنى , والويل إن لم ألهم حجتى ..
ــ ليس هذا ما أسأل عنه , بل أسأل عن ديون العباد ..
ــ لم يأمرنى ربى بهذا .
ــ على أية حال , هذه ألف دينار , خذها وأنفق منها على عيالك وتقو بها على عبادتك ..
ــ سبحان الله .. أدلك على طريق النجاه , تكافئنى بعرض زائل , إيه , سلمك الله وهداك ..
قام الرشيد ووزيره الفضل وبينما هما على عتبة باب الدار سمعا صوت امرأة وكانت زوجة الشيخ تقول له فى غيظ وحنق ملوحة بكلتا يديه فى وجهه .......
ــ يا رجل , هل جننت , ألم يكفك ما نحن عليه من مسغبة وضيق فى العيش حتى ترد مالا بعثه الله لك , ألف دينار يا رجل , ترد ألف دينار ودارك ليس فيه بر ولا دقيق , إننا لم نر درهما ولا دانقا ولم توقد فى دارنا نار منذ أيام , وأنت ترد ألف دينار , أليست تلك حماقة وقلة عقل , يبدو أنك كبرت وخف عقلك ..
تبادلا نظرات ذات معنى , قال الرشيد بعدها للفضل هامسا .......
ــ ما قولك , نعيد الكرة ربما يقبل المال ؟.
ــ أجل يا مولاى ..
أدرك الشيخ ما نواه الرشيد فغادر القاعة مسرعا وولى مغاضبا متخذا مكانه على سطح الدار , حاول الرشيد بعد أن لحق به أن يكلمه أو يسترضيه قبل أن يغادر الدار , لكنه أطبق فمه وقد أعطاه ظهره , إلى أن خرجت عليه جارية سوداء عابسة الوجه قالت للرشيد فى جفاء وغلظه لا يليقان بمثله .........
ــ يا هذا , قد آذيت الشيخ فانصرف يرحمك الله ..
وفى طريقهما خارج الدار همس الرشيد لوزيره فى لهجة حازمه .....
ــ إذا دللتنى على رجل , فدلنى على مثل هذا الشيخ الزاهد , إنه سيد المسلمين , غدا نتحرك بالحجيج صوب مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .........


@ لم يشعر بالسعادة تغمره كما شعر بها وهو متخذ طريقه ميمما صوب خيمة الرشيد مستغرق فى حديث نفس ............ سبحان الله .. والله إنه لأمر عجيب .. حقا صغيرة تلك الدنيا .. لكنى كنت واثقا ساعة ما افترقنا , أنى سوف ألقاه يوما .. مصادفة عجيبه جمعتنى بزميل الصبا بعد كل هذه السنين .. حقا تغيرت ملامحه كثيرا إلا أن نبرات صوته كما هى , إنها لم تفارق أذناى بعد , وها أنا أستمع إلى صوته الدافئ الذى تداعب كلماته الآذان كنسمات صبا عطرتها أزهار الياسمين وأوراق الريحان .. صدق من قال .. وقد يجمع الله الشتيتين بعدما .. يظنان كل الظن ألا تلاقيا .. تا الله لأحدثن أمير المؤمنين وأشرح صدره بذكر ما رأيت وسمعت اليوم , فلا أحب إليه من معرفة أخبار أهل العلم وسماع حكاياتهم ..
ولما دخل الخيمة وألقى السلام ابتدره الرشيد ............
ــ من !. الفضل بن الربيع حاجبنا وابن حاجبنا , وعليك السلام يا أبا العباس , أرى البشر والسرور فى صفحة وجهك , ماذا وراءك , أية ريح طيبة أتت بك ؟.
ــ أعز الله أمير المؤمنين وأعلى ذكره فى العالمين , جئت إليك بما يسرك ويشرح صدرك , وتقر به عينك ..
ــ تكلم يا ابن الربيع , لقد أثقلتنا الهموم وزادت علينا المواجع , هات ما عندك ..
ــ رأيت اليوم يا مولاى رجلا قرشيا مطلبيا من ولد شافع , لم أره منذ زمن ..
ــ ما شأنه ؟.
ــ إن له قدما راسخة فى العلم ..
ــ قلت إنك لم تره منذ أعوام , أوتعرفه ؟.
ــ أجل يا مولاى , كنا نحفظ القرآن سويا , سنوات جمعتنى به فى رحاب بيت الله الحرام فى كتاب شيخ مكة ومقرئها الكبير إسماعيل بن قسطنطين رحمه الله ..
ــ هيه , قص علينا كيف رأيته وتعرفت عليه بعد كل هذه السنين ..
ــ كنت خارجا من مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فرأيت جمعا من الناس يتحلقون حول رجلين , دفعنى الفضول أن أذهب إلى هناك لأنظر ما يجرى بينهما , ولما صرت قريبا منهما رأيت مناظرة حامية ونقاشا دائرا , فلما اقتربت أكثر أخذت أدقق النظر وأرهف السمع لما يدور , لم أكن أعلم حتى اللحظه أن أحدهما هو بعينه صديق الصبا محمد بن إدريس الذى فارقته منذ أعوام طويله ..
ــ وهل عرفت الرجل الآخر ؟.
ــ نعم , رجل من الكوفه عرفت فيما بعد أن اسمه الحسن بن زياد .. لكن شتان ما بينهما يا مولاى ..
ــ إيه يا ابن الربيع , صدقت , لم لا يكون صديقك القرشى كما تقول , ألم تسمع قول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .... "إن عقل الرجل من قريش عقل رجلين" ..
سكت قليلا ثم أردف ............
ــ هل تذكر ما سمعته مما دار بينهما ؟.
ــ أجل , كلمة كلمه , سأحكى لك يا مولاى ما أدركته مما جرى بينهما , سمعت صديقى الشافعى يسأله ...........................
ــ ما تقول فى رجل قذف محصنة وهو فى صلاه ؟.
ــ تكون صلاته فاسده ..
ــ فما حال طهارته ..
ــ كما هى , بحالها ..
ــ وقذفه المحصنه ؟.
ــ لا ينقض طهارته ..
ــ فما تقول إن ضحك فى صلاته ؟.
ــ بطلت صلاته ..
ــ وطهارته ؟.
ــ تبطل كذلك ..
ــ معنى كلامك أن قذف المحصنات أيسر من الضحك فى صلاه ؟.
صمت قليلا ثم عاد يسأل محاوره الذى بدا حانقا ..............
ــ ما تقول أيها الرجل فى صلاة الخوف , كيف يصليها الرجل ؟.
ــ صلاة الخوف منسوخة , لم تعد واجبة على المسلمين ..
ــ كيف ذلك ؟.
ــ لقول الله عز وجل فى سورة النساء .... "وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاه ... الآيه" ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" لم يعد فيهم , خرج من بين أظهرهم , فلم تعد الصلاة واجبه ..
ــ يا رجل , أما سمعت قول الله تعالى فى سورة التوبه .... "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ... الآيه" هل يا ترى نسخ حكم الزكاة أيضا لأن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لبى النداء ورحل إلى جوار مولاه !.................
@ إستمر الفضل يحكى ...........
ــ هذا يا أمير المؤمنين ما حضرته من تلك المناظره وسمعته من كلامهما ..
ضحك الرشيد وهو يسأل وزيره .......
ــ ماذا فعل الكوفى بعد أن أفحمه صاحبك وأقام الحجة عليه ؟.
بادله الفضل الضحك قائلا ........
ــ وثب من مكانه كاللديغ وولى مغاضبا وهو يتمتم بكلمات لم أتبينها ..
ــ هيه , لم تحدثنى بما فعلت مع صديق الصبا ..
ــ أسرعت نحوه فى الحال بعد انصراف القوم , كان لقاء حارا , تعانقنا وسالت فيما بيننا العبرات وظللنا نتجاذب أطراف الحديث لساعات طويله مرت كأنها لحظات , ما أحلى لقاء الأحبة بعد طول غياب ..
ــ وهل يا ترى تذكرك عندما رآك مقبلا عليه ؟.
ــ فى البداية لم يعرفنى , لقد مضى على فراقنا نحو عشرين عاما , كنا صبية أيامها .. لكنى لم أتركه هذه المره إلا على وعد منه أن نلتقى فى بغداد ..
ــ والله يا أبا العباس لولا أننا أعددنا عدة الرحيل اليوم بعد صلاة العصر لأرسلت فى طلبه لأسمع منه , صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" .... "قدموا قريشا ولا تقدموها فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض" .. أكثر الله فى أهلى مثله ..

يتبع .. إن شاء الله ............................



179 هجريه ..... رحلة الجنوب

@ كان وداعا حارا , ما أقساها لحظات الفراق والوداع , كأنها دهر وما أشقها على النفس حين تودع الأحباب والأهل , سالت من المآقى العبرات وامتزجت وهما يغيبان فى عناق طويل قبل أن تفارق أم حبيبه ولدها وفلذة كبدها واملها فى الحياه , عائدة إلى وديان مكه تعيش هناك بين أهلها , وقد اطمأنت عليه فى دار الزوجيه , وعدها ان يزورها كل عام فى دارهم الجديده التى سكن فيها أخواله بذى طوى , لم تنس قبل أن تودعه أن تجدد له الوصية بامرأته حميده وأن يضعها فى عينيه مذكرة إياه بنسبها الشريف الطيب ..
وأخيرا امتطت راحلتها وهى تردد فى نفسها باكية ملتاعه :
ولست أدرى إذا شط المزار غدا .. هل تجمع الدار أم لا نلتقى أبدا ..
تلك هى المرة الثانية التى يفترقان فيها , فى الأولى تركته غلاما صغيرا يحيا سنوات فى ربوع البادية وفى أحضانها وسط قبائل هذيل وشعراءهم العظام , لكنها لا تدرى إن كانت هذه المره سوف تلتقى به ثانية أم ذاك هو الوداع الأخير ..
واستقر الشافعى بعد أن تزوج حميده إبنة خال صديقه المصرى عبد الله بن عبد الحكم , فى دار صغيرة اكتراها له عمه يعقوب , بالقرب من داره فى إحدى حارات المدينه , وظل مداوما على حضور مجالس العلم , طوافا على حلق الدرس لعلماء المدينة وشيوخها , ينطلق من حلقة إبراهيم بن سعد حفيد الصحابى الجليل عبد الرحمن بن عوف , إلى حلقة عبد العزيز الدراوردى , إلى دروس محمد بن أبى فديك , إلى فتاوى سليمان بن عمرو وعبد الله بن الصائغ وغيرهم , لكنه رغم ذلك لم يفارق أبدا شيخ المدينة الأكبر مالك بن أنس , كان له النصيب الأكبر من وقته , غير أن تقدم السن والشيخوخة وما يتبعها من علل بدأت تزحف على جسده الواهن شيئا فشيئا لتزيده وهنا على وهن , وأصبحت لقاءات الشيخ مع تلاميذه تتباعد يوما عن يوم , حتى بلغ الضعف منه فى أخريات أيامه مبلغا جعله لا يقدر على الذهاب إلى المسجد للصلاه أو الدرس .. لم يكن افمام يحب أن يحدث أحدا عن مرضه , غير أنه قال مرة لأحد تلاميذه المقربين لما سأله عن سبب انقطاعه عن دروس المسجد .........
ــ كرهت يا ولدى أن أذهب إلى مسجد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" بغير وضوء , ولا أحب ذكر علتى لأحد فأشكو ربى ..


@ وذات يوم بينما هو وحده فى داره يتصفح أوراقا أمامه , إذا به يسمع طرقا خفيفا على الباب , قام ليجد أمامه صديقه المصرى وعلى صفحة وجهه تعبيرات تحمل كثيرا من الغموض , لم يستطع أن يدرك منها حقيقة مشاعره وما انطوت عليه نفسه من فرح أو ترح أو مزيج منهما , أجلسه الشافعى إلى جواره بعد أن حياه , سأله عن حاله وما وراءه وهو على يقين أن وراءه ثم أمور غامضه , لم يطل انتظاره إذ فاجأه بما توقعه .....
ــ أحمل لك خبرين , ستسر لأحدهما ..
نظر إليه مستفسرا وقد توجس فى نفسه خيفة من الخبر الآخر .....
ــ أولا هئ نفسك للسفر من هنا بعد أيام معدوده ..
ــ إلى أين ؟.
ــ اليمن ..
ــ اليمن !. لم , ماذا أفعل فيها ؟.
ــ أنسيت يا صديقى ما سألتنى فيه , عملا تتكسب منه ؟.
ــ كيف لى أن أنسى .. أتذكره طبعا ..
ــ لهذا ستسافر إلى اليمن , ستعمل فيها بالقضاء ضمن جماعة موفدة إلى هناك وإلى سائر البلاد والأمصار من قبل الخليفة هارون الرشيد , وهذا كتاب التوصية بشأنك من أمير المدينة إلى أمير اليمن ..
ــ بارك الله فيك وأنعم بك من صديق .. لكن كيف أمكنك ؟.
أجابه وهو يهم بالوقوف مشيرا له ..........
ــ لم يكن بالأمر الصعب على كل حال .. ونحن فى الطريق سأحكى لك كل شئ , هيا بنا الآن فإنى فى عجلة من أمرى ..
سأله متعجبا ......
ــ نذهب الآن إلى أين ؟.
ــ هذا هو الأمر الآخر , سنذهب الآن إلى دار الشيخ ..
سأله متوجسا ........
ــ من , مالك , هل أصابه مكروه ؟.
ــ أجل , بلغنى منذ قليل أنه طريح الفراش فى ساعاته الأخيرة يعالج سكرات الموت , تذكرتك , أنا أعلم كم هو متعلق بك وأنت كذلك , وأحببت ألا يفوتك معى لقاءه وإلقاء نظرة الوداع عليه , ليتنا ندركه قبل أن يفارق الحياه ..
إستأذنه لحظات يبدل فيها ملابسه وبينما هو كذلك وقد بدا فى عجلة من أمره , سألته امرأته حميده وهى تعيد ترتيب ملابس أمامها وطيها .....
ــ مالك يا أبا محمد , إلى أين , أراك فى عجلة من أمرك ؟.
أخبرها بما قاله له قريبها فعادت تسأله .....
ــ وهل عزمت حقا على الرحيل إلى اليمن ؟.
ــ أجل , أجل , سنرحل سويا إن شاء الله ..
ــ متى عزمت على ذلك ؟.
ــ والله لا أدرى يا حميده , كل ما أستطيع قوله لك أنى لن أغادر المدينة إلا أن يأذن لى شيخى ..
ــ لم أفهم , ماذا تعنى ؟.
ــ لقد أوصانى مالك عندما قدمت عليه أول مره وقال لى ..... أذكرك ألا تبرح أبواب المدينة إلا أن آذن لك أو يدركنى الموت , إنك إبنى الذى رزقنى به ربى فى أخريات أيامى ..... تلك وصيته يا حميده .. لن أغيب عليك ........


@ بعد أن أذن لهما بالدخول , تقدما خطوات لدى الباب لتقع أعينهما على الإمام راقد فى فراشه يتحلقه نفر قليل من خلصائه وخاصته , بينما ولده يحي واقف إلى جواره يترقب أوامره وإشاراته , وإلى جواره أمير المدينه محمد بن إبراهيم حفيد الصحابى الجليل عبد الله بن عباس رضى الله عنهما , يلفهم الصمت والسكون كأن على رؤوسهم الطير ..
رفع الشيخ رأسه قليلا وهو يرنو بعينين كليلتين تجاه الباب , لمح الشافعى وصاحبه , ثبت عينه عليه وهو ينظر إليه نظرة تزخر بالمعانى والكلمات , كأنه يودعه وصيته فيها , كانت لغة القلوب ولسان الحال أقوى ألف مرة من لغة الكلام ولسان المقال , وهما يتبادلان النظر فيما بينهما فى حوار صامت يليق برهبة الموقف وجلال المكان .. بعد حين حول الشيخ عينه إلى الجالسين من حوله قائلا فى صوت واه عليل .........
ــ لا أدرى ما أقوله لكم عما أراه وأعاينه الآن .. كل ما أستطيع قوله أنكم ستعاينون غدا من عفو الله ورحمته , ما لم يكن فى حساب أحدكم ..
صمت برهة يلتقط أنفاسه ثم قال ..........
ــ لله الأمر من قبل ومن بعد , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ..
كان هذا آخر ما تكلم به وهو يتفس فى صعوبة بالغه بين كل كلمة وأخرى , بعدها نطق الشهادتين , ثم فاضت روحه راضية مرضية إلى بارئها تستقبلها ملائكة الرحمن بالقبول والتوقير والإجلال لصاحبها ............................
@ لم تمض بضعة أيام على رحيل الإمام حتى كان الشافعى يعد العدة للرحيل إلى بلاد اليمن وبصحبته إمرأته حميده أو "العثمانيه" كما كان يحلو له أن يناديها مرارا بهذا اللقب الذى يذكره بنسبها للصحابى الجليل ذى النورين ثالث الراشدين عثمان بن عفان .. كانت حميده آنذاك فى شهر حملها الثالث .. وفى ليلة السفر حرص على أن يزور صاحبه عبد الله بن عبد الحكم أو "المصرى" كما كان يناديه , كان هو الآخر يتهيأ للسفر إلى مصر بعد أن تلقى من العلم ما رضيت به نفسه , لم يعد له هو الآخر ما يبقيه فى المدينة بعد رحيل الشيخ والمعلم وفراق صاحبه وحبيبه الشافعى , لم ينس وهو يودعه أن يعرف منه المكان الذى يقيم فيه بالفسطاط حاضرة مصر وقلبها النابض , على أمل أن يتلاقيا يوما .....
قال له ................
ــ دارنا فى الفسطاط , تقع فى خطة أهل الرايه على مقربة من المسجد العتيق ..
قاطعه الشافعى .......
ــ تعنى المسجد الذى أسسه عمرو بن العاص ؟.
ــ نعم هو , لنا بالقرب منه دارا كبيرة ورثها الآباء عن الأجداد الذين هاجروا إلى مصر فى مطلع هذا القرن , إيه من يدرى ربما تحملك قدماك إلى بلادنا , حتى يلتقى الأحباب مرة أخرى , تلك سنة الحياه لقاء وفراق وهلم جرا ..
ــ سنلتقى بإذن الله إن مد الله فى أجلنا , أتعلم أن نفرا من أخوالى الأزد يقيمون بالفسطاط منذ زمن ؟.
ــ أعرف أن قبيلة من الأزد تقيم فى "خطة بنى بحر" قريبا منا , لكنها المرة الأولى التى أعرف فيها أنهم أخوالك ..
ــ إنهم أخوالى تفرقوا ما بين مصر والشام واليمن , منهم يزيد بن أبى حبيب الأزدى مفتى مصر وشيخها فى عهد عمر بن عبد العزيز ..
ــ لله دره , أهو من أحوالك إذن !. كان رحمه الله فيما أعلم عالما محدثا ثقه , إنه أول من أظهر العلم فى مصر , وتكلم فى مسائل الحلال والحرام , وهو أحد ثلاثة عهد إليهم عمر بن عبد العزيز بالفتيا , وأخذ منه وحدث عنه فقيه مصر الليث بن سعد , وقال عنه إنه سيدنا وعالمنا وزاهدنا ....
ودع صاحبه متمتما فى سره بعد أن عانقه والدموع تتلجلج فى عينيه ......
ــ أجل , سوف نلتقى أيها الصديق الحبيب .. لن أنسى أبدا كلمات أمى لى والتى قالتها لى مرات .............. يا ولدى .. سينتهى المطاف بك فى مصر ........

يتبع .. إن شاء الله ............................

aml samy
20/02/2009, 22h16
سيدى
د.انس
لشد ما كانت دهشتى عندما وقعت عيناى على ملحمتكم الجليلة
وكيف لم انتبه اليها من قبل
لقد اكتشفت في شخصكم جانبا آخر
لايقل تالقا بل ربما بز باقى مواهبكم الجمة
اننى ما ان دلفت الى النص وشرعت
فى تتبع السرد حتى الفيتنى امام احدالمؤرخين الموغلين فى علم التاريخ
واحد الادباء المالكين لفن الحبكة الروائية
المتمكنين من فن السرد
المالكين لناصية اللغة
تحكم النص ولا تدعه يفلت من يديك
او يجرك الى اسهابات تبعدك عن اصل الفكرة
تغلف النص يغلالة من القداسة تناسب مقام الشخصية موضوع السرد وزمانها
تنطق بلسان الشخصية وكانك قريب منها
تعلم خباياها ومكنون نفسيتها
تتلمس فى كل سطر تقواها وورعها
حلمها وعمق علمها
كامهراساتذة علم النفس
تعكس الخلفية التاريخية كمن عايشها عن قرب
وذاق افراحها واتراحها

فهنيئا لناكاتبنا و مؤرخنا الجديد
كم هنئنا بعم السميعة
والان اترككم لاعيش باقى احداث ملحمتكم
دمت لنا

د أنس البن
21/02/2009, 16h54
الأستاذه أمل سامى
لا أجد كلمات أشكرك بها أو أرد بها على كلماتك المحترمه الراقيه والتى أرى أنك أعطيتينى من خلالها أكثر بكثير من حقى
عموما بارك الله فى ذوقك وخلقك الرفيع وأدبك الجم ولغتك الجميله ........

د أنس البن
21/02/2009, 16h54
@ بدا سعيدا وإلى جواره امرأته حميده وهما ينطلقان براحلتيهما جنوبا إلى أرض اليمن , فى الوقت الذى كان فكره منطلق فى رحلة موازية عبر التاريخ لتلك البلاد اصطلح القدماء على تسميتها البلاد العربية السعيده , عرفت تقدما حضاريا كبيرا قبل ألفى عام من ميلاد المسيح عليه السلام , يضعها فى مصاف الحضارات الأولى الضاربة جذورها فى أعماق التاريخ , ساعد على ذلك مناخها المعتدل وكثرة أمطارها وخصوبة وديانها وسهولها , مما دفع الى زيادة الهجرات إليها من الشمال والغرب وازدهار الزراعات في أراضيها .. واليمنيون القدامى كانوا يزرعون السفوح بعد تحويلها إلى مدرجات ويحفرون الآبار والصهاريجفى الصخر ويقيمون السدود على مجارى سيول الأمطار , وحتى اليوم لا تزال بقايا المئات من هذه السدود قائمة أشهرها سد مأرب العظيم .. إلى جانب ذلك كانت تلك البلاد سوقا تجارية كبيره وفيها صناعات كثيره ومنا ما اشتهرت به مثل السيوف اليمانيه والرماح الخطيه وصياغة الحلى مع الأحجار الكريمه والنسيج واستخراج الذهب وغيره من المعادن ..
تتابعت على مخيلته صورة هذه البلاد بما تحويه من معابد قديمه وقصور أثري ذات طوابق وقلاع وحصون وأسوار أقيمت حول المدن , كم سمع كثيرا من جده عبيد الله الأزدى وهو يحكى له تاريخ بلاد آبائه وأجداده الأزد وموطنهم الأول قبل أن يتفرقوا فى البلاد , عرف منه أن اليمنيين رغم عروبتهم إلا أن عاداتهم تختلف كثيرا عن تلك التى تربى الشافعى ونشأ عليها فى مكة والمدينه , ذلك لاختلاف المناخ والبيئة فضلا عن قرب اليمن من أرض الحبشه , لم ينس أبدا وهو فى سياحته الفكريه أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عن اليمن ومدحه لأهلها .... لم ينس أنه "صلى الله عليه وسلم" وصفهم بأنهم أرق أفئدة وأضعف قلوبا وأن الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانيه ..
أخيرا إنتبه بعد عودته من رحلة التاريخ التى مرت على خاطره مر السحاب فى لحظات قليلة خاطفه , وهو يتحسس فى جيبه الكتاب الذى أعطاه له صاحبه المصرى من أمير المدينه لنظيره فى اليمن , ها هى الفرصة قد جاءت إليه لللعمل بالقضاء بعد أن جمع ووعى علوما جمه من شيوخ الحرمين تؤهله لتولى مقاليد هذا العمل الجليل , صارت لديه مقدرة على استنباط الأحكام والفتاوى والفصل فى المظالم على قاعدة أصيلة من أحكام الكتاب والسنه , فرصة أخرى جاءته فى تلك الرحلة ليمارس هوايته المحببة إليه ويشبع نهمته فى البحث عن منابع العلم وينابيع المعرفه , ويتعرف على علمائهم وفقهائهم وينهل من علوم أخرى برعوا فيها بخلاف علوم الدين والشريعه , من ذلك علوم الطب والفراسة والفلك ........

يتبع.. إن شاء الله ............................





.. يحي الطالبى ..

@ خرج من داره ميمما صوب قصر الخلد لمقابلة الرشيد , وهو يحلق مسرورا فى آفاق من السعادة وسموات النشوى فخورا بما يحمله فى حافظته من أنباء , أخيرا تمكن الفضل بن الربيع من التقاط الخيط الأول الذى يوصله لهدفه ومراده , كم كان يطمح أن يكون أقرب رجل إلى قلب الرشيد ومجلسه وصاحب الوزارة الأولى , لم يمنعه عن ذلك إلا عقبة كؤود حالت بينه وبين طموحاته وتحقيق آماله , البرامكه القادمين إلى بلاده من فارس وعلى رأسهم الأخوين الكبيرين الفضل وجعفر وهما أقرب المقربين منهم إلى قلب الرشيد وعقله , كان يكرههم كراهية التحريم بل أشد , وكان ثمة صراع خفى يدور بين الفريقين , كل واحد يتربص بالآخر منتظرا أن تواتيه الفرصة التى ينقض فيها بلا رحمة على غريمه انقضاض الصقر على فريسته حتى تخلو له الساحة فى بلاط الرشيد ..
وفى لقائه معه فى رحلة الحج قبل ثلاثة أعوام , روى الفضل لصديقه الشافعى قصته مع البرامكه وهو يبثه همومه ينفث عما يضيق به صدره ولا ينطلق لسانه , لم يكن له أن ينطق بمثل هذا الكلام أو يبث شكواه لأى مخلوق فى العراق مهما تكن ثقته فيه أو قرابته منه , ما أهون قطع الرقاب فى تلك البلاد لأدنى شبهة , وما أكثر الرؤوس التى أطاح بها سيف مسرور الفرغانى سياف الرشيد , قال للشافعى صديق الصبا فى ذلك اللقاء .............
ــ أنت لا تعلم يا صاحبى كم بلغت سيطرتهم على زمام الأمور فى البلاد وعلى رأسهم الفضل وجعفر ولدى يحي , أموال الجباية وخيراتها كلها صارت ملك أيديهم يتحكمون فيها وفق أهوائهم ومشيئتهم , الرشيد نفسه لا يستطيع أن يتوصل إلى اليسير منها إلا بإذنهم , وفى مرات كثيره لا يسمحون له حتى بهذا اليسير ..
تملكه العجب وهو يسأل صاحبه ........
ــ لهذه الدرجة وصل نفوذهم ؟. عجيب والله ..
ــ وأكثر من هذا , نفوذهم السياسى طغى على نفوذ الخليفه , مرات كثيره كنت أتصور وأنا فى حضرة الرشيد أنهم هم الحكام الحقيقيون والرشيد مجرد واجهة فحسب , لكنهم على كل حال يبدو أنهم لم يتعلموا من دروس من سبقوهم ولم يعوا أحداث الماضى القريب , غاب عنهم ما فعله أبو العباس السفاح الخليفة الأول مع الوزير الخلال ومن بعده الخليفة المنصور مع وزيره أبى أيوب الموريانى والمهدى مع يعقوب بن داود , حتما سيأتى دورهم ليذوقوا من كاس الصاب والردى .........................................
حث الخطى نحو قصر الخلد ومعه طرف الخيط الذى يحقق به بغيته , تمكن بفضل دأبه وجهود رجاله أن يتحصل على معلومات لها خطرها وأن يعلم أمورا خفيت على غريمه الفضل بن يحى , فى شأن يحى بن عبد الله الطالبى الذى تحدثنا فى شأنه قبل ذلك وكيف أن الرشيد أمر له بقصر يعيش فيه وأهله معززا مكرما بعد أن وعد بالتخلى عن أطماعه فى الحكم , وأمر الفضل بن يحى البرمكى أن يقوم على شئونه وأن يضعه تحت رقابة دقيقة لا يغفل فيها عنه .. إلا أن غريمه الفضل بن الربيع تمكن دس بعض رجاله فى قصر الطالبى من العاملين فيه ليكونوا عيونا له , أملا فى أن يتحصل على أسرار تحقق له ما يريد .. ولدى دخوله على الرشيد قال بعد أن حيا وسلم .............
ــ مولاى أمير المؤمنين , أحمل معى انباء أعتقد أنها تهمكم ..
ــ تكلم يا أبا العباس , هات ما عندك ..
ــ تعلم يا مولاى أنى عينك الساهره التى لا تغفل ولا تنام و .....
قاطعه الرشيد وقد بدا ضجرا مهموما غير مكترث به أو بما سيقوله , كان يحمل من الهموم ما تنوء به الجبال .........
ــ مالك يا ابن الربيع , تكلم ولا داعى لأن تسترسل فى مقدمات أعرفها ..
ــ علمت يقينا من مصادرى معلومات مهمه عن يحي بن عبد الله الطالبى , وتأكدت بنفسى قبل أيام من صحتها ..
إعتدل فى جلسته وقد تبدلت ملامحه وبدا عليه الإهتمام والفضول وهو يسأل بصوت محتبس, .....
ــ إعتدل فى جلسته وقد تبدلت ملامحه وبدا عليه الإهتمام والفضول وهو يسأل بصوت محتبس .....
ــ تقول من ؟. الطالبى , ألم نفرغ منه ومن خصومته لنا بعد أن أعطيناه الأمان وأعلن ولاءه , ونسى حلم الخلافة والحكم ؟.
ــ ليس بعد يا أمير المؤمنين , ليس بعد , لا زال الحلم يراوده ولا زالت أطماعه فى الخلافة قائمه , إنه ابن آبائه وأجداده بنو طالب ..
ــ وماذا يملك من وسيلة أو حيلة لتحقيق ذلك وهو بين أيدينا وتحت عيوننا , إن رجالنا يرقبونه لا يغفلون عنه ساعة واحده , أليس كذلك ؟.
ــ معذرة يا يا مولاى , إضطررت لأن أكلف بعضا من أخلص رجالى يراقبون داره من الداخل والخارج لما علمت بتراخى أولئك الحراس الذين وضعهم البرمكى , وشددت عليهم أن يرقبوا منافذ داره طوال ساعات الليل والنهار لايغفلون عنها طرفة عين , إستمروا فى عملهم وظلوا على تلك الحال منذ كلفتهم إلى أن جاءونى بالنبأ اليقين ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ علمت أنه لا يكف عن عقد لقاءات فى داره فى جوف الليل مع كثير من أنصاره وشيعته , بعضهم غريب عن البلاد ..
ــ أواثق مما تقول ؟.
ــ كل الثقة يا أمير المؤمنين ..
ــ هل لديك دليل على ما تدعيه ؟.
إرتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة وهو يقول
ــ أجل يا مولاى , وهل كنت أجرؤ على أن آتيك بدونه , بالأمس فقط وقع فى يدى الدليل على صدق ما أقول , لقد دأب منذ بضعة أشهر على استقبال أشخاص ملثمين , علمت بعد متابعتهم وتعقبهم من عيوننا أنهم من البربر الذين يسكنون بلاد المغرب , يقدمون إليه برسائل من أمير بلادهم ..
ــ آه .. من أخيه إدريس بن عبد الله , الذى تمكن من الفرار منذ سنوات وأسس دولة هناك باسمه , لكن لم تقل لى عن الدليل الذى تزعم أنه معك ..
مد يده فى جيبه وأخرج رسالة مطويه
ــ تفضل يا مولاى ..
ــ ما هذا , إنها رساله ..
ــ أجل , بالأمس قام رجالى بترقب قدوم بعض أولئك الغرباء , وأمسكوا بهم قبل أن يدخلوا دار الطالبى , قاموا بتفتيش ملابسهم حتى عثروا أخيرا على هذه الرساله ..
أخذت عيناه تمر على سطورها وعلامات الغضب والحنق ترسم خطوطها شيئا فشيئا على وجهه , مزجت بقدر غير قليل من الألم والحزن , تأكد له صدق ما جاء به وزيره وأن غريمه ضالع فى التآمر عليه , أكثر حزنه وأسفه كان من وزيره الأول الفضل بن يحي البرمكى أكثر منه من خيانة يحي الطالبى ..
طوى الرسالة وأخذ يحدث نفسه والأسى يكسو وجهه ......... كان الأولى أن يأتينى البرمكى بهذ الرساله , وأن يعلمنى بكل ما يحاك من فتن ودسائس فى مهدها , أجل , هو الذى يتولى أمره ويقوم على خدمته ومراقبته , إنه كان أقرب رجالى المخلصين إليه , كيف سمحت له نفسه أن ينسى ما أمرته به وأكدت عليه , كيف حدثت كل هذه المؤامرات والفتن فى غفلة منه , ماذا كان ينتظر ؟......
أخذ الفضل يرمقه بعينه وملامح وجهه تكاد تفضح مشاعر السعادة والغبطة التى غمرت وجدانه , وقد أدرك بدهائه ما يدور فى رأس الرشيد وما يحدث به نفسه .. أخيرا تمكن من وضع بذرة الكراهيه فى قلبه على أحد أقطاب البرامكه وأن يدق أول مسمار فى نعوشهم , لم يبق إلا أن يقتفى أثر القطب الثانى , الفتى المدلل جعفر بن يحي وأن ينقب فى حياته عله يعثر على بغيته .. لقد تمكن من قلب "العباسه" أخت الرشيد وأحب أهله إليه , لم يجد الرشيد حيلة وهو لا يقدر على مفارقة الإثنين , إلا أن يزوجها له زواجا صوريا ليحل له النظر إلى وجهها فى مجلسه , كان شرفا كبيرا أن يظفر مولى من موالى الفرس مهما تكن منزلته أو مكانته , بالزواج من هاشمية من الأشراف ..
مرت لحظات ثقيلة من الصمت والترقب كان كل واحد منهما يحدث فيها نفسه بما تختلج به من هواجس وظنون , بعدها نظر الرشيد لوزيره فى وجوم متسائلا .....
ــ ماذا فعلت مع أولئك البربر ؟.
ــ تحفظت عليهم فى السجون فى انتظار ما تأمر به , إن شئت أجهزت عليهم فى التو ..
ــ لا , لا , ليس بعد ..
إستدرك متسائلا ..........
ــ هل علم الطالبى بما حدث ؟.
ــ أبدا , لم يعلم بشئ حتى اللحظه , أخفينا عنه خبر القبض عليهم وجعلناه يطمئن إلى أن كل شئ يجرى وفق هواه ..
ــ حسن , نعم ما فعلت , دعوا الأمور تمضى كأن شيئا لم يكن , لكن ضاعف الحراسة على قصره , ولا تسمحوا لأحد أن يقترب من أبوابه , حتى إذا أصبح الغد خذ معك قائد الشرطه واقبض عليه وعلى كل من فى الدار من أهله وأشياعه , ضعوهم جميعا فى السجون , أما الطالبى أحضره بنفسك إلى هنا .........


@ لم تكد تطلع شمس اليوم التالى , إلا وفرقة من الحراس على رأسهم قائد الشرطه , يحضرون يحي الطالبى مقبوضا عليه إلى حيث ديوان هارون الرشيد , وقف أمامه شامخا صلبا رغم القيود والأغلال التى أحاطت بمعصميه وقدميه , خاطبه فى كبرياء وأنفة ............
ــ لم أمرت بحبسى وتعذيبى يا أمير المؤمنين , أنسيت أننا أهل بيت واحد , بيننا قرابة ونسبا ولسنا بترك ولا ديلم , أذكرك الله وقرابتنا من رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
قاطعه شامتا ساخرا أمير المدينه بكار الزبيرى من ولد عبد الله بن الزبير , وهو الذى يكن كراهية شديدة لآل أبى طالب ...............
ــ دعك من هذا التخابث يا هذا ... لا يغرنك يا مولاى كلام هذا المتمرد الدعى بعد أن شق عصا الطاعة والولاء وأفسد علينا مدينتنا بعصيانه وتمرده ..
إحتد وهو يلوح فى وجهه بيمناه مبادلا سخريته بأكثر منها ونبرات صوته ترتفع شيئا فشيئا ..........
ــ يا هذا , تقول أفسدت عليكم مدينتكم !. من أنتم عافاك الله ؟. إنما بآبائى وآبائه (وأشار إلى الرشيد) هاجر جدك عبد الله بن الزبير إلى المدينه , الناس نحن وأنتم يا أمير المؤمنين , والله ما يسعى بنا إليك هذا المنافق نصيحة لك , والله ما أراد إلا مزيدا من الفرقة بيننا ..
كاد الرشيد يرق فلبه وتلين نفسه لكلماته وهو يرقبه صامتا , بينما فى داخله تدور رحى صراع بين معتقداته التى ورثها عن آبائه وأجداده بنو العباس وأنهم الأحق بالخلافه , وبين النخوة القرشية الهاشميه التى استطاع غريمه أن يحركها واحد من أبناء عمومته فى نفسه وقلبه , بكلماته التى كانت رمية رام كادت تصيب هدفها , لكنه سرعان ما ثاب إلى رشيده وحسم الأمر بوجه متجهم جامد القسمات , وعادت النظرة النارية الغاضبة إلى عينيه وهو يشير بيده إلى الفضل بن يحى البرمكى , أن يعيده حراسه إلى محبسه ولسان حاله يقول ..... يا ترى ما أنت فاعل هذه المرة يا ابن برمك , لم يشأ أن يعاتبه أو يلومه على تقصيره مؤجلا ذلك لحاجة أسرها فى نفسه ..
وعلى الجانب الآخر من القاعة وقف الفضل بن الربيع ينظر إليه من طرف خفى , مجاهدا فى إخفاء مشاعر السرور والنشوة التى ملكت جوانحه , كل الأمور تمضى وفق هواه وعلى مراد نفسه , أدرك هذا اللئيم الداهية ابن آبائه ما يرمى إليه الرشيد من تكليفه غريمه البرمكى أمر يحى الطالبى , كأنه يعطيه الطعم الذى سيوقعه فى الفخ الذي يصطاده به .........................

إنتهى الفصل الثانى من السيره

ونبدأ بعد ذلك فى رواية أحداث الفصل الثالث
إن شاء الله

****

****

علاء إسماعيل
24/02/2009, 23h00
الأستاذ المبدع د.أنس البن
لا تدري كم أثلج صدري هذا السرد الراقي لسيرة الإمام العلم شيخي و إمامي أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي.
حُييتَ أستاذنا و لعلك تسرد لنا بأسلوبك الأخاذ بعض المواقف التي وردت بها أشعار الإمام الشافعي.
تحياتي لكم
علاء إسماعيل
المصري موطنا القاهري إقامة الأزهري إجازة الشافعي مذهبا راجي عفو الله دنيا و أخرى

د أنس البن
25/02/2009, 10h07
أخى الشيخ علاء إسماعيل
أشكرك على كلماتك الراقيه والتى أسعدتنى كثيرا لأنها بقلم واحد من رجال الأزهر , وما أدراك ما الأزهر , ورغم أن والدى رحمة الله عليه كان من قدامى الأزهريين وكان حاصلا على درجة العالميه وإجازة التدريس من كلية الشريعه وكان يجهز لرسالة الأستاذيه كما كانوا يطلقون عليها فى تلك الأيام لكن حالت بينه وبين إتمامها ملمات شديده لا مجال لذكرها هنا , ورغم أنه كان أيضا شافعى المذهب
إلا أنى مذ بدأت فى نشر هذه الصفحات أصارحك القول كنت أترقب قلما أزهريا وأتوجس فى نفسى خيفة منه لعلمى بحساسية الكتابة عن الأئمة الأعلام خاصة لو كان فيه جانب روائى ممتزج بقدر من الخيال , من هنا كانت سعادتى برأيك واحتفائى به , واهلا بك فى سماعى , ونكمل سيرة الإمام .....

د أنس البن
25/02/2009, 10h07
الفصـــل

الثالــث

قاضـى نجـران


@ ذاع صيت الشافعى حتى تعدى منطقة نجران وما حولها إلى سائر أقطار اليمن الأخرى , تعطرت بسيرته الطيبة ومثاليته آفاق الجزيرة العربية طولا وعرضا . والناس فى نجران من أولئك الذين تغلب عليهم الطيبة والوداعه , لم يكن هناك حديثا لهم فى بيوتهم , متاجرهم , أسواقهم أو منتدياتهم وأينما جمع بعضهم مكان إذا ذكر اسمه أو جاءت مناسبته إلا عن عدالته وأحكامه القاطعة التى لا يجامل فيها أحدا . يتناقلون فيما بينهم حكايات كثيرة عن الدعاوى التى حكم فيها قاضيهم الجديد , كيف بهرهم بتوقد ذهنه وحضور بديهته وقدرته على المحاورة ومناقشة الشهود , عن تمكنه من الإحاطة بمصادر التشريع كلها واستخراج الأحكام العادلة النزيهة فى مهارة وحنكة من بطونها ..
لكم قاسى أهل نجران الطيبين البسطاء من عسف وجور القضاة والولاة السابقين وخضوعهم لذوى النفوذ وأصحاب الجاه والسلطان . إلا قاضيهم الشافعى رأوا فيه صورة أخرى من التقوى والورع والعدل والإنصاف , والتفانى فى آداء الواجب وإقامة ميزان العدل ..
كان الشافعى قد تسلم عمله من قاضى القضاه ورئيس جماعة القضاة باليمن مصعب بن عبد الله القرشى الذى اختار له ولاية نجران ليكون قاضيا عليها بعد أن استضافه فى داره التى تقع فى صنعاء بضعة أيام . ولأن غريزة حب العلم كانت مستحكمة فى نفسه تلازمه كظله لا تفارقه أينما حل وارتحل فقد وجدها الشافعى فرصة قبل أن يرحل شمالا إلى هذه الولاية الوادعة أن ينهل فيها ما تيسر له من علوم هذا الشيخ الجليل وهو أحد الفقهاء الأعلام . تعرف من خلاله على فقه أهل اليمن واستمع إليه وهو يوصيه قبل أن يودعه إلى مقر عمله قائلا له وهو يشد على يديه ...................
ــ أذكرك يا أبا عبد الله بكتاب الفاروق عمر بن الخطاب إلى قاضيه أبى موسى الأشعرى حيث قال له : “ إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعه . فافهم إذا أدلى إليك وانفذ إذا تبين لك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له . وسوى بين الناس فى مجلسك ووجهك وعدلك حتى لا يطمع شريف فى حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك . البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين الناس إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا . ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وهديت فيه رشدك أن تراجع الحق , إن الحق ومراجعته خير من الباطل والتمادى فيه . والفهم الفهم فيما تلجلج فى صدرك مما لا يبلغك فى الكتاب والسنه . وعليك بمعرفة الأمثال والأشكال ثم قس الأمور عند ذلك ثم اعمد لأحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى . إجعل للمدعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت عليه القضاء . وإياك والقلق والضجر والتأذى بالخصوم فى مواطن الحق التى يوجب الله بها الأجر ويحسن الذكر . فإنه من صلحت سريرته فيما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس” .. هيا يا ولدى على بركة الله وأظنك ستفعل إن شاء الله , إنى أتوسم فيك التقى والصلاح والفهم ..

@ وفى أول يوم له فى دار القضاء تعرف على جماعة العاملين معه بعد أن اجتمع بهم . بعدها انتحى جانبا بكاتب القضاء زيد بن عيسى الذى يعمل تحت إمرته ويعاونه فى عمله قائلا له ..............

ــ إسمع يا زيد , أنت أعرف الناس بأهل هذا البلد وأحوالهم ..
ــ أجل يا سيدى القاضى ..
ــ عظيم , أريد منك أن تجمع صفوة رؤوس العائلات وشيوخ القبائل فى نجران , أبلغهم جميعا دعوتى إلى لقاء هنا فى دار القضاء فى الغد .. لدى كلام مهم أود أن أقوله لهم ..
فى اليوم التالى جاءه زيد برفقته جمع من صفوة العائلات وشيوخ القبائل . وفى اجتماعه بهم فى دار القضاء قال لهم................
ــ تعلمون يا سادة نجران أنى حجازى من مكه .. لا أعرف الناس هنا فى بلادكم .. ولا علم عندى بأحوالهم . سيأتينى الشهود فى قضايا الناس ولا علم لى إن كانوا عدولا صادقين أم غير ذلك . المسلمون كلهم عدول إلا من كان مجلودا فى حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا فى ولاء أو قرابه ..
سأله أحدهم ...............
ــ ماذا علينا فعله يا قاضى نجران ؟!.
ــ أريد منكم أن تختاروا سبعة رجال من خيرة أهل هذا البلد , ممن تثقون فيهم ثقة كاملة .. يكونون عونا لى فى مجلس القضاء ..
سأله آخر ................
ــ ليتك تبين لنا كيف يكونون عونا لك فى مجلس القضاء ؟!.
ــ ستقع عليهم مهمة النظر فى أحوال الشهود , يزكونهم أو يشهدون عليهم .. فمن عدلوه منهم يكون عدلا , ومن جرحوه يكون مجروحا , كم من صاحب حق ضاع حقه بسبب شهادة الزور . عندما يستقر اختياركم على هؤلاء الرجال إئتونى بهم ..
@ وفى لقائه بهؤلاء السبعة الأعوان من صفوة الرجال إبتدرهم الشافعى ......
ــ أيها الرجال .. يقول الله جل ثناؤه "وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله" وقال تعالى "ممن ترضون من الشهداء" .... إعلموا أيها الرجال أنكم الآن أهل الصلاح فى الجماعه , كونوا عونا لنا فى إرساء قواعد العدل والإنصاف , ورد الحقوق السليبة إلى أصحابها , ورفع الظلم عن المظلومين ..
سأله واحد منهم .........
ــ نحن رهن إشارتك فى كل ما تأمرنا به , لكنا بين لنا حقيقة عملنا ؟!.
ــ سوف تقع عليكم أيها الرجال مهمة النظر فى أحوال الشهود إن كانوا عدولا أو زورا . إنها ليست مهمة هينة أبدا ..
ــ ليتك تزيدنا إيضاحا وبيانا ؟!.
ــ إعلموا أن الشاهد لا يكون عدلا , إلا إذا كان عاقلا وقت حدوث ما يشهد عليه . بالغا وقت الشهاده لا وقت حدوث ما يشهد عليه . وألا يكون فى شهادته طالبا لمغنم أو دافعا لمغرم . وألا يكون خصما أو ظنينا , وأن يكون مسلما إن كان المشهود عليه مسلما . وألا يكون فاسقا قد سبق حده فى قذف أو خلافه . ولا تجوز شهادة المملوك ولا شهادة الكافر أو الصبى ..
سأله آخر ................
ــ هل هؤلاء فحسب هم الذين ترد شهادتهم ؟!.
ــ الذين ذكرتهم سلفا ترد شهادتهم جميعا بإطلاق لا استثناء فيهم . لكن هناك آخرين يطول الكلام بنا الآن فى تفصيل أحوالهم , مثل الشعراء وأهل اللعب وأهل الأشربة وأهل الأهواء وأهل العصبية , ومتى تجوز شهادة من أقيم عليه الحد وغيرهم ..
ــ معذرة سيدى القاضى , أنت تعلم أن الشعر يجرى على ألسنة الناس هنا كالماء الجارى , وأنت ذكرت الآن ضمن ما ذكرت طائفة الشعراء . ليتك توضح لنا حالهم وهل ترد شهادتهم بإطلاق , أم يؤخذ بشهادة بعضـهم ؟!.
ــ الشعر أيها الإخوان كلام كأى كلام , حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام .. غير أنه كلام باق سائر , فذلك فضله على سائر الكلام . فمن كان من الشعراء لا يعرف بنقص المسلمين وأذاهم , أو إذا مدح أكثر الكذب فمثل هذا لا ترد شهادته . هذا حكم عام ولسوف أشرح لكم أحوالهم تفصيلا فيما بعد..
ــ أكرمك الله أيها القاضى وزادك علما ومعرفة , والله ما أحوجنا لمعرفة مثل هذه الأمور والتفقه فيها ..
ــ لى مطلب أخير ..
ــ لك الأمر وعلينا الطاعة أيها القاضى القرشى ..
ــ عليكم أن تختاروا واحدا من بينكم , يتحدث باسمكم فى مجلس القضاء ………

@ أرسى الشافعى نظاما جديدا فى القضاء لم يعهده الناس من قبل , يجرى مجالس القضاء يومان كل أسبوع , فى موضع بارز علانية على أعين القوم لا يجعل دونه ودونهم حجابا أو ساترا . فى هذا المجلس الذى يتصدره الشافعى يجلس إلى جواره كاتبه زيد , أمامه سجل يدون فيه الدعاوى والأحكام , ويسجل فى صفحاته شهادة الشهود . وعلى بابه يقف قائد شرطة القضاء , الموكل بتنفيذ أحكامه , ومن حوله يتحلقه الرجال السبعه الذين هم أهل الصلاح فى الجماعه , حتى تكون صدق شهادة الشهود مسؤوليتهم وأمانتهم . أما جهة الأمام جعلها لأصحاب المظالم والشكايات , يعرض كل واحد مسألته فى مواجهة خصمه . وبعد أن ينتهى من سماع كل القضايا ويناقش الخصوم والشهود , يصدر أحكامه فى نهاية الجلسة مرة واحده ..
بهذا النظام العادل فى نظر القضايا , الذى ساوى فيه بين الناس جميعهم لا تميز عنده لأحد على أحد , صار للشافعى تلك الشعبية الكبيرة بين أهالى نجران , وتمكن من غرس محبته فى قلوبهم وأفئدتهم , فصار لا يلقى منهم جميعا إلا كل التوقير والإحترام . وضع نصب عينيه مقولة الفاروق عمر رضى الله عنـه : “ إن الضعيف فيكم قوى عندى حتى آخذ الحق له , والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه “ . كان يتذكر دائما ما سبق أن قاله الإمام على كرم الله وجهه فى وصيته لمن يتولى القضاء : “ إن على القاضى ألا يكتفى بأدنى فهم إلى أقصاه . وألا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا عرفه . وأن يكون صارما عند اتضاح الحكم , وألا يزدهيه الإطراء , أو يستميله الإغراء “ ..


@ كان أكثر القوم قربا من الشافعى وأدناهم منه مجلسا هو كاتبه زيد بن عيسى . لذلك كان أكثرهم غبطة وسعادة باعتلائه كرسى القضاء , فهو أعرفهم بأحواله وأكثرهم إدراكا لسعة علمه ودقة فهمه , من كثرة ما يرى ويدون من دعاوى وأحكام , مقارنا فى هذا بين نهجه وأسلوبه فى نظر الدعاوى , وبين من سبقوه من القضاة الذين عمل تحت إمرتهم ..
حدث ذات مرة أثناء تناوله عشاءه مع امرأته سعده , وبينهما ابنتهما بدر التى تبلغ من العمر ستة عشر عاما . إذ لمح امرأته بركن عينه وهى تختلس نظرة غامضة إليه تخفى وراءها تساؤلا . هز رأسه باسما ثم سألها دون أن ينظر إليها وهو يلوك لقمة الطعام فى فمه على مهل .......
ــ مالك اليوم يا سعده , ألمح فى عينيك كلاما , وعلى وجهك تساؤلا كأنك تريدين أن تقولى شيئا ؟!.
ردت قائلة وهى تحاول أن تتشاغل بالطعام كأن الأمر لا يعنيها ......
ــ أبدا يا زيد لا شئ , إنما يتهيأ لك ..
قال باسما فى سخرية .............
ــ يتهيأ لى !. ربما أنت أدرى بحالك !. نبرة صوتك تدل على غير ذلك ؟!.
ــ إيه , أوحى تدعيه , أم فراسه يا رجل ؟!.
ــ لا هذا ولا ذاك , إنما أنا أعرف الناس بأحوالك . من ذا الذى يعرف دخيلة نفسك مثلى يا أم بدر ؟!.
ــ قلت لك لا شئ .. غير أنى ...
قاطعها على عجل مشجعا ..............
ــ هيـه أرأيت !. غير أنك ماذا ؟!.
ــ غير أنى , فى عجب من أمرك أيها الرجل !.
ــ من أمرى أنا !. ألم أقل لك إن فى الأمر شئ !. هيه ما هو هذا الذى أنت فى عجب منه يا أم بدر , هلا أفصحت بالله عليك ؟!.
أجابت مترددة وهى تقدم كلمة وتؤخر أخرى .............
ــ ألاحظ هذه الأيام . يعنى .. تغيرا فى أحوالك .. لا أدرى له سببا ..
ــ ما زلت لا أفهم بعد . كيف ذلك يا امرأه ؟!.
ــ يعنى . أراك تدخل وتخرج علينا هذه الأيام , مبتهجا , مسرورا , سعيدا على غير عادتك ..
ــ هيه ثم ماذا ؟!.
ــهذا كل ما فى الأمر ..
ــ أى أمر تقصدين , لم أفهم بعد ؟!.
ــيعنى !. كنت أود معرفة سر هذه السعادة التى طرأت عليك مرة واحدة وملأت عليك حياتك ..
ثم أردفت فى لهجة ساخرة ........
ــ ليتنانسعد معك نحن كذلك ؟!.
أجابها وهو يضحك مازحا .............
ــ ومن قبل يا امرأه , كيف كنت أبدو لكما !. متجهما عابسا كئيبا مثلا ؟!.
قال ذلك وهو ينظر لابنته متمما ............
ــ أسمعت يا بدر . أسمعت يا ابنتى ما تقول أمك, أم أنك أنت الأخرى ترين مثلها تغيرا فى أحوال أبيك كاتب القضاء ؟!.
ــ معذرة يا أبى , إن أردت الصدق منى , أمى لم تقل إلا الحقيقه . أجل الحقيقة التى لا مراء فيها ..
ــ حتى أنت يا بدر , تأبين إلا أن تكونى فى صف أمك دائما ؟!.
إنبرت امرأته معقبة ..........
ــ لا تظلمها يا رجل , والله ما شهدت إلا بالحق , أجل إنك خالفت ما عودتنا عليها زمنا . كم من مرات كثيرة تدخل علينا عابسا مهموما كأنك تحمل على كتفيك هموم الدنيا بأسرها , أنسيت أم أنك بحاجة كى أذكرك ؟.
عاود سؤال امرأته دون أن يرد عليها وهو لا يزال يغالب الضحك ......
ــ وهل يا ترى أحزنك هذا التغير يا امرأه . أتحبين أن أعود لما كنت عليه عابسا متجهما كماتزعمين أنت وابنتك , أم ماذا تقصدين ؟.
سارعت بالرد معقبة .............
ــ لا والله يا زيد لا أقصد شيئا من هذا , أبدا ليتك تظل هكذا . إنما أردت أن أسأل عن شئ أثار انتباهى فى الآونة الأخيره ..
قال مداعبا ...........
ــ مالك تؤكدين على قولك .. فى الآونة الأخيره . إيه يا امرأه ماذا دهاك , أأكون قد تزوجت بأخرى مثلا ؟.
ــ يا رجل ألا تكف عن مزاحك هذا ؟. هلا أجبتنى حقيقة عن سبب هذا التغير فى أحوالك , وإقبالك على العمل فى همة ودأب هذه الأيام , الأمر الذى لم نعهده فيك من قبل ؟.
إكتسى وجهه ملامح الجد والإهتمام وهو يمسح فمه ويديه من بقايا الطعام قائـلا ...........
ــ أجل صدقت والله يا سعده , أنت وابنتك ما قلتما إلا الحقيقه . إنما كنت أمازحكما , لم لا أكون سعيدا بل أسعد الناس فى نجران , بعد أن هبطت علينا من السماء , وبعد طول صبر , نعمة عظيمة ودرة غاليه ..
تلفتت حواليها قائلة .............
ــ نعمه ؟!. أين هى هذه النعمة التى تزعم إنها هبطت علينا من السماء , إننى لا أرى شيئا ؟!.
ــ إنها النعمة التى بسببها إنزاحت عنى أخيرا هموم جمه . آه كم حملتها سنوات على كتفى هاتين ..
قاطعته امرأته قائلة ...........
ــ عن أية هموم تتحدث يا أبا بدر , أثرت مخاوفنا والله . أنت تتكلم اليوم بألغاز لا أفهمها ..
انبرت ابنته متسائلة فى لهفة هى الأخرى .......
ــنعم يا أبت ,أثرت فضولنا , ماذا تقصد بكلامك هذا ؟.
ــ سأشرح لكما الأمر . إننى أقصد بكلامى قاضى نجران , ذلك الرجل الورع التقى النقى الحليم الذى شرفت به بلادنا ..
ــ من !. محمد بن إدريس الشافعى ؟. حقا إن سيرته الطيبة على كل لسان , لا حديث للناس هذه الأيام إلا عن أحكامه العادله . إنه حقا كما قلت نعمة من نعم السماء على بلادنا كلها ..
ــ يا أم بدر , لقد عملت تحت إمرة قضاة ثلاثة قبله , لم أر من بينهم مثل هذا الرجل المكى فى تقواه وورعه . إنه ليس قاضيا حكيما مقسطا فحسب , بل إنه قوى فى الفضيلة والعفة أيضا ..
قالت بدر فى فضول ............
ــ شوقتنا يا أبت لسماع المزيد عنه ..
ــ أجل يا ابنتى إنه رجل متواضع فى غير ضعف , لا يستكبر عن مشاورة من يجدهم معه من أهل العلم , ولا يتعجل فى إصدار أحكامه بل يتأنى فيها . وغير هذا وذاك , وقور مهيب , لا يخشى فى الله لومة لائم ..
تساءلت سعده ...........
ــ وكيف حاله فى مجلس القضاء يا زيد ؟.
ــ آه .. إنه فى مجلس القضاء مثال الحسم والسكينة والوقار , حسن النطق والصمت . خير من سمعته يتكلم العربيه , كأنها لم تخلق إلا ليجرى بها لسانه . نظره فراسة وتوسم , وإطراقه تدبر وتفهم , حتى ضحكه لا يزيد فيه عن التبسم , أسوة بسيد ولد آدم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ هيه وماذا أيضا يا أبت ؟.
ــ لا يسمع شكاية من أحد إلا فى مواجهة خصمه , متيقظ تماما لحيل الخصوم وألاعيبهم . ومع شدة فراسته وطول باعه فى علوم الفراسه , إلا أنه لا يحكم بفراسته أبدا مع تيقنه من صدقها . لما سألته فى ذلك فى إحدى المرات رد على قائلا ...................................
ــ يا أبا بدر الله تعالى تولى السرائر وعاقب عليها , ولم يجعل لأحد من خلقه الحكم إلا على العلانيه . على هذا فلا يصح لقاض أن يحكم بالفراسة , مهما كان بارعا فيها ومتمكنا من علومها , حتى لا تتعطل الطرق الشرعية فى الإثبات من البينة والإيجاب ..
إستأنف زيد قائلا ..............
ــ إننى أنظر إليه يا أم بدر وهو فى مجلس القضاء , فأراه كأنه يعيد أمام ناظرى إلى بلادنا من جديد , أمجاد الصحابى الجليل معاذ بن جبل عندما تولى قضاء جند اليمن على عهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ; وكما تناقلها أجدادنا وحدثونا عنها ..
ــ رجل يحمل كل هذه الخصال , يجب أن يتولى قضاء صنعاء . ليس هذا فحسب بل يجب أن يكون قاضى قضاة بغداد ..
ــ صدقت والله يا سعده . هيه ألا زلت تعجبين بعد ذلك من مظاهر السعادة التى غمرتنى . إننى والله ما شعرت بسعادة ولا صفاء ذهن, كتلك التى أشعر بها هذه الأيام . قد تعجبين إذا قلت لك أننى أشعر أحيانا أنى أكثر سعادة من هؤلاء المظلومين , الذين ترد إليهم حقوقهم المسلوبة منهم لحظة سماعهم بحكم القاضى الشافعى . كم دوت من قبل صرخاتهم فى جنبات قاعة القضاء . نفس القاعة التى ردت إليهم حقوقهم فيها ولامن مجيب . لهذا السبب كنت تريننى من قبل كئيبا عابسا , مما أشاهده كل يوم من ظلم وعسف وجور ..
سكت برهة ثم أشار لامرأته قائلا ...........
ــ أتذكرين حكاية أم شريك الثقفيه ؟.

يتبع إن شاء الله .............................

عفاف سليمان
01/03/2009, 14h39
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
استاذنا الجميل د(أنس البن)
والاب الروحى لنا
لست ادرى من اى طريق أبدء كلامى
ولكنى أجد فى سردك لنا ما جلعنى أجلس ساعات بين
مفردات كلماتك أغتنم منها حديثا شيقا
فكلماتك هى السهل الممتنع
وسردك لقصة عالم جليل بهذه الروعه
جعلنى انتظر باقى الاحداث
التاريخيه منها والاقتصاديه والانسانيه
فلم تنسى شىء من الاحداث من ما يدور فيها فى تلك الحقبه من الزمن ومن معاصريها فى ذلك الوقت
استاذى وابى الروحى
أنتظر بفارغ الصبر باقى الفصول
أدام الله عليك الصحه والسعاده والهناء
وأعطاك موهبتا تشع نورا وضياء
بالله عليك يا ابت لا تطيل انتظارنا
وتحيا تى لك ولمحبيك
واسعدك الله كما اسعدتنا
ولى رجاء 000أن تطبع هذه القصه وأنشاء الله
يكون لنا منها نصيبا
حتى أستطيع أن اطلع صديقاتىا للاتى لا يدخلن النت
للعلم والتعلم من شيخنا الجليل
ومن سرد حضرتك الجميل
ابنتك عفاف:emrose::emrose::emrose:

د أنس البن
01/03/2009, 17h36
الأخت الصديقه عفاف سليمان
أشكرك على كلماتك الرقيقه وإطراؤك لشخصى الضعيف وحسن ظنك بى , والله يعلم أنى لم أكن أتصور يوما أن تلقى تلك الصفحات استحسانا من أحد , أما عن طبعها فأنا فى الحقيقة غير مهئ للتحرك نحو هذه الخطوه لما تحتاجه من مقدمات كثيره وموافقات منها موافقة الأزهر والمصنفات وغير ذلك , ولتعلمى أنى عندما شرعت فيها لم يكن فى ذهنى أن يطلع عليها أحد ولم أسع إلى ذلك أبدا , غير أن وجودى فى هذا البيت العامر بالأحباب.. سماعى , ربما تجرأت على أن أفعل ماظللت مترددا فيه أكثر من عشر سنوات , واهلا بك فى سماعى , ونكمل سيرة الإمام .....

د أنس البن
01/03/2009, 17h36
سكت برهة ثم أشار لامرأته قائلا ..............
ــ أتذكرين حكاية أم شريك الثقفيه ؟.
ردت سعده قائلة .............
ــ أم شريك . آه .. أليست هى أرملة خليد بن مطرف ؟.
ــ بلى إنها هذه المسكينه , ألا زلت تذكرين حكايتها ؟.
ــ كيف لأحد أن ينساها هل مثلها تنسى حكايتها ؟. لقد ظلت مأساتها حديث نجران زمنا بعد أن مات زوجها وهى لا تزال حاملا فى شهرها الأخير فى ولدها الذى أنجبته بعد وفاته مباشرة . تركها تصارع قوى البغى وحدها فى بحر الحياة دون سند أو معين ..
ــ ولم يترك لها من متاع الدنيا إلا دارا صغيرة تأويها هى ووحيدها , يعيشان تحت سقفها فى دعة وسلام ..
ــ مع قطعة أرض تقوم على زراعتها ..
أكمل زيد قائلا .............
ــ إلى أن ظهر فى حياتها ذلك الرجل الظالم اللئيم , رأس الفتنة والفساد الوليد بن جبير المدانى . إستغل نفوذه وسطوته , وأنه سيد قومه , وضعف الأرملة ووحدتها , وحاول بأساليبه الدنيئة أن يستلبها أرضها التى تجاوره حتى يوسع داره ..
سألته بدر ...............
ــ سمعت يا أبت أنه عرض عليها أن يشتريها منها فى بادئ الأمر ؟.
ــ أجل يا ابنتى , إلا أنها أبت وبإصرار أن تبيعه إياها , مع أنه عرض عليها مبلغا كبيرا من المال هى فى أشد الحاجة إلى أقل القليل منه . لكنها أصرت على عدم البيع , والتفريط فى أرضها التى ورثتها عن زوجها ..
عادت تسأله .............
ــ لم لم تستجب له يا أبت , وتتقى بأسه ..
ــ منعها وفاؤها لذكرى زوجها , كانت حريصة على هذه الأرض التى يذكرها ترابها به , والتى ارتوت سنوات من قطرات عرقه , وبالأيام التى عاشتها معه فيها . كانت محبة له وفية لذكراه , حتى أن ذلك الظالم لما عرض عليها أن يعوضها أرضا غيرها , أبت ذلك أيضا ..
عقبت بدر قائلة ................
ــ بالطبع لما لم ينفع معها إغراء المال , لجأ لأساليبه الوضيعة التى يتقنها هو وأمثاله ..
أكملت سعده ...............
ــ أجل يا ابنتى رفع آنذاك دعوى ملكية لهذه الأرض , وقام بتزوير عقد من زوجها له مدعيا أنه باعها له قبل أن يموت . وجاء بشهود زور من أعوانه يشهدون لصالحه بصحة العقد وسلامة البيع ..
ــ هذه هو ما حدث تماما , وحكم القاضى وقتها بهذه البينة القاطعة بتمكين هذا الظالم من أرض الأرملة المسكينه . لم تفلح صرخاتها أو توسلاتها فى ردها إليها . وقتها لم يجرؤ أحد من أهل المدينة أن يتقدم للشهادة معها ..
قالت سعده ................
ــ من ذا الذى يجرؤ على مواجهة هذا الظالم ومناصبته العداء ..
ــ لكن ربك يمهل ولا يهمل , فما كان مستحيلا بالأمس حدث اليوم يا سعده ..
ــ كيف يا زيد ؟. إحكى لنا بالله عليك ..
ــ بعد أن طردت من أرضها لجأت للشكوى إلى الولاة والأمراء وطرقت جميع الأبواب دون جدوى . الرجل نفوذه كبير والكل يحسب حسابه , أخيرا فوضت أمرها إلى الله واستسلمت لقضائه . إلى أن سمعت بالقاضى محمد بن إدريس وأحكامه العادله وأنه لا يجامل ولا يصانع ولا يخشى من أحد ..
تساءلت بدر فى سعاده ..............
ــ هل تعنى أنها تقدمت بشكوى يا أبت ؟.
ــ أجل يا بدر , قامت بتجديد دعواها وتقدمت بها إلى ديوان القضاء منذ أيام , وفى التو أمر القاضى الشافعى قائد شرطة القضاء بإحضار المدعى عليه للمثول أمامه . واسمعوا ما حدث فى هذه الجلسة التى جرت صبيحة اليوم علانية على الملأ بعد أن طلب القاضى الشافعى مثولهما أمامه سألها ..................
………………
ــ أنت أم شريك الثقفيه ؟.
ــ أجل سيدى القاضى ..
ــ وأنت .. ألست الوليد بن جبير ؟.
ــ بلى أنا الوليد بن جبير المدانى سيد قومى بنو عبد المدان وكبيرهم ..
ــ هيه .. إرفعى إلينا دعواك يا أم شريك , أخبرينا بكل ما عندك ؟.
ـ سيدى القاضى , لى قطعة أرض ورثتها عن زوجى الراحل , كنت أزرعها وأعيش أنا وصغيرى هذا على ما أجنيه من محصولها القليل من قمح أو شعير أو بقل . أبيعه وأشترى بثمنه ما نحتاجه من طعام أو كساء , وندفع ما علينا من خراج أو غير ذلك , إلى أن أتى هذا الرجل , الظالم , الكذاب , الذى لا يخاف الله , الذى .......
قاطعها الشافعى ..............
ــ على رسلك يا امرأه , تكلمى فى دعواك فحسب , لا تعرضى بخصمك فإن هذا مما لا يجوز فعله فى مجالس القضاء , إياك أن تعودى لمثل ذلك , أفهمت ؟.
ــ عفوا سيدى القاضى , لا تؤاخذنى , إنما دفعنى لما قلت ما لاقيته من عنت وهوان . إن هذا الرجل دأب على تهديدى والتحرش بى , يريدنى أن أبيعه رغما عنى أرضى التى ورثتها عن زوجى وأعيش على خراجها . فلما أبيت وأصررت على عدم بيعها له , لجأ إلى الحيلة والكذب وادعى ظلما أن زوجى باعها له قبل موته , وجاء بمن يشهدون معه زورا وبهتانا , حتى أمكنه أن يحصل على حكم باطل ظالم بأحقيته فى الأرض ..
قاطعها بحزم للمرة الثانية ................
ــ حسبك أيتها المرأه , لتعلموا جميعا أيها الناس أن قضاء الإمام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا . قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" [ إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه . فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من نار ] صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" هل أدركتم ما يعنيه رسولنا العظيم أيها القوم ؟.
همهم الحاضرون فعقب فى الحال ..............
ــ هذا الحديث , يدل على أن الأئمه إنما كلفوا القضاء على الظاهر , والحكم على الناس يجئ على نحو ما يسمع منهم مما لفظوا به , لا بما غاب عنه منهم , فأمر هذا موكول لأنفسهم . ولو كان الأمر على غير ذلك لكان أولى الناس به رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أفهمت يا امرأه . أسمعتم أيها الناس ؟.
إنتهى من كلامه الذى وقع فى نفوس الحاضرين موقعا عظيما ثم التفت للمدعى عليه وسأله .............
ــ ما قولك أيها الرجل , فى هذه الدعوى ؟.
أجاب فى نعومة وخبث محاولا التطف والتجمل فى منطقه .............
ــ سيدى القاضى كل ما تقوله هذه الأرملة محض اختلاق وكذب من أوله إلى آخره . والأرض التى تدعى كذبا أنها ورثتها عن زوجها إنما هى أرضى أنا , وصارت ملكا لى بعد أن اشتريتها من زوجها خليد بن مطرف رحمه الله ودفعت له ثمنها كاملا ..
قاطعه الشافعى متسائلا ..............
ــ وهل تسلمت الأرض منه ؟.
ــ سيدى القاضى , لقد أدرك الموت زوجها قبل أن يسلمها لى . ما ذنبى أنا فى أنه مات قبل أن أتسلمها منه ..
ــ هيه , ثم ماذا ؟.
ــ لما ذهبت إليها أطالب بما هو حق لى , إدعت عدم معرفتها بأمر هذا البيع وأبت كل محاولة منى ومن غيرى أن تمكننى من العين موضع النزاع , إضطررت لمقاضاتها وجاء الحكم لصالحى واستلمت الأرض فعلا وأقمت عليها بناء . غير أنها عادت لمزاعمها مرة ثانية وأخذت تردد من جديد أوهامها الباطلة وتطعن فى صحة البيع ..
ــ كم أعطيت زوجها ثمنا للأرض ؟.
ــ مائتى دينار كامله , سلمتها له فى يده أمام الشهود , عدا ونقدا ..
ــ تحلف اليمين على صحة روايتك وصدق قولك ؟.
ــ لم أحلف , ومعى البينة والدليل على صدق ما أقول ..
ــ أين هى هذه البينه ؟.
ــ إليك يا سيدى القاضى العقد الذى اشتريت بموجبه أرض خليد بن مطرف وعليه توقيعه وأسماء الشهود . والبيع متحقق فى هذا العقد بالإيجاب والقبول ..
ــ ما تقولين فى هذه البينة يا أم شريك ؟.
ــ حسبى الله ونعم الوكيل , العقد مزور . كم من مرات صرخت حتى بح صوتى أن العقد مزور ..
ــ هل لديك بينة أو شهود على ما تقولين ؟.
ــ سيدى القاضى , كل الناس يعلمون أنى صادقة فيما أقول وأن هذا العقد باطل وأن زوجى مات ولم يبع أرضه لأى أحد ..
ــ وهؤلاء الشهود الذين شهدوا على العقد ؟.
ــ سيدى القاضى , إنهم من أعوانه وأتباعه . إنهم شهود زور وشهادتهم باطله والناس كلهم يعلمون ذلك ..
ــ ما الذى منع الناس إذن عن شهادتهم معك ؟.
ــ ليتك تسألهم بنفسك , ربما تنحل عقدة ألسنتهم وينزاح الخوف الذى خيم على نفوسهم وعشش فى قلوبهم وباض وفرخ . ألم تقم باختيار هؤلاء السبعه الذين يجلسون من حولك ليكونوا أعوانا لك . أليسوا هم أهل الرأى والصلاح فى الجماعه وعليهم تقع مهمة النظر فى أحوال الشهود . سلهم عن هؤلاء الشهود , وأنا راضية بما يحكمون به حتى لو جاء لغير صالحى ..
ــ بما أنك تنكرين البيع , عليك حلف اليمين على صدق دعواك ..
ــ أحلف يا سيدى , أحلف ..
ران على القاعة صمت عميق , حبس القوم أنفاسهم بينما عيونهم على الشافعى فى انتظار ما سيقوله . أخيرا أمر بإحضار الشهود الذين شهدوا على عقد البيع وكانوا ثلاثة . فلما مثلوا بين يديه التفت إلى الرجال الموكلين بمعرفة أحوال الشهود وسألهم .....
ــ أتعرفون هـؤلاء ؟.
إنبرى أوسطهم المتحدث باسمهم .........
ــ أجل نعرفهم ..
ــ ما تقولون فيهم ؟.
أخذوا يتشاورون فيما بينهم لحظات ثم قام أوسطهم واقفا وقال .............
ــ إنهم ليسوا عدولا ولا نطمئن لشهادتهم ..
حبس الجالسون أنفاسهم حتى جاءهم صوت الشافعى موجـها سؤاله للمدعى عليه ....
ــ ألديك شهودا آخرين ؟.
أجاب متململا متبرما ..........
ــ لا . هؤلاء هم شهودى ..
سرت همهمة فى القاعة لم يقطعها إلا صوت الشافعى الذى قال آمرا ............
ــ تخلى القاعه ولا يبقى فيها أحد إلا كاتب القضاء , ويفرق بين الشهود , ثم يدخلون على فرادى , كل فى دوره ………………
واصل زيد روايته لامرأته وابنته قائلا ...........................
ــ أخليت القاعة من الحاضرين , وتم التفريق بين الشهود , حيث جلس كل واحد منهم فى مكان وحده بعيدا عن الآخر ..
سألت سعده ..............
ــ ما الذى دعاه لأن يفعل ذلك بعدما شهد أهل الصلاح والمشوره وأخبروا برأيهم فى الشهود مبطلين شهادتهم ؟.
ــ لم يغب عنى بالطبع أن أسأله عن هذا الأمر ..
ــ كيف ؟.
ــ فى نهاية الجلسة سألته فى ذلك فأجابنى ………………
ــ فعلت ذلك يا زيد حتى أستيقن بنفسى من كونهم ليسوا عدولا , وأن شهادتهم كانت ملفقة . وما كنت لأفعل ما فعلت من التفريق بين الشهود وسؤالهم كل على حده , لو أن أهل الصلاح والمشورة أقروا بصحة شهادتهم وأنهم شهود عدول . وعلى أى قاض أن يفعل ذلك إذا ثبت أن الشهود مجرحين ودفع ببطلان شهادتهم ………………
عادت سعده تتساءل ............
ــ وكيف أمكنه أن يتحقق من بطلان شهادتهم بعد أن فرق بينهم . هل عرفت منه ذلك ؟.
ــ أجل عرفت , كان يسأل كل واحد منهم وحده عن شهادته واليوم الذى شهد فيه الواقعه والموضع الذى شهد فيه ومن حضره وهل جرى ثم كلام وأسئلة أخرى . فعل كل ذلك وهو يحاور كل واحد منهم ويناوره فى براعة كى يستدل إن كانت فى شهادته عورة أو أن هناك اختلافا بين أقواله وأقوال غيره من الشهود ..
ــ وما الذى انتهى إليه ؟.
ــ بعد أن ناقش الشهود فى براعة وذكاء كشف تضارب أقوالهم وفساد شهادتهم التى شهدوا بها من قبل وتأكد لديه صدق دعوى أم شريك ..
ــ وكيف جاء حكمه بعد كل هذا ؟.
ــ حكم بتعزير الشهود ورد الأرض إلى صاحبتها . لم يكتف بذلك بل أمر قائد شرطة القضاء بتنفيذ الأحكام فى الحال وتمكين الأرملة المسكينة من أرضها المغصوبه كما كانت بعد إزالة ما أقامه عليها من بنيان ..
ــ ياه .. بعد كل هذه السنين تعود أرضها إليها .. حقا ما ضاع حق وراءه مطالب . دولة الظلم ساعه ودولة الحق إلى قيام الساعه ..
إنبرت بدر للسؤال ............
ــ وما الذى فعله يا أبت , هذا الظالم الغاصب الوليد بن جبير ؟.
ضحك زيد قائلا ..............
ــ لم يجد أمامه يا ابنتى بدا من الإمتثال والرضوخ لحكم القاضى الشافعى . لكنه خرج من قاعة القضاء وهو يرغى ويزبد , ويهرف بكلام فارغ يحمل فى طياته معانى التهديد والوعيد ..

يتبع.. إن شاء الله ............................

عفاف سليمان
03/03/2009, 11h37
د أنس
ارجوا أن تقبل منى هذا الدعاء لشخص حضرتكم الكريم
وأن كان غلط وضع هذا الدعاء لانه يحمل توقيع اسم موقع
فحضرتك احذفه
ولكن قصدت به
ان اشكرك حضرتك على مجهوداتك الجميله
وادعوا لحضرتك بالسعاده وان تتحفنا دائما بما هو جميل
لك كل التقدير والاحترام
عفافhttp://www.sama3y.net/forum/attachment.php?attachmentid=132589&stc=1&d=1236083582:emrose::emrose:

د أنس البن
04/03/2009, 17h06
الأخت الصديقه عفاف سليمان
أشكرك على هديتك الغاليه النفيسه , نسأل الله تعالى أن ينفعنا والحاضرين بما فيها من طيب الدعاء وحلو الكلام , وأهلا بك مرة أخرى فى سماعى , ونكمل سيرة الإمام .....
::::::::::::::

د أنس البن
04/03/2009, 17h06
@ مضت الأحكام العادلة تتوالى تباعا والحقوق السليبة ترد لأصحابها واحدا بعد الآخر وانحلت عقدة ألسنة الخائفين وتكلم الصامتون . تشجع أصحاب المظالم المقهورين على تجديد دعاواهم بعد طول يأس واستكانة وتسليم بمقتضى الحال . ولأن نصف الرعية تكره الحاكم وتكيد له ذلك إن عدل , أثارت هذه الأحكام العادلة حفيظة وسخط تلك القلة القليلة من المبطلين المرجفين أعداء العدل وخصماء الحق والإنصاف . ومع أنهم شرذمة قليلون إلا أنهم كانوا أصحاب قوة وأولوا بأس شديد وسطوة , ولهم الكلمة النافذة على كل أهل البلدة الذين كانوا على كثرتهم , ضعفاء مغلوبين على أمرهم ..
شعروا أن الأمر قد ضاق عليها وأن دائرة سطوتهم فى طريقها للإنكماش والتصاغر . لم يعد فى مقدورهم أن يستمروا طويلا فى فرض ظلمهم وسطوتهم على عموم الناس , وانزوت تلك الهيبة التى اصطنعوها لأنفسهم زمنا باستعمال أساليب القهر والطغيان وإظهار الشدة والبأس ..
حاولوا مرة بعد مره أن يستميلوا قاضيهم بالمال وإغراءه بأكياس الدنانير الذهبيه أو يقدمون له الهدايا كما تعودوا من قبل مع أسلافه , كانت تلقى قبولا واستحسانا لدى بعضهم . إلا أنهم كانوا يرجعون كل مرة من عنده وخيبتهم تسبق خطواتهم , فالشافعى لم يكن من ذلك النوع الذى ينخدع أبدا لرنين الدنانير أو يبهر عينيه بريق الذهب . كل هذه المغريات ذهبت أدراج الرياح , لم تخضعه كما أخضعت من قبله واستعبدتهم حتى امتلأت جيوبهم وانتفخت بطونهم وأتخمت خزائنهم بالمال الحرام , بعد أن سمحوا لنفوسهم الضعيفة أن تقبله على أشلاء ضحايا القهر والظلم والباطل ..
علم أنها أعراضا زائفة لا قيمة لها مصيرها إلى زوال وفناء , أما قيم الأمانة والعدل والإنصاف فإنها باقية لا تزول , لهذا أحبه أهل نجران خاصة المستضعفين منهم ..
أخيرا قرر أعداء الحق والعدل أن يعقدوا اجتماعا فى دار كبيرهم , الوليد بن جبير صاحب حكاية أرض الثقفية المغصوبه . يتدبرون فيه أمرهم ويبحثون عن مكيدة يبعدون بها الشافعى عن طريقهم , أو وسيلة يخرجونه بها من ديارهم ما دام سلاح المال والذهب لم يجدى معه ..
وفى مجلسهم الماجن من حول قوارير الخمر وكؤوس الشراب , إقترح أحدهم أن يطلقوا من حوله شائعات مغرضه تقدح فى ذمته وأخلاقه . قال آخر بل نسلط عليه من يتربص له بليل ويوسعه ضربا لإرهابه وبث الخوف فى نفسه . واقترح آخر أن يقتلوه فيستريحوا منه إلى الأبد . إلا أن هذه المكائد كلها وغيرها لم تلق قبولا عند غالبيتهم , إلى أن قام صاحب الدار قائلا لهم وهو يبتسم ابتسامة صفراء ملؤها الخبث والدهاء ..............
ــ هل انتهيتم من عرض بضاعتكم أيها السكارى الأوغاد ؟. هذا كل ما فى جعبتكم مـن حيـل ومكائد ؟.
إنبرى أحدهم مستخفا .................
ــ هل لديك رأيا آخر يا سيد بنو عبد المدان ؟.
ــ أجل لدى .. أنا كفيل به .. دعوا أمره لى وانتظروا منى ما أنا فاعل به ..
نظروا إليه متسائلين فى دهشة حتى جاءهم صوته كثعبان يتلوى ...................
ــ أعرف المكيدة التى سوف تقضى عليه تماما وتريحنا منه للأبد ..
ــ هات ما عندك يا سيد بنو عبد المدان ..
ــ ما رأيكم فى سلمى , أم الدراهم ؟.
قالها كلمة كلمة وهو ينظر نظرات ماجنة عابثة إلى كأس الخمر الفارغة فى يمناه بينما كفه اليسرى تقبض على إحدى ثمار الفاكهة . يقذفها لأعلى ثم يتلقفها فى رتابة وملل مرة بعد أخرى . أخذوا ينظرون إليه وهم فى عجب من أمره منكرين عليه قوله ,إستأنف قائلا وابتسامته الصفراء لم تغادر شفتيه ...................
ــ أجل أم الدراهم بائعة الهوى , ألا تعرفونها ؟.
سأله أحدهم ساخرا ..............
ــ ماذا يا ابن جبير . إلى هذه الدرجة أفقدتك صوابك حكاية أرض الثقفيه . ما هذا الهراء الذى تقوله يا رجل , إنك ولابد تهذى , أين ذهب عقلك يا سيد بنو عبد المدان . هلا أخبرتنا بالله عليك ما علاقة امرأة ساقطة كأم الدراهم بالقاضى الشافعى ؟.
عقب آخر ساخرا ..............
ــ لعله علم أنها صاحبته ؟.
وقال آخر ..............
ــ أو ربما تكون رفيقته مثلا ونحن لا ندرى ؟.
وقال آخر ............
ــ إنه لا يخرج من داره إلا إلى المسجد أو قاصدا مجالس الفقهاء وأهل العلم ..
فأمن آخر على كلامه قائلا .................
ــ حقا يا ابن الحارث , إننى لم أر فى حياتى كلها أحدا محبا للمعرفة وعنده نهم للعلم كهذا القاضى المكى . إنه لا يدع أى مجلس من مجالس العلماء إلا ويرتاده ..
قال آخر .............
ــ أجل لا يكاد يفرغ من درس أبو أيوب مطرف بن مازن الصنعانى حتى يتوجه إلى حلقة يحي بن حسان ..
وقال آخر .............
ــ أو فى دار عمرو بن أبى مسلمه يدرس علوم الفراسة والطب إلى جانب علوم الدين ..
قال آخر معقبا .............
ــ لقد سمعته بنفسى وهو يقول ذات مره ... " علم الأديان الفقه وعلم الأبدان الطب " ..
قال ذلك ثم أردف ساخرا .........
ــ ويأتى صاحبنا ابن جبير , ويدعى إن سلمى أم الدراهم هى التى ستريحنا منه ..
رد آخر وهو يضحك عاليا ...........
ــ لعله رآه ذات ليلة خارجا من عندها ..
أخذوا يضحكون بصوت عال ضحكات ماجنة صاخبه وقد لعبت الخمر برؤوسهم واختلطت ضحكاتهم بعبارات السخرية والمجون التى أخذت تنطلق كالعفن من أفواههم ممزوجة برائحة الخمر , وصاحب المكيدة والمكر الكبار يحملق فيهم هازئا دون أن يرد عليهم أو يقاطعهم أو يشاركهم ضحكاتهم . كان يبدو واثقا من نفسه ورأيه حتى إذا فرغوا من تعليقاتهم الساخرة , قال فى ثقة وثبات ................
ــ هل فرغتم , أم لا يزال لديكم ما تقولونه ؟. إحتفظوا بتفاهاتكم هذه لأنفسكم فإنى أدرك ما أقول وأتحمل تبعة كل كلمة قلتها ..
قاطعه أحدهم فى عصبية ..............
ــ أية تبعة يا رجل ؟. تكلم كلاما يدخل العقل يا ابن جبير بدل أن تضيع وقتنا فى هذا الكلام الفارغ . يبدو أن الخمر قد لعبت برأسك . أية بغى تلك التى نعتمد عليها فى أمر مهم كهذا مع رجل عرضنا عليه آلاف الدنانير فأبى ؟. أتظن أنها من الممكن أن تغويه مثلا أو توقعه فى الخطيئه , أليس هذا هو ما ترمى إليه ؟.
نظر إليه مستهزءا وقال ...................
ــ هل انتهيت من كلامك أنت الآخر ؟. أجل هذه البغى التى تسخرون منها هى التى سوف تريحنا من هذا الشافعى . لكن ليس كما تظنون أو تتصورون , دعوا هذا الأمر لى وسترون غدا بأنفسكم ما أنا فاعل فى هذا القاضى المكى العنيد ..
أخذ يقول فى نفسه .......... سأجعله يدفع غاليا ثمن تحديه لى وإجبارى على رد الأرض للثقفيه وهدم ما أقمته عليها من بناء كلفنى الكثير من المال …………

@ وفى المساء تسلل متنكرا إلى دار بائعة الهوى وهو يتلفت حوله مخافة أن يراه أحدا من جيرانها حتى لا تنكشف المؤامره . داخل الدار جلسا وحدهما وأخذ يهمس لها بتفاصيل المؤامرة الدنيئة , ويلقنها الدور الحقير الذى سوف تقوم به فى الغد . لم ينس قبل أن يخرج من عندها وهو يفرك يديه فى سعادة وعلى شفتيه ابتسامة خبيثة , أن يدس فى يدها صرة متخمة بالدنانير الصفراء ..
كانت أم الدراهم تسكن فى دار وحدها لا يعيش معها بين جدرانها إلا ابنتها سميه , فتاة بضة مليحة أكملت عامها العاشر من عمرها . مات أبوها بعد مولدها بعام واحد . كانت هذه المرأة على قدر كبير من الملاحة والحسن , تملك صوتا جميلا , بعد أن مات زوجها لم تجد وسيلة تتعيش منها , فاحترفت الرذيلة والبغاء واتخذت منها وسيلة لجمع المال الحرام إلى جانب بيع الخمور ..
وفى بيتها تعقد مجالس الأنس والشراب أحيانا , تغنى وترقص لروادها وفى آخر الليل تسلم جسدها لراغب اللذة الحرام نظير أجر معلوم . كانت على استعداد لأن تفعل أى شئ فى سبيل الحصول على المزيد من الدنانير والدراهم التى لم تكن تعشق فى الدنيا بعد ابنتها سواها , لذلك لقبها أهل نجران بأم الدراهم ..

@ وفى اليوم التالى وبينما القاضى الشافعى على رأس مجلس القضاء تعلوه سمات المهابة والوقار , والناس من حوله يرقبون فى صمت كل ما يدور داخل القاعة , والمتقاضون كل فى مكانهجالسون أمامه كأن على رؤوسهم الطير , لا يتكلم الواحد منهم إلا إذا بإذن أو إشارة منه . إذ سمعت جلبة شديدة وأصوات متفرقة خارج القاعة اختلط بعضها ببعض وامرأة تصرخ قائلة ...............
ــ دعونى أدخل إليه , دعونى أيها الناس , لم تحولون بينى وبينه . أين هذا القاضى المكى الذى تزعمون أنه قاض عادل أيـن هـو ؟.
كانت سلمى أم الدراهم , التى هجمت على مجلس القضاء فى صفاقة ورعونه وهى تصرخ فى غضب محموم بهذه الكلمات , والحراس يحاولون دفعها خارج القاعة دون جدوى حتى إذا انتهت رغما عنهم إلى حيث يجلس الشافعى قال لها بعد أن أمر الحراس أن يتركوها وشأنها .....................
ــ نعم يا أمة الله , مالك تصرخين هكذا , أنا القاضى ماذا تريدين ؟.
نظرت إليه نظرة غاضبة متحفزة دون أن ترد عليه والشرر يتطاير من عينيها , ثم مدت يدها فى جيبها , أخرجت منه بضعة دنانير صفراء, ألقت بها إليه قائلة بفظاظة مفتعله ....
ــ أعرف أنك القاضى , أنسيتنى , أنسيت أم سلمى , أم الدراهم ؟! خذ ..
سألها متعجبا ................
ــ ما هذا ؟.
ردت فى سخرية وفى عينيها نظرة وقحة تعودت عليها فلم تبد غريبة منها ........
ــ أنظر جيدا دقق النظر , ربما تتذكر , ألا زلت لا تعرف ما هذا ؟.
ــ إنها دنانير ..
ــ ألم تر هذه الدنانير من قبل أيها القاضى ؟.
ــ لم أفهم بعد ماذا تقصدين بسؤالك , هلا أفصحتى أيتها المرأه ؟.
ــ إنها مزيفه .
ــ وما شأنى بها إن كانت مزيفة أم غير ذلك ؟.
نظرت للحاضرين وصرخت قائلة ............
ــ القاضى يقول ما شأنى بها , أهذا كلام يقوله قاض يدعى أنه يحكم بالعدل والإنصاف ؟. يا قاضى نجران المبجل أنسيت ما كان منك بالأمس ؟. الدنانير التى أعطيتها لى بالأمس . أهكذا تنسى ما اشتريته منى , أقول لهؤلاء الناس ما كان من أمرك بالأمس فى دارى , بل كل يوم , أم تذكرت ؟.
إمتقع وجه الشافعى وهو يسألها ............
ــ أى دار تلك التى تتحدثين عنها يا امرأه , وما حكاية هذه الدنانير المزيفه الذى تزعمين أنى أعطيتك إياها ؟.
علا صوتها وزادت وقاحتها قائلة .............
ــ أنظروا أنتم أيها الناس واحكموا بينى وبينه . القاضىجاءنى بالأمس متخفيا كعادته واشترى منى ما يشتريه كل يوم من نبيذ وشراب وأعطانى خمسة دنانير , وبعد أن مضى لحال سبيله إكتشفت زيفها . من يرض منكم بهذا ؟.
ما كادت تنتهى من كلامها حتى ساد القاعة صمت عميق كصمت الموت . حبس القوم أنفاسهم وصوبوا أبصارهم إلى قاضيهم فى انتظار ما سيقوله وقد عقدت الدهشة ألسنتهم من هول وبشاعة ما سمعوا . ويالبشاعة ما سمعوا كبرت كلمة هى قائلتها . قاضيهم الورع التقى النقى تتجرأ عليه امرأة ساقطة فاجرة كهذه وتلقى فى وجهه بتلك التهمة الشنعاء . تلقيها هكذا فى قحة وجرأة , تتهمه أنه تسلل فى جنح الليل إلى دارها المشبوهة واشترى منها ما هو رجس من عمل الشيطان , شرابا حرمه الله فى كتابه العزيز وأمر باجتنابه وهو أعلى وأشد درجات التحريم , لم يحرم شربه فحسب وهو الأساس , لكنه حرم على الإنسان حتى ملامستها أوالجلوس فى مجالس شربها حتى لو لم يشارك فى تعاطيها. أى مصيبة تلك التى ابتلى بها الله أسماعهم . لم يصدقوا أنفسهم فى بداية الأمر وهم يستمعون لهذا الإتهام البشع يقتحم آذانهم ..
كانوا يتوقعون أن يثور الشافعى ويثأر لنفسه ولمكانته ويأمر بحبس هذه المرأة وتعزيرها بعدما أسفرت عن وجهها القبيح , وسمحت لنفسها أن تدنس ساحة القضاء بهذه الجرأة لتلقى جزاء وقاحتها وتطاولها على قاضى البلاد , وافترائها بالباطل عليه وهو يعتلى منصة القضاء المقدسه أو طردها . ذلك أضعف الإيمان بعد أن يستنكر هذه التهمة الشنيعة ويدفع عن نفسه تلك الفريـة الباطلـه . لكنه تمالك نفسه وكظم غيظه وتحلى برداء الحلم , حتى أنه أشار لكاتبه زيد إشارة حازمة أن يلتزم مكانه , لما رآه ينتفض واقفا مكانه متحفزا ليفتك بها والشرر يتطاير من عينيه . جلس زيد رغما عنه وهو يتميز من الغيظ يكاد أن يفترسها بعينيه الغاضبتين , ولم يكد يفعل حتى فوجئبصاعقة تنزل فوق رأسه وهو يسمع الشافعى يسألها فى هدوء وثقة ............
ــ أهى دنانير مزيفة حقيقة ؟.
ردت ساخرة فى الوقت الذى كان يتظاهر فيه أنه يتفحصها فى يده ............
ــ أجل مزيفه , ألم ترها بعينى رأسك ؟.
ــ وتريدين غيرها , أليس كذلك ؟.
قالها وهو يمد يده فى جيبه , لتخرج وفيها بعضا من الدنانير, ناولها لها وهو يردف مبتسما .......
ــ لا تغضبى يا أمة الله , إليك هذه الدنانير الصحيحه , أرضيـت يا امـرأه ؟.
ثم أخذ يتمتم فى سره ..........
ــ وأفوض أمرى إلى الله ..
لم يكن ذهول المرأة بأقل من ذهول القوم . إرتج عليها ولم تدر ما تقول , بعد أن سكب الشافعى على جذوة نيران غضبها المتأججة بكلماته الهادئة الواثقة المتأنية ,سيلا من الماء البارد ..................
لقد أعدت نفسها لردود فعل خلاف ذلك ولم تكن تتوقع هذه الإجابة الصماء التى أغلقت عليها باب الجدل والنقاش وهو ما كانت تريده وتتمناه . كانت تتوقع مثلا أن ينتفض ثائرا أو يقوم بطردها أو يحاول دفع هذه التهمة الشنعاء عن نفسه . أن يفعل أى شئ يعطيها الفرصة أن تحاوره وتجادله وتسخر منه أمام القوم وهو ما اتفقت عليه مع صاحبها بالأمس . وكان الشافعى من جهته قد أدرك أن وراء هذه المرأة مؤامرة دبرت بليل وأنه يختار بين أمور أحلاها مر . إن حاول طردها أو حاول دفع هذه التهمة عن نفسه ستنال منه لا محالة وهى امرأة ساقطة مأجوره . والصمت أيضا من جانبه لن يزيدها إلا عنادا وافتراء ..
وفى لحظة خاطفة مرت عليه كأنها دهر إختار الشافعى أن يقطع عليها باب الحوار والجدل وفى الوقت نفسه يكل أمرها إلى الله تعالى وهو يعلم يقينا أنه معه وأنه لن يضيعه أبدا . لقد حفظ ووعى فى طفولته عندما كان يتردد على كتاب الشيخ إسماعيل , قوله تعالى فى سورة الحج [ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ] ..
خرس لسانها ولم تجد ما تقوله أو تعقب به , بعد أن أعطاها ما ادعت أنه حقها . وضعت الدينار فى جيبها وهى تنظر إليه فى غيظ وحنق , ثم استدارت خارج القاعة والشرر يتطاير من عينيها . نظر القوم لقاضيهم والدهشة لا زالت تعقد ألسنتهم متوسلين إليه بعيونهم أن يفعل شيئا أو يقول كلمة لهم , يريح بها قلوبهم ويطفئ بها تلك النيران التى أججتها فى صدورهم كلمات هذه البغى الحمقاء . لكنه لم يفعل بل التزم الصمت وأسلم وجهه لله . أمام هذا الصمت الذى خيم على قاضيهم والذى لم يدركوا مغزاه لم يجد القوم أمامهم إلا أن يغادروا قاعة القضاء واحدا إثر الآخر , وهم يضربون كفا بكف أن خاب ظنهم فى هذا القاضى الذى كان قدوتهم . لقد تحقق العدل على يديه فذاقوا حلاوته بعد أن تجرعوا كؤوس الظلم والهوان سنين عددا ..
إلا زيد أكثر القوم إيمانا بالشافعى وثقة فى تقواه وطهارته , جلس مكانه مطرقا ذاهلا وهو يضع كفيه على مقدم رأسه , غير قادر على استيعاب ما يدور من حوله . بينما المتآمرون من مكانهم يرقبون فى فرحة تتابع الأحداث وهم مندسون بين الناس وعلامات التشفى والشماتة على وجوههم . لكن فرحتهم وشماتتهم لم تدم إلا لحظات معدودات . أجل إن هى إلا لحظات قليلة حتى فرج الله كربة القوم جاءت الإجابة التى كان القوم ينتظرونها من قاضيهم وهم على أحر من الجمر . لكنها لم تأت منه ولكن أتى الجواب من الله تعالى ولقد خاب من افترى . فبينما المتآمرون على باب الدار يهنئون أنفسهم على نجاح خطة كبيرهم فى تلويث سمعة قاضيهم المبجل وإظهاره أمام الناس فى صورة زئر النساء وشارب الخمر . إذا بهم يرون على البعد شابا يعدو وهو يصرخ بصوت متقطع من الفزع والتعب والغبار يثور من حوله متجها ناحية المرأة لاهثا .............
ــ يا أم الدراهم , يا أم الدراهم , أين أنت يا امرأه . لقد شبت النار فى دارك منذ قليل وأتت على كل ما فيها ومن فيها ..
الله أكبر ما أسرع انتقام السماء حدثت المعجزه وأجاب الله تعالى بدلا من عبده . ها هى المرأة تصرخ مولولة وهى تلطم خديها وسط هذا الجمع الذى كانت تتشدق أمامه منذ لحظات قليلة بالباطل وحديـث الإفك ..
ــ رحماك يارب النار شبت فى دارى . إبنتى إبنتى تركتها نائمة فى الدار . هلكت ابنتى يا ويلى , ذنب القاضى , أنا ظلمته , ظلمت القاضى ...................
ظلت هذه الواقعة الغريبة حديث اليمن كلها لأيام طويله زاد حب الناس خلالها للشافعى وزاد تقديرهم له , بعد أن أظهر الله تعالى براءة ساحته من هذه الفرية الدنيئه أمام الناس جميعا وطهارة ذيله ونقاء سريرته , وتعدت شهرته من نجران إلى سائر بلاد اليمن الأخرى . وكانت أم الدراهم قد أعلنت توبتها من ممارسة الرذيلة بعد هذه الفاجعه التى فقدت فيها ابنتها وفقدت دارها وما تدخره فيها من متاع ومال حرام . رجعت إلى الله نادمة على ما فعلت من آثام راجية منه تعالى أن يغفر لها ما تقدم من ذنوبها بعد أن حكت تفاصيل المؤامرة لأهل نجران وفضحت هؤلاء المتآمرين على الملأ وهى تخطو خطوتها الأولى فى طريق التكفير عن ذنوبها ..
لكن أبت الليالى أن تدع الشافعى ينعم براحة البال بين كتبه وعلومه التى كان يجد فيها سلوته وسعادته . كان ريب المنون له بالمرصاد وكانت المحنة الكبرى التى غيرت مسار حياته ووضعته رغما عنه فى بؤرة الأحداث ومركز دائرة الضوء ..

يتبع.. إن شاء الله ............................

د أنس البن
04/03/2009, 17h06
183 هـجـريه .. أميــر اليـمـن

@ جلس الشافعى أمام عتبة داره تحت شجرة عتيقة ضخمة وارفة الظلال يتأمل وحده قرص الشمس الأصفر الذهبى وهى تميل إلى مغربها كأنها غريق فى بحر الأفق يبتلعه شيئا فشيئا , ويرقب الليل وهو يرخى أستاره الداكنة على أرجاء المكان رويدا رويدا ..
كان منظر غروب الشمس فى غموضه وروعته حافزا له كى يستعرض تاريخ السنوات التى غربت من عمره كهذا القرص الأصفر من الشمس , مذ كان طفلا صغيرا يخطو خطواته الأولى على أرض مكة الطاهره بعد رحيله مع أمه وجده من ديار غزه . تلك البلاد التى عاش فيها أيام عمره الأولى وليدا فى المهد ولم ينطبع فى ذاكرته أى شئ عنها ..
كثيرا ما حدثته أمه عنها وعن أهلها الطيبين , كيف عاشت بينهم فيها عشر سنوات مع أبيه الراحل قبل أن يرزقا به وترى عيناه نور الدنيا . كم حدثته عن أرضها وترابها الذى يضم رفات أبيه إدريس وجده هاشم بن عبد مناف . سرح بخياله بعيدا حتى غمره الشوق والوجد , أخذ يحدث نفسه مرتجلا فى شجن ولوعة وكأنه يرثى أباه الراحل :
وإنى لمشتاق إلى أرض غـزة .. وإن فاتنى بعـد التفـرق كتمانى ..
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها .. كحلت بها من شدة الشوق أجفانى ..
ثم طافت فى مخيلته صورة كتاب الشيخ إسماعيل فى ساحة الحرم العامره حيث استظهر القرآن فى صباه . تذكر هناك صديقه العراقى الفضل بن الربيع وما كان من أمره معه وقتئذ , إلى أن لقيه منذ سنوات قليلة فى المدينة بعد أن صار وزيرا فى بلاط الرشيد ..
تذكر البادية ومقامه فيها سنوات صباه بين الهذيليين , يستمع إلى أشعارهم وآدابهم فتنطبع فى ذاكرته انطباعا . كيف عاد من عندهم وقد أفاد فصاحة وأدبا وصار بفضلهم , آخذا بناصية اللغة العربية فى أصالتها ونقائها , وما تعلمه عندهم من فنون القتال والرماية والعدو ..
تذكر ذلك المكان الذى اتخذه مجلسا فى ساحة الكعبة عاما كاملا , يحدث الناس فيه عن حكايات العرب وأشعارهم وآدابهم وبطولاتهم , إلى أن لقى الأصمعى عالم اللغة العربية وأستاذها الأكبر . ثم لقاءه الروحانى مع الشيخ الورع الزاهد الفضيل بن عياض صاحب الكرامات , الذى رآه فى المنام طيف خيال قبل أن يراه فى اليقظة واقعا ولم يكن له به معرفه من قبل . تذكر كلماته المنورة التى دفعته دفعا لاستكمال رحلة العلم والمعرفه ..
ثم طافت على مخيلته رحلته إلى المدينة المنوره وجلوسه إلى إمامها مالك بن أنس , وحلقته العامرة التى نهل منها الكثير , وصديقه الوفى القادم من أرض مصر عبد الله بن عبد الحكم . تعارفت روحاهما وائتلفتا حتى أن كل واحد منهما كان كأنه مرآة للآخر فى خصاله وأخلاقه . وبعد ذلك رحلته إلى اليمن , وما كان من أمر تلك المرأة التى افترت عليه بالباطل والبهتان بتحريض من خصومه . أخذ يتمتم داعيا ربه أن يسامحها ويسامحهم ..
أخيرا علت شفتيه إبتسامة عريضة وهو يتذكر ما جرى له منذ بضعة أشهر مع ذلك الرجل الفظ , الذى لقيه وهو فى طريقه إلى مكة لزيارة أمه , كانت تقيم عند خاله على فى ذى طوى . أول زيارة يقوم بها إليها بعد توليه قضاء نجران ..
وحكايته أن الشافعى وكان يرافقه فى رحلته غلاما يقوم على خدمته , لما أدركه التعب وأخذ منه الجهد مأخذا عظيما وهو فى طريقه الطويل , تمنى فى تلك الساعة أن لو استطاع أن يضع جنبيه على أى فراش ويستريح ليلته تلك قبل أن يواصل رحلة السفر . أخيرا شاهد على البعد دارا تقع وحيدة على مشارف إحدى القرى . حمد الله وهو يتنفس الصعداء أن وجد أخيرا مكانا يريح فيه بدنه المتعب بين جدرانه الأربعـه ..
إقترب من الدار ثم نزل من فوق دابته قاصدا صاحبها راجيا أن يضيفه هذه الليله . فإذا هو برجل أزرق العينين ناتئ الجبهة لم ينبت له شعر فى وجهه البته كان واقفا بفناء الدار . رآه الشافعى على البعد فقال فى نفسه ............. علم الفراسة يقول , هذا الرجل فيه خبث شديد , وقسماته تدل على وضاعة وخسه ..
وكان الشافعى قد درس علوم الفراسة فى اليمن على يد عالمها عمرو بن مسلمه , وهو علم يكشف ما يخفيه الإنسان فى باطن جسمه المادى من عادات وما يكتمه من طبائع مكتسبة أو موروثه . كانت نظرة فاحصة منه إلى وجه أى إنسان تجعله يقرأ فى ملامحه على الفور طباعه وأخلاقه وصنعته .. من ذلك مثلا أنه أثناء جلوسه مع أحد أصحابه إذ مر بهما رجل سأله جليسه أن يحزر صنعته . تفرس فيه الشافعى وقال له ........
ــ هذا الرجل إما أن يكون نجارا أو خياطا ..
فقام صاحبه إلى الرجل يسأله عن صنعته فقال له ..............
ــ كنت نجارا وأنا اليوم خياط .
هذه واحدة من نوادر الشافعى فى الفراسه وله فيها نوادر كثيرة منها حكاية هذا الرجل صاحب الدار .. أسلم أمره لله وتقدم على مضض ناحية الرجل ومن خلفه غلامه الذى يقوم على خدمته . خاطبه قائلا بعد أن ألقى عليه السلام .......
ــ هل من مكان أبيت فيه ليلتى أنا وغلامى هذا يا أخا العرب ؟.
فوجئ الشافعى بالرجل يبالغ فى الترحيب به قائلا .............
ــ أجل عندى مكان طيب بالداخل فيه من كل شئ تبغيه . تفضل أيها الغريب على الرحب والسعه كأنك فى دارك تماما وبين أهلك ..
ــ ودابتى تلك ؟.
ــ لا تحمل همها, تبيت مع دوابى فى الحظيرة المقامة خلف هذه الدار , تأكل من علفهم وتشرب من مائهم ..
دخل الشافعى دار الرجل على استحياء وهو يلوم نفسه شاعرا بالخجل من سوء ظنه به , وزاد عجبه أكثر عندما فوجئ بالرجل يدخل عليه بألوان الطعام والشراب والطيب ..

ظل الشافعى طوال الليل يحدث نفسه وهو يتقلب فى فراشه منتظرا بفارغ الصبر طلوع النهار....... علم الفراسة الذى تعلمته فى اليمن دل على غاية دناءة هذا الرجل , وأنا لم أشاهد منه إلا كل خصال الخير والكرم . هذا العلم إذن باطل , أجل باطل , لا حول ولا قوة إلا بالله , ليتنى ما أسأت الظن به , ليتنى ما أوقعت نفسى فى هذا الذنب الكبير , سأصارحه فى الصباح بكل شئ أجل وسأطلب منه الصفح والسماح لعل الله عز وجل يغفر لى ويسامحنى ما جنيته على نفسى من إثم من سوء ظنى به ..

مكث الشافعى طوال الليل يؤنب نفسه ويلومها على سوء ظنه بالرجل الذى أدى واجب الضيافة على خير وجه , وفى اليوم التالى قام من نومه مبكرا وهو لا يزال مستاء من نفسه , لواما لها على خطئه فى حق مضيفه . أمر غلامه أن يسرج الدابة وأن يستعد لإكمال الرحلة , ثم نادى على صاحب الدار قائلا له وهو يهم بركوب دابته ...........
ــ أستودعك الله يا أخى ..
قاطعه مستنكرا فى دهشة لم يدر لها الشافعى سببا ...........
ــ إلى أين أنت ذاهب أنت وغلامك هكذا ؟.
ظن الشافعى أن الرجل يسأله عن بلده فأجابه فى براءة قائلا ...............
ــ ذاهب إلى مكه لزيارة أهلى , ليتك إذا نزلت بها ومررت بذى طوى أن تسأل عن دار محمد بن إدريس , لعلى حينئذ أستطيع رد جميل طوقت به عنقى . أود أن أخبرك عن مسألة أخرى ..........
كان بصدد أن يخبره عن سوء ظنه به طالبا منه أن يعفو عنه وأن يستحله من ذنبه , غير أنه فوجئ بالرجل يقاطعه صارخا فى وجهه فى غلظة وفظاظة وجفاء ...............
ــ أى كلام فارغ هذا الذى تقوله يا رجل . أمولى أبيك أنا ؟.
فزع الشافعى من لهجته فسأله وهو فى دهشة من أمره ...............
ــ خيرا يا أخا العرب . ما الذى أغضبك منى كل هذا الغضب ؟.
ــ أين ثمن الذى تكلفت لك البارحه ؟.
ــ عن أى شئ تسأل ؟.
ــ إشتريت لك بدرهمين طعاما وبأربعة دراهم إداما وطيبا بدرهم وعلفا لدابتك بدرهم ..
إلتفت الشافعى لغلامه قائلا .................
ــ أعطه يا غلام , هل بقى لك شئ فـى ذمـتى ؟.
ــ نعم كراء الدار والفراش واللحاف , لقد وسعت عليك وضيقت على نفسى ..
ــ بكم هذا ؟.
ــ خمسة دراهم .. إيه ؟! كثير على مثلى ؟.
ــ لا أبدا , ليس بكثير , أعطه يا غلام ..
قالها الشافعى وهو يتنفس الصعداء متمتما فى سره ...... أخزاك الله أيها الرجل ما رأيت شرا منك . الحمد لله أن صدق ظنى فيك ولم أتجن عليك , ما أصدق علم الفراسه ……
ذكريات كثيرة تزاحمت أمام عينيه , إلا أنها سرعان ما تلاشت كسحابة صيف وهو واقف فى مكانه ينظر إلى الأفق البعيد حتى غابت الشمس فى مغربها . لم يقطع عليه رحلة الذكريات على تتابعها إلا رؤيته لشبح قادم من بعيد . ظل يدقق النظر إليه ليتبين ملامحه حتى إذا صار قريبا منه عرفه , إنه كاتبه زيد بن عيسى ..
تعجب الشافعى من قدومه إليه فى ذلك الوقت الذى لم يتعود المجئ له فيه . كان له نظاما ثابتا فى عمله , يأتى مبكرا فى الصباح إلى دار القضاء ويظل ملازما للشافعى إلى أن يصلى صلاة الظهر , ثم يعكف على القضايا يدونها ويبوبها فى كراسة معه . بعد أن ينتهى من عمله يعود مرة ثانية إلى داره , ولا يرجع إلى عمله إلا فى صبيحة اليوم التالـى ..
لهذا كان عجب الشافعى من حضوره فى هذا الوقت المتأخر من اليوم على غير المألوف . كان يمشى فى خطوات متقاربة سريعة أقرب للعدو منها إلى السير . أمهله إلى أن التقط أنفاسه ثم سأله عن سبب قدومه المفاجئ فى هذا الوقت . مد يده فى جيبه دون أن يرد على سؤاله وأخرج لفافة ناولها إليه قائلا ..........
ــ هاك يا سيدى ما جاء بى ..
أخذها منه وقبل أن يفتحها سأله ..........
ــ ما هذه اللفافه ؟.
ــ بداخلها رسالة يا سيدى القاضى ؟.
ــ رسالة . ممن ؟. وما سبب حرصك على أن تأتى بها إلى فى هذه الساعه ؟.
ــ إنها رسالة أتى بها البريد من لدن قاضى القضاه مصعب بن عبد الله القرشى .. وقد أكد على رجل البريد أن أسلمها لك الليله ..
نظر إليه مستفسرا فأردف قائلا ...........
ــ تلك أوامر قاضى قضاة اليمن ..
فتح الشافعى الرسالة متوجسا ومر بعينيه على سطورها . كان لا يزال فى النهار خيط من الضوء يسمح له بقراءتها , بينما كاتبه ينظر إليه متلهفا لمعرفة ما جاء فيها وأخيرا طواها وراح فى تفكير عميق دون أن يتفوه بكلمة واحده . لما طال صمته تقدم كاتبه بضع خطوات ناحيته ثم سأله على استحياء .............
ــ خيرا يا سيدى القاضى مالى أراك مهموما ؟.
ــ لا شئ يا زيد , لا شئ ..
ــ سيدى هل تحمل هذه الرسالة أخبارا ......
قاطعه الشافعى قائلا ...........
ــ لا شئ يا زيد , لا شئ هاك الرساله ..
مد يده وطفق يمر على الرسالة بعينيه إلى أن فرغ منها نظر للشافعى قائلا .............
ــ حقا لا شئ فيها , إنها تحمل أسماء الأمراء الجدد الذين ولاهم أمير المؤمنين , وأن أمير اليمن قد نقل إلى مصر , وتولى بدلا منه واحد إسمه , إسمه ..
عاد وفتح الرسالة مرة ثانيه وأخذ يمر على سطورها ثم قال ...............
ــ وتولى أمر اليمن الأمير حماد بن عبد الله البربرى ..
رفع رأسه عن الرسالة وعاد يسأل ..............
ــ إنها أول مرة أسمع بهذا الإسم , يبدو أنه لك سابق معرفة بهذا الرجل يا سيدى ؟.
أجابه عابسا فى كلمات مقتضبة ...........
ــ أجل أجل أعرفه ..
قالها وغص بريقه ثم استدار داخلا داره بعد أن سلم على زيد مودعا ..

فى داخل الدار ألقى الشافعى بجسده المتعب المكدود على أقرب وسادة إليه , وراح يقلب وحده فى رأسه ما جاء فى رسالة قاضى القضاه . لم تكن بالقطع مصادفة أن يتولى أمر اليمن على وجه الخصوص , حماد البربرى زميل الحلقة المالكيه وغريمه الذى يناصبه العداء مذ كانا فى المدينه . نسى الشافعى أمره تماما ولم يعد يذكره إلا أن غريمه له بالمرصاد ويبدو أنه لم ينس بعد ما كان بينهما , يبدو أن الحقد لا يزال معششا داخل صدره . وها هو قد جاء إلى اليمن ليواصل رحلة الإنتقام منه . نعم من المؤكد أنه تعمد المجئ إلى اليمن بعد أن فشل قبل ذلك فى محاولاته الإنتقامية السابقه . لم يخرجه من أفكاره وهواجسه إلا صراخ ولده وأنينه المتواصل وهو يقرع أذنيه فى إلحاح . ترك ما كان فيه وانتبه لصراخ وليده وهو يحدث نفسه ............. ما كل هذا الصراخ والأنين , ما الذى دهاه يا ترى ؟.
كان ولده محمد قد دخل فى عامه الثالث , أول أبنائه من امرأته حميده وضعته بعد ستة أشهر من مقامهما باليمن , سماه محمدا على إسمه وكناه أبا عثمان تبركا بجده لأمه عثمان بن عفان . رفع رأسه ونادى على زوجته التى أتته مهرولة رغم معاناتها من حملها الثانى وسألها ..............
ــ ما بال أبى عثمان يصرخ صراخا متواصلا ؟.
أجابت قائلة وهى تحتضن صغيرها وتضمه فى حنان إلى صدرها وتهزه فى رفق هزات رتيبة متتابعه فى محاولة منها لتهدئته وإيقاف بكائه .............
ــ إنه على تلك الحال منذ البارحة لم يهدأ بكاؤه أبدا , لا أدرى ما الذى دهاه . ربما يعانى من بعض متاعب فى بطنه ..
هز الشافعى رأسه مفكرا ثم أشار إليها أن تقترب بوليدها منه . أخذ يمرر يده فى خفة على بطنه ثم نظر فى فمه وأخيرا قام من مكانه وأحضر بضع لفافات من خزانته وأخرج منها بعض الأعشاب . ناولها لامرأته قائلا لها وهو ينتزع ابتسامة باهتة من بين شفتيه رغم ما يعانيه من مرارة من رسالة قاضى القضاه وتوجسه من هذا الأمير القادم للبلاد ............
ــ لا تجزعى يا عثمانيه إنها آلام الأسنان , الولد بخير , إحدى أسنانه الجديدة فى طريقها للظهور . أنت تدركين طبعا ما يسببه بروز الأسنان من آلام ومتاعب إنها ليست أول مره ..
ــ ماذا أصنع بتلك الأعشاب ؟.
ــ ضعيها فى كوب من الماء واتركيها لتغلى على النار ثم اسقيه منها بضع رشفات بعد أن تبرد , لسوف يهدأ بعدها إن شاء الله ويكف عن بكائه هذا ..
كان الشافعى قد برع فى فنون الطب ومداواة الأبدان بعد أن تعلم فى الحولين الماضيين الكثير من علومه على يد علماء اليمن , وقرأ الكثير مما كتبه علماء الطب على اختلاف أجناسهم . كان يتلهف ويتحسر على ما ضيع المسلمون من عدم إقبالهم على هذا اللون من العلوم والمعارف , كثيـرا ما كـان يقـول " إثنان أغفلهما الناس الطب والعربيه " والطب فى رأى الشافعى يعدل ثلث العلم ..
مدت يدها فى لهفة , تناولت منه الأعشاب , وضعت ولدها جانبا وراحت تعد له الدواء فى همة وهى تقول ................
ــ الحمد لله أنك تحتفظ فى خزانتك بهذه الأعشاب النافعه . لقد أفدت كثيرا من دروس الطب هنا باليمن ..
إلتفت إليها متسائلا وقد بدا شاردا ............
ــ عفوا يا عثمانيه , ماذا قلت الآن لم أسمعك جيدا ؟.
توقفت لحظات عن تقليب الأعشاب ثم رفعت رأسها إليه متسائلة ............
ــ ماذا ألم بك يا أبا محمد .. أراك شاردا على غير عادتك ؟.
ــ صدقت يا عثمانيه تلك هى الحقيقه ..
ــ رأيت زيدا عندك منذ قليل هل أتى إليك بما يسوؤك من أخبار ؟.
سكت برهة ثم قال متباطئا ..............
ــهل تذكرين ذلك الرجل العراقى الذى قصصت حكايته عليك ذات مرة , وما كان من أمره معى فى يثرب قبل زواجنا ..
ــ من تعنى بكلامك هذا يا ترى وما خطبه ؟.
ــ حماد البربرى زميل الحلقة المالكيه ..
ــ حماد البربرى . آه تذكرته ما شأنه الآن . ألم تخبرنى أيامها أنه رجع إلى العراق بعد أن أجبره الإمام مالك على مغادرة المدينة مطرودا منها شر طردة , عندما علم بما فعله معك من ضرب وإيذاء ثم انقطعت أخباره بعد ذلك ..
ــ تماما هذا ما حدث , وذهبت إليه بعدها مع محمد بن الحسن رغم ما فعله معى وحاولت فى هذا اللقاء أن أطيب خاطره وأن أستميله إلى . لكن هيهات أبى واستكبر أن يضع يده فى يدى ..
ــ ما الذى جد فى الأمر إذن ؟.
ــ وصلنى اليوم كتاب من قاضى القضاه يعرفنى فيه أن أمير المؤمنين هارون الرشيد ولاه الإماره ..
ــ أى إماره ؟.
ــ إمارة اليمن ..
ــ من تقصد . حماد البربرى ؟.
ــ أجل هو بعينه حماد البربرى ليس هذا فحسب . بل طلب منى فى نهاية رسالته أن أتوجه إلى دار القضاء فى صنعاء ..
ــ لماذا ؟.
ــ لنذهب جميعا نحن قضاة أقاليم اليمن لتهنئته وتحيته ..
ــ وماذا أنت فاعل هل ستذهب للقائه ؟.
ــ لا أعرف يا حميده لم أقرر بعد ما سوف أفعله ..
ــ ما الذى تخشاه منه لقد مضى أكثر من عامين على ما كان منه معك فى المدينه وأظنها مدة كافية لنسيان مثل هذه الأمور ؟.
ــ لا أظن ذلك ياحميده لا أظن وما أحسب توليه إمارة اليمن من قبيل المصادفه ..
صمت برهة وقال ............
ــ يا حميده .... لا تأمنن امرءا أسكنت مهجته .. غيظا وإن قلت إن الغيظ يندمل ..
ــ تعنى أنه سعى إلى المجئ إلى هنا متعمدا كى ينتقم منك لا . لا أوافقك على هذا الظن أبدا . لقد مر وقت طويل على ما كان بينكما ولا أظن مثل هذه الأمور التى جرت فى المدينة تدفعه لأن يفعل كل هذا لكى ينتقم منك ..
ــ أتمنى أن يصدق ظنك يا عثمانيه , لكن هيهات , أنا أعلم جيدا حقيقة نوايا هذا الرجل وخبث طويته . إنه إنسان مريض النفس ملأ الحسد والحقد قلبه . حاولت مرات أن أداريه أو أتجنبه دون جدوى . باءت جميع محاولاتى بالفشل ..
قال ذلك ثم سكت برهة وقام من مكانه وهو يقول محدثا نفسه ............
داريت كل الناس لكن حاسدى .. مداراته عزت وعز منالها ..
وكيف يدارى المرء حاسد نعمة .. إذا كان لا يرضيه إلا زوالها ..

يتبع.. إن شاء الله ............................

عفاف سليمان
05/03/2009, 23h47
صباح الخير يا د أنس:emrose:
ننتظر المزيد من القصه بفارغ الصبر
ارنا كيف الله ساعده فى هذه المحنه المدبره اعانه الله عليها:chut:
ودائما أصحاب السؤ يجمعهم فى لقاء الخمر والرزيله او مجلس الشر يجمعهم الشيطان
والعياذ بالله ....اما مجلس الخير والعلم فتجتمع عليه الملائكه
واكيد من يعمل فى طاعه الله ويحاول ان ينشر العدل وارجاع حقوق الغير
يكون بجانبه الله
لك منى كل التقدير والاحترام
وننتظر البقيه
اعانك الله
ابنتك الروحيه:)
عفاف:emrose:

عفاف سليمان
08/03/2009, 07h18
صباح الفل يا دكتورنا أنس:emrose:
الحمد لله ربنا خلصه من مكيده الشيطان
من كان طريقه الى الله.....فالله خير حافظا
وياترى هيعمل ايه مع المضيف الذى استضافه:rolleyes:
انتظر الباقى يا دكتورنا الجميل
لك منى وللجميع ولست الكل استاذتنا ناهد;)
كل الود والاحترام
اختكم عفاف:emrose:

يوسف أبوسالم
10/03/2009, 10h25
أخي الكبير
والمبدع الأكبر
د.أنس البن
مساء الريحان

أهم ما لفت نظري بعد تصفحي الأولي لهذا التحقيق عن سيرة الشيخ الجليل الشافعي هو ( هذا الحرص من قبلكم ) أن لايخرج العمل إلى النور إلا بعد اكتماله واكنمال أدواته ...
وهذا هو تماما شأن كل المبدعين والمفكرين الكبار
كانت أم كلثوم وهي في قمة مجدها تخاف الجمهور وتحسب له ألف حساب
وكان كذلك كبار الكتاب والمفكرين
وها أنت تنهج نفس النهج بالحرص والمراجعة والتزود بالمراجع الأصلية
وهذا تماما درب الكبار
أهنئك أخي على هذه الرائعة التي لا تختلف بل تتفوق على كثير من السيَر المطبوعة
ولي في هذه الرائعة عودة طويلة عند اكتمالها وقراءتها على مهل
كل الشكر على هذا الجهد الكبير
وبانتظار إكمالها بعون الله
تحياتي

د أنس البن
10/03/2009, 11h48
أخي الكبير
والمبدع الأكبر
د.أنس البن
مساء الريحان

أهم ما لفت نظري بعد تصفحي الأولي لهذا التحقيق عن سيرة الشيخ الجليل الشافعي هو ( هذا الحرص من قبلكم ) أن لايخرج العمل إلى النور إلا بعد اكتماله واكنمال أدواته ...
وهذا هو تماما شأن كل المبدعين والمفكرين الكبار
كانت أم كلثوم وهي في قمة مجدها تخاف الجمهور وتحسب له ألف حساب
وكان كذلك كبار الكتاب والمفكرين
وها أنت تنهج نفس النهج بالحرص والمراجعة والتزود بالمراجع الأصلية
وهذا تماما درب الكبار
أهنئك أخي على هذه الرائعة التي لا تختلف بل تتفوق على كثير من السيَر المطبوعة
ولي في هذه الرائعة عودة طويلة عند اكتمالها وقراءتها على مهل
كل الشكر على هذا الجهد الكبير
وبانتظار إكمالها بعون الله
تحياتي


والله إنها لشهادة أثلجت صدرى وأذهبت عنى بعض ما أجده من الروع والوجل
بارك الله فيك يا أبا حجاج .. نهر الأردن وشاعر بردى والنيل

د أنس البن
10/03/2009, 12h01
@ كان الشافعى ذو فراسة وفطنة ومعرفة بحقائق الأمور , صح ما توقعه عندما توجس فى نفسه خيفة من تولى حماد البربرى إمارة اليمن . لم يكن مجيئه إلى هذه البلاد وتولى إمارتها من قبيل المصادفه , بل سعى إليها سعيا حثيثا فى دأب ومثابرة ليحقق حلمه فى الإمارة من ناحيه , ومن أخرى ليكون على مقربة من غريم الأمس , قادرا على أن تطوله يداه بالأذى , عله يطفئ نيران الحقد التى لم يأن لها أن تنطفئ جذوتها المتأججة من قلبه بعد ..
لم تنسه أيام طويلة ولت مواقفه السالفة مع الشافعى , وهزائمه المتكررة أمامه فى الحلقة المالكيه . لم ينس أنه بسببه صار أضحوكة أقرانه فى المدينه أثناء محاوراته معه وفى مناظراته له , كان يخرج منها فى كل مرة مهزوما مشيعا بسخرية زملائه , وإن لم يتعمد الشافعى ذلك أو يقصده أبدا ..
لم ينس أيضا كم لقى من إهانات من شيخه مالك حتى أنه توعده يوما أمام الجمع كله أن يمنعه من دخول مجلسه وهدده بالطرد من حلقته إكراما لغريمه, وكيف نفذ الشيخ تهديده وأمره بمغادرة المدينه مشيعا بلعنات أصحابه ومن معه . منذ ذلك الحين وهو يترقب فرصة يوقع فيها به بمكيدة أو فريه .. كان يمقته للدرجة التى كان يتمنى فيها أن لو استطاع أن يقضى على حياته ..
وحكاية مجيئه إلى اليمن بدأت منذ اليوم الأول لمغادرته المدينة عائدا إلى العراق , طلب إليه الخليفة الرشيد أن يعمل مساعدا لرئيس ديوان الخراج , بينما عمل صاحبه محمد بن الحسن فى ديوان الفتـوى والأحـكام ..
لم يشأ أن يضيع الوقت سدى فما كادت أقدامه تستقر فى عمله الجديد حتى أخذ يتحسس أخبار الشافعى ويرسل عيونه هنا وهناك فى محاولة منه لأن يعرف أى أرض أقلته .. إلى أن علم أخيرا أنه يعمل بالقضاء . أرسل من رجاله من يستقصى أخباره فى دار القضاء ببغداد حتى علم فى النهاية أنه يعمل بولاية اليمن قاضيا على منطقة نجران ..
ما كاد يتوصل إلى هذه المعلومات ويتأكد من صحتها حتى عقد العزم على أن يتولى إمارة اليمن بأية وسيلة , مهما كان الثمن وإن كلفه ذلك آلاف الدنانير الصفراء, كانت نفسه تتوق أصلا للإماره . وقد أتاح له ثراؤه الكبير وقربه من دواوين الرشيد ورجال البلاط , أن يعلم الكثير عن أمور البلاد وما يجرى فى دهاليز الحكم ..
من ذلك أنه علم أن ديوان أمير المؤمنين بسبيله لنقل بعض من أمراء الأقاليم ورؤساء الدواوين والقاده وتعيين بعض الأمراء الجدد . كان القائم على هذا الأمر كاتب الديوان الأكبر إسحق بن الوليد التغلبى , فليغتنم هذه الفرصة إذن وليذهب إليه فى داره فى المساء بعيدا عن العيون والرقباء ليبدأ معه الخطوة الأولى نحو تحقيق أطماعه ..
ولأنه رجل يعرف كيف يصل إلى هدفه , سلك أقرب الطرق التى توصله إليه لم ينس بالطبع وهو يهم بالخروج من داره أن يأخذ معه خمسة أكياس فى كل كيس ألف دينار ذهبا , هو يعلم مدى طمع هذا الرجل وحبه للدنانير الصفراء . وتم له ما أراد بعد حوار طويل ونقاش معه , أخذ وعدا من كاتب الديوان الداهيه أن يمكنه بأية وسيلة من كرسى الولايه على اليمن ومكه .. وقد فعل بعد أن تمكن من إقناع الرشيد وهو يعرض عليه أسماء الأمراء والقادة الجدد , أن حماد البربرى هو خير من يتصدى للفتنة القائمة فى تلك البلاد فى الجنوب , التى كانت فى ذلك الحين مهدا ومعقلا لكثير من الطالبيين العلويين وأنصارهم الذين يكيدون لبنى العباس ويبثون دعوتهم بين أبناء الشعب .. كانت تلك هى نقطة الضعف لدى الرشيد كما كانت من قبل لدى أبيه وجده , وهى الثغرة التى استطاع أن ينفذ من خلالها كاتب ديوانه اللئيم . كانوا يتوجسون خوفا من أبناء عمومتهم آل البيت العلوى ويعملون حسابا لهم , أن تقوى شوكتهم ويتمكنوا من الوثوب على كرسى الخلافه . ذلك أكبر مصدر قلق لهم وأكثر ما يشغل بالهم ويقض مضاجعهم ..
لهذا كان الرشيد وهو إبن لآبائه , الحزم والشدة ذودا عن كرسى الخلافه , وسيكون فى ذلك أيضا أبا لأبنائه يتحسس أخبار خصومه فى شتى بقاع الأرض . لم يتردد مرة واحده فى أن يقضى على حياة كل من تلقيه الأقدار منهم بين يديه أو حتى تحوم من حوله الشبهات . يأخذ لمجرد الشبهة دون انتظار لإقامة الدليل على الإدانة أو البراءه , حتى لو كان من أقرب المقربين إليه ومهما تكن منزلته أو قدره عنده . هذا ما حدث مع الإمام موسى الكاظم إبن الإمام جعفر الصادق فى العام الماضى . وشى به الواشون فقبض عليه فى المدينه , وحبس فى بغداد إلى أن مات فى محبسه فى ظروف غامضه ,أشيع أيامها أنه قد دس له السم فى طعامه خفيه , ثم أتوا بمن يشهد أنه مات حتف أنفه قضاء وقدرا ..
حدث أيضا أمر كهذا قبل أربعين سنة مع سيد بنى هاشم فى ذلك الحين الإمام والعالم الجليل الحسن الأنور والد السيده نفيسه , الذى ظل أميرا على المدينه إبان خلافة أبى جعفر المنصور خمس سنوات . إلى أن أمر بالقبض عليه وألقاه فى غياهب السجون فى بغداد , خوفا منه لدسيسة ألقاها فى أذنه واحد من الكذابين يدعى إبن أبى ذئب , وظل فى محبسه إلى أن لقى المنصور حتفه فأخرجه إبنه وخليفته محمد المهدى , الذى أكرمه وأعاده إلى منصبه ورد عليه أمواله وممتلكاته . وسيرد ذكر ابنته السيدة نفيسه فى الفصل الأخير من قصتنا عندما تلتقى مع ابن عمومتها الشافعى على أرض مصر ..
لكن تعاقب على اليمن ولاة ضعفاء لم يكن لهم من القوة والعزم ما يمكنهم من قمع تلك الحركات الثائرة والتصدى لها . لهذا وافق هارون الرشيد على أن يولى حماد البربرى إمارة اليمن , آملا أن يتم على يديه القضاء على أهم معقل من معاقل الثوار من الشيعة العلويين ………………

@ مرت سنوات أربع من الدعة والأمن فى أحضان اليمن بين وديانها وسهولها , والشافعى يحيا آمنا مع امرأته وولده وابنته زينب التى رزقه الله بها قبل أيام قلائل . فى تلك السنوات رسخ حب الشافعى فى قلوب الناس جميعا وصارت له عندهم مكانة ومنزلة لنشره ميزان العدل بينهم , وبدأت تنحسر موجات العداء وضروب الفتن التى كان يثيرها ضده قلة من المبطلين المرجفين الذين لا يخلو منهم زمان أو مكان , هم صنف من البشر يحسبون أن لهم ميزة أو استعلاء على من يتصورون أنهم دونهم نفوذا وغنى وجاها وحسبا ..
قلنا أنهم حاولوا فى البداية أن يصانعوا الشافعى أو يتملقونه أو يستميلونه بالمال والهدايا فلم يتمكن لهم ذلك . عندئذ خلعوا الأقنعة الزائفة وأسفروا عن حقيقة أمرهم وأعلنوا عن قبيح نفوسهم وظهرت حقيقة نواياهم لما لجأوا لسلاح الإرهاب والتآمر فلم يتمكنوا أيضا من تحقيق مرادهم , وسبقتهم عناية الله تعالى إلى الشافعى كما جاء. لم يجدوا أمامهم مفرا من اللجوء للمواجهة السافره . كانت بداية المحنة والإبتلاء الكبير الذى تعرض له الشيخ من تلك الشرذمة القليلة التى أعماها الجشع وأذهلها الطمع عن رؤية أنوار الحق وهى تسطع فى سماء مدينتهم , واستكثروا أن ترد للناس الضعفاء حقوقهم وأيقنوا أخيرا أن المكائد والحيل لن تجدى معه ..
لجأوا فى نهاية المطاف لآخر ورقة معهم وهى المواجهة المباشره بذلك نصحهم الوليد بن جبير أعدى أعداء الشافعى فى نجران , طلب إليهم أن يخطوا الشكاوى والظلامات الزائفة ويرفعونها لأمير اليمن وإلى قاضى القضاه وليذهب منهم من يريد لملاقاة أولى الأمر . إلا أن محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح ولم يكن كل ما أثاروه حول قاضيهم إلا كما يقولون زوبعة فى فنجان . لم تفلح محاولاتهم مع أمير البلاد أو قاضى قضاتها فى إيغار صدر أى منهما على الشافعى لمحبتهما له وتقديرهما لعلمه وثقتهما فى عدله وورعه ومعرفتهما بتقواه . غلبهم اليأس فاستسلموا واستكانوا رغما عنهم أمام فيض المحبة المتجدد من أمير بلادهم وأهل مدينتهم لقاضيهم . لكنهم كانوا متحفزين لفرصة ينقضون فيها على غريمهم وعدوهم اللدود ..
أخيرا جاءتهم الفرصة التى ظلوا ينتظرونها ويترقبونها زمنا وبدأت تنتعش آمالهم من جديد فى فرض سطوتهم ونفوذهم على أهل نجران مع مجئ حماد البربرى من بغداد أميرا على بلادهم بعد عزل أميرهم . أخذت الأحداث تتصاعد رويدا رويدا مع الأيام وتتخذ مسارا مغايرا لما كانت عليه من رتابة ونعومه . بدأت مرحلة عصيبه إلتقت فيها كل قوى الشر والبغى والباطل , كأنهم كانوا على موعد مع هذا الأمير الجديد وتحالف الجمعان للقضاء على الشافعى ………………

يتبع.. إن شاء الله ............................

@ إستهل أمير اليمن الجديد يومه الأول فى دار الإمارة بالتعرف على كبار أعوانه ومساعديه , لاستبقاء من يصلح منهم فى التعاون معه على تحقيق أهدافه فى المرحلة القادمه ,وعزل البقية الباقية من أولئك المتمسكين بالأصول والمبادئ والقائمين على الحق , وعين غيرهم من رجاله وأهل ثقته الذين سيكونون حتما أدوات طيعة بين يديه ..
كان أول ضحاياه قائد الشرطة فى اليمن بعد أن شعر أنه سيكون حجر عثرة أمام تحقيق مآربه , اتخذ قرارا بعزله وعين بدلا منه صديقا له من الكوفه يدعى عمران الفزارى .. رجل لئيم ذو دهاء شديد , معروف بوضاعته وخسته , على استعداد لأن يمتثل لكل ما يؤمر به دون مناقشة أو إبداء لرأى . عند قدومه عليه إبتدره قائلا ..............
ــ أنت بالطبع لا تعرف لم استدعيتك من الكوفه ؟.
ــ أنى لمثلى ذلك ؟. حاولتجاهداأن أستفهم من رسولك الذى جاءنى منذ أيام دون جدوى , لم يزد على قوله ...... سيدى حماد البربرى أمير مكة واليمن أعطانى هذه الرسالة لتوصيلها إليك , وهذا كل ما أعرفه ..
ضحك قائلا .............
ــ أجل لا تغضب منه يا صديقى , هو الآخر لم يكن يعلم شيئا , أحببت أن أخبرك بنفسى , هنا فى دار الإماره ..
ــ وها أنذا بين يديك , خيرا يا صديقى ؟.
ــ كل الخير طبعا , لن أدخل معك فى تفصيلات لا يهمك أن تسمعها الآن . لكنى أود أن أخبرك أننى قررت لاعتبارات سوف أشرحها لك فى وقت لاحق عزل قائد الشرطه وكذلك قائد الحرس باليمن , وأصدرت قرارا أن تتولى أنت قيادة الشرطه ..
ــ قيادة الشرطه , إنها مفاجأة لم أكن أتوقعها ياصديقى . وماذا عن قيادة الحرس ؟.
ــ سأعهد بقيادة الحرس لأخى إسحق البربرى . فى الحقيقة لم أجد من أثق به خيرا منكما فى المرحلة القادمه , وهى مرحلة جد خطيرة ومهمه كما سأبين لك ..
ــ شكرا لك على هذه الثقه لكن ......
ــ لكن ماذا يا قائد الشرطه ؟.
ــ لم أفهم بعد . ما الذى تعنيه بالمرحلة القادمه , وأنها كما تقول خطيرة وهامه . هلا أوضحت ما ترمى إليه يا حماد ؟.
ثم استدرك معتذرا ................
ــ لا تؤاخذنى يا صديقى أن أعطيت نفسى الحق لأناديك هكذا باسمك مجردا لما رأيت أنا نجلس وحدنا ..
رد قائلا وهو يشيح بيده ................
ــ لا عليك من هذا يا أخى فنحن أصدقاء منذ زمن بعيد ولا كلفة بيننا . أما سبب اختيارى لك ولأخى إسحق فلسوف أشرح لك فى حينه الأمر كله وأضع الصورة كاملة أمامك لتبدأ مهمتك على الفـور ..
ــ وأنا جاهز لسماع كل ما عندك ..
ــ لا ليس قبل الغد , بعد أن تستريح من عناء السفر , لقد قطعت رحلة طويلة شاقة وآن لك أن تريح جسدك المتعب يا قائد الشرطه . إن أعمالا كثيرة ومهام جسام فى انتظارك ..
@ إستطاع أن يسيل لعاب صاحبه ويثير حماسه ويفتح شهيته للعمل عندما وعده قائلا فى نهاية لقائه التالى به .............
ــ إن نجحت فى مهمتك ومكنتنى من الشافعى هذا , أعدك أنى سوف أسعى لك جاهدا كى تتولى منصبا رفيعا فى دار الخلافة فى بغداد ..
بدأ على الفور أعماله فى دار الشرطه جامعا رجاله من حوله , أخذ يشرح لهم خطة عملهم فى الفترة القادمه ومهمة كل واحد منهم . إختار من بينهم واحدا بعينه يعرف فيه القدرة على المراوغة وخفة الحركه , كلفه أن يرتدى زى الحراس على أن يتوجه على الفور إلى نجران ويقدم نفسه إلى زملائه على أنه حارس جديد ضمن مجموعة الحراس العاملين فى دار القضاء ..
كان هذا الحارس المزعوم فى حقيقة الأمر عينا من عيون قائد الشرطة الجديد عمران الفزارى , أرسله إلى هذا المكان ليكون عينا له على الشافعى وحده حيث يلازمه كظله . وفى أول أيامه فى دار القضاء بدا هذا الرجل غريبا بين زملائه الحراس منبوذا منهم . كانوا فى بداية الأمر يتحاشونه ولا يجلسون إليه ويتجنبون الكلام معه ولا يبادولنه الحديث , شيئا خفيا بداخلهم جعلهم لا يستريحون له ويتوجسون فى أنفسهم خيفة منه ..
حاول أن يتقرب إليهم أو يبادلهم الحديث دون جدوى , لكنه لم يستسلم لليأس , حاول فى دأب وصبر مستخدما الحيلة والدهاء .. ظل زمنا يتودد إليهم , يحاول دائبا أن يندمج معهم ويقترب منهم خطوة خطوه متذرعا بالصبر حتى أنس بعضهم له فى نهاية الأمر بعد أن أمكنه إزالة وحشتهم وتوجسهم منه , بعدها صار كأنه واحدا منهم . أوصاه قائد الشرطة ألا تغفل عينه عن الشافعى لحظة واحده , وأن ينقل إليه كل أخباره أولا بأول .. ماذا يردد من أقاويل وآراء , الأماكن التى يتردد عليها , من هم أصدقاؤه الذين يلتقى بهم ومن هم أعداؤه ؟. أن يحاول أن يحصى عليه خطواته , بل يعد عليه أنفاسه إن أمكنه ذلك . كذلك فعل فى كل أنحاء اليمن وهو ينشر عيونه فى كل مكان بحثا عن هؤلاء الشيعة الرافضه الذين ظلوا على ولائهم لعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه ولآل البيت العلوى , رافضين لكل خليفة سابق على سيدنا على أو تال له , ولهذا كانوا يطعنون فى الخلفاء الراشدين جميعا ويسبونهم ..
كان مبدأ هذه الجماعة الضاله الذى يدينون به ويتعصبون له أن الخلافة بعد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من حق على بن أبى طالب إستحقها بوصيته "صلى الله عليه وسلم" ولهذا كانوا يسمونه الوصى , وأن الخلافة من بعده حق لبنيه لا يخرجهم عنها إلا ظالم غاصب . حاول زيد بن على بن الحسين أن يمنعهم عن التمادى فى تطرفهم والطعن فى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما دون جدوى . يروى فى ذلك أن أتباعه الكوفيون سألوه ذات مرة أن يخبرهم برأيه فى أبى بكر وعمر اللذين اغتصبا حق جده على بن أبى طالب فى الخلافة على حد قولهم . رد عليهم قائلا ...........
ــ لا أقول فيهما إلا خيرا , وما سمعت أبى على زين العابدين يقول فيهما إلا خيرا . وإنما خرجت على بنى أميه الذين قاتلوا جدى عليا ثم قتلوا من بعده جدى الحسين وأغاروا على المدينة فى يوم الحره ثم رموا بيت الله تعالى بحجر المنجنيق والنار , هؤلاء هم أعداؤنا ..
لم تعجبهم إجابته ولم تأت على هواهم ووفق مرادهم عندئذ فارقوه رافضين كلامه ولهذا سموا رافضه , وكان منهم أفراد كثيرون فى اليمن ينشرون هذه الدعوة الباطلة بين الناس .....................

يتبع.. إن شاء الله ............................



@ ظل هذا الجاسوس منذ وصوله دار القضاء فى نجران يلاحق الشافعى دون أن يشعره بوجوده أينما حل أو ارتحل . كان يتعقبه كظله فى كل مكان يذهب إليه أو يتردد عليه , ينتقل بانتقاله ويسكن بسكونه وعينه لا تغيب عنه وأذنه تتنصت لكل كلمة يتفوه أو حتى يهمس بها . فى كل مجلس يتوارى مختبئا أو متنكرا يحصى عليه أقواله ويلتقط كل ما ينطق به من كلمات أو عبارات يشم منها رائحة التشيع لآل البيت النبوى أو تحمل معانى التفضيل لعلى بن أبى طالب خاصة أو لقريش عامة , يتسمع آراءه فى الخلافة والإمامه والحكم . وبعد أن يرجع فى آخر الليل إلى مأواه يختلى بنفسه مغلقا الباب عليه وهو يبدأ حذرا فى تدوين كل ما سمعه أو رآه على ضوء سراج خافت فى كراسة معه أعدها لذلك حتى لا ينسى شيئا .. من ذلك مثلا لما ذهب بعض الناس إلى الشافعى ذات مرة وسأله أحدهم .............
ــ أيها الشيخ , إنا نرى فيك بعض التشيع فما هى حقيقة ذلك الأمر هل أنت منهم حقيقة ؟.
رد عليه متسائلا ...........
ــ التشيع لمن وكيف ؟.
ــ التشيع لآل بيت النبى "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ ما الذى جعلكم تتصورون ذلك ؟.
ــ سمعناك كثيرا تردد أقوالا وأشعارا يفهم منها أنك موال لآل محمد "صلى الله عليه وسلم" وأنك من شيعتهم ..
ــ يا قوم هذا ليس تشيعا لأحد دون أحد , ألم يقل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ] أليس من الدين أن أحب قرابتى وذوى رحمى إذا كانوا من المتقين ؟. وحبى لهم ليس معناه بغضى لغيرهم , ألسنا نصلى عليهم فى كل صلاه ؟..
ثم أردف مرتجلا ...............
يا آل بيت رسول الله حبكم .. فرض من الله فى القرآن أنزله ..
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم .. من لم يصلى عليكم لا صلاة له ..
وكان يتحدث ذات مرة فى جماعة من الناس عن فضائل الصحابة ويقول ...............
ــ وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى القرآن والتوراة والإنجيل . وسبق لهم على لسان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من الفضل ما ليس لأحد بعدهم . فرحمهم الله وهناهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ منازل الصديقين والشهداء والصالحين . هم أدوا إلينا سنن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وشاهدوه والوحى ينزل عليه , فعلموا ما أراد النبى "صلى الله عليه وسلم" عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا . هم فوقنا فى كل علم واجتهاد وورع وعقل وكذلك كل أمر استدرك به علم واستنبط به رأى . وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من آرائنا لأنفسنا , فإن اختلفت الأحكام استدللنا بالكتاب والسنة فى اختلافهم ..
إنبرى أحد الجالسين ممن دسهم أعداؤه فى مجالسه محاولاالإيقاع به , سأله متخابثا ....
ــ وما تقول فى على بن أبى طالب ؟.
إلتفت الشافعى إلى صاحب السؤال , فطن إلى سوء طويته وخبثه وأنه ما سأل ليعلم بل ليستدرجه إلى محظور فقال له ..............
ــ عن أى أمر تسأل يا هـذا ؟.
ــ أسأل عن قتاله لمن خرج عليه ؟.
ــ إعلموا أيها القوم أن عليا رضى الله عنه جرى فى قتالهم مجرى الإمام العادل ، من خرج على طاعته من المؤمنين وسار بسيرته فى قتالهم . وما قصد من وراء ذلك إلا حملهم على الرجوع إلى الطاعة , كما قال الله تعالى فى سورة الحجرات [ فقاتلوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ] .. واعلموا أيها القوم أن الطائفة التى قاتلها لم تخرج بالبغى من الإيمان . لأن الله تعالى سمى الطائفتين جميعا مؤمنين فقال [ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ] فذكر اقتتال الطائفتين وسماهم الله عز وجل المؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم . ولهذا لما أتوا لعلى بأسير يوم صفين والحرب لا تزال قائمة وقال له الأسير :(لا تقتلنى صبرا ) , ظنا منه أنه سيقتله قال له على ............... لا أقتلك صبرا , إنى أخاف الله رب العالمين ..
قام أحد الجالسين وكان من تلك الفرقة التى تناصبه العداء وخاطبه محتدا ..............
ــ إن هذا الذى تقوله من حديث الرافضيه ..
أجابه الشافعى ..............
إذا فـى مجلـس قلنـا عليا .. وسبطيـه وفاطمـة الزكيه ..
يقال تجاوزوا يا قـوم هـذا .. فهذا مـن حديث الرافضيه ..
برئت إلى المهيمن من أناس .. يرون الرفض حب الفاطميه ..
إنبرى نفس الرجل موجها كلامه للشافعى فى سخرية ..........
ــ فلم نفر الناس من على إذن ؟.
قبل أن يرد عليه الشافعى قام واحدا منهم وأردف ساخرا........
ــ والله ما نفر الناس من على بن أبى طالب إلا لأنه كان لا يبالى بأحد ..
هب الشافعى غاضبا وهو يقول .............
ــ إعلم يا هذا إنه لا يبالى بأحد لأنه كان فيه أربع خصال ما اجتمعت واحدة منهن فى إنسان إلا ويحق له ألا يبالى بأحد . كان زاهدا والزاهد لا يبالى بالدنيا ولا بأهلها , وكان عالما والعالم لا يبالى بأحد , وكان شجاعا والشجاع لا يبالى بأحد , وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد ..
وذات يوم تعقبه هذا الجاسوس وهو ذاهب إلى صنعاء , حتى رآه وقد انتهى إلى مجلس كان فيه عبد الله بن الحسن وهو من أحفاد سيدنا على بن أبى طالب .. لمح الشافعى ساكتا لا يتكلم فى هذا المجلس , ولما سأله أحد الحاضرين فى ذلك عند مفارقته المكان , قال له.............
ــ لا أتكلم فى مجلس يحضره أحدهم ..
ــ تقصد عبد الله بن الحسن ؟.
ــ أجل
ــ لم ؟.
ــ هم أحق بالكلام ولهم الرياسة والفضل ..
ثم أردف قائلا .............
آل النبـى ذريعتـى .. وهم إليـه وسيلتى ..

أرجو بهم أعطى غدا .. بيدى اليمين صحيفتى ..

تلك الأقوال وأشباهها كانت تؤخذ عليه أنها تشيع لآل البيت يدونها هذا الجاسوس أولا بأول فى سجل خاص يحتفظ به كعينيه بين ثنيات ردائه حتى لا يقع فى يد أحد . غير أنه دأب على أن يدون هذه العبارات بشكل مبتور على طريقة ولا تقربوا الصلاه حتى تكون ذريعة لإدانة الشافعى وحجة لتوجيه الإتهام القاتل له .. وكان قد علم من بعض زملائه الحراس وهو يثرثر معهم فى الليل أخبار الجماعة التى تناصب الشافعى العداء وعلى رأسهم الوليد بن جبير المدانى وما كان من أمرهم معه . قصوا عليه فيما قصوا وهم يتحاكون سويا قصة أم الدراهم ومكيدتهم التى كشفها الله تعالى على أعين القوم وفضحهم بها مما جعلهم أضحوكة أهل نجران كلها ..
إلا أن واحدا من الحراس يدعى معبد كانت لديه فطنة وفراسة وقوة ملاحظة تميز بها عن زملائه من الحراس . لم تنطل عليه ألاعيب هذا الحارس المزعوم أو حركاته فى التملق لمن حوله وظل على ارتيابه منه وشكه فيه لا يحيد عن ذلك . أخذ يرقبه من بعيد فى محاولة منه لكشف سره وهتك ستره والتوصل إلى حقيقة أمره مظهرا له ودا مصطنعا . أخذ يجاريه حتى يكتشف حقيقة نواياه وأثناء متابعته له لاحظ أنه يتابع القاضى قدما بقدم أينما ذهب وحيثما حل حتى الأماكن البعيدة فى أطراف البلاد يرحل وراءه إليها . لاحظ كثرة سؤاله عن أحوال القاضى واهتمامه بأمره فتشكك فى الأمر ظنا منه أنه يضمر له شرا أو يريد أن يلحق به أذى ..
تأكدت ظنونه يوما بعد يوم وهو يراقب تحركاته دون أن يشعر به ورأى نظراته الغامضة التى يحدج بها القاضى من وراء ظهره والتى تختفى خلفها نوايا الشر والأذى والغدر . حتى وثق آخر الأمر أن هناك سرا ودافعا وراء مجئ هذا الرجل إلى نجران ووجوده بينهم وأنه ليس مجرد حارس من حراس دار القضاء كما ادعى وزعم لإخوانه عند قدومه . أخذته لجة من الهواجس والظنون وضاق صدره بما عنده فلم يجد من يطلعه على مخاوفه وظنونه إلا كاتب القضاء زيد بن عيسى أقرب العاملين فى الديوان إلى قلب الشافعى وأخلص رجاله له وهو أمر كانوا يعرفونه جميعا . عزم على الذهاب إليه فى داره ليخبره بكل ما توصل إليه ولاحظه على هذا الرجل وفى نهاية كلامه سأله معبد .............
ــ هيه ما رأيك يا زيد فيما سمعت , وبم تفسر حركات وأفعال هذا الرجل المريب ؟.
أخذته نوبة تفكير عميق ثم رفع رأسه قائلا ..............
ــ أخبرنى أنت برأيك أولا ..
ــ أما أنا يا زيد فإنى أعتقد أن هذا الرجل الخبيث يخفى وراءه سرا كبيرا وأنه يضمر شرا مستطيرا للقاضى الشافعى ..
راح مرة أخرى فى تفكير عميق ثم عاود سؤاله ................
ــ هل أخبرت أحدا غيرى بهذا الحديث ؟.
أجاب فى الحال ..............
ــ لا . لا يا زيد أنت أول واحد أطلعه على هذا السر ..
ــ وزملاؤك الحراس ؟.
ــ لا يعلمون عنه شيئا ولا أحد منهم يعرف حقيقة أمر هذا الرجل . إنهم جميعا يعتقدون أنه مجرد زميل لهم ولم يتشكك أحد غيرى فى أمره ..
ــ الحمد لله أن تصرفت بحكمة وإياك أن تخبر أحدا بما رأيت يا معبد خاصة زملاؤك الآخرين من الحراس أفهمت ؟.
ــ أجل فهمت ما ترمى إليه لكن . ما الذى تنوى عمله الآن ؟.
ــ دع هذا الأمر لى وسأتصرف فيه بالطريقة التى أراها مناسبة , كل ما هو مطلوب منك أن تبق على حالك مع هذا الرجل . لا تجعله يشعر أنك كشفت أمره وداوم على مراقبته من بعيد . لا تدعه يغيب عن ناظريك طرفة عين . كن يقظا له تماما فإن بدرت منه بادرة غدر أو خيانة للقاضى فلا تتردد فى قتله فى الحال ..

يتبع.. إن شاء الله ............................



@ أخذ يقلب الأمر فى رأسه على كافة أوجهه بعد أن انصرف ضيفه , ظل طوال الليل وهو على تلك الحال حتى جاءه نداء المؤذن لصلاة الفجر ومع النداء كان قد استقر على رأى . قرر أن يطلع القاضى على ما عنده ليأخذ حذره من هذا الرجل الذى يتتبع خطواته واستحسن أن يكلمه بعيدا عن دار القضاء حتى لا يراه ذلك الحارس المزعوم مختليا بالشافعى فيتشكك فى الأمر . ليفاتحه الآن إذن بكل ما عنده عقيب صلاة الفجر . وفى المسجد تعمد أن يجلس إلى جواره وبعد أن انتهت الصلاة مال عليه دون أن يلحظ أحد شيئا . قال له كلمات خرج على إثرها كل واحد منهما وحده حتى إذا صارا بعيدا عن أعين الناس وآذانهم وتأكد له أن أحدا لا يتبعهما أسر إليه بمخاوفه . إبتسم الشافعى قائلا فى ثبات وثقة بدا منها أنه لم يفاجئ بما سمعه من كاتبه ............
ــأهذا ما أرقك يا زيد ليلة الأمس وأقض مضجعك ؟.
ــ أجل يا سيدى القاضى , من اللحظة التى جاءنى معبد فيها ليلة أمس وأخبرنى بهذا الأمر لم تذق عيناى للنوم طعما , ظللت طوال الليل ساهرا أقلب الأمر على كل أوجهه وأسأل نفسى ....... ما الذى يبغيه هذا الرجل يا ترى من وراء أفعاله تلك . إن كان يريد إيذاءك فلم لم يفعل شيئا أو تبدر منه بادرة شر أو إيذاء طوال الأيام السابقه . وإن كان لا يريد فما الذى يدعوه لأن يتعقب خطواتك كل ذلك الوقت ويحصى عليك أنفاسك ؟.
ظل الشافعى على ابتسامته إلى أن فاجأه قائلا ...............
ــ لا تجزع يا زيد , إنى على علم بكل هذا ..
سأله مدهوشا.............
ــ كيف يا سيدى , هذا الأمر لا علم لأحد به إلا أنا ومعبد الحارس . من الذى أخبرك به ؟.
ــ لم يخبرنى أحد إلا أنت الآن ..
ــ لم أفهم بعد ؟.
ــ هذا الرجل لما وقعت عليه عينى أول مرة وتفرست ملامحه تشككت فى أمره وارتبت فيه . وذات مرة فى مجلس القضاء لمحته بركن عينى وهو يسدد نحوى نظرات حادة مريبة من بعيد تشاغلت بأوراق أمامى ولم أجعله يلحظ أنى كشفت أمره . بعد ذلك رأيته بالفعل وهو يتبعنى فى كل مكان أذهب إليه . هذا الغبى الأحمق كان يتصور أنى غافل عنه لا أراه , عرفته حتى وهو يحاول أن يتنكر فى ثياب البهاليل ويرتدى أثمالهم الباليه أو فى ثياب أهل البادية الرحل . مع كل هذا لم أجعله يشك لحظة واحدة أنى كشفت حقيقته وتركته يرقبنى على راحته تماما كأنى لا أراه ..
رد زيد متسائلا وهو فى دهشة مما يسمع من قاضيه ........
ــ وهل أدركت يا سيدى ما يبغيه من وراء ذلك ؟.
ــ أبدا يا زيد إنه حتى الآن يتبعنى متعقبا خطواتى فحسب أينما أكون , لكن ماذا يريد ؟. من هم وراءه ؟. لا أعرف , ولا أريد فى الحقيقة أن أعرف أو أشغل نفسى بمثل هذه الأمور . على أية حال , لم تبدر منه بادرة شر حتى الآن كما لاحظت أنت بنفسك يا زيد , فلم الخوف والترقـب ؟.
ــ وهل ننتظره إلى أن يبدأ بالأذى . لا يا سيدى القاضى من الضرورى أن أتحقق بنفسى من حقيقة أمر هذا الرجل , لابد من معرفة من هم وراءه ..
غير أن الأحداث كانت أسرع من الجميع لم تمهله الأيام ليتحقق من حقيقة نوايا ذلك الرجل الغامض والدافع وراء تعقبه للقاضى . بعد أيام قليلة من حديثه مع القاضى الشافعى فوجئ الجميع باختفاء هذا الحارس المزعوم فجأة كما جاء ولم يعرف أحد إلى أين رحل . وحقيقة ما حدث أنه فى نهاية المطاف وبعد مراقبة ومتابعة منه دامت أكثر من سبعة أشهر بدأ هذا الحارس المزعوم يجهز نفسه للذهاب إلى قائد الشرطة فى صنعاء بعد أن دس بين طيات ثيابه كراسته تلك , التى أتخمت بما أحصاه فيها من خطوات الشافعى وأقواله وآرائه . لدى وصوله أعطاه هذا التقرير المفصل وأبلغه أيضا بكل ما علمه عن الشافعى من أهل البلدة من أعدائه وحساده وما سمعه منه من أقوال وآراء ..
قام قائد الشرطة بضم هذه الكراسة لما تحصل عليه عنده من تقارير أخرى جاءته من عيونه الآخرين وتوجه إلى مقر أمير اليمن حيث يقيم . وضع أمامه كل ما توصل إليه وما جمعه من معلومات . أخذا يتباحثان معا فى الخطوة التالية وخطة العمل فى الأيام القادمة , ثم أمره أن يأتيه بالوليد بن جبير المدانى غريم الشافعى الأول ليكلفه بإحدى المهام ويعرفه دوره الذى سوف يقوم به فى المؤامره , فى الوقت الذى أخذت تتوالى عليه الشكاوى من تلك الجماعة التى كانت تناصب الشافعى العداء ..

يتبع.. إن شاء الله ............................



@ لم تمض إلا أيام قلائل إلا والوليد بن جبير قد أعد نفسه للسفر إلى مكة قاصدا دار الإماره للقاء أمير مكة واليمن. كانت لهما فى الفترة الماضية لقاءآت عديدة معا عقيب توليه أمور البلاد تأصلت خلالها علاقتهما وتوطدت صداقتهما معا . وعلى باب داره جلس وحده بعد أن تنكر وغير بعضا من ملامحه وخضب لحيته بالحناء مرتديا أفخر ما عنده من ثياب , منتظرا دخول الليل حتى يتدثر فى عباءة ظلمته ويتخذه سترا له وسربالا إستعدادا لشد الرحال إلى مكه . وفى جنح الظلام تسلل ممتطيا صهوة جواده واضعا لثاما على وجهه زيادة فى الحيطة كى لا يتعرف أحد على ملامحه . كانت تلك تعليمات الأمير فى رسالته له , ألا يعلم بهذا اللقاء أى واحد من الناس حتى لا يتسرب شئ من خطته .. حتى أن امرأته لما سألته وهى تراه يرتدى ملابسه , أخبرها أنه مسافر إلى الشام للتجاره…………
أخذ يحث جواده على الإسراع من حركته وهو فى قمة سعادته لنجاح خطته فى الدس والوقيعة لغريمه الشافعى عند أمير البلاد , بعد أن علم من ابن عمه الذى يعمل شرطيا فى ديوانه أنه هو الآخر يناصب قاضيهم الشافعى العداء , وأن هناك ثأرا قديما بينهما وإن لم يعلم لـه سببا ..
وفى دار الإمارة لقيه الأمير بالحفاوة والترحيب ................
ــ أهلا وسهلا بسيد بنى عبد المدان مضت شهور عده منذ التقينا سويا آخر مرة هنا . ترى ما الذى أخرك عنا أيها الصديق العزيز كل هذا الوقت ؟.
ــ الحقيقة يا سيدى أنى كنت فى رحلة إلى بلاد الهند ..
ــ ياه تلك البلاد البعيده ؟.
ــ أجل , كنت أشترى بعض البضائع لتجارتى واضطررت أن أتأخر هناك بضعة أشهر ريثما تستقر بنا الأحوال فى البحر العاصف ..
ــ أجل أجل أنتم أهل اليمن أعرف الناس بأحوال الرياح الموسمية ومسالك السفن فى بحر العرب . نأمل أن تكون قد وفقت فى هذه الرحلة إلى صفقة رابحه ؟.
ــ الحمد لله اشترينا وتاجرنا وربحنا , وبالطبع لم أنس هدية صديقى العزيز أمير مكة واليمن , ها هى يا سيدى ..
قال ذلك وهو يمد يده إلى جراب معه أخرج منه عصا من العاج والأبنوس مطعمة بالياقوت والزمرد ناولها للأمير قائلا ...............
ــ لما وقعت عليها عينى عند أحد التجار من أصدقائى أعجبتنى , قلت فى نفسى هذه العصا لا تزينها إلا يمينك أيها الصديق العزيز , ليتها تروق لك وتنال رضاك ..
ــ شكرا لك يا صديقى , إنها عصا قيمة حقا لم أر مثلا لها من قبل ..
ــ أما هذه اللفافة فإنها تحوى خلطة من الجاوى والزعفران والعنبر الخام والمسك قمت بإعدادها لك بنفسى ..
تناولهما منه ووضعهما جانبا ثم التفت إليه قائلا ...............
ــ والله لا أخفى عليك أيها الصديق العزيز أن نفسى ظلت تراودنى أياما أن آتى إليك هذه المرة بنفسى لما تأخرت أنت على ..
ــ إنه لشرف كبير لنا أن تزورنا فى بلادنا , ليتك والله تفعل ..
ــ شكرا . شكرا لك , لكن ماذا أصنع و‏وقتى كله مزدحم بالأعمال , شغلتنى أمور كثيرة فى الأيام الماضيه ..
ــ المهم أن تكون خيرا ؟.
ــ سأحكى لك كل شئ فى حينه ..
ــ أعانك الله وحقق على يديك آمال الناس هنا ..
رد قائلا وهو يهم بالقيام .............
ــ شكرا لك والآن هيا بنا ..
ــ إلى أين يا سيدى الأمير ؟.
إبتسم فى خبث قائلا .............
ــ لا يزال بيننا حديث طويل والكلام لن ينفع هنا . ما قولك ياسيد بنو عبد المدان فى أن نذهب إلى الدار , نتحدث على راحتنا , بعيدا عن العيون والرقباء , وعن زحام العمل هنا فى دار الإماره ؟.
ــ كما ترى يا سيدى الأمير ..
حول مائدة فاخرة عامرة بأشهى الأطعمة وحافلة بمختلف أنواع الشراب والفاكهة جلس الأمير وضيفه وحدهما يتناولان طعامهما على مهل وهما يتحدثان فى مودة بعد أن أشار برأسه للخدم والوصفاء بمغادرة المكان ..
سأله الأمير متباطئا ............
ــ لم تخبرنى بعد ؟.
ــ عن أى شئ يا سيدى ؟.
ــ كيف تسير الأمور عندكم فى نجران هذه الأيام أيها الصديق العزيز ؟.
ــ كل شئ على حاله لكنى على ثقة أن بلادنا ستكون فى خير حال ما دامت نواصيها بأيدى أمينة كأيديكم يا سيدى الأمير ..
ــ "ستكون فى خير حال" إجابة سديده تدل على بديهة حاضره , كأنك أجبتنى وفى الوقت نفسه لم تجبنى . هيه وكيف حال ولاة الدواوين فى نجران هذه الأيام , كيف تسير الأمور لديهم ؟. أريد أن أعرف وجهة نظرك وأتأكد من بعض الحقائق من خلالك أنت , وإنى لعلى ثقة من أنك ستعطينى صورة تختلف كثيرا عن تلك التى تصلنى من رجالى . هذا دأبى معك دائما , أليس كذلك ؟.
أدرك الوليد مراده وما يرمى إليه من وراء سؤاله , إلا أنه تظاهر بعدم الفهم ورد مراوغا فى خبث ودهاء .............
ــ شكرا على ثقتك هذه , لكن ماذا أقـول ؟.
ــ إيه , تكلم كيف شئت ؟.
ــ فى الحقيقة يا سيدى لا أخفى عليك أن أحوالها ساءت جميعا , كنت أنتظر فرصة كهذه لأحكى لك كل شئ عنها ..
ــ وأنا مستعد لسماع كل ما عندك ..
ــ لنبدأ إذن بديوان ......
عاجله بقوله وهو يرفع راحة يده ...............
ــ إنتظر لنبدأ بديوان القضاء أولا لقد جاءتنى فى الأيام الماضية شكاوى كثيره يتضرر فيها أصحابها من قاضى نجران . حضر إلى بعض الناس يشتكون منه ومن أحكامه وأيضا آراءه التى يبثها بين الناس إلى غير ذلك , ليتك تعطينى المزيد عن أحوال هذا القاضى ؟.
ــ أجل يا سيدى كل ما جاءك عن هذا القاضى المكى صحيح . لقد دأب منذ وضع أقدامه فى بلادنا على إثارة الفتن والأحقاد بين الناس . كما أنه أهدر أحكاما فى كثير من القضايا سبق الحكم فيها , ويحكم برأيه ووفق هواه مما أحدث بلبلة وفتنا وانشقاقا فى صفوف القبائل . الحقيقة يا سيدى أنا صبرنا كثيرا على هذا الرجل ولم يعد فى مقدورنا أن نصبر عليه أكثر من ذلك , إنه ....إنه لا يكتفى بما يحدثه من فتن فى أمور القضاء ..
ــ ماذا أيضا ؟.
ــ إنه يتدخل فى أعمال الدواوين الأخرى ..
ــ يتدخل فى أعمال الدواوين الأخرى . كيف ذلك ؟.
ــ ديوان الخراج مثلا . إنه يتدخل كثيرا فى شغل القائمين على أمره ..
ــ آه هذا هو الأمر الآخر الذى وددت أن أسألك عنه وأعرف المزيد عن أحواله ..
ــ سل عما شئت يا سيدى ..
ــ بعد أن تسلمت مهام أعمالى هنا بأيام قليله إكتشفت سوء أحوال بلادكم ووجدت أن الأمور ليست على ما يرام تسير من سئ إلى أسوأ . من ذلك مثلا ما أثرته أنت الآن حول ديوان الخراج لاحظت ذلك النقص الكبير فى خراج اليمن , خصوصا ما يأتى من عندكم من نجران يتناقص سنة بعد أخرى , وعلمت أمورا أردت أن أتأكد من صحتها منك . لا أخفى عليك أنى سأتخذ قرارات مهمه على ضوء ما سأسمعه منك الآن ..
ــ صدقت أيها الأمير , السبب فى ذلك يرجع إلى أن جباة الخراج إنتهجوا فى السنوات الأخيرة نهجا جديدا وابتدعوا أمورا ..
ــ هيه إستمر ؟.
ــ لقد دأبوا على رد بعض ما يتحصلون عليه من أموال إلى نفر من الناس بحجة أنهم فقراء محتاجون ..
ــ آه هذا الذى جعل بعضهم يماطل فى دفع ما عليه أليس كذلك ؟.
ــ بلى سيدى ..
ــ ما السبب يا ترى ؟.
ــ إنهم لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم ..
ــ تعنى أن هناك من يحرضهم على ذلك ؟.
ــ أجل تلك هى الحقيقه وما أجرأهم على ذلك إلا هذا الرجل ..
ــ من تقصد ؟.
ــ هل هناك أحدا غيره . قاضى نجران , لم يكفه ما يفعله فى ديوان القضاء بعد أن جعل منه وسيلة لتحقيق أطماعه وجمع الناس من حوله , بدأ يتدخل أيضا فى أعمال ديوان الخراج ..
إعتدل الأمير فى جلسته وعاد يسأل من خلف ابتسامة ماكرة بعد أن وقع هذا الكلام منه موقعا حسنا ..............
ــ قاضى نجران . محمد بن إدريس الشافعـى ؟.
ــ أجل هو الذى أرسل إلى والى الخراج وأقنعه بفعل ذلك متعللا بأن هذا هو ما كان يفعله معاذ بن جبل فى اليمن بأمر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مما جعل بعض الناس يعتادون المطل وكسر الخراج ..
ــ وبالطبع لم يستطع والى الخراج معارضته وإلا أهاج الناس عليه ..
ــ أجل سيدى الأمير تلك هى حقيقة المسأله ..
ــ لقد أصدقتنى القول , هذا هو ما بلغنى تماما ..
ــ أفهم أنك على علم بهذه الأمور ؟.
ــ وأكثر من ذلك , أعرف الكثير بل وأخطر منه , لكنى أردت أن أستوثق منك وفى الوقت نفسه أعرض عليك ما قررته فى هذا الشأن ..
سأل الوليد متعجبا وقد انفرجت أساريره .............
ــ تعرض على أنا . لم يا سيدى ؟.
ــ لا يأخذنك العجب والدهش هكذا , فإن عليك دورا مهما , لكى تنجح خطتنا فى إصلاح البلاد ..
ــ طوع أمرك ورهن إشارتك ..
ــ بداية أريد أن تكون أول من يعلم أنى استصدرت أمرا من أمير المؤمنين بعزل والى الخراج فلا سلطان لنا نحن أمراء البلاد على أولئك الولاه ..
ــ لم حرصت يا سيدى على أن أكون أنا أول من يعلم بذلك ؟.
ــ حرصت على ذلك لأنى كتبت إلى الرشيد بشأنك ..
ــ بشأنى أنا ؟.
ــ أجل وأعلمته أنك ستكون ضامنا لخراج اليمن فأرسل لى كتابا , هذا هو , ستتولى بموجبه من الغد منصب والى الخراج وستكون مسؤولا عن جبايته . تلك أقل مكافأة أقدمها لرجل يعد من أخلص رجالنا ..
لم يستطع كتمان مشاعر الفرحة والدهشة وهو يتسائل ............
ــ أنا . أتولى جباية الخراج . لقد فاجأتنى يا سيدى ..
ــ إنتظر يا صديقى لم أفرغ من كلامى بعد . الأمر الثانى وهو الأهم وهذا سر أرجو أن تعدنى بألا يعلم به أى إنسان , أفهمت ؟. أى إنسان , حتى أفرغ منه ..
ــ أعدك أيها الصديق ..
ــ لقد اتخذت قرارا بالقبض على قاضى نجران ومحاكمته , سأرفع عما قريب أمره إلى أمير المؤمنين ..
تساءل فى ذهول غير مصدق لما يسمع .............
ــ معذرة يا سيدى , لا أكاد أصدق ما أسمع . تقبض على قاضى نجران . كيف . بأية تهمة تقبض عليه ؟.
إبتسم الأمير فى خبث قائلا .............
ــ مالك فزعت هكذا , ألا تصدق ؟.
ــ لا أنكر أنى قد أخذتنى الدهشة مما سمعت , إن القبض على قاض يا أمير اليمن ليس بالأمر الهين . كما أن مسألة الخراج هذه لا تصلح أن تكون ذريعة لك عند أمير المؤمنين لأن تضع الأغلال فى يد قاض من القضاه ..
ضحك فى استخفاف قائلا ................
ــ لا . لا مسألة الخراج هذه مسألة ثانوية لا قيمة لها كما قلت أنت بنفسك الآن , إنها لا تصلح مبررا للقبض على قاض , لكنى أعددت له ما هو أدهى وأمر , التهمة التى أستطيع بها وضع الأغلال ليس فى يديه فحسب بل حول عنقه أيضا وأنا مطمئن تماما ..
ــ وأمير المؤمنين هل يصدق على أمر كهذا ؟.
ــ التهمة التى أعددتها له لا جزاء لها عند الخليفة إلا السيف والنطع ..
ــ تقصد ؟…. آه ..... فهمت ..
ــ أجل هو هذا الذى فهمت .. آه لو كان الأمر بيدى لسقيته والله كأس المنون اليوم قبل الغد . لكنى سوف أذيقها له إن عاجلا أو آجلا ..
قال ذلك ثم قام من مكانه ممسكا بكتفى صاحبه فى مودة مستأنفا .....................
ــ كما قلت الآن فإن القبض على قاض ليس بالأمر الهين , إلا أنى أعددت لكل شئ عدته . لم تبق إلا خطوة واحدة لن يستطيع القيام به إلا أنت وحدك أفهمت ؟.
ــ أنا جاهز من الآن لتنفيذ كل ما تأمرنى به أيها الأمير ..
ثم قال فى نفسه وهو يزفر زفرة مكتومة ................
ــ آه منذ زمن طويل وأنا فى انتظار هذا اليوم على أحر من الجمر ..
ــ كما تعلم يا صديقى , محمد بن إدريس هذا إستطاع أن يجمع الناس من حوله ويكسبهم فى صفه . هكذا دأبه وديدنه منذ زمن فلا أعرف به منى مذ كنا سويا نختلف إلى إمام دار الهجره ..
ــ أجل يا سيدى الأمير إن هذا الرجل مذ وضع أقدامه فى بلادنا والناس لا حديث لهم إلا عنه . المهم ماذا على أن أفعل ؟.
ــ سأشرح لك كل شئ فلا تعجل . القبض على هذا الرجل وانتزاعه من بين الناس من الممكن أن يثير فتنة أو تشغيبا من أنصاره أليس كذلك ؟.
ــ بلى سيدى الأمير ..
ــ ونحن حريصون على اجتناب مثل هذه الأمور , لذا فإنى رأيت لكى نتوق حدوث مثل هذه القلاقل أن نمهد لهذا الأمر . إنى عاقد عليك آمالا كبيرة فى هذا الشأن , وأترك لك اختيار الوسيلة المناسبة للتمهيد لهذا الأمر , حتى لا يفاجأ الناس به ..
ــ فهمت .. وأعدك أن أبذل كل ما فى وسعى ..
ــ أيضا لا تنسى أن تسلط عليه بعضا من السفهاء والحمقى أينما حل , يحقرون من شأنه بين الناس ويسقطون من هيبته ..
ــ كأنك تقرأ ما يدور فى رأسى , لقد وضعت هذا فى الحسبان أيها الأمير ..
ــ عظيم .. نحن متفقون إذن , وأذكرك أن لك عندى مكافأة أخرى ..
ــ أية مكافأة تلك يا سيدى ؟.
ــ لن أخبرك الآن بها , إنها مفاجأه , عندما ترجع بسلامة الله إلى نجران ستعلم كل شئ ..

يتبع.. إن شاء الله ............................


الأغـلال فـى يـد القاضـى

ما كادت تمر أيام على هذا اللقاء وفى ساعة الصفر التى حددها قائد الشرطه بعد منتصف الليل والبلدة كلها تغط فى نوم عميق , تحركت عدة فرق من العسكر وانتشرت فى أنحاء البلاد فى وقت واحد للقبض على أولئك الرافضة دعاة الفتنه والمتمردين على أمير المؤمنين هارون الرشيد . فى الوقت ذاته فرقة مخصوصة منهم مدججة بالسلاح يممت وجهها إلى بيت القاضى الشافعى فى نجران . لم يشعر إلا والمشاعل أحاطت بالدار من كل جانب وفى الحال هجموا على بيته دون استئذان وانتزعوه من بين امرأته وأولاده فى غلظة ومهانة لا يليقان بمكانته ولا بمقامه الأدبى الرفيع . تاركين زوجته بمفردها داخل جدران الدار أسيرة الرعب والفزع والذهول , وهى تضم إلى صدرها فى هلع وخوف ابنتها زينب التى أكملت شهرها الرابع من عمرها . وإلى جوارها وقف ولدها محمد يبكى بكاء متلاحقا بينما هى لا تصدق ما يجرى أمام عينيها ولا تتصور أن يحدث يوما ما تراه الآن شاخصا أمامها من مهانة وعسف لزوجها الحليم التقى الذى لم يعاد فى حياته أحدا قط .. كان الوليد بن جبير قد بدأ مهمته كما وعد أمير اليمن فور رجوعه من مكه , وأخذ يلعب دوره المرسوم له فى هذه المؤامرة فى براعة وحنكة ودراية بمثل هذه الأعمال التى يعرف أمثاله من الخبثاء كيف يجيدونها ويتقنونها . أخذ ينشر مستعينا بأعوانه الشائعات المغرضة بين البسطاء والعامة حول الشافعى , فى أنه ضالع فى التآمر على أمير المؤمنين هارون الرشيد وأنه يتردد خفية على أوكار دعاة الفتنة والتمرد من الطالبيين العلويين ساعيا لاعتلاء سدة الحكم منصبا نفسه أميرا للمؤمنين مدعيا أنه هو الأحق بذلك . إلى غير ذلك من شائعات مفتراه ليس لها ظل فى أرض الحقيقة والواقع , ولا أصل إلا فى رؤوس من زيفوها وروجوا إليها ..
كانوا يمهدون بنشرها إلى بث الرعب والخوف فى قلوب الناس وخلق مناخ مناسب لتهيئة رأى عام تمهيدا للقبض على قاضيهم المحبوب , دون أن يجرؤ واحد من هؤلاء البسطاء وعامة الناس على الجهر بمناصرته أو إعلان تأييده له , أو حتى فى أن يبدى سخطه من القبض عليه . إنهم يعرفون جزاء من يفعل ذلك وإلى أين ينتهى به المصير ..
وكان ابن جبير كذلك قد نفذ ما سبق أن وعد به أمير اليمن وأطلق من خلف الشافعى السفهاء والحمقى فى الطرقات يلقون إلى سمعه بالفاحش من سقط القول . لم يسلم من سبابهم حتى وهو جالس مع أصحابه ومريديه فى داره أو فى المسجد يرد على أسئلتهم ويبين لهم أمور دينهم . من ذلك أنه كان جالسا ذات مرة وحوله جماعة من شيوخ وشباب نجران يسألونه واحدا بعد الآخر . سأل أحدهم ..............
ــ أيها القاضى حدثنا عن الرياء , ما حقيقته ؟.
ــ الرياء يا أخى فتنة عقدها الهوى حيال أبصار قلوب العلماء فنظروا إليها بسوء اختيار النفوس فأحبطت أعمالهم ..
ــ وكيف يصون المرء عمله من العجب ؟.
ــ إذا أنت خفت على عملك العجب فانظر رضا من تطلب وفى أى ثواب ترغب ومن أى عقاب ترهب وأى عافية تشكر وأى بلاء تذكر . فإذا تفكرت فى واحدة من هذه الخصال صغر فى عينيك عملك ..
سأل آخر ..............
ــ متى يكون الرجل عالما ؟.
ــ إذا تحقق فى علم فعلمه وتعرض لسائر العلوم فنظر فيما فاته عند ذلك يكون عالما ..
ــ ليتك تزيدنا بيانا ؟.
ــ سأضرب لكم مثلا , قيل لجالينوس إنك تأمر للداء الواحد بالأدوية الكثيره فقال إنما المقصود منها دواء واحد . إنما جعلت معه غيره لتسكن حدته لأن الإفراد قاتل وهكذا العلم الواحد عند صاحبه ..
وسأل ثالث .........
ــ أيها القاضى , أيما أفضل الصبر أم المحنة أم التمكين ؟.
ــ التمكين أفضل الدرجات وهو درجة الأنبياء ولا يكون التمكين إلا بعد المحنه فإذا امتحن صبر وإذا صبر مكن . ألا ترى أن الله تعالى امتحن إبراهيم وموسى وأيوب وسليمان ويوسف عليهم السلام ومكن لهم فقال تعالى فى حق يوسف : “ وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض “ وفى حق أيوب : “ وآتيناه أهله ومثلهم معه “ ..
وفى هذا المجلس استمر الشافعى يرد على أسئلة القوم التى أخذت تتوالى إلى أن فاجأ أحد الحمقى الحاضرين وهو يقتحم هذا المجلس الجليل بسيل من السباب والشتائم وسقط القول . إلتفت إليه الناس مستنكرين حتى أن بعضهم هم ليدفعه خارج المكان وآخرين كشروا عن أنيابهم ليفتكوا به , إلا أن الشافعى أشار إليهم فى حزم ألا يتحركوا من أمكنتهم قائلا فى ثبات ورويه ...............
ــ أيها القوم نزهوا أسماعكم وصموا آذانكم عن سماع الخنا , كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به , فإن المستمع شريك القائل . واعلموا أن السفيه ينظر إلى أخبث شئ فى إنائه فيحرص أن يفرغه فى أوعيتكم , ولو ردت كلمة السفيه لسعد رادها , كما شقى بها قائلها ...............

يتبع.. إن شاء الله ............................



@ وقبل أن يفارق الشافعى داره مع عسكر الوالى أوصى زوجته فى عجالة أن تأخذ محمدا وزينب وغلامه أيضا وأن ترحل بهم شمالا إلى أرض مكه ليعيشوا هناك فى أمان بين أخواله الأزد , إلى أن تنكشف هذه الغمه إن كان لها أن تنكشف حقا . كان لا يعلم يقينا إن كان سيرجع إليهم مرة أخرى , أم إنها الرحلة الأخيرة والنهاية المحتومه . وعلى باب الدار حانت منه التفاتة إلى زوجته حميده وهى تضم ابنتهما زينب إلى صدرها والدموع تسيل على خديها رغما عنها . كانت تحاول دون جدوى أن تظهر الجلد والثبات أمام زوجها حتى لا تزيد عليه الهموم والآلام . فى تلك اللحظات العصيبة وردت على مخيلته صورة أمه "أم حبيبه".. تصورها وهى تحمله بين ذراعيها وتضمه إلى صدرها وهو لا يزال وليدا فى المهد , عندما كانت فى طريقها إلى رحلة كهذه قبل اثنين وثلاثين عاما جنوبا من غزة إلى مكه حقا ما أشبه الليلة بالبارحه ..
لم يكد صباح هذا اليوم الحزين يتنفس وخيوط أشعة الشمس الأولى تمتد وتتشابك معلنة ميلاد نهار جديد , إلا وكانت نجران كلها قد أصابها الوجوم وعم أهلها الحزن وعلت وجوههم الكآبة , وهم يتناقلون همسا فى ذهول ما حدث فى جوف ليلة البارحة لقاضيهم المبجل على أيدى زبانية حماد البربـرى . لم يفاجئهم هذا النبأ المشؤوم بل كانوا يتوقعون حدوثه فى كل لحظة , بعد أن آتت ثمارها حملة الشائعات الشرسة التى قادها ابن جبير وأعوانه وأعدتهم لتوقع واستقبال أحداث هذا اليوم العصيب ..
وبينما زيد كاتب القضاء يهم بالخروج إلى عمله ولم يكن قد علم بما حدث للقاضى سمع طرقات خفيفة وجلة على باب الدار . كان الطارق أحد جيرانه الذى فاجأه قائلا وهو لا يزال على عتبة الدار ووجهه ممتقع حزين ............
ــ أسمعت ما جرى بالأمس للقاضى ؟.
سأله فزعا ..............
ــ أى قاض تعنى . الشافعى ؟.
ــ أجل , هل فى بلادنا قاض سواه ..
ــ إيه يا سلمان تكلم , هل أصابه مكروه , هيا تكلم لقد أوقعت الرعب فى قلبى ؟.
ــ علمت أن شرطة الأمير هجموا على داره فى جوف الليل وساقوه مهانا إلى صنعاء والأغلال تحيط يديه وقدميه ..
ضرب بقبضة يده على جبهته معقبا ................
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله أخيرا فعلوها , حدث ما كنا نتوقعه ونخاف منه ..
بعد لحظات صمت متبادل سأله ..............
ــ وامرأته وعياله هل علمت عنهم شيئا ؟.
رد فى عجاله .................
ــ كل ما أعرفه أنهم لا يزالون بالدار جميعا ولم يكونوا برفقته . هه السلام عليكم ..
قالها واستدار فى وجل يتعجل الخروج بعد أن أغلق الباب مخافة أن يراه أو يسمعه أحد من الزبانية المنتشرون فى كل مكان ..
لم تكد امرأته تسمع صوت الباب وهو يغلق حتى خرجت عليه مرتاعة من داخل الدار وهى تسأل فى لوعة وأسى ...............
ــ أصحيح ما سمعته الآن يا زيد ؟.
إكتفى من إجابته بالسكوت وهو مطرق حزنا يضرب بكفيه على فخذيه ضربات متلاحقة كأنه لا يصدق ما سمعه فعادت تسأله .................
ــ وماذا نحن فاعلون الآن هل نقف مكاننا مكتوفوا الأيدى تاركين امرأته وصغارها فى هذه المحنة يكابدونها وحدهم ؟.
ــ ماذا تقولين يا سعده . لقد روعت بما سمعت وأخذنى الذهول وأفكر الآن فيما سنفعله .. ردت فى حنق قائلة ..................
ــ هل هذا وقت التفكير يا رجل . ماذا تنتظر هيا قم بنا الآن إليهم فى التو ..
وفى بيت القاضى الشافعى جلست حميده العثمانيه والدموع تترجرج فى مآقيها تقص عليهما ما جرى لهم بالأمس , وفى نهاية كلامها أخبرتهما أنها تعد نفسها لرحلة العودة إلى مكة كما أوصاها زوجها قبل أن يقتادوه خارج الدار . أطرق زيد قليلا ثم قال لها .....
ــ لولا أن هذه وصيته لما تركناك ترحلين من هنا حتى تنكشف تلك الغمه ..
أكملت سعده قائلة ..............
ــ أجل والله لقد اتفقت مع زيد ونحن فى الطريق إليك أن لا نرجع من عندك إلا وأنتم معنا وفى ضيافتنا إلى أن يعود القاضى فى سلام . سيعود حتما إن شاء الله ..
قال زيد ..............
ــ على أية حال ما دامت تلك رغبة سيدى القاضى ووصيته فعليك أن تنتظرى هنا فى الدار , لا تتحركى منها وغدا فى الفجر سآتيك أنا وسعده ومعنا الركائب لنكون فى صحبتك فى تلك الرحله حتى تصلين بسلام إلى مكة بإذن الله ..
حاولت أن تعترض على كلامه إلا أنه أسكتها قائلا ................
ــ لا تقولى شيئا فنحن لن ندعك بأية حال تقطعين الطريق من نجران إلى مكة وحدك أبدا . لن نتركك إن شاء الله إلا بعد أن نطمئن عليكم جميعا وأنتم فى ذى طوى بمكه فى دار الأزد . تأكدى أنك وولدك وابنتك منذ اللحظة أمانة فى أعناقنا ..

يتبع.. إن شاء الله ............................


@ سيق الشافعى مع بقية المقبوض عليهم زمرا إلى مقر الأمير فى صنعاء , لم يجد سببايدفع جند الأمير إلى انتزاعه من داره بتلك القسوة وهذا الشكل المهين . إنه القاضى المبجل الذى يحظى باحترام الجميع , فضلا عن أنه لم يقدم للناس إلا الخير كله ولم تصدر منه مساءة لأحد أبدا . لم تكن بينه وبين أحد لدد أو خصومة إلا هؤلاء الخارجين على الشرائع والأحكام , هم وحدهم الذين كانوا يعادونه ويقفون منه موقف الخصماء . حاول أن يستفهم عن تهمته من حراسه إلا أنهم جميعا أطبقوا أفواههم , إلتزموا الصمت تلك كانت تعليمات قائد الشرطة لهم والويل كل الويل لمن يخالفها . لكنه كان على ثقة أن حماد البربرى وراء هذه المؤامرة الدنيئة والرأس المدبر لها وأنه يتربص به منذ أول يوم وضع فيه أقدامه فى اليمن منتظرا فرصة مواتية ينقض فيها عليه ..
هو من ناحيته كان يتجاهله ولا يعيره اهتماما منذ توليه منصب الإماره . لم يحاول مرة واحدة أن يسعى إليه فى دار الحكم مع جملة الساعين طلبا للزلفى والمكانه . كان يقضى وقته إما فى ديوان القضاء يفصل فى الظلامات التى ترفع إليه , أو بين كتب العلم التى كان يعكف عليها بقية يومه , أو وسط العلماء وهو يرتاد مجالسهم بين الحين والآخر . فى تلك الأيام كانت شخصيته العلمية قد بدأت تتبلور وتأخذ شكلا متفردا بين علماء زمانه . إلا أنه مع ذلك لم يدخر جهدا فى مواصلة القراءة والتلقى عن شيوخ عصره بحثا عن المعرفة فى علوم الدين وعلوم الدنيا أيضا . قال لزوجته حميده لما طلبت إليه ذات مرة أن يعطى لبدنه حقه من الراحه وهى مشفقة عليه من طول سهره وانقطاعه إلى القراءة والتدوين , رد عليها قائلا ..............
ــ يا عثمانيه من تعلم القرآن عظمت قيمته , ومن نظر فى الفقه نبل قدره , ومن كتب الحديث قويت حجته , ومن نظر فى اللغة رق طبعه , ومن نظر فى الحساب قوى رأيه , ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه ..
وفى مرة سمعته وهو يقول لأحد جيرانهم جاء يدعوه لوليمة أقامها لمناسبة زواج أكبر أبنائه ...............
ــ أما عنى فلا أحب أن يتخلف القاضى عن دعوة وليمة العرس , لكن معذرة أيها الجار لن أستطيع تلبية دعوتك وأرجو أن تسامحنى ..
ــ لم يا سيدى القاضى ؟.
ــ لقد أقيمت ولائم من قبل ولم أحضرها , والقاضى إما أن يجيب كلا وإما أن يترك كلا ..
مع ذلك كان الشافعى حريصا على أن يعود المرضى منهم وأن يحضر الجنازات ويأتى مهنئا لمقدم الغائب . كان حريصا أيضا ألا يشترى بنفسه حاجاته وحاجات بيته من السوق ويوكل هذه المهمة لغيره خوفا من المحاباة بالزيادة فى الوزن أو الكيل . هذا هو الشافعى الذى فوجئ بنفسه ذات يوم وهو يقف فى هذا الموقف المهين مكبلا بالأغلال ليدافع عن نفسه أمام غريم الأمس , متهما فى جرائم لا يعلم عنها شيئا حتى اللحظه . اللهم إلا ما همس له به زيد قبل أيام عن تلك الشائعات التى يتناقلها الناس عنه وعبر له عن مخاوفه من أن تكون هذه خطة مدبرة من أعدائه للكيد له والإطاحة به والقضاء عليه . وقتها لم يزد الشافعى على أن قال له وهو يبتسم فى صفاء وسكينة نفس ..................
ــ يا زيد ليس إلى السلامة من الناس من سبيل , لا تجزع يا رجل أما سمعت قول الله تعالى "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" ..
أكمل وفى عينيه نظرة إشفاق وخوف ..............
ــ صدق الله العظيم ………………

يتبع.. إن شاء الله ............................



@ أخذ حماد البربرى يطيل النظر إليه فى شماتة ممسكا بيمناه عصا الأبنوس والعاج يضرب بها على كفه الأيسر ضربات متباطئة فى رتابة , لم يكن يسمع فى القاعة غير وقعها على كفه وهو يبتسم ساخرا فى تشف واستهزاء . بينما الشافعى واقف أمامه فى أنفة وشموخ غير عابئ به ولا بنظراته الحادة السامة يسددها إليه كأنها خنجر مسموم يحمل فى نصله حقد السنين الماضيه . غير أنه كان يتمتم فى نفسه كلمات يناجى بها ربه . أخيرا قام من على كرسيه , إتجه ناحية الشافعى وأخذ يدور من حوله متباطئا ثم قال له فى صوت كفحيح الأفعى ..................
ــ أخيرا التقينا أيها المكى , ألم أقل لك فى المدينة أننا سنلتقى يوما ما ؟.
مرت لحظات صمت قبل أن يرد الشافعى بصوت خفيض فى هدوء ورباطة جأش ............
ليت الكلاب لنا كانت مجاورة .. وليتنا لم نر ممن نرى أحدا ..
إن الكلاب لتهدى فى مواطنها .. والناس ليس بهاد شرهم أبدا ..
قبل أن يتوجه إليه بالسؤال قال حماد فى نفسه محاولا كظم غيظه متظاهرا أنه لم يسمع ما قاله غريمه ......... هكذا , سنرى الآن ماذا أنت فاعل أيها المغرور ..
ــ هيه تكلم يا قاضى نجران ..
سأله الشافعى ساخرا وقد أطلت من عينيه أكثر من علامة استفهام ............
ــ أتكلم . عن أى شئ تسأل أيها الأمير ؟.
رد كالواثق من نفسه متصنعا الهدوء وضبط النفس ..............
ــ ألا تعرف حقيقة ؟. وهو كذلك سأخبرك . بلغنى أيها القاضى المبجل . أنك ... من أصحاب عبد الله بن الحسن العلوى , وأنك ... ترددت على داره غير مره , وأنك ... تدعو سرا ليحى بن عبد الله . أيكفيك هذا أم تريد المزيد ؟.
ــ والله لإن يحشرنى الله تعالى تحت راية رجل من أهل بيت رسول الله وأهل قرابته كعبد الله بن الحسن , أحب إلى من أن أحشر تحت راية خارجى يأخذه الله بغتة كقطرى بن الفجاءة المازنى رأس الخوارج ..
ــ أفهم من ذلك أنك لا تنكر موالاتك للعلويين , عظيم .. ما قولك فيما جاءنى أنك تردد كلاما كثيرا عن أحقية آل البيت بالإمامه . وأنك تردد ما يقوله هؤلاء الرافضه وطعنهم فى إمامة أبى بكر وعمر ؟.
ــ هل لك أن تخبرنى أنت أين ومتى قلت ذلك الإفك ؟.
رد قائلا وهو يتلهى بالنظر إلى عصا الأبنوس فى يده .............
ــ إفك . تقول إفك ؟. قلته مرات كثيرة , وفى أكثر من مكان وعندى الشهود على ذلك ..
رد الشافعى هازئا .................
ــ الشهود ؟. أى شهود أولئك الذين تتحدث عنهم يا هذا ؟. كذب عليك من أبلغك هذا الإفك , هذا إن كان شيئا قد بلغك كما تدعى . إعلم أنه ما يكون لمثلى ولا يليق به أن يردد مثل هذه الأباطيل ..
ــ أتنكر أنك صرحت فى غير مكان بأنك رافضى ..
ــ كيف ومتى قلت ذلك ؟.
ــ ألست القائل .............. فليشهد الثقلان أنى رافضى ؟.
ــ أجل قلت ذلك, وكيف لى أن أنكر ما قلت ..
ــ وهذا اعتراف آخر منك , إعتراف صريح . ليتك تعيد على أسماعنا نص ما قلت ..
قال الشافعى وقد شابت نبرات صوته بعضا من الحده .............
يا راكبا قف بالمحصب من منى .. واهتف بقاعد خيفها والناهض ..
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى .. فيضا كملتطم الفرات الفائض ..
إن كـان رفضا حب آل محمد .. فليشهـد الثقلان أنى رافضى ..
ــ عظيم ها أنت تعترف أنك رافضى فلم أنكرت فى البدايه ؟.
ــ لأنك تقول كلاما مبتورا , كمن تلا قوله تعالى فى سورة النور [ الذين آمنوا لهم عذاب أليم ] دون أن يقرأ صدر الآيه ..
سأله مستهزئا وهو يعبث فى لحيته بأنامله ..............
ــ وما صدر الآيه ؟.
ــ بسم الله الرحمن الرحيم "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم" صدق الله العظيم ..
ــ ليتك تبين لنا ما تعنيه يا فيلسوف العصر والأوان ؟.
ــ إن دينى يملى على وعلى كل مسلم أن يحب عليا صهر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وابن عمه وأول من أسلم من الصبيان والنائم فى فراشه ليلة الهجره ..
قاطعه حماد قائلا ................
ــ فأنت إذن من شيعة على , الرافضين لإمامة أبى بكر وعمر . إياك أن تنكر ذلك بعد أن ادعيته فيما قلته من قريض قبل قليل ..
ــ إعلم أيها الرجل , أن عليا إبن عمى وابن خالتى , ولو كان الأمر كما قلت لكنت بهذه الكرامة أولى ولكن ليس الأمر كما تدعى ..
ــ لم تجب على سؤالى بعد ألست منهم . أعنى أولئك الشيعة الرافضه ؟.
ــ أعوذ بالله أن أكون منهم فإنهم شر عصابه . إننى أجيز فى القضاء شهادة أهل الأهواء كلهم إلا تلك الفئة الباغيه ..
ــ فماذا تقول عن أبى بكر وعمر ؟.
ــ كل واحد منهما له قدره ومنزلته وشرفه . لقد أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى القرآن والتوراة والإنجيل . وسبق لهم على لسانه "صلى الله عليه وسلم" من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهناهم بما آتاهم . إنهم أدوا إلينا سنن النبى "صلى الله عليه وسلم" وشاهدوا الوحى ينزل عليه فعلموا ما أراد "صلى الله عليه وسلم" عاما وخاصا وعزما وإرشادا وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا . وهم فوقنا فى كل علم واجتهاد وورع وعقل وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من أرائنا لأنفسنا ..
ــ فأنت إذن ناصبى تناصب آل البيت العداء ..
ــ من قال هذا ؟. إن حبى لأبى بكر رضى الله عنه الصديق الأكبر ورفيق النبى "صلى الله عليه وسلم" فى أقدس رحلة وثانى اثنين إذ هما فى الغار وخليفة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا يمنعنى من حب على كرم الله وجهه ولا يجعلنى أناصب آل بيت النبى العداوة كما يدعى أصحاب القلوب المريضة والعقول القاصره . كذلك لا يمنعنى من حب عمر وعثمان وكل أصحاب النبى "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ أفصح يا رجل , أرافضى أنت أم ناصبى ؟.
ــ عجيب أمرك أيها الرجل إما أنك لم تفهم قولى بعد وإما أنك تتعمد ذلك ؟. كيف تدعى على هذا وتقذفنى بهذه التهم الباطلة بعد كل ما سمعت ؟.
قال ذلك ثم أطرق برهة ورفع رأسه قائلا .................
إذا نحن فضلنا عليا فإننا .. روافض بالتفضيل عند ذوى الجهل ..
وفضل أبى بكر إذا ما ذكرته .. رميت بنصب عند ذكرى للفضل ..
فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما .. أدين به حتى أوسد فى الرمل ..
حاول حماد أن يبدو متماسكا وهو يبتلع الإهانة فى صمت دون أن يعقب على تعريض الشافعى به ورميه إياه بالجهل . أخذ يحدجه واجما بنظرات حادة ناريه والشرر يتطاير من عينيه وهو يشير للحراس أن يعيدوه مرة أخرى إلى محبسه , ثم نادى على كبير الشرطة قائلا له وهو يتميز من الغيظ .............
ــ تأكد من وضعه فى زنزانة محكمة بمفرده بعيدا عن باقى المتمردين . شدد عليه الحراسة وكذلك على من معه ريثما أعود من بغداد بعد أن أعرض أمرهم على أمير المؤمنين ..

يتبع.. إن شاء الله ............................


بغـداد 184 هجريه .. الإتهام

@ أقبل العشاء وأظلم الليل واتخذ الرشيد مكانه فى مجلس الراحة والسماع بعد أن فرغ من أعماله وإحكام أمور الخلافه . كان متكئا فى استرخاء على سرير من الذهب المرصع بالدر والياقوت فوق سدة فى صدر المجلس , منصوبة بين اسطوانتين من أساطين الإيوان مجللتين بالوشى الممتزج بالذهب , وقد وقف عند كل واحدة منهما "وصفاء" فى أيديهم المناديل . ووراء السدة من الجانبين رجلان يبدو كل واحد منهما كأنه مارد خارج من القمقم لتوه واضعا يده على مقبض سيف مسلول ..
عن يمينه جلست شقيقته العباسه وعن يساره زوجها جعفر بن يحي البرمكى ومن حوله بعض خاصته وسماره . وفى الجهة المقابلة من القاعة اتكأت زبيده زوج الرشيد على سرير من الأبنوس المطعم بالذهب والفضه . كانت إمرأة عبقرية الحسن والجمال وضاحة الوجه كأنها البدر فى ليلة التمام , لها مهابة وسطوة تتجلى فى عينيها لمن يقع بصره عليها ..
جلست ومن حولها جواريها وقد فاحت من كل ناحية روائح الطيب على اختلاف أنواعها فعطرت أرجاء المكان بعرف شذاها الذكى , وهم يستمعون إلى إبراهيم الموصلى بينما يضرب على عوده فى براعة وإجادة منشدا فى نغم بديع بصوته العذب الرخيم : .......
إلى وجهه تسمو العيون وما سمت .. إلى مثل هارون العيون النواظر ..

ترى حوله الأملاك من آل هاشم .. كما حفت البدر النجوم الزواهر ..

إذا فقـد الناس الغمام تتابعت .. عليهم بكفيك الغيوم المواطر ..

وأبناء عباس نجوم مضيئة .. إذا غاب نجم لاح آخر زاهر ..

ليهنكم الملك الذى أصبحت .. بكم أسرته مختالة والمنابر ..

كان الرشيد يستمع إليه مطرقا وجهه إلى الأرض , لا يجلس غالبا إلا هكذا ما يرفع إليه طرفه إلا نادرا تلك سجيته . كان من أرق الخلفاء وجها وألطفهم سمتا وخلقا ..
فى تلك الأثناء كان قائد الشرطة يتخطى أبواب القصر الأربعة راكبا جواده يرافقه رجل ملثم يمتطى جوادا آخر . بينما الحراس يفتحون لهما الباب تلو الآخر حتى إذا تخطيا الباب الأخير نزلا عن جواديهما وتركاها لأحد الغلمان المكلفين بهذا , سارا فى طريق طويل إلى أن صارا داخل قبة القصر . تناهى إلى أسماعهما صوت المغنى على نغمات العود وإيقاعات الدفوف والمزاهر ..
توقفا مكانيهما لحظات أشار خلالها قائد الشرطة لرفيقه الملثم الذى لم يكن سوى أمير مكة واليمن حماد البربرى أن ينتظر فى إحدى الغرف الملحقة بقاعة الرشيد , أعدها لتكون مقرا لانتظار ضيوفه ريثما يؤذن لهم بالدخول . تقدم هو بمفرده إلى داخل مجلس أمير المؤمنين ..
لمحه الرشيد متجها إليه فأدرك من خطواته وملامحه أن وراءه أمرا , فلم يكن لأحد من رجاله أن يدخل عليه مجلس السماع والمسامرة إلا لأمر هام . إلا قائد الشرطة كان من القلائل المسموح لهم كما هو الحال بالنسبة لبعض الوزراء والمقربين من رجاله , دخول مجلسه فى أى وقت وبدون استئذان من حجابه إن كان لديهم أمور واعتبارات تتعلق بأمن البلاد ومصالح الدولة العليا . أشار إليه برأسه أن يدنو منه فقال هامسا وهو يميل على مسامعه ...........
ــ مولاى أمير المؤمنين , حماد البربرى أمير مكة واليمن بالباب , ينتظر الإذن بالمثول أمامكم ..
سأله الرشيد هو الآخر هامسا ...........
ــ حماد . ما الذى جاء به إلى بغداد الآن , ماذا وراءه يا ترى ؟.
ــ يقول إن لديه أنباء هامه ..
ــ أفلا ينتظر لصباح الغد ؟.
ــ إنه يبدو قلقا , و.... فى عجلة من أمره ..
ــ ألم يخبرك بما لديه ؟.
ــ لا يا أمير المؤمنين , حاولت أن أستعلم منه عما وراءه إلا أنه أبى , أصر أن يخبرك بنفسه . كل ما فهمته من كلامه أنها أنباء خطيره تمس أمن البلاد ..
ــ ليدخل إذن ما دام الأمر كذلك .
ــ عفوا يا مولاى , إنه يريد أن يحادثكم على انفراد ..
قالها وهو يتراجع خطوات للخلف . صفق الرشيد بيديه تصفيقتين إيذانا بإنهاء مجلس السماع خرج على إثرهما المغنون والعازفون والجوارى . أشار للباقين من خاصته وأهل بيته أن ينصرفوا هم أيضا , لم يستبق فى المجلس سوى قائد الشرطة وكبير حجابه وكاتم أسراره الفضل بن الربيع ..
أشار قائد الشرطة من مكانه إلى حارس الباب بعد أن أذن له الرشيد أن يدخل عامله على مكة واليمن . تقدم وألقى التحية ثم لبث مكانه ساكنا منتظرا أن يؤذن له بالكلام . لم يكن من عادة من يدخل على أمراء المؤمنين حتى لو كان من المقربين أن يبدأ الكلام إلا بإذن أو إشارة منـه ..
بادره الرشيد متسائلا .............
ــ تكلم يا أمير مكة واليمن ماذا وراءك ؟.
ــ قدمت توا من اليمن يا أمير المؤمنين حاملا أنباء على جانب كبير من الأهمية ..
ــ تكلم أيها الأمير فإنى مصغ إليك ..
ــ تمكنت أخيرا يا مولاى أن أضع يدى على جماعة من أولئك الذين يشيعون الفتنة والفساد فى البلاد ..
ــ أفصح , إلى أى جماعة ضالة ينتمون ؟.
ــ إنهم من الشيعه والرافضه , يدعون سرا لذلك الطالبى يحى بن عبد الله ..
قاطعه الرشيد متسائلا ...............
ــ يحى بن عبد الله من يكون . آه , تقصد الطالبى الذى أودعته سجن بغداد قبل سنوات ؟.
ــ تماما يا مولاى إنه هو ..
سكت الرشيد برهة راح خلالها فى تفكير عميق وقد أخذته الهواجس والظنون وهو يحدث نفسه ............ يحى بن عبد الله . كيف ذلك . من أين لهؤلاء الناس به وهو ملقى فى غياهب السجن ؟. أيكون قد تمكن من الـ ….. لكن لا . من غير المعقول أن يكون قد تمكن من الفرار . لقد سلمته بنفسى وأوكلت أمره لأخلص رجالنا وأقربهم إلى قلبى الوزير الفضل بن يحي البرمكى ..
رجع الرشيد من خواطره التى تزاحمت داخل رأسه وعاد يسأل عامله.........
ــ كم يبلغ عدد هؤلاء المتمردين الخارجين علينا ؟.
ــ ثمانية وأربعون رجلا , لم تغفل عيوننا عنهم لحظة واحده كانوا تحت المراقبة الصارمة طوال الأشهر الماضيه , وهم الآن جميعا فى قبضة أيدينا بعد أن أودعتهم سجون صنعاء فى انتظار ما تأمر به فى شأنهم ..
ــ هل معك بيانا بأسمائهم ؟.
ــ أجل يا مولاى , هذه الكراسة مدون فيها أسماءهم وأسماء آبائهم , و... جناية كل واحد منهم ..
أشار الرشيد بيده ناحيته متسائلا ...............
ــ وما هذه الكراسة الأخرى ؟.
ــ إنها تخص واحدا منهم بعينه ..
ــ من يكون ؟.
ــ إنه كبيرهم أفردت له كراسة وحده فيها كل شئ عنه ..
ــ لم أفردت له بيانا وحده ؟.
تنحنح حماد قائلا ...........
ــ إنه كما قلت كبيرهم كما أن جنايته أعظم وهو أخطرهم يا مولاى . يعمل بلسانه ما لا يعمله الرجل بسيفه فهو يملك من قوة البيان وذلاقة اللسان وفصاحة اللفظ وسرعة البديهة ما يمكنه من أن يؤثر فى سامعيه ويخلب ألبابهم . والأدهى من ذلك يا مولاى أنه .....
ــ أنه ماذا يا أمير مكة واليمن تكلم ؟.
ــ إنه يجاهر بآرائه تلك فى كل مكان يذهب إليه أو أى مجلس يتواجد فيه دون خوف أو حياء مستندا إلى نفوذه وإلى نسبه الذى يدعيه ..
ــ أى نسب هذا الذى يدعيه دعى متمرد مثله ؟.
ــ إنه يدعى كذبا أنه طالبى من أبناء المطلب بن عبد مناف ..
قاطعه الرشيد متسائلا ................
ــ وأى نفوذ أو سطوة يملكهما متمرد مارق مثله ؟.
ــ إنه يعمل بالقضاء , قاضيا على نجران واستطاع من خلال عمله مستعينا بدهائه وسحر بيانه أن ينشر ضلالاته وينفث سمومه بين الناس وأن يجذب كثيرا من العامة إليه حتى تمكن فى زمن يسير أن يؤلف قلوب الناس من حوله ..
ــ صدقت أيها الوالى إن من البيان لسحرا ..
ثم علا صوته مرة واحدة : منذ متى والقضاة يشتغلون بمثل هذه الأمور ؟. إن هذا لمما يخل بجلال القضاء وهيبته كيف سمحت له بذلك ؟.
ــ لم أكن أملك فى بداية الأمر حيلة معه خاصة وهو يتحصن فى ثوب القضاء وهيبته . غير أنى حاولت أن ألفت نظره بالحسنى أكثر من مرة لأفعاله تلك وأن يكف لسانه عن الخوض فى هذه الأباطيل التى يرددها دون جدوى . كان يحتمى بعباءة القضاء من ناحية وبجموع الدهماء الذين التفوا من حوله من ناحية أخرى . أجل يا مولاى رغم كل هذا أوقع نفسه فى المحظور وفى تلك الأوراق بيان مفصل بكل ما حدث منه من أقوال وأفعال ..
أخذ الرشيد يقلب فيها على مهل ثم عاود سؤاله وعينه لا تزال على الأوراق تتصفح فقرا منها ..........
ــ هل واجهته بأقواله وأفعاله تلك ؟.
ــ أجل يا مولاى أمام إصراره على المضى فى أفعاله وإثارته للناس إضطررت للتحفظ عليه حتى أحول بينه وبينهم . خوفا من وقوع الفتنة التى كنا نتوقع اشتعالها بين لحظة وأخرى ثم واجهته بأقواله وأفعاله ..
ــ ماذا كان رده ؟.
ــ أخذ يراوغ ويناور ويتلاعب بالألفاظ والمعانى كدأبه معى كل مره غير أنه فى النهاية لم يستطع الإنكار أو التنصل من أقواله وادعاءاته . إنه يا مولاى لا يكتفى بتشيعه للبيت العلوى والكلام عن أحقيتهم فى الإمامة والخلافه بل قال أكثر من مرة وفى أكثر من مكان ما هو أدهى من ذلك وأمر ..
ــ أدهى من ذلك وأمر . أى شئ أدهى وأمر من ذلك إلا أن يكون طامعا فى الخلافه ؟.
قال العبارة الأخيرة ساخرا إلا أنه فوجئ به يرد قائلا .............
ــ تماما يا مولاى , هو ذاك ..
نظر إليه نظرة ساخرة وهو لا يزال غير مصدق فأردف ............
ــ تلك هى الحقيقة يا مولاى , إنه تحدث أكثر من مرة عن أحقيته هو نفسه بالخلافه ..
ــ عجيب ما أسمع , من يكون هذا الدعى المارق ؟.
ــ إنه يدعى ... محمد بن إدريس الشافعى ..
أطرق برهة كان يحاول خلالها أن يتذكر أمرا وهو يردد إسمه مرات ثم قال .........
ــ محمد بن إدريس , كأنى سمعت بهذا الإسم قبل اليوم . لكن أين ومتى يا ترى , لا أذكر الآن ؟.
قالها الرشيد وهو يهم بالقيام واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة ثم أردف غاضبا .........
ــ أيها الأمير أرسل إلينا هؤلاء المتمردين فى الحال الويل له ولهم ..
إنحنى حماد متراجعا للخلف وهو يقول ............
ــ السمع والطاعة يا أمير المؤمنين ..
كان الفضل بن الربيع يرقب هذا الحوار من ركن قريب وقد بان على وجهه القلق والضيق وأخذه الدهش عندما سمع الرجل يردد إسم صديقه الشافعى وأنه يأتى فى مقدمة المتمردين . بوغت لدى سماعه إسم صاحبه وأدرك أن صديق طفولته وصاحب الجميل والفضل عليه يتعرض لمحنة كبرى ستكلفه حياته حتما , فالرشيد لا تأخذه شفقة بأحد كائنا ما كان ولا يعرف التسامح أو العفو فى أمثال هذه التـهم وأشباهـها ..
هم أن يسارع بدفع هذه التهمة الخطيرة عن صديقه وأن يذكره به وهو يحاول أن يتذكر اسمه وأنه صديقه القديم الذى التقى به فى المدينة قبل سنوات قليلة وحدثه آنذاك عنه وعن علمه الغزير . كان الفضل بن الربيع قادرا على هدم ادعاءات البربرى كلها ودحضها من أساسها فهو على ثقة أن صاحبه برئ من هذه التهمة الشنيعة وأنه لا يمكن له أن يتورط مع فئة ضالة كهذه الفئه وهو يعلم عنه أنه ليس من المغرمين بأمور السياسة وألاعيب الحكم ومشاكله ..
فليبادر إلى أمير المؤمنين ويعرفه أن الشافعى برئ من هذه التهم الباطلة قبل أن يقوى غضبه عليه وأن ما يدعيه أمير اليمن محض افتراء وأباطيل وأن أخلاقه وعلمه يأبيان على مثله أن ينهج مثل هذا النهج السقيم وأن يحذو حذو المبطلين القائلين بأفضلية سيدنا على فى الخلافة على سيدنا أبى بكر وسيدنا عمر رضى الله عنهما . ليس هذا فحسب بل إنه متهم بشق عصا الطاعة والولاء ورفض خلافة الرشيد وأنه المحرض الأول للفتنة والداعى لها ..
أخذ الفضل يراود نفسه وراح فى شد وجذب معها وأخيرا قرر أن يرجئ وساطته إلى وقت لاحق بعد أن تهدأ نفس أمير المؤمنين . إنه الآن فى قمة غضبه وثورته والوقت ليس مناسبا للوساطة والشفاعه فليتراجع إذن إلى وقت يكون الرشيد فيه مسترخيا ساكن النفس وإلا تعقدت الأمور . كان الفضل لطول خبرته وحنكته فى بلاط الرشيد يعلم متى يحادثه فى مثل هذه الأمور ومتى يجب على مثله أن يمتنع ..

يتبع.. إن شاء الله ............................

abuzahda
30/03/2009, 02h30
و الله يا سيدنا
أمسكت على نفسي - قصراً- حتى لا تبدو مشاركتي كالمقاطعة
أمرُّ خلسة لأنسخ ما يجود به و قتكم ، ثم أطبعه للقراءةِ
أمدَّكم الله بعونه ، و بركة الشافعي

د أنس البن
30/03/2009, 08h31
شاعرنا وأديبنا الكبير سيد أبو زهده
أشكر لك متابعتك لى ,, وليتك لاتحرمنى من ملاحظاتك وتوجيهاتك وتصويباتك ورؤيتك .. سأكون سعيدا بذلك جدا والله .. وكما قيل قديما رحم الله امرأ عرف قدر نفسى , وقلت ولازلت أقول أنى لست من أصحاب هذا الفن , وأكرر إنها مجرد محاوله والله وأنها تفتقد الى كثير من حرفية الأديب صاحب الصنعه .. لذا أتمنى ألا تحرمنى من أى تعديلات تراها بحسب خبرتك على النص .. ولك الأجر والثواب من عند من لا تنفذ خزائنه ولا تضيع ودائعه ...

د أنس البن
30/03/2009, 08h31
وراء القضـبان



@ هب الشافعى فزعا من رقدته الخاطفة وهو يفرك عينيه . إستطاعت عيناه أخيرا أن تغفل قليلا فى هذا المكان الكئيب . أخذ ينظر حواليه فى تكاسل لمعرفة ما مر عليه من زمن وهو نائم هكذا . كان لا يزال هناك خيط ضعيف خافت من ضوء النهار ينبئ أن شمس هذا اليوم فى طريقها للمغيب . رنا إليـه شعاعه وهو يتسلل على استحياء من كوة ضيقة فى تلك الزنزانة الرطبة اللعينة التى أودعوه فيها وحده . فى ذات الوقت كان حارسه صلاح الدين جالسا بالقرب من الباب يتابع بعينيه مجمرة أمامه فيها قطع من الفحم المتأجج وفى يده كوب من شراب الزنجبيل الدافئ يحتسيه فى ملل وفتور . بينما أصابع يده الأخرى تعبث فى حركة رتيبة بشعرات لحيته الخفيفه ..
بدا الشافعى منكمشا على نفسه من برودة المكان وسكونه وهو يشعر بالقشعريرة تدب فى أوصاله محاولا أن يمسح آثار النوم عن عينيه . إلتفت إلى سجانه من بين قضبان السجن وقد صار بينهما نوعا من الصداقة وشيئا من الألفة والموده فى تلك الأيام القلائل التى مضت عليه وهو فى هذا المكان لا يرى فيها سواه وزميله المناوب معه القائم على حراسته منذ أن ساقوه من اليمن إلى العراق ..
فلم يكد حماد البربرى يعود إلى أرض اليمن بعد لقائه بأمير المؤمنين وأخذ الإذن منه بإحضار السجناء إليه فى العراق , حتى أصدر أوامره بترحيلهم جميعا إلى هناك يتقدمهم الشافعى فى موكب مهين على أقتاب الإبل وأيديهم مغلولة فى الأثقال إلى أعناقهم تسبقهم تهم التشيع لآل البيت ورفض كل من تولى الخلافة قبل سيدنا على وبعده , والخروج والتمرد على أمير المؤمنين وعدم الإعتراف بخلافته ..
دل هذا الرجل وهو يسعى للبحث عن أفراد هذه الفئة الضالة على أنه شديد الخبث والدهاء لما وضع خطته وقرر أن يزج باسم الشافعى ضمن أسمائهم , ليس هذا فحسب بل ويجعله كبيرهم وزعيمهم . وفى بغداد مدينة السلام أودعوه هذه الزنزانة وحده باعتباره المتهم الأول وكبير المتمردين فى نظرهم . أما بقية السجناء أفردوا لهم حبسا جماعيا فى مكان قريب فى انتظار محاكمتهم بعد عودة أمير المؤمنين هارون الرشيد من مدينة الرقه . وهى المكان الذى كان يحلو للرشيد أحيانا أن يمضى بعض الوقت فى دار للملك أعدها فى تلك المدينة الصغيرة الوادعه التى تقع فى مكان هادئ على الضفة الشرقية للفرات شمال غربى الجزيره . إتخذ الرشيد هذه المدينة خصيصا لتكون قاعدة لهجومه على الفرنجه حيث ينطلق من أرضها ليغزوهم عبر البحر الأسود وبحر الروم ..
كان مسلك الشافعى فى زنزانته هو الذى أوجد تلك الألفة والمودة بينه وبين حارسيه حيث يقضى جل وقته ما بين الصلاة والدعاء أو قراءة القرآن بصوته الرخيم العذب . وأحيانا أخرى يدون فى أوراق معه على ضوء فتيل ضعيف بعض المسائل والأحكام التى يتوصل إليها مخافة الضياع أو النسيان . وفى بعض الأوقات يجلس إلى حراسه معلما ومفتيا إن تصادف وسأله أحدهم عن مسألة تتعلق بأمور الشرع أو تفسير آية من القرآن أو حديث للنبى "صلى الله عليه وسلم" ..
كل هذا جعل حراس السجن جميعا بما فيهم حارسى زنزانته اللذان كانا يتبادلان الحراسة عليه يوقرونه ويحفظون له قدره ومنزلته . لم يخاطبوه مدة إقامته معهم إلا ولقب الشيخ يسبق إسمه . ومن ناحيته هو كان لا يخاطب حارسه صلاح الدين إلا باللقب المحبب لديه "أبا الصلح" والذى كان إخوانه يخاطبونه به أيضا . إلتفت إليه وناداه .............
ــ أبا الصلح , هل أذن لصلاة المغرب ؟.
إنفرجت عن شفتيه ابتسامة مقتضبة باردة برودة هذا المكان الكئيب وهو يلتفت ناحيته قائلا .............
ــ من ؟. شيخنا التقى الصابر . صح النوم أيها الشيخ , إيه ... كأنك لم تنم منذ أيام , ما خطبك اليوم ؟.
ــ الحمد لله أخيرا حصلت بعض النوم . صدق الإمام على بن أبى طالب لا يقهر ابن آدم حقا إلا النوم ولا يقهر النوم إلا الهم . لم أشعر بنفسى يا أبا الصلح إلا والفراش يبتلعنى كغريق فى بحر الظلمات بعد أن مرت على ثلاث ليال لم يغمض لى فيها جفن أو تقر عين ..
ــ صدقت أيها الشيخ فلا أشق على نفس الإنسان من مكابدة الهموم . إيـه , يبدو أنك تحمل الكثير منها فى نفسك . ما علينا , ليهنك النوم يا شيخنا الطيب ..
رد قائلا وهو يتنهد فى أسى ................
ــ إيه يا أبا الصلح كيف تنام لى عين أو يقر لى جفن وقد تركت المرأة وصغارها وحدهم فى ديار الغربه . حتى الغلام الذى يقوم على خدمتى , كان مصرا على مرافقتى , لم يكف أبدا عن البكاء والصراخ وهو متعلق بأذيال ردائى يناشد العسكر ويرجوهم أن يأخذوه معى . لم يتمكنوا من انتزاعه بعيدا عنى إلا بعد أن لطمه أحدهم بيده لطمة قوية أفقدته الوعى ..
ــ لا تيأس أيها الشيخ ولا تحزن . إن الله تعالى معهم لن يضيعهم أبدا ..
ــ أعلم أن الله تعالى لن يضيعهم ولن يتخلى عنهم , لكنها الشفقة والخوف الغريزى المودعان فى قلب ابن آدم . كيف أدفعهما عنى أو أمنع عنهما نفسى . نحن فى النهاية بشر ضعفاء أيها الحارس ..
ــ هل يعيشون وحدهم . أليس معهم أحد قط ؟.
ــ إنهم الآن فى طريقهم إلى مكه ..
ــ كيف علمت ؟.
ــ لقد أوصيتها فى عجالة والجند ينتزعوننى انتزاعا من بينهم أن تأخذ الولد والبنية وكذلك الغلام وأن ترحل بهم إلى ذى طوى بمكه حيث يقيم أخوالى الأزد لتكون بينهم وفى كنفهم فى انتظار ما تقضى بـه المقاديـر ..
مرت لحظات صمت كئيب قبل أن يفاجئ صلاح الدين سجينه قائلا ................
ــ إسمع يا أبا عبد الله , لقد طرأت على خاطرى الآن فكرة سأعرضها عليك أظن أنها سترضيك وتريح فؤادك وخاطرك ..
نظر إليه الشافعى متسائلا فأردف قائلا ................
ــ ما قولك فى أن تخط الآن رسالة لأهلك تطمئنهم فيها عليك ؟.
أطرق الشافعى برهة يتدبر الأمر , ثم رفع وجهه قائلا وقد انفرجت أساريره .....
ــ رأى سديد لا بأس به , لكن من ذا الذى سيقوم بتوصيلها إليهم ؟.
ــ لا تهتم لهذا , عندى من سوف يوصلها لهم فى أمان وفى ذات الوقت يأتيك بأخبارهم كى يطمئن قلبك وتقر عينك . هيه ما قولك ؟.
ــ من ذا الذى يرفض أمرا كهذا سأفعل إن شاء الله , لكنك لم تجبنى بعد , من هذا المغامر الذى يقوم بتلك المهمة الخطره معرضا نفسه للخطر الجسيم ؟.
ــ أى خطر هذا الذى تتحدث عنه أيها الشيخ الطيب ؟.
ــ كيف تسأل سؤالا كهذا يا أبا الصلح ؟. هل غاب عنك أن حامل رسالة كهذه يضع نفسه موضع الإتهام . أنسيت ما الذى يمكن أن يحدث له لا قدر الله إن أمسك به واحد من جنود الخليفه وفى جيبه رسالة كتبها من لا يزال حتى الآن فى نظرهم متمردا عاصيا ؟.
ــ دع عنك هذه الظنون أيها الشيخ إنما هى مهمة يسيرة بإذن الله وليست كما تظن بهذه الصعوبه . لقد اخترت لها واحدا أثق فيه وفى مقدرته على المراوغه كما أنه لن يشك أحد فيه ..
ــ من يكون ؟.
ــ سالم , شقيقى الأصغر , شاب فتى لبيب يشتغل بصناعة الخزف وله معمل لصناعة المواد الخزفية فى بغداد . إنه كثير الترحال دائم السفر لتوزيع بضاعته وبالطبع لن يشك فيه أحد . هيا يا شيخ لا تضيع الوقت أمامك المحبرة والريشه ما عليك إلا أن تكتب الرسالة الآن ودع الباقى على أخيك صلاح الدين . يعلم الله كم أحببتك أيها الشيخ الحجازى هيا لا تشغل بالك أنت ..
ــ حسن حسن سأخطها إن شاء الله . أخذنا الكلام بعيدا وشرد بنا الحديث ولم ترد على سؤالى بعد يا أبا الصلح ..
ــ عن أى شئ كنت تسألنى ؟. آه تذكرت كنت تسأل عن صلاة المغرب . لا لم يحن وقتها بعد . أظنك صليت صلاة العصر قبل أن ترقد تلك الرقده ؟.
ــ أجل صليتها فى وقتها لئلا تفوتنى ..
صمت برهة وأردف قائلا .............
ــ يا أبا الصلح كيف تفوتنى صلاة العصر فى وقتها وقد حدثنى إمام دار الهجره مالك بن أنس عن نافع عن عبد الله بن عمر عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أنه قال : [ الذى تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] ..
ــ زادك الله علما وتقى أيها الشيخ ..
ثم أردف قائلا وهو يشير على قربة الماء فى ركن الزنزانه .............
ــ أرى الماء قد فرغ من عندك هات قربة الماء أملأها لك كى تتوضأ ..
ناوله القربة الفارغة وهو يدعو له شاكرا ثم جلس فى انتظاره مسندا ظهره على باب الزنزانة وراح فى تفكير عميق أخذه عما حوله حتى أنه لم يشعر به وهو يمد له يده بقربة الماء ضاحكا ..............
ــ إيـه أيها الشيخ المكى الطيب رجعنا للشرود مرة أخرى فيم كل هذا الشرود يا ترى ؟.
ثم أردف قائلا ...............
ــ بعد الضيق يأتى الفرج إن فرج الله قريب ألست أنت الذى علمتنا ذلك . إن لك بيتان من الشعر سمعتهما منك منذ أيام كنت تتكلم فيهما بكلام عن الضيق والفرج لكنى نسيتهما ليتك تعيدهما ؟.
ــ ولرب نازلة يضيق لها الفتى .. ذرعا وعند الله منها المخرج ..
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها .. فرجت وكنت أظنها لا تفرج ..
ــ الله الله كلام مليح طيب . والله إنك لتنطق بالحكمة ومأثور القول . فيم الضيق إذن أيها الشيخ ؟.
ــ لا لا إنها مسألة أخرى لا علاقة لها بفراق الأهل ..
ــ هلا أخبرتنى عنها ؟.
ــ سأخبرك عنها بعد أن أتوضأ وأناجى ربى ..
ثم تمتم فى سره ............ أجل إن ما رأيته فى منامى قبل قليل لأمر عجيب ..
إنهمك الشافعى فى وضوئه ثم جلس فى مواجهة القبلة يدعو ربه , بينما أبو الصلح رابض فى مكانه ينتظر بفارغ الصبر أن يفرغ السجين من دعائه ومناجاته لربه كى يحدثه بما عنده بعد ان أثار فضوله . إنها فرصة كى يبدد هذا الملل اللعين فالوقت يمضى حثيثا متثاقلا فى تلك الأماكن المغلقة الكئيبه . فرغ الشافعى من مناجاته لربه فاتجه إليه أبا الصلح مسرعا فى لهفة وفضول بعد أن صب له قدحا من الإبريق الساخن ثم أعاده مكانه بين قطع الفحم المتأججة فى المجمرة أمامه قائلا ..............
ــ تقبل الله دعاءك أيها الشيخ , خذ إليك هذا الشراب الدافئ إنه شراب الزنجبيل الحار سيشيع الدفئ والحرارة فى جسدك . هيه أخبرنى الآن ما خطبك اليوم أيها الشيخ الصابر . وما هى تلك المسألة التى أهمتك كل هذا الهم التى وعدت قبل قليل أن تخبرنى عنها ؟.
تناول منه القدح شاكرا ثم رشف منه رشفة وقال ...............
ــ إسمع يا أبا الصلح سأحكى لك أمرا عجيبا رأيته فى منامى قبل قليل ..
ــ وأنا كلى آذان صاغيه خيرا إن شاء الله ..
ــ رأيت فيما يرى النائم كأنى قاعد وحدى فى سوق الطواف عند البيت الحرام فإذا أنا بعلى بن أبى طالب كرم الله وجهه أقبل تجاه البيت . قمت إليه فعانقته وعانقنى وصافحته وصافحنى . ثم رأيته يخلع خاتمه من إصبعه ويجعله فى إصبعى وبعد ذلك رأيت شيئا عجيبا ..
سكت الشافعى برهة احتسى خلالها رشفة من الشراب فاستحثه الحارس فى لهفة وقد استولى عليه الدهش والذهول .................
ــ هيه وماذا بعد ما الذى رأيته ؟.
ــ رأيت بعد ذلك يا أبا الصلح ما هالنى وأفزعنى . رأيتنى وكأنى مصلوب على قناة وإلى جوارى على بن أبى طالب . نظرت إليه نظرة خاطفة ثم صحوت فزعا من نومى . ترى هل هذه هى النهاية يا أبا الصلح ؟. إنى لأظنها كذلك .
رد الحارس قائلا , بعد أن أطرق برهة يفكر باهتمام فيما سمعه فى التو .....
ـ خيرا إن شاء الله خيرا لا توجل يا صاحبى . أعرف رجلا فى بغداد إسمه أبو جعد الزهراوى يعبر المنامات والرؤى إنه حاذق فى هذا العلم متمكن فيه ..
ــ متى تلتقى به ؟.
ــ بعد أن أنتهى من ورديتى هذه الليلة قبل أن أرجع إلى دارى سأعرج عليه فى خلوته وأقص عليه رؤياك وفى الغد إن شاء الله سآتيك منه بتأويلها . هه دعنى الآن لأحضر لك طعامك ريثما تصلى أنت صلاة المغرب لقد حان وقتها الآن ..
أثناء تناوله طعامه إلتفت إلى حارسه متسائلا ............
ــ أبا الصلح هل تعرف رجلا من الكوفه إسمه محمد بن الحسن ؟.
ــ تقصد محمد بن الحسن الشيبانى ؟.
ــ أجل إنه هو هل تعرفه ؟.
ــ ومن ذا الذى لا يعرفه .
ــ كيف ذلك ؟.
ــ إنه فقيه البلاد وقاضى قضاة بغداد والكوفه ..
ــ منذ متى ؟.
ــ لقد تولى القضاء منذ عامين بعد وفاة قاضى البلاد أبى يوسف الأنصارى تلميذ أبى حنيفه . إن للقاضى محمد بن الحسن منزلة كبيرة عند أمير المؤمنين هارون الرشيد حتى إنه لا يفارقه أبدا فى أى مكان يذهب إليه . لكن ما الذى دعاك للسؤال عنه هل تعرفه ؟.
ــ أجل لقد تزاملنا زهاء تسع سنين بالمدينه فى حلقة إمام دار الهجره مالك بن أنس بعدها سافرت إلى اليمن للعمل بالقضاء ورجع محمد بن الحسن إلى العراق ومن أيامها إنقطعت عنى أخباره ولم أعد أعلم عنه شيئا . عموما هذه أخبار طيبة لا بأس بها . الحمد لله إنتهيت من طعامى هيا ارفع هذه الأوعيه ..
نظر إلى أطباق الطعام التى لم ينقص منها إلا القليل من الإدام والدهشة بادية على وجهه قائلا ..........
ــ معذرة أيها الشيخ أتسمح لى أن أسألك سؤالا ؟.
إبتسم الشافعى قائلا بعد أن فطن إلى سؤاله .............
ــ إسأل يا أبا الصلح ..
ــ ألاحظ أنك مقل فى طعامك راغب عنه هل هذا دأبك دائما أم أن طعامنا لا يروق لك . ما السبب يا ترى ؟.
إبتسم قائلا ..............
ــ يا أبا الصلح ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة واحدة طرحتها على الفور من جوفى ..
عقب على قوله باستغراب كأنه غير مصدق .................
ــ لم تشبع منذ ست عشرة سنة إلا شبعة واحدة . ولم تسمح لها بأن تبقى فى بطنك . لم أيها الشيخ ؟.
ــ الشبع يا صاحبى فيه خمس مضار ..
ــ الشبع فيه خمس مضار . ما هى عافاك الله ؟.
ــ يثقل البدن ويقسى القلب , ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العباده , أفهمت ؟.
أجابه مازحا ................
ــ فهمت , لكنى مع ذلك لن أعمل بما تقول. أمجنون أنا حتى أدع الأطعمة الشهية من أجل خمسة مضار كهذه ………………

يتبع.. إن شاء الله ............................

عفاف سليمان
01/04/2009, 17h22
دكتورنا وابانا الروحى
د أنس
كم أشتقتُ الى هذه القصه وسردك الجميل لها
وكأنى أُشاهد.....فيلما سينمائيا
للاحداث التى تقصها علينا
وعن المكائد والدسائس التى يحاولون بها
النيل من الامام الشافعى
كم أشتقت كثيرا الى هذه القصه
والى الاسلوب الجميل
وأنى لفى شغفٍ الى الباقى منها
كما عودتنا.....أن ننتظر الباقى فى كل مره
فى شوق وشغف .....ياتُرى
ماذا سيحدث ....وا النتيجه
وما العاقبه
دكتورنا الجميل
لا تتأخر علينا
وننتظر الباقى
تحيه طيبه لشخصك الكريم
ويسعد الله اوقاتكم جميعا
اختكم عفاف;);)

د أنس البن
01/04/2009, 21h22
@ فى اليوم التالى جاءه صلاح الدين مصطحبا معه شيخا طاعنا فى السن , تمتد لحيته البيضاء الكثيفة إلى مقدمة صدره وخصلات من شعر رأسه الأبيض الناعم تنسدل خارج عمامته فوق ظهره ساترة أذنيه . تقدم من الشافعى بعد أن فتح باب الزنزانة قائلا فى لهجة مرحة بعد أن ألقى عليه السلام .........
ــ أبشر أيها الشيخ المكى , هذا هو الشيخ أبا جعد نجم الدين الزهراوى , أتاك بنفسه ..
مد الشيخ يده مسلما على الشافعى قائلا له وهو يملأ عيناه منه مدققا فى ملامحه .........
ــ أهلا بك يا ولدى , كنت أود أن ألقاك فى مكان آخر غير هذا المكان الكئيب الموحش . لكن الحمد لله الذى أطال فى عمرى حتى أتى يوم ألقى فيه مثلك ..
ــ شكرا لك يا سيدى الشيخ على حسن ظنك ..
ثم أردف معاتبا حارسه صلاح الدين .......
ــ لقد شققت على الشيخ يا أبا الصلح وأتعبته . كان يكفى أن تبلغنى بما قاله لك دون أن تكلفه مشقة الحضور إلى هذا المكان ..
ــ والله لا ذنب لى فى ذلك , سله أنت بنفسك . حاولت أن أثنيه عن الحضور والله يا شيخ لكنه هو الذى أصر . ما إن قصصت عليه رؤياك بالأمس حتى تهلل وجهه وأصر رغم مرضه واعتلال بدنه على أن يأتى معى ليراك ويبشرك بنفسه بتأويلها ..
رد الشيخ قائلا ..........
ــ إسمع يا ولدى تأويل رؤياك , وهى كلها خير وبركة إن شاء الله ..
ــ تفضل أيها الشيخ ..
ــ معانقتك لعلى بن أبى طالب تعنى النجاة من النار فى الدار الآخرة بإذن الله , أما مصافحته لك فهى الأمان يوم الحساب ..
ــ والخاتم الذى جعله فى إصبعى ؟.
ــ آه ... الخاتم الذى جعله فى إصبعك وكذلك رؤيتك لنفسك مصلوبا على قناة مع على كرم الله وجهه , هما بمعنى واحد وإن اختلفت المشاهد ..
سأله الشافعى فى وجل متلهفا ..........
ــ ماذا تعنى سيـدى الشيـخ يرحمك الله ؟.
ــ لا تخف يا ولدى لا تخف , إن صحت رؤياك فسيبلغ إسمك كل موضع بلغ إسم على بن أبى طالب . لن تبقى كورة من الكور ولا مدينة من المدن ولا مصر من أمصار الإسلام إلا علا فيها اسمك ودخل فيه ذكرك وانتشر بين أهله أمرك ..
عقب الحارس مبتهجا ...........
ــ الله الله , ألم أقل لك يا ابن إدريس إنها رؤيا خير وبركه إن شاء الله ..
@ مرت أيام قلائل وبينما الشافعى متربع فى محبسه يقرأ آيات من القرآن بعد أن انتهى من صلاة ركعتى الفجر , إذا به يسمع على البعد جلبة شديدة وأصوات أقدام تدب فى قوة على الأرض . إلتفت بصره بين القضبان وهو لا يزال فى مكانه يتلمس الخبر فإذا هو بحارسه صلاح الدين يقترب من باب الزنزانة وعلى مسافة قريبة منه وقف بعض الحراس ورجال الشرطه ..
كان يبدو حزينا على غير عادته وكيف لا يحزن وقد حانت لحظة الفراق . لم يدر إن كان سيراه مرة أخرى أم أنه الوداع الأخير , الجناية المتهم فيها صاحبه لا جزاء لها إلا سيف الجلاد ..
حاول أن يخفى مشاعره فلم يجد إلى ذلك سبيلا , سبقته دموعه رغما عنه حتى أنه تمنى بينه وبين نفسه لو لم يره أو يتعرف عليه قبل اليوم . أيام قلائل قضاها معه الشافعى وراء أسوار السجن . إلا أنها كانت فرصة فريدة له تعرف خلالها على شخصية فذة مثله , تعلم منه خلالها كثيرا من أمور دينه لم يكن يعلم شيئا عنها..
كان ينصت إليه باكيا وهو يقرأ القرآن بصوته الرخيم فينتظر حتى ينتهى من قراءته ليسأله عن معانى بعض الكلمات والآيات التى كان يستمع إليها منه . من ذلك أنه سأله ذات مرة عن معنى الشطر فى قوله تعالى : [ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ] أجابه الشافعى ............
ــ شطره أى جهته فى كلام العرب , فإذا قلت أقصد شطر كذا معناه أقصد عين كذا . قال خفاف إبن عم الخنساء ... ألا من مبلغ عمرا رسولا .. وما تغنى الرسالة شطر عمرو ..... أى قصد جهته ..
وكم من مرة صحح له الشافعى كثيرا من مفاهيمه الخاطئه حول بعض أحكام الشرع وأفتاه الفتوى الصحيحه . سأله مرة وهو يرقبه بعد فراغه من صلاة العشاء ...........
ــ هل تسمح لى أن أسألك أيها الشيخ عن شئ لاحظته فى صلاتك الآن ؟.
إبتسم الشافعى ............
ــ سل ما بدا لك يا أبا الصلح ..
ــ لاحظت أنك كنت تدعو فى صلاتك بأدعية كتلك التى يدعو بها المرء فى غير الصلاه ..
ــ آه , تقصد أنى كنت أدعو بغير ما فى القرآن , أليس كذلك ؟.
ــ بلى أيها الشيخ . على قدر ما أعلم فإن الأمر بخلاف ذلك ؟.
ــ كيف ؟.
ــ سمعت القاضى محمد بن الحسن يقول فى مسجد بغداد ذات مرة ........ من دعا فى الصلاة بغير ما فى القرآن تفسد صلاته وإن دعا بما فى القرآن لا تفسد ..
ــ الأمر ليس كذلك يا أبا الصلح , أرأيت إن دعا المصلى ربه قائلا ..... أطعمنا بقلا وقثاء وفوما وعدسا وبصلا ؟.
ــ من دعا بذلك تفسد صلاته ..
ــ ما قولك فى أن هذا الذى دعا به جاء فى القرآن أتفسد صلاته أيـضا ؟.
ــ فما هو الحكم الصحيح إذن ؟.
ــ الحكم هو أن ما يجوز أن يدعو به المرء فى غير الصلاه جاز أن يدعو به فى الصلاه لأن المخاطبة فى ذلك ليست إلى الآدميين . وقد دعا النبى "صلى الله عليه وسلم" لقوم وسماهم بأسمائهم ونسبهم إلى قبائلهم . ولا أعلم أحدا من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" اختلف فيه ..
ــ هل هناك دليل آخر من السنة على ذلك ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ … وإنى نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا فأما الركوع فعظموا الرب فيه وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم ] فالنبى "صلى الله عليه وسلم" لم يخص فى هذا الحديث دعاء من دعـاء ..
ــ فما هو المحرم من الكلام فى الصلاه ؟.
ــ المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضا فى حوائجهم . فى هذا يقول الصحابى معاويه بن الحكم السلمى ............. بينا أنا أصلى مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت واثكل أمى ما شأنكم تنظرون إلى ؟. فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتوننى سكت . فلما صلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال : [ إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ] ..
وذات مرة سأله .............
ــ يا شيخ , ما تقول فى من أفتى بأنه من أفطر يوما فى رمضان , قضى عنه إثنا عشر يوما ؟.
إبتسم الشافعى قائلا ..........
ــ ما دليله على قوله هذا يا أبا الصلح ؟.
ــ يقول إن الله عز وجل اختار شهرا للصيام من اثنى عشر شهرا ..
ضحك قائلا ...........
ــ فمن ترك الصلاة ليلة القدر وجب عليه أن يصلى ألف شهر على قياسه , فإن الله تعالى يقول “ ليلة القدر خير من ألف شهر “ ……………
مرت ذكرياته مع الشافعى سريعا على خاطره . حاول أن يكتم بكاءه ويحبس دموعه وعيناه تنظران إليه فى شفقة وخوف وقد طوفت على خاطره كلمحة بارق أحاديثه وذكرياته معه فى تلك الأيام القلائل . قبل أن تمتد يده بالمفتاح فى باب الزنزانة الحديدى ويدلف داخلها وحده سلم عليه وحياه قائلا لـه ..........
ــ هيا يا صديقى ..
ــ إلى أين أنت ذاهب بى يا أبا الصلح ؟.
ــ سترحل فى الحال مع باقى المقبوض عليهم للقاء الرشيد فى مدينة الرقه . ورد البريد من عنده اليوم آمرا أن يحمل السجناء كلهم إليه هناك ..
لم ينس صلاح الدين وهو يعانق الشافعى قبل أن يتركه لجند الخليفة أن يهمس فى أذنه قائلا ........... أخى سالم شد الرحال إلى مكة فجر اليوم كما سبق ووعدتك ليطمئن على وصول أهلك سالمين وهو يحمل معه كتابك الذى ائتمنته عليه , ووعدنى أن يوصله إلى خالك على فى دكان العطارة القريب من الحرم , هل تريد منى شيئا آخر ؟.
ــ بارك الله فيك يا أبا الصلح وأعاننى على رد جميلك هذا . أعدك إن كتبت لى النجاة فلسوف أزورك إن شاء الله فى دارك فى بغداد ..
فى هذا الكتاب أودع الشافعى وصيته لأهله إن أصابه مكروه وأعلم فيه خاله على بما هو عليه من حال , والظلم الذى وقع عليه على يد حماد البربرى وأنه برئ من تلك الفرية الدنيئه والوشاية الكاذبه . كان الشافعى غير واثق من نجاته من سيف الجلاد فخط هذه الرسالة على عجل إلى أهله , وكانت فرصة فريدة أن يجد فى هذا المكان الموحش من يغامر بنفسه ويقوم بهذه المهمة الشاقة العسيرة التى ربما تكلفه حياته لو وقع فى أيدى الشرطه , سيعد فى تلك الحالة شريكا متعاونا مع واحد من الخارجين المغضوب عليهم من قبل أمير المؤمنين ..

يتبع.. إن شاء الله...........................

د أنس البن
01/04/2009, 21h22
السيده المحترمه عفاف هانم سليمان

أشكرك من كل قلبى لمتابعتك لى ,, وسعيد جدا أن السيرة قد أعجبتك وهو غاية ما أرجوه أن تجد هذه الكلمات من يتلقاها ويتفاعل معها , أنا سعيد حقا والله ...

د أنس البن
04/04/2009, 10h06
مـن بغـداد إلـى الـرقه



@ أخذت النجائب تشق أديم الصحراء , تطوى البيد طيا بعد أن عبرت شاطئ نهر دجله إلى ضفاف الفرات شمالا , تحمل على أقتابها حوالى خمسين رجلا وشابا من دعاة الفتنة والتمرد . كان فى مقدمة الركبان القاضى الشافعى بعد أن أدخلوه بينهم ظلما وافتراء بل جعلوه كبيرهم وزعيمهم زورا وبهتانا . أمر يدعو للدهشة والعجب وللحزن والأسى , أن يتهم الشافعى التقى الورع الطاهر أنه يقود جماعة من الضالين المضلين ويحرضهم على الفتنة والثوره . وهو الذى كان ينفر من مجرد ذكرهم , بل يرد شهادتهم مؤكدا أنهم فرقة ضالة مارقة خارجة عن الإسلام ..
مضى ركب السجناء الحزين فى طريقه مواصلا رحلته مرة أخرى من بغداد متجها إلى الرقه , والشافعى غارق فى همومه وما أكثرها , متدثر بأحزانه وما أثقلها . من ذلك فراق الأهل والأحباب وما لحق به من عسف وجور وهو يساق هذا السوق المهين رث الثياب حاسر الرأس إلى حيث لا يدرى أين ينتهى به المطاف , وهو الذى لم يلق من قبل إلا كل التوقير والحب والإحترام من شيوخه وأقرانه والمحيطين به . حتى سجانه أبا الصلح ذلك الرجل الجامد القسمات , كان لطيفا ودودا معه طوال أيام السجن حتى أنه بكى حرقة ولوعة لفراقه , وهو من قوم طبعوا على الشدة والغلظة فـى معاملاتهم . تذكره الشافعى وهو يحاول فى مرات كثيرة أن يضاحكه ويمد بساط الأنس معه ليخرجه من أسوار الكآبة وينتشله من سراديب الحزن . حتى زملاؤه لم يسلموا منه وهو يسلقهم بلسانه اللاذع ساخرا منهم لينتزع شبح ابتسامة من بين شفتى الشافعى . تذكره لما قال له ذات مره ........
ــ هل تعرف زميلى هذا , ذلك البائس المسكين الذى يجلس هناك فى آخر الممر , إبتلاه الله بولد أبله يسقيه المر كل يوم . بعثه يوما ليشترى له حبلا طوله ثلاثون ذراعا , سأله الولد ..... فى عرض كم ؟!. رد عليه وهو يكاد ينفجر من الغيظ ..... فى عرض مصيبتى فيك أيها الأبله المعتوه ..
أثناء ذلك لاحت نظرة من الشافعى إلى ثيابه الرثة الباليه التى أصابها ما أصابها من غبار الطريق وأدران السجن . رجع البصر إلى الأفق البعيد وأخذ يردد فى شجن بنبرة ملتاعة حزينه , إمتزجت فيها مرارة الحزن بلذعة ساخرة كأنه يواسى نفسه والأسى يغمر فؤاده .............
على ثيـاب لـو يبـاع جميعها .. بفلس لكان الفلـس منهن أكثرا ..
وفيهن نفـس لو تقـاس ببعضها .. نفوس الورى كانت أجل وأكبرا ..
وما ضر نصل السيف إخلاق غمده .. إذا كان عضبا حيث وجهته فرى
فـإن تكـن الأيام أزرت ببزتـى .. فكم من حسام فى غلاف تكسرا ..
فى تلك الأثناء , بينما هو يكابد همومه ويجتر آلامه ماضيا مع أحزانه تحت لهيب شمس الصحراء القاسيه , كان "سالم" حامل رسالته يسأل حذرا بالقرب من ساحة الكعبة عن دكان على بن عبيد الله الأزدى , وهو دكان العطارة الذى ورثه عن أبيه . ولما وصل إليه سلمه رسالة ابن شقيقته بعد أن عرفه بمكانه وطمأنه على أحواله وأنه لا يزال على قيد الحياه . أخيرا عرف "على" مكان ابن شقيقته . كانت أسرته كلها حتى هذه اللحظة لا تعلم عنه شيئا ولا تعرف له مكانا , إلا ما علموه من امرأته حميده ومن كاتبه زيد لدى وصولهم للبلاد . من ناحيته أوصاه "على" أن يطمئن الشافعى على زوجته وولدها وابنتهما الرضيعة وأنهم قد وصلوا بسلام إلى أرض مكه , وأن يخبره أنه كان برفقتهم فى رحلة العودة كاتبه زيد بن عيسى وامرأته سعده وغلامه الذى يقوم على خدمته . وقبل أن يقوم من عنده راجعا إلى بغداد شد على يديه قائلا .............
ــ عندما أعود إلى البلاد إن شاء الله سأخبر أخى صلاح الدين بهذه الأخبار الساره . سيتولى هو إبلاغ ابن شقيقتك محمد بن إدريس كى يطمئن على امرأته وولده وابنته وغلامه . علمت من أخى صلاح الدين أنه كان قلقا عليهم جميعا ..
ودعه على شاكرا له حسن صنيعه وهو يتمتم فى نفسه قائلا .............
ــ وهل أصبر بعد أن عرفت مكانه إلى أن يبلغه أخوك صلاح الدين !. قال ذلك ثم أغلق دكانه وقفل راجعا إلى الدار وقد نوى فى نفسه أمرا ..


@ بعد أن قطع الركب رحلة طويلة مضنيه وصل السجناء إلى مدينة الرقه , فى يوم رق أديمه واعتل نسيمه كأنما الطبيعة الواجمة تعبر بهذه الكآبة عن استيائها واستنكارها لما يحدث للشافعى . لدى وصولهم أودعوا فى السجن مرة ثانيه حيث قضوا ليلتهم فى انتظار مصيرهم المحتوم ونهايتهم التى كانوا على يقين منها . وكما حدث فى سجن بغداد أعادوا الكرة مرة أخرى فى الليلة اليتيمة التى لبثها الشافعى فى سجن الرقه , أفردوا له زنزانة وحده لا يشاركه فيها أحد من السجناء . بذلك أمرهم قائد الحراس المرافق لهم من بغداد , هم يعاملونه على أنه المتهم الأول وأنه أخطر واحد فى جماعة السجناء ..
وفى تلك الليلة التى قضاها الشافعى وحيدا فى محبسه حدث ما لم يكن يتوقعه ولم يخطر له على بال أبدا , كأنما هى هدية السماء إليه فى هذا المكان الكئيب الموحش . فبينا هو متربع فى ركن الزنزانة رافعا يديه إلى السماء يدعو ربه ويناجيه والظلام يلف المكان من كل ناحية بغلائله السوداء الداكنه , إلا من شعاع خافت يسير من ضوء ينبعث من أحد المشاعل القريبة من زنزانته فى طرقة السجن لا يسمح له برؤية شئ أو تمييز أحد . إذا به يسمع على البعد وقع أقدام تدب على الأرض فى أناة وعلى مهل . أخذت تلك الأصوات تقترب شيئا فشيئا منه حتى توقفت أخيرا أمام باب زنزانته . إستمر الشافعى فى مناجاته غير عابئ بما يدور خارج محبسه , بعد أن أسلم أمره ووجهه لله وحده وهو يقول فى ضراعة وتبتل .......
...... اللهم إنى أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير . اللهم أنت غياثى بك أستغيث وأنت ملاذى بك ألوذ وأنت عياذى بك أعوذ , يا من ذلت له رقاب الجبابره وخضعت له أعناق الفراعنه . أعوذ بك من خزيك ومن كشف سترك ومن نسيان ذكرك والإنصراف عن شكرك . أنا فى كنفك وكلاءتك فى ليلى ونهارى وفى نومى وقرارى وفى ظعنى وأسفارى وفى حياتى ومماتى . ذكرك شعارى وثناؤك دثارى لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك . تشريفا لعظمتك وتكريما لسبحات وجهك أجرنى من خزيك ومن شر عبادك . واضرب على سرادقات حفظك وأدخلنى فى حفظ عنايتك وجد على منك بخير يا أرحم الراحمين , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم والصلاة على محمد النبى المرتضى وآله وسلم تسليما كثيرا ..
إنتهى من مناجاته وإذا به يسمع صوتا يقول من وراء الباب ..... آمين اللهم تقبل ..
ثم أردف صاحب الصوت قائلا فى لهجة مرحه ............
ــ إيه ... كم اشتقت كثيرا إلى سماع هذا الصوت الحبيب إلى نفسى ورؤية وجه صاحبه ..
لم تكن نبرات ذلك الصوت غريبة على أذن الشافعى . أنهى دعاءه ثم أطرق قليلا يحاول أن يجمع شتات فكره على عجل . إنه يقينا يعرف صاحب هذا الصوت , أجل نبراته ليست غريبة على مسامعه , وإن كانت آخر مرة إلتقى به منذ سنوات فى مدينة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . أخيرا تهلل وجهه بعد أن تذكره ........
ــ من !. صديق الصبا , الفضل بن الربيع ؟!.
قالها الشافعى وهو يكاد يطير من الفرحة بعد أن هم واقفا ليرى صاحبه واقفا أمامه , بعد أن سمح لحارس الباب أن يفتحه وكان قد منعه عند قدومه بحركة من يده إنتظارا لفراغ صاحبه من مناجاته لربه ..
تبادلا نظرات خاطفة بعد أن تبددت ظلمة المكان قليلا على ضوء مشعل يحمله الحارس فى يسراه . بعدها ضمهما عناق طويل سالت فيه عبراتهما معا فى شموخ وكبرياء والفضل يربت على كتفى صاحبه يطيب خاطره ويواسيه فى محنته . جلس إلى جواره على حصير السجن قائلا له بعد أن صرف الحارس بحركة جانبية من رأسه .......
ــ لا تحزن يا صاحبى ولا تبتئس إنه إبتلاء من الله ومحنة عارضة لا تلبث أن تزول بإذن الله ..
رد الشافعى فى أسى ...........
ــ وكفى بالله وكيلا . يعلم الله أنى برئ من تلك التهمة الشنعاء , إنها فرية دنيئة لفقت لى زورا وبهتانا . لقد أدخلونى فى قوم أعوذ بالله أن أكون منهم ..
ــ إنى على ثقة أنك تقول الحق يا صاحبى , لكنى فى عجب من شدة تحامل هذا الرجل عليك وكراهيته الشديدة لك , كأنه ينتقم لثأر قديم بينكما ..
ــ أى رجل تعنى ؟!.
ــ حماد البربرى أمير اليمن ..
ــ أين رأيته ؟!.
ــ كنت حاضرا مجلس أمير المؤمنين وسمعته بنفسى وهو يشكوك إليه . لاحظت من طريقة كلامه ولهجته أنه يحمل عليك كثيرا وأنه يكن كراهية شديدة لك ..
ــ أجل أجل هو ذاك تماما أيها الصديق الحميم تلك حكاية قديمة . سأعرف كيف أرد كيده إلى نحره وأفند كل ادعاءاته التى ينسبها بالباطل إلى دوما ..
ــ لا أكتمك سرا أنى تحدثت فى أمرك بالأمس مع أمير المؤمنين الرشيد لما علمت بمقدمك إلى هنا وأنك فى الطريق مع باقى جماعة اليمن ..
ــ هل لى أن أعرف منك ما قاله لك أمير المؤمنين ؟!.
ــ لا أخفى عليك أنه كان غاضبا غضبا شديدا مع حرصى على اختيار الوقت المناسب الذى أفاتحه فيه فى هذا الأمر وهو صافى الذهن ناعم البال . كما تعلم قضية الخلافة هى قضية القضايا عند بنى العباس ..
ــ أجل أجل أعرف أنهم لا يتصورون أن ينازعهم أحدا فى أمرهم هذا . على الأخص خصومهم الألداء أبناء عمومتهم الطالبيين , المهم هل استمع إليك ؟!.
ــ كلمته عنك وذكرته بما سبق أن قلته له فى شأنك وما كان من أمرك فى المدينة قبل سنوات أثناء رحلة الحج . ولما ألححت عليه فى الرجاء وعدنى أن يستمع إلى دفاعك فى نهاية المحاكمة عقيب فراغه من محاكمة سائر السجناء ..
فى تلك الأثناء كان على الأزدى أصغر أخوال الشافعى وأقربهم إلى قلبه ينهب الطريق من مكة إلى العراق للبحث عن ابن شقيقته الشافعى بعد أن أجمع أهله أن يوكلوه عنهم فى هذه المهمه . لدى وصوله إلى بغداد أخذ يتحسس أخباره حتى علم أنه رحل مع باقى السجناء إلى الرقة منذ يومين . لم ينتظر , عزم على مواصلة رحلته شمالا لايلوى على شئ ..

يتبع.. إن شاء الله............................

عفاف سليمان
08/04/2009, 11h44
صباح الفل دكتورنا الجميل
صباح سعيد عليك وعلى جميع اهل ومواطنى سماعى
معلش يمكن انا بدخل فى القصه لكن يجب ان تكمل الحدث تلو الاخر
ولكنى انتظر الباقى من حضرتك
ولك وللجميع كل الشكر والتقدير
وتحياتى لحضرتك والاستاذه ناهد
سلام خااااااااااااااااااااص جداااااااااااااا لها
اختكم عفاف;););):)

حامد عيطه
08/04/2009, 19h31
تحيه كبيره من القلب إلى بلدياتى الدكتور أنس البن
على هذا العمل الرائع والسيره العطره لسيدنا الإمام الشافعى قاضى الشريعه كما يسميه العوام فى مصر
عمل ممتاز أرجو أن يعينك الله على إكماله

د أنس البن
09/04/2009, 10h18
شكرا من القلب لكل من السيده عفاف سليمان
ولبلدياتى الأستاذ حامد عيطه على متابعتهما للسيره ,,
سائلا الله تعالى أن يعيننا على إكمال أحداثها على الوجه الذى يرضى ربنا ثم يرضى كل من يقرأها

د أنس البن
09/04/2009, 10h18
بيـن يـدى الرشيـد


@ أخيرا سيق السجناء كلهم أجمعون مكبلون فى الأغلال والسلاسل إلى حيث يقيم خليفة المسلمين فى قصر الملك فى انتظار عرضهم على مجلس القضاء ومحاكمتهم أمام الرشيد بنفسه . أدخلوا فرادى فى مجلس مهيب تصدره هارون الرشيد وإلى جواره قاضى قضاة بغداد محمد بن الحسن الشيبانى . على مقربة منهما وقف هرثمة بن أعين أحد كبار قواد الجيش ثم جلاد الرشيد مسرور الفرغانى ممتشقا سيفه البتار متأهبا لقطف تلك الرؤوس بإشارة من أمير المؤمنين ..

كانت محاكمة الواحد منهم لا تستغرق أكثر من سؤال واحد يوجهه له أمير المؤمنين يقتاده , بعدها الجلاد إلى غرفة مجاورة وإن هى إلا لحظات حتى تكون رأسه بين السيف والنطع . كانت أصوات الرؤوس وهى ترتطم بالأرض تصل إلى أسماع السجناء فتزيدهم رعبا وهلعا , وهم يجلسون القرفصاء فى بهو ممتد خارج قاعة الحكم , كل واحد منهم فى انتظار دوره ليلقى حتفه ومصيره المحتوم . مع تتابع الساعات أخذوا يتناقصون واحدا بعد الآخر حتى لم يعد باقيا منهم على قيد الحياة إلا الشافعى وغلاما صغيرا من المدينه لم يتجاوز بعد السادسة عشر من عمره . أمر الرشيد أن يدخلوا عليه الغلام ويستبقوا الشافعى إلى أن ينتهى من محاكمة كل المتمردين , كما سبق أن وعد وزيره الفضل بن الربيع ..
كان الرشيد يبدو على غير عادته عابسا حزينا مهموما لما جاءه الخبر منذ أيام أن "أحمد" أكبر أبنائه خرج فجأة هائما على وجهه تاركا قصور أبيه , زاهدا عن كل ما فيها من ترف وأبهة ونعيم مقيم سائحا فى بلاد الله الواسعه . وعلم من بعض رجاله أنه يعمل أجيرا عند الناس بيده ليعول نفسه ويأكل من كسبه , وأنه يرتدى ثيابا حقيرة خشنة كسائر الدهماء والسوقه ..
@ وانتهت المحاكمة الرهيبة كما سنعرف أحداثها لاحقا ببراءة القاضى الشافعى مما نسب إليه ونجاته من القتل , وعودته إلى مكة للقاء الأهل والأحباب بعد فراق دام أكثر من سبعة أشهر , قضى منها شهران فى رحلة العذاب من اليمن إلى بغداد إلى الرقه . وكان خاله "على" قد سبقه إلى مكه بعد أن التقى به فى العراق عقيب محاكمته . مكث معه أياما قليلة إطمأن خلالها عليه بعد أن تأكد من نجاته من سيف الجلاد , ثم قفل راجعا من حيث أتى ليطمئن بدوره أمه وزوجته وباقى أهله عليه . وقبل أن يفارق أرض العراق قال له الشافعى مودعا ........
ــ يعلم الله يا خال , كم بى من الحنين والشوق للقاء الأهل جميعا . كم أوحشتنى أمى وامرأتى العثمانيه وولدى محمد وابنتى زينب وأخوالى جميعا وشيوخ مكة وأهلها . غير أنى مضطر للبقاء بعض الوقت فى العراق إستجابة لرغبة أمير المؤمنين . وفى الحقيقة وجدتها فرصة أنقل إلى جعبتى وأجعل فى حوزتى ما دونه محمد بن الحسن الشيبانى من فقه شيخه أبى حنيفه . إننى فى حاجة يا خال إلى التعرف على فقه هذا البلد ودراسته دراسة متأنية واعيه , إنه الفقه الموروث عن الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود ..
رد عليه خاله يائسا وهو يعلم مسبقا صلابة رأيه أمام قضية العلم ..............
ــ هون عليك يا أبا عبد الله , لقد جمعت فى صدرك علوما جمه ما أظن أحدا سبقك إليها . أرى أنك تحمل نفسك فوق طوق البشر فلم كل هذا التعب والنصب ؟!.
ــ لا يا خال , ما جمعته من علوم إنما هو قطرة فى بحر خضم لا ساحل له . لا يزال أمامى الكثير مما لم أحصله بعد . إن الله تعالى لم يأمرنا بطلب الزيادة من شئ إلا من العلم ... "وقل رب زدنى علما" , يا خال , العلم حر وطالبه عبد , فإن خدم العلم قبله وإن تجبر عليه فالعلم أولى أن يتجبر عليه . لقد قررت أمرا ستعرفه إن شاء الله عندما أرجع إلى مكه وآخذ مكانى فى فناء زمزم . هذا الأمر يا خال لن يتحقق لى إلا إذا جمعت فى قبضتى هاتين فقه أهل الرأى بالعراق وأجلس إلى فقهائها العظام محمد بن الحسن والحسن بن زياد ووكيع بن الجراح وعبد الوهاب الثقفى , كما جمعت فقه أهل الحديث فى الحجاز ..
أنهى خاله الكلام معه قائلا له وهو يعانقه مودعا ............
ــ على بركة الله يا ابن شقيقتى , أتمنى ألا يطول بك المقام هنا وأن ترجع إلينا فى القريب إن شاء الله وقد ارتويت من علم العراق . أستودعك الله يا ابن إدريس إلى لقاء قريب ..
@ كان مجئ خاله إليه ولقائه به حافزا له على البقاء مطمئنا فى العراق فترة من الزمن بعد أن طمأنه على أهله جميعا وأنهم بخير حال . وفى ذات الوقت وجد من ينقل أخبار نجاته إلى أهله ويطمئنهم عليه ..
تلك كانت مشكلة ظلت تؤرق الشافعى أياما بعد أن أمره الرشيد بعدم مغادرة العراق إلا بإذنه . مع أن هذه كانت رغبة الشافعى وأمنيته أن يمكث فى العراق زمنا إلا أن لهفته على أهله جميعا كانت أكبر من هـواه ..
مكث الشافعى الشهور الباقية يتعرف على علوم أهل العراق ويشد شراع مركبه فى بحر محيطات علومهم وقراءة كتبهم التى وضعوا فيها فكر إمامهم الأكبر أبى حنيفة النعمان بن ثابت . كانت فرصة ثمينة هيأتها له الأقدار ليضيف إلى رصيده الفقهى علوما أخرى جديده ومعارف كانت غريبة عنه ..
ذلك لأن العراق اشتهرت بلون خاص من الفقه يعتمد على ما يسمى بالرأى والقياس أكثر من اعتماده على الحديث كما هو الحال فى الحجاز . بهذا الرصيد الهائل الذى لم يجتمع لأحد قبله بدأ الشافعى يختمر فى ذهنه أول كتبه فى الأصول , ويضع القواعد وهو فى ضيافة صاحبيه الإمام محمد بن الحسن قاضى بغداد وصديقه الفضل بن الربيع , ويخط بقلمه الردود القاطعة على ما قرأه من آراء فى الأيام السابقة فى كتب العراقيين ..
ولنترك الشافعى يحكى لنا بنفسه أخبار محنته وكيف تمت محاكمته . كيف أمضى هذه الأشهر فى العراق والتى تعتبر من أهم الأيام فى عمره وفى رحلته العلميه ..

************

تم بعون الله


الفصل الثالث


يتبعه إن شاء الله


الفصل الرابع

د أنس البن
12/04/2009, 12h03
الفصــــل
الرابـــع

الشافعـى فـى مكـه

@ أخيرا دخل الشافعى مكة مرة ثانيه طاويا جوانحه على تجربة مريرة قاسيه كشفت له عن مكانته وقدره بعد طواف طال واستطال , جمع من خلاله علوم الحجاز والعراق واليمن . وشرب من مناهل قطبى الشام ومصر الأوزاعى والليث بن سعد عن طريق تلاميذهم وحملة علومهم . عاد يغذ الخطى إليها وهى فاتحة له ذراعيها , مشتاقة إلى ولدها اللبيب مزهوة به زينة شبابها وفخرهم . سبقته إليها أخباره وعلومه التى أشرقت فى سماء بغداد أرض الخلافة والسلطه وموطن ثقافات فارس والروم التى قطعت شوطا بعيدا من الحضارة والرقى حتى بلغت أوجها فى عهد هارون الرشيد ..
وهو مع كل هذا لا يزال معتبرا نفسه طالبا من طلاب العلم , وعاء منهوم وجراب لم يأن له أن يمتلئ بعد . أفادته هذه المحنة إدراكا لواقع الحياة وقربا من رجال الحكم وأصحاب السلطان وهى أمور لازمة لمن يتصدى للتشريع والفتوى للناس . فارق مكة فقيرا لا يملك من متاع الدنيا درهما واحدا وها هو يرجع إليها بعد سنوات الغربة الطوال , حاملا فى صدره علوما جمه , وعشرة آلاف دينار أعطاها له الرشيد قبل رحيله مباشرة تقديرا منه لعلمه وتعويضا له عما لحق به من أذى . أبت نفسه السخية إلا أن تفرقها عن آخرها على فقراء مكه فى خباء نصبه على مشارفها . جلس فيه وحده يوزع الدراهم والدنانير . وقبل أن تطأ قدماه أرضها الطاهره لم يكن فى حوزته منها درهم واحد . وكان الرشيد قد أعطاه مثلها عقيب محاكمته غير أنه علم من قائده هرثمة بن أعين أنه قام بتفريقها عن آخرها على الفقراء والمساكين قبل أن يغادر القصر ..
والذى حدث أن الشافعى وهو فى طريقه إلى باب القصر الخارجى يرافقه محمد بن الحسن بعد انتهاء المحاكمه , سمع صوتا ينادى عليه من وراءه فى لهفة .........
ــ أيها الشيخ المكى . مهلا أيها الشيخ ؟!.
إلتفت ليرى القائد الكبير هرثمة بن أعين ومعه غلام من غلمان الرشيد وهما يغذان الخطى . حتى إذا صارا أمامه مد القائد يده وأخذ لفافة من يد الغلام , ناولها للشافعى قائلا ..............
ــ إمسك أيها الشيخ الحجازى ..
سأله الشافعى متعجبا .............
ــ ما هذه ؟!.
ــ عشرة أكياس فى كل كيس ألف دينار ..
وقبل أن يمد يده ليأخذها سأله ...........
ــ ممن هذه الدنانير ؟!.
ــ من أمير المؤمنين هارون الرشيد ..
ثم ضرب يده فى جيب سترته وأخرج منها لفافة أخرى ناولها له قائلا ............
ــ أما هذه ففيها خمسة آلاف دينار , هدية خاصة منى لك . لولا أنه لا يليق أن يعطى أحدا مثل عطية أمير المؤمنين لأعطيتك والله مثـل ما أعطـى ..
رفع الشافعى يده رافضا وهو يقول ..............
ــ أيها القائد الكبير هرثمة بن أعين , أما هدية أمير المؤمنين فلا يسعنى إلا قبولها فهو الخليفة المؤتمن على أموال المسلمين يوزعها كيف شاء , وتلك عطيته لا أستطيع ردها ولا يجوز لى أن أفعل . أما هديتك فمعذرة لن أستطيع قبولها منك ..
سأله فى دهشة لا تخلو من العجب ..............
ــ ولم أيها الشيخ الجليل , أنا والله ما قصدت من ورائها إلا أن أعبر لك عن بعض إعجابى وتقديرى لعلمك وفصاحتك ؟!.
ــ لا تؤاخذنى أيها القائد فإنى لا آخذ الهدية ممن هو دون أمير المؤمنين ..
وقبل أن يبتعد عن قصر الرشيد كانت هذه الدنانير قد فاضت من بين راحتيه عطايا للفقراء والمساكين والقائد يتابعه بعينيه من بعيد وهو فى عجب من أمره . رآه وهو يوزعها عن آخرها ولم يبق معه منها إلا خمسين دينارا أمسكها لغرض فى نفسه . ما فعل ذلك الشافعى إلا بجمعه بين نسبه الشريف الرفيع ونشأته الفقيره , واجتماع هذين الأمرين فى شخص واحد يجعلانه ينشأ على خلق قويم ومسلك كريم . علو النسب وشرفه يجعل صاحبه منذ نعومة أظفاره ناظرا إلى معالى الأمور مترفعا عن الدنايا ساعيا إلى المجد فى همة وجلد . ونشأته فقيرا مع ذلك الطموح بنسبه يجعله أقرب للإحساس بمعاناة الناس ومعرفة بخبيئة نفوسهم . فهو بهذا لا يتسامى فى معاملاته عن العامة فيبعد عنهم ولا يهوى فى مباذلهم فيتصاغر فى عيونهم . كان لنسبه عزته ولفقره طيبته , وظهر أثر جماعهما فى مواطن كثيرة استدعاها الحال . فها هو القائد الكبير يعطيه فيأبى فى إصرار أن يأخذ عطيته وحجته أنها ممن هو دونه . ويعطيه الخليفة العطية فيقبلها راضيا , بل يوزعها قبل أن يغادر الطريق , ويهبه غيرها فيوزعها على الفقراء ممن لهم به رحم فى مكه ..
@ وبين الأهل والأحباب الذين تحلقوا من حوله جلس الشافعى محتضنا فى صدره ولده محمد , يحكى لهم محنته الطاحنة والغاشية التى وقع فى براثنها واعتصرته وزلزلت أعماقه فى بداية الأشهر الماضيه . بينما أمه الصامدة جالسة أمامه ذاهلة كأنها غير مصدقة أن وحيدها قد عاد إليها مرة أخرى بعد نجاته من سيف الجلاد الذى لا يرحم . أخذت تملأ منه كله عينان كليلتان متعطشتان إلى رؤيته وقد أضناهما سهر الليالى وطول البكاء ..
إلى جوارها جلست زوجته حميده لا تحيد بعينيها عن وجهه ولا يكاد يطرف لها جفن . جلست وهى تمسح دموع الفرح التى أخذت تسيل من مقلتيها على خديها على خطي عبرة وضنى , صنعهما الوجد والبكاء وطول والسهر وهى تضم ابنتها الرضيعة إلى صدرها . لم تكن تصدق هى الأخرى أن عينيها سوف تكتحل برؤيته مرة أخرى . بينما أخواله عبد العزيز وسليم وعلى وزوجاتهم وأولادهم فى أماكنهم يرهفون أسماعهم إليه وهو يستطرد قائلا ..............
ــ وضربت أعناق الرجال جميعا , كانوا حوالى ستين شخصا ما بين شيوخ وشباب وكهول . شهدت مصارعهم جميعا وعاينت رؤوسهم وهى تتهاوى واحدة إثر أخرى , ولكل رأس تتطاير مشهد من مشاهد الهلع والهول , شاءت الأقدار أن أكون شاهدا عليه من بدايته إلى نهايته ..
سأله سليم مذهولا .............
ــ كلهم قتلوا !!. لم ينج منهم أحد ؟!.
ــ أجل يا خال , لم يتبق خارج قاعة الحكم إلا أنا وغلام يثربى ..
سأله خاله عبد العزيز .............
ــ يا لها من مأساة مروعه !. ومن أدخلوه منكما أولا على أمير المؤمنين ؟!.
ــ أدخلونا معا , إلا أنهم أوقفونى لدى الباب وقدموا الغلام . هو الوحيد الذى شهدت محاكمته عيانا من جماعة الرافضه . سمعت أمير المؤمنين وهو يسأله فى دهشة كأنه غير مصدق : ………………
ــ حتى أنت !. حتى أنت أيها الفتى الصغير !. تخرج علينا ... وتزعم أنى لا أصلح للخلافه ؟!.
ــ الرحمة يا أمير المؤمنين . لن أدعى ذلك بعد اليوم , ولن أقوله مرة أخرى ..
ــ إضربوا عنقه ..
ــ إن كنت مقتولا لا محالة يا مولاى , لى رجاء واحد قبل ان تسلم عنقى للجلاد ؟!.
ــ ماذا تريد ؟!.
رد قائلا وهو ينتفض هلعا وفرقا ............
ــ أنظرنى لحظات لا أطمع فى سواها , ثم اقتلنى بعدها ..
ــ لم ؟!.
ــ أكتب كتابا إلى أمى بالمدينه , هى عجوز لا تعرف بخبرى وليس لها من أحد سواى يعولها ………………
@ أسرع سليم الأزدى بالسؤال ...........
ــ وهل أجابه الرشيد إلى طلبه ؟!.
ــ لا لم يجبه . أشار للسياف الذى جذبه من رقبته فى غلظة كأن بينهما ثأر قديم . وقبل أن أساق إلى حيث الرشيد كان السيف قد سبق إلى رأس الفتى . آخر جماعة الرافضة والخوارج ..
إنبرى سليم قائلا فى حسرة وحزن ..................
ــ لا حول ولا قوة إلا بالله , ما كل هذه القساوة والغلظه !. لم نكن نحسب أن الرحمة نزعت من قلب أمير المؤمنين هكذا . والله إنهم لقوم قدت قلوبهم من صخر !.
ــ مهلا يا خال , إنها ليست قساوه , لقد نال هؤلاء الضالين المضلين ما يستحقونه من جزاء حقا . إنهم فرقة ضالة مارقة خارجة عن جماعة المسلمين وعضو خبيث فى جسد الأمة يلزم استئصاله من جذوره ..
ــ وماذا فعلت أنت ؟!.
ــ ما إن تقدمت خطوات ومثلت بين يديه حتى أبصرته يحملق فى طويلا دون أن يتفوه بكلمة واحده . قام من مجلسه وأخذ يمشى خطوات وهو يفكر طويلا , ثم عاد إلى مكانه وظل يتفرس فى مرة ثانيه , والقوم يرمون إليه بأبصارهم مترقبون فى انتظار ما سيقول . رميت إليه بطرفى وقلت له ..............

يتبع.. إن شاء الله............................

عفاف سليمان
16/04/2009, 12h43
د انس مساء الخير على حضرتك وع الجميع
لا تخلوا القصه من افلاتِك الجميله التى تجعلنى انتظر وانتظر السرد الجميل التالى لتلك القصه المشوقه
ففى كل مره تشوقنا الى البقيه ماذا سيفعل الشافى مع امير المؤمنين
وكيف عفى عنه وافرج عنه وكافئه
د انس اسعدك الله كما اسعدتنا
ودمت لنا مشوقا لهذه القصه
فنحن دائما فى شغف لما تروى علينا
تحياتى لك وللجميع
اختكم عفاف;):):)

د أنس البن
16/04/2009, 18h57
الله يحفظك يا ست عفاف ويبارك لك ,
كأنك قارئتى الوحيده ولا أطمع والله فى أكثر من ذلك ....

د أنس البن
16/04/2009, 18h57
ــ السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ..
رد الرشيد ..............
ــ وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها , وزدنا فريضة قامت بذاتها , ومن أعجب العجب أنك تكلمت فى مجلسى بغير أمرى ..
ــ يا أمير المؤمنين , إن الله عز وجل وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . وهو سبحانه وتعالى إذا وعد وفى , وهو الذى مكننى فى أرضه وأمننى بعد خوفى يا أمير المؤمنين ..
ــ قد أمنك الله إذ أمنتك أنا !.
ــ وأنا علمت أنك لا تقتل قومك صبرا ولا تزدريهم بغدرتك هجرا ولا تكذبهم إذا أقاموا لديك عذرا ..
ــ أجل هو ذلك , فما عذرك يا قاضى نجران مع ما أرى من حالك وتسييرك من حجازك إلى عراقنا التى فتحها الله علينا بعد أن بغى صاحبك الطالبى ثم اتبعه الأرذلون وأنت رئيسهم . فما ينفع لك القول مع إقامة الحجه , ألست أنت الداعى والمحرض إلى الفتنة والعصيان ؟!.
ــ مولاى أمير المؤمنين . بسم الله الرحمن الرحيم .....يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ..
ــ صدق الله العظيم . أوليس الأمر كما قيل فيك ؟!.
ــ يا أمير المؤمنين , إن رأيت فاسمع كلامى أولا واجعل عقوبتك من وراء لسانى , فلسنا نتكلم إلا على العدل والنصفه . ثم ضمنى بعد ذلك إلى ما يليق لى من الشدة أو الرخاء ..
ــ إذن تكلم قل الحقيقه !.
ــ والله يا أمير المؤمنين لو اتسع لى الكلام على ما بى لما شكوت لكن لى مطلب واحد قبل أن أسوق دفاعى ؟!.
ــ ما هو ؟!.
ــ إن الكلام مع ثقل الحديد يعور فإن جدت على بفكه تركت كسره إياى وأفصحت عن نفسى وإن كانت الأخرى فيدك العليا ويدى السفلى والله غنى حميد ..
نظر الرشيد لغلامه سراج وقال له آمرا .............
ــ يا سراج حل عنه هذه السلاسل والأغلال من قدميه ويديه ..
إمتثل الغلام ثم بادره الرشيد بعد فك قيده قائلا .............
ــ بلغنى أنك تقول إنك للخلافة أهل ؟!.
ــ حاشا لله أفك المبلغ وفسق إن لى يا أمير المؤمنين حرمة الإسلام وذمة النسب وكفى بهما وسيلة وأحق من أخذ بآداب الله تعالى نحن أبناء عمومة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ فما قولك عما بلغنى عن زعمك أنى لا أصلح للخلافه وأنك شققت عصا الطاعة وخرجت مع العلوية علينا ؟!.
ــ يا أمير المؤمنين لست بطالبى ولا علوى وإنما أدخلت فى هؤلاء القوم بغيا على وافتراء ..
ــ ألست من أولئك الرافضه ؟!.
ــ قالوا ترفضـت قلت كلا .. ما الرفض دينى ولا اعتقادى ..
لكن توليت غيـر شـك .. خيـر إمـام وخيـر هـادى ..
إن كان حب الولى رفضا .. فـإن رفضى إلـى العبـاد ..
ــ فمن تكون ؟!.
ــ أنا رجل من بنى المطلب بن عبد مناف بن قصى ..
ــ ما اسمك يا رجل ؟!.
ــ إسمى محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف . ولى مع ذلك النسب حظ من العلم ..
ثم التفت إلى محمد بن الحسن الشيبانى واستطرد قائلا وهو يشير إليه ..............
ــ والقاضى بن الحسن يعرف ذلك ..
كان الشافعى فى تلك اللحظة وقبل أن تشير يده على القاضى , قد وردت على مخيلته كالبرق العارض حكاية حكاها له الأصمعى عالم اللغة العربية وراويتها الأكبر قبل حوالى عشرين عاما , عندما التقى به فى ساحة الكعبة وهو يقرأ عليه أشعار هذيل ..
كان الأصمعى يحكى له محنة كهذه تعرض لها فى العام الذى لقيه فيه وحوكم فيها أمام الخليفة المهدى والد الرشيد , بتهمة الدعوه لبنى أمية والميل لهم وكان حاضرا هذه المحاكمه إلى جوار المهدى شيخ المحدثين سفيان بن عيينه أستاذه وأستاذ الشافعى ..
حكى له كيف أن الأقدار على غير تقدير منه فى ذلك اليوم ساقت إلى مجلس الخليفة المهدى أستاذهما سفيان بن عيينه ليكون شفيعا له وشاهدا معه فى هذا الموقف العصيب . هذه الواقعة التى اختزنها الشافعى فى أعماق ذاكرته ووردت علي خاطره فى لحظة خاطفة فتحت له بابا من أبواب الأمل والرجاء فى النجاه عندما وقعت عيناه على محمد بن الحسن وهو متربع إلى جوار الرشيد , وإن كانت تهمته أشنع من تهمة الأصمعى وأدعى للفزع ..
إلتفت الرشيد عن يمينه إلى القاضى كأنه يسأله فأجاب قائلا ...........
ــ أجل يا أمير المؤمنين أعرفه وله من العلم محل كبير . لقد تزاملنا سنوات فى حلقة إمام دار الهجره , والأمر الذى رفع عليه ليس من شأنه ولا يجوز أن يكون مثله ضمن هؤلاء أبدا ..
أطرق الرشيد قليلا ثم نظر إلى الشافعى كأنه يطلب مزيدا من البيان . فهم الشافعى مراده فقال على الفور .............
ــ يا أمير المؤمنين كأنك اتهمتنى بالميل عنك والإنحراف إلى هؤلاء . أأدع من يقول أنى إبن عمه إلى من يقول أنى عبده !. كيف أغدر بسادات بنى عبد مناف وأنا منهم وهم منى ؟!.
هكذا قلب الشافعى الموقف لصالحه بعد أن كان مسؤولا صار سائلا . كأنما قد دار حوار صامت بينهما بعد هذه الرمية الصائبة التى سددها بإحكام , وهو الذى يجيد فن الرماية ودقة التصويب على الهدف بالرمح وبالكلمة على حد سواء ..
تغيرت مجريات الأمور وسكت الغضب عن الخليفة الذى ظل صامتا برهة من الزمن كان يستعيد خلالها تاريخ الأجداد . ذلك التاريخ الذى لخصه الشافعى فى كلمات قلائل والرشيد يقلب عبارته فى رأسه ....... “ أأدع من يقول أنى إبن عمه إلى من يقول أنى عبده “ ؟!………………
أخيرا رفع رأسه قائلا .............
ــ أجل أجل الأمر كما تقول يا رجل . ما فى الأرض علوى إلا وهو يظن أن الناس كلهم وبالأخص قريشا عبيدا له ..
كان الشافعى رابط الجأش لم يفقد اتزانه فرقا أو يأسا حتى وهو يرى رؤوس القوم تتهاوى أمامه . موقنا أن العبرة لن تتم إلا بأن تلحق رأسه برؤوسهم . وكان من نعم الله عليه ذلك اللسان الذلق والبلاغة النادره , وقدرته على التصويب على الهدف فى ثبات وسرعة بديهة وهدوء نفس غير هياب ولا مرتاع ولا متردد .. وكأنما هيأه الله له لهذا اليوم العصيب .
فى دفاعه ارتكن على حقائق تاريخية يعلمها الرشيد تماما , وهى أن المطلب جد الشافعى وهاشم جد الرشيد كانا أخوين متناصرين قبل الإسلام كما كان أخواهما الآخران أخوين متناصرين قبل الإسلام وهما نوفل وعبد شمس جد بنى أميه أعداء بنى العباس . وتكفل المطلب بابن أخيه عبد المطلب بعد موت أبيه هاشم ..
والرشيد يعلم تماما أن جدود الشافعى وهم بنو المطلب كانوا دوما أنصار جدوده بنو هاشم وأنهم كانوا معهم حزبا واحدا على جدود بنى أميه . كان يعلم أيضا أنه لما كتبت الصحيفة بينهم وبين بنى هاشم دخل بنو المطلب مع بنى هاشم ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل . وكان يقال للمطلب وهاشم البدران بينما يقال لنوفل وعبد شمس الأبهـران ..
وهكذا تكلم الشافعى لغة التاريخ التى يعلمها الرشيد جيدا ولجأ إلى صفحاته واستطاع بعلمه وفطنته أن يدفع عن نفسه تلك التهمة الشنيعة التى لا جزاء عليها إلا الموت ..

@ إستمر الشافعى يحكى لأهله قصة محنته الكبرى كانوا يستمعون إليه وهم متحلقون من حوله وقد أخذهم الدهش والرهب من هول ما يسمعون وهو يقول لهم مستأنفا حديثه .............
ــ إستمع أمير المؤمنين إلى دفاعى وبدا عليه وكأنه فى سبيله إلى أن يقنع بما سقته إليه من حجج وأسانيد , إلا أنه لم يشأ أن يعلن عن عفوه عنى بعد .. ذلك ما بدا لى منه .....
سألت أم حبيبه .............
ــ وما الذى فعله إذن ياقرة العين ومهجة الفؤاد ؟!.
ــ ردد النظر بين قائد الشرطة وبين حراسه ثم قال آمرا ............
ــ إحبسوه فى دار العامه وبعد الغد يأتى إلينا ..
ــ وماذا بعد يا ولدى ؟!.
ــ أخذونى إلى هذه الدار وهو مكان نظيف رحب وفيها من كل شئ ولى أن أفعل فى داخلها ما أشاء , لكنه غير مسموح لى بمغادرتها أو التحرك خارج جدرانها . وفى المساء جاءنى القاضى أبو عبد الله محمد بن الحسن يتحدث معى ويستعيد ما كان بيننا من حكايات وذكريات ونوادر فى المدينه قبل سنوات . كنت فى حقيقة الأمر أميل إلى هذا الرجل لسعة علمه وفقهه رغم اختلافنا كثيرا فى الرأى لتباين منابع الفكر عند كل واحد منا . كنت آمل فى ذات الوقت أن يشفع لى عند الرشيد , لكنى فوجئت به يهجو أهل المدينة ويخفض من قدرهم ويضع من علومهم ..
سأله عبد العزيز مستنكرا ..............
ــ يهجو أهل المدينه ؟!. كيف يفعل ذلك من هو مثله من أهل العلم ؟!.
ــ ليس هذا فحسب بل إنه فى المقابل يذكر أصحابه العراقيين ويرفع من أقدارهم . ثم قال لى وهو يخرج كتابا ضخما من بين طيات ردائه , أمسك به فى يده قائلا ...…
ــ لقد وضعت على أهل المدينة هذا الكتاب أفند فيه أقوالهم وأفعالهم . إعلم أنى لو وجدت أحدا ينقض منه حرفا لضربت إليه أكباد الإبل لأسمع منه ..
ــ ليتك تدع لى هذا الكتاب سأعكف عليه هذه الليله وفى الغد نلتقى إن شاء الله ..
ــ وأنا ما جئتك إلا من أجل هذا , وأعلم أنك ستكون صادقا معى ..
ــ فى الغد إن شاء الله أخبرك برأيى فى مسائله كلها ..
تعجب القاضى أبو عبد الله محمد بن الحسن قائلا .............
ــ تنتهى وأنت على هذه الحال من قراءة سفر كبير كهذا فى ليلة واحده , وترد أيضا على جميع مسائله , غير معقول والله ؟!………………
@ إستطرد الشافعى قائلا .............
ــ مضى القاضى لحاله وتركنى وحدى ..
سأله سليم ............
ــ وماذا فعلت , أظنك لم تنم تلك الليله ؟!.
ــ تماما هذا هو ما حدث يا خال , لم أنم ليلتى هذه رغم ما كنت أعانيه من جهد . ظللت عاكفا على صفحات الكتاب طوال الليل إلى أن طرق سمعى صوت المؤذن مناديا .... الصلاة خير من النوم . لم أتركه من يدى إلا وقد انتهيت من قراءة آخر سطر فيه وفى عشية اليوم التالى جاءنى ابن الحسن كما وعدنى , لكنه لم يأت وحده . كان بصحبته القائد الكبير هرثمه بن أعين ..
ــ بالطبع سألك عن رأيك فيما أورده فى كتابه ؟!.
ــ قبل أن أفاتحه برأيى فيما جاء فى كتابه هذا من أقوال وآراء تمثلت بين أمرين . أن أرجئ مصارحته بالحقيقة إلى حين , حتى لا أغضبه فى ذلك الوقت العصيب رجاء أن يشفع لى عند الرشيد . أو أصارحه برأيى الذى قد يغضبه لكنه يرضى ربى ويبيض وجـوه المهاجريـن والأنصار ..
سألته أم حبيبه فى وجل وترقب ...........
ــ وأيهما اخترت يا ولدى ؟!.
ــ أفى ذلك شك يا أماه , إخترت رضا الله عز وجل وتوكلت عليه وقلت له …

يتبع.. إن شاء الله............................

عفاف سليمان
16/04/2009, 22h40
دكتورنا الجميل
الاستاذ العظيم
طبعا مش انا لوحدى القارئه لا طبعا
فيه ناس كتير بتيجى تقراء بس مش بيسعفها الوقت انها ترد
انا احيانا ادخل موضوع ولو بيكون طويل او صفحات كتيره
مش برد الا لما اخلص الصفحات علشان الم بالموضوع
او يمكن كمان بتعجبنى السرد او الردود اللى فى الموضوع
وانا سعيده بهذه القصه لانها عرفتنى الامام الشافعى عن قرب
وإن كنت من صغرى احب الامام مالك وتمنيت ان اراه حتى فى احلامى لمعرفتى بقصته عندما جسدها اشرف عبد الغفور فى مسلسل دينى
فانا احب الاعمال الدينيه والسياسيه لانها بتكون حدثت فى الواقع
واحب اعرف قصص السلف الصالح وهذا ما اتحته لى فى اجمل منتدى
وصدقنى لو كنت اعرف اكتب مثل حضرتك لكتبت لكن
يكفينى ان اسعد بحضرتك فى سردك لتلك القصه الجميله
ولعلم حضرتك كانت ولدتى رحمها الله تاخذنى كثيرا للامام الشافعى
فلى معه ذكريات وكان بعض اقاربنا يسكنون فى الحى اللى فيه مقام الامام الشافعى
وربنا يسعدك كما تسعدنا ويقدرك على تكملة هذه السيره الذاتيه الجميله العطره بنفحات ربانيه
لك وللجميع خالص تحياتى
اختكم عفاف;):):)

د أنس البن
19/04/2009, 19h23
ــ أبا عبد الله أراك فى كتابك هذا تهجو المدينة وتذم أهلها وعملهم , فإنك تقول فيه قال أهل المدينه . ألم تسمع قول النبى "صلى الله عليه وسلم" : [ المدينة لا يدخلها الدجال والطاعون والمدينة على كل نقب من أنقابها ملك شاهر سيفه ] فإن كنت أردتها فإنها حرم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأمنه ودار الهجرة التى بها نزل الوحى ومنها خلق النبى "صلى الله عليه وسلم" وبها قبره وسماها رسول الله "صلى الله عليه وسلم" طابه وفيها روضة من رياض الجنه ..
ــ قطعا ما أردت المدينة ذاتها بكلامى هذا ..
ــ فإن كنت أردت أهلها , فهم أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصهاره وأنصاره الذين مهدوا الإيمان وحفظوا الوحى وجمعوا السنن ..
ــ معاذ الله أن أطعن على أحد منهم أو على بلدته ..
ــ فلئن كنت أردت من بعدهم بقولك قال أهل المدينة , فإنهم أبناؤهم والتابعون بعدهم والأخيار من هذه الأمه فقد أخطأت . لأن علماء أهل المدينة لم يتفقوا على ما حكيت عنهم . ولئن كنت أردت من القوم رجلا واحدا هو مالك بن أنس رضى الله عنه فما عليك لو سميت من أردت ولم تذكر المدينة فى كتابك هذا بما ذكرت !. فإنه كان بالمدينة فقهاء كثيرون غير مالك مثل ابن أبى ذئب والماجشون وغيرهم . ومنهم من يرى استتابة مالك فيما خالفهم فيه من الرأى . فأى الأمرين قصدت فقد أخطأت فيه ..
ــ أصبت والله , لم أرد فى هذا الكتاب إلا مالك بن أنس ..
ــ إسمع يا أبا عبد الله بن الحسن , أنت حبيب إلى قلبى إلا أن الحق أحب إلينا منك ومن سواك , وإنى لمصارحك بما عندى , فهل يسوءك هـذا ؟!.
ــ أبدا والله , لا أبغى غير الحق , ولا أرضى عنه بديلا , فما الذى تريد قوله بالله عليك ؟!.
ــ قرأت البارحة كتابك هذا الذى وضعته عليهم , فوجدت ما بين قولك بسم الله الرحمن الرحيم فى أول الكتاب وقولك وصلى الله على محمد فى آخر الكتاب , خطأ كله ..
بهت ابن الحسن من قول صاحبه , سأله متلعثما وقد جف حلقه ...........
ــ وكيف وجدت ذلك ؟!.
ــ إنى وجدتك ترد فيه من كتاب الله عز وجل مائة وثلاثين موضعا ..
ــ ليتك تزيدنى بيانا ؟!.
ــ قلت فى رجلين تداعيا جدارا ولا بينة بينهما , إن الجدار لمن تليه أنصاف اللبن ومعاقد القمط . وقلت فى متاع البيت يدعيه الزوجان ما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان يصلح للنساء فهو للمرأه . وقلت فى الرجل يجحد ولدا جاءت به امرأته ويقول استعرتيه ولم تلديه , إنه تقبل به شهادة القابله . قلت فى هذا وأمثاله بغير بينة ولا يمين , وقد قضى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أن البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه فكيف تنكر علينا سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وقول على بن أبى طالب , وتقول ما قلت برأيك ؟!.
ــ أنا ما قصدت إلا ذم القائلين بالشاهد مع اليمين وأطعن على حكمهم لأنهم قالوا بخلاف كتاب الله تعالى ..
ــ وأين خالفوا الكتاب ؟!.
ــ قال الله تبارك وتعالى : [ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ] وقال : [ ذوى عدل منكم ] لكنهم قالوا شاهدا واحدا ..
ــ فكل خبر يأتيك مخالفا لكتاب الله , أتسقطه ؟!.
ــ هذا هو الواجب علينا ..
ــ فما تقول إذن فى الوصية للوالدين ؟!.
طال تفكره فاستحثه قائلا ............
ــ هلا أجبتنى بالله عليك ؟!.
ــ لا تجب الوصية للوالدين ولا تجوز ..
ــ قولك هذا مخالف لما جاء فى كتاب الله . لم قلت إنها لا تجوز ؟!.
ــ لقول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ لا وصية للوالدين ] ..
ــ أخبرنى إذن بالله عليك عن قول الله عز وجل : [ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ] أحتم ذلك ولا يجوز أقل من شاهدين أم ليس بحتم ؟!.
ــ فما تريد من هذا ؟!.
ــ لئن زعمت أن الشاهدين حتم من الله لا غير , كان ينبغى لك أن تقول ..... إذا زنى زان فشهد عليه شاهدان رجمته إن كان محصنا أو جلدته إن كان غير محصن ..
ــ ليس هو حتما من الله ..
ــ إذا لم يكن حتما من الله فعلينا أن ننزل الأحكام منازلها . فى الزنا أربعا وفى غيره شاهدين وفى غيره رجل وامرأتين أو بالشاهد واليمين , أليس كذلك ؟!.
ــ صدقت يا أبا عبد الله ………………

يتبع.. إن شاء الله............................

عفاف سليمان
24/04/2009, 06h50
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
دكتورنا الجميل د أنس
صباح الخير على حضرتك وعلى جميع اهل ومواطنى سماعى الجميل
ننتظر من حضرتك باقى السرد الجميل
فانا يمتلكنى الشغف للاحداث التى سوف تحدث فى هذه السيره العطره
ولك وللجميع خالص تحياتى واحتراماتى وتقديرى
اختكم عفاف;):)

د أنس البن
30/04/2009, 07h48
@ عاد الشافعى يحكى لمن حوله .............
ــ وفى اليوم التالى أخذونى مرة ثانية للقاء الرشيد ليستكمل المحاكمه ..
سأله سليم .........
ــ ماذا حدث فى ذلك اليوم ؟.
ــ لما قلت للرشيد أنى قد نلت حظا من العلم وأن القاضى يعرفنى , ورد عليه مؤيدا كلامى كما سمعتم , هز رأسه وأخذ ينظر إلى طويلا مدققا متفرسا , ثم أشار إلى أن أقترب منه , وأمرنى بالقعود وانبرى يسأل : ………………
ــ قل لنا يا ابن إدريس , كيف بصرك بكتاب الله عز وجل , فإنه أولى الأشياء أن يبتدأ الكلام به ؟.
ــ عن أى كتاب تسألنى ؟. فإن الله أنزل ثلاثا وسبعين كتابا على خمسة أنبياء , وأنزل كتابا موعظة لنبى وحده وكان سادسا ..
ــ وما هذه الكتب , هل تعلمها ؟.
ــ أولهم آدم عليه السلام وعليه أنزل ثلاثين صحيفة كلها أمثال , وأنزل على إدريس عليه السلام ست عشرة صحيفة كلها حكم وفيها علم الملكوت الأعلى . وأنزل على إبراهيم عليه السلام ثمانية صحف كلها حكم مفصله وفيها فرائض ونذر . وأنزل على موسى عليه السلام التوراة كلها تخويف وموعظه . وأنزل على عيسى عليه السلام الإنجيل ليبين لبنى إسرائيل ما اختلفوا فيه من التوراة . وأنزل على داود عليه السلام كتابا كله دعاء وموعظة لنفسه وحكم فيه لنا واتعاظ لداود وأقاربه من بعده . وأنزل على محمد "صلى الله عليه وسلم" الفرقان وجمع فيه سائر الكتب , فقال عز وجل "تبيانا لكل شئ وهدى وموعظة" وقـال تعالـى "أحكمت آياته ثم فصلت" ..
ــ قد أحسنت فى تفصيلك . كل هذا علمته ؟.
ــ أجل يا أمير المؤمنين , عن أى كتاب تسألنى ؟.
ــ قصدى كتاب الله الذى أنزله على إبن عمومتنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الذى دعانا إلى قبوله وأمرنا بالعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه ؟.
ــ جمعه الله تعالى فى صدرى وجعل روعى دفتيه ..
ــ كيف علمك به ؟.
ــ عن أى علم تسأل يا أمير المؤمنين ؟. أعلم تنزيله أم علم تأويله أم علم محكمه أم علم متشابهه أم ناسخه أم منسوخه أم أخباره أم أحكامه أم مكيه أم مدنيه . أم ليليه أم نهاريه أم سفريه أم حضريه . أم وجوه قراءته أم حروفه أم معانى لغاته أم حدوده . أم عدد آياته أم نظائره أم إعرابه ؟.
ــ أتعرف أحكام القرآن هذه كلها ؟.
ــ أستطيع بإذن الله تعالى أن أتكلم الآن حول ثلاثة وسبعين حكما فى القرآن تفصيلا ..
ــ كيف ذلك ؟.
ــ مثلا فى القرآن ما ثبتت تلاوته وارتفع حكمه , وفيه ما ضربه الله مثلا وفيه ما ضربه الله اعتبارا . وفيه ما أحصى الله فعال الأمم السابقه , وفيه ما قصدنا الله من فعله تحذيرا وفيه ......
قاطعه الرشيد مدهوشا .............
ــ ويحك أيهاالشافعى , عجيب ما أسمع والله منك . لقد ادعيت من القرآن علما عظيما . كل هذا يحيط به علمك وفهمك ؟.
ــ المحنة يا أمير المؤمنين تنبئ عن صدق دعواى . والمحنة على القائل كالنار على الفضة تخرج جودتها من رداءتها . هأنذا أقف أمامك فامتحن إن شئت ؟.
ــ فى الغد إن شاء الله أسألك عن تفصيله . لكن أخبرنى كيف علمك بالأحكام ؟.
ــ فى العتاق أم فى المناكحات أم فى السير والمحاربات أم فى الحدود والديات أم فى الأشربة والأطعمة والبياعات . وحلال ذلك من حرامه والحكم فيه ؟.
ــ وكيف بصرك بسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ إنى لأعرف منها ما يخرج على وجه الإيجاب ولا يجوز تركه تماما . كما لا يجوز ترك ما أوجبه الله تعالى فى القرآن . وما خرج على وجه التأديب وما خرج على وجه الخاص لا يشرك فيه العام , وما خرج على وجه العموم يدخل فيه الخصوص . وما خرج جوابا عن سؤال سائل ليس لغيره استعماله , وما خرج منه ابتداء لازدحام العلوم فى صدره . وما فعله فى خاصة نفسه واقتدى به الخاصة والعامه , وما خص به نفسه دون الناس كلهم , مع ما لا ينبغى ذكره لأنه أسقطه عليه السلام عن الناس وسنه ذكرا ..
ــ أخذت الترتيب يا شافعى لسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فأحسنت موضعها لوصفها . فما حاجتنا إلى التكرار عليك ونحن نعلم ومن حضرنا من أهل العلم أنك حامل نصابها ..
ــ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ..
ــ وكيف بصرك بالعربيه ؟.
ــ هى مبدأنا وبها قومت طباعنا وجرت ألسنتنا فصارت كالحياة لا تتم إلا بالسلامه وكذلك العربية لا تسلم إلا لأهلها . لقد ولدت وما أعرف اللحن فكنت كمن سلم من الداء ما سلم له الدواء وعاش بكامل الهناء وبذلك شهد لى القرآن ..
ــ تقول شهد لك القرآن ؟. كيف ؟.
ــ قال تعالى "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" يعنى قريشا وأنت وأنا منهم يا أمير المؤمنين . العنصر نظيف والدوحة منيعة شامخه وأنت أصل ونحن فرع وهو "صلى الله عليه وسلم" مفسر ومبين به اجتمعت أحسابنا . فنحن بنو الإسلام وبذلك ندعى وننسب ..
ــ صدقت بارك الله فيك . هيه كيف علمك بالنجوم ؟.
ــ أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائى والنارى وما كانت العرب تسميه الأنواء . ومنازل النيرين الشمس والقمر والإستقامه والرجوع والنحوس والسعود وهيئاتها وطبائعها . وما أهتدى به فى برى وبحرى وما أستدل به على أوقات صلواتى وأعرف ما مضى من الأوقات فى كل ممسى ومصبح وظعنى فى أسفارى ..
ــ فكيف علمك بالطب ؟.
ــ أعرف ما قالت الروم بلغاتها مثل أرسطاطاليس وجالينوس وبقراط وأبوقيليس وأعرف ما نقله أطباء العرب وما قننه فلاسفة الهند ونمقه علماء الفرس مثل شاهم دويهم وبزرجمهر وغيرهم ..
ــ حسن حسن وكيف معرفتك بالشعر ؟.
ــ أعرف منه الجاهلى والمخضرم والمحدث وأعرف معاريضه وبحوره وأوزانه وأعرف طويله وكامله وسريعه ومجتثه وهزجه ورجزه وحكمه وغزله ..
ــ كيف حفظك له ؟.
ــ أروى الشاهد والشاذ ومانبه للمكارم وشحذ بصيرة الصارم . وما قيل فيه على الأمثال تبيانا للأخبار وما قصد به العشاق رجاء التلاق وما رثى به الأوائل ليتأدب به الأواخر وما امتدح به المكثرون لإمرائهم زورا وبهتانا . وما تكلم به الشاعر فصار حكمة لمستمعه ..
ــ ما ظننت أحدا يعرف هذا ويزيد على الخليل حرفا ولقد زدت وأفضلت فكيف علمك بالعرب والأنساب ؟.
ــ يا أمير المؤمنين ذلك علم لم يسعنا جهله فى الجاهلية مع ظهور الكفر وجحود الحق ليكون عونا على التعارف وبصيرة بالأكفاء . فألفيت أوائلنا أفخاذا وعمائر وفصائل وجملته قبائل وعشائر حتى ورثه الأصاغر عن الأكابر وعمل به الخلف إقتداء بالسلف . وإنى لأعرف جماهير الأقوام ونسب الكرام ومآثر الأيام وفيها نسبة أمير المؤمنين ونسبتى ومآثر أمير المؤمنين ومآثر آبائه وآبائى ..
ــ لولا أنك قرشى لقلت إنك ممن لين له الحديد . فما تقول فى الخلافة والإمامه ؟.
ــ كل من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفه ويجتمع الناس عليه , فهو خليفه ..
ــ ومن أولى الناس بها ..
ــ أولى الناس بها قريشا ..
ــ ما هو دليلك ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لقتاده بن النعمان لما وقع فى قريش ونال منهم [ مهلا يا قتاده لا تشتم قريشا فإنك لعلك ترى منها رجالا أو يأتى منها رجال تحتقر عملك مع أعمالهم وفعلك مع أفعالهم وتغبطهم إذا رأيتهم . ولولا أن تطغى قريشا لأخبرتها بالذى لها عند الله ] ..
ــ فما تقول فى خلافة الراشدين ؟.
ــ أراهم على الترتيب كما جاءوا . أبا بكر فعمر فعثمان فعلى . وعمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ..
ــ عجيب والله يا ابن إدريس ما أسمعه منك ..
ــ ما وجه العجب يا أمير المؤمنين ؟.
ــ ما رأيت هاشميا يقدم أبا بكر وعمر وعثمان على على غيرك ..
ــ شهـدت بأن الله لا شئ غيره .. وأشهد أن البعث حق وأخلـص ..
وأن عرى الإيمان قول محسن .. وفعل زكى قد يزيـد وينقـص ..
وأن أبا بكـر خليفة أحمد .. وكان أبو حفص على الخير يحرص ..
وأشهد ربى أن عثمان فاضل .. وأن عليـا فضله متخصـص ..
أئمة قـوم يقتـدى بفعالهم .. لحا الله مـن إياهـم يتنقـص ..
فما لغـواة يشتمـون سفاهة .. وما لسفيه لا يجـاب فيحرص ..
ــ زدنى أيها المطلبى ..
ــ أتت إمرأة يا أمير المؤمنين إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" تسأله عن مسألة فأمرها أن ترجع . قالت : يا رسول الله إن رجعت فلم أجدك فمن أسأل . كأنها تعنى الموت فقال لها النبى "صلى الله عليه وسلم" : [ فأتى أبا بكر ] فتلك إشارة منه "صلى الله عليه وسلم" إلى أن القائم بعده أبا بكر ………………


------------------------------------------

ــ الله الله . كل هذه العلوم يا ابن إدريس .
هكذا عقب عبد العزيز أكبر أخواله وهو يستمع مأخوذا مع الآخرين إلى الشافعى وهو يواصل حديثه عن محنته ..
رد شقيقه على معقبا ............
ــ أنسيت أنه جمع علوم مكة والمدينة واليمن قبل أن يجمع علوم العراق ؟.
أضاف سليم ...........
ــ ورحلته صبيا إلى الباديه أنسيتها هى الأخرى ؟.
أجاب عبد العزيز قائلا ...............
ــ على رسلكم إخوتى لم أنس شيئا من هذا غير أنى فى عجب أن يجمع كل هذه العلوم فى رأسه . ليس هذا فحسب بل ويعلن عنها وهو فى هذا الموقف العصيب بين السيف والنطع ..
رد الشافعى مبتسما فى تواضع بينما امرأته حميده تختلس النظر إليه فى إعجاب وحياء بعد أن هدأت واطمأنت وعادت البسمة تزين شفتيها ............
ــ ليس هذا بالأمر العجيب يا خال ..
ــ وهل هناك ما هو أعجب من هذا ؟.
ــ الأعجب من هذا يا خالى العزيز ما حدث بعد ذلك من أمير المؤمنين ..
بادرت أم حبيبه متسائلة فى لهفة وفضول ................
ــ خيرا يا ولدى ؟.
ــ ما كدت أنتهى من كلامى هذا والرشيد يستمع لى متكأ على مرفقه الأيمن حتى اعتدل ثم استوى جالسا وقال : ………………
ــ يا ابن إدريس لقد ملأت صدرى وعظمت فى عينى فعظنى موعظة أعرف فيها مقدار علمك وكنه فهمك ..
ــ على شريطة يا أمير المؤمنين ؟.
ــ هى لك فما هى ؟.
ــ طرح الحشمه ورفع الهيبه وإلقاء رداء الكبر عن منكبيك , وقبول النصيحه وإعظام حق الموعظة والإصاخة لها ..
ــ لك هذا , تكلم يا ابن إدريس , هات ما عندك من موعظه ..
كان الفضل بن الربيع يرقب صديقه الشافعى من ركن قريب وقد تنفس الصعداء وانبسطت أساريره بعد أن زال عنه الخوف والإشفاق . سرت الطمأنينة إلى قلبه على مصير صاحبه وتأكده من نجاته ورضا أمير المؤمنين عليه . أخذ يتابع صاحبه بعينيه وهو يجثو على ركبتيه ويمد يده غير مكترث ولا هياب ولا محتشم مشيرا إلى الرشيد قائلا فى حدة وثبات ...............
ــ يا ذا الرجل , إعلم أنه من أطال عنان الأمن فى الغره طوى عذار الحذر فى المهله . ومن لم يعول على طرق النجاة كان بمنزلة قلة الإكتراث من الله مقيما , وصار فى أمنه المحذور مثل نسج العنكبوت لا يأمن عليها نفسه ولا يضئ له ما أظلم عليه من نسبه ..
سأل الرشيد واجفا .................
ــ وكيف الخلاص من ذلك يوم القيامه ؟.
ــ لو اعتبرت بما سلف ونظرت ليومك وقدمت لغدك وقصرت أملك وصورت بين عينيك إقتراب أجلك واستقصرت مدة الدنيا ولم تغتر بالمهله . لو فعلت ذلك لما امتدت إليك يد الندامه ولابتدرتك الحسرات غدا فى القيامه ولكن ضرب عليك الهوى رواق الحيرة فتركك وإذا بدت لك يد موعظة لم تكد تراها . ومن لم يجعل الله له نورا فما له مـن نور ..
أصابت كلمات الشيخ هدفها تماما ونزلت عند الرشيد بمكان فأخذه البكاء والنحيب وهو يجفف دمعه بمنديل فى يده وعلا شهيقه وانتحابه . عندئذ انبرى أحد الواقفين من خلفه من رجاله المقربين القائمين على خدمته صارخا فى وجه الشافعى ...........
ــ على رسلك يا هذا . أبكيت عينى أمير المؤمنين ..
مواقف دائما نراها فى مجالس الملوك والأمراء يظن أصحابها أنهم أكثر شفقة عليهم من ناصحيهم يحاولون بها إظهار محبتهم واهتمامهم والتقرب بها والزلفى من ملوكهم . كان درسا قاسيا تلقاه قائل هذه الكلمات من فم الشافعى , الذى نظر إليه غاضبا , وزجر أشباهه كلهم فى شخصه قائلا له , وهو يزأر كالأسد الهصور فى وجهه ..........
ــ يا عبيد الرفعة وأعوان الظلمه وعدة الأئمه الذين باعوا أنفسهم بمحبوب الدنيا الفانيه واشتروا عذاب الآخرة الباقيه . أما رأيتم من كان قبلكم كيف استدرجوا بالإملاء ورفهوا بتواتر النعماء ثم أخذوا أخذ عزيز مقتدر ؟. أما رأيتم الله كيف فضح مستورهم وأمطر بواكر الهوان عليهم فأصبحوا بعد سكنى القصور والنعمة والحبور بين الجنادل والصخور والقبور ؟. ومن وراء ذلك وقوف بين يدى الله عز وجل ومساءلته عن الخطره وماهو أخف من الذره وهم فى ذلك نهبة للخوف والروع ..
قال هارون الرشيد .............
ــ يا ابن إدريس قد سللت علينا لسانك وهو أمضى من سيفك ..
ــ هو لك يا أمير المؤمنين إن قبلت ولا عليك ..
ــ فكيف السبيل إلى الخلاص من ذلك ؟.
ــ أما الثانيه أن ......
قاطعه الرشيد ......
ــ أين الأولى يا رجل ؟.
ــ لا أستطيع قولها ..
ــ هيه .... فهمت .. أكمل يرحمك الله ..
ــ أما الثانيه أن تتفقد بالعمارة حرم الله تعالى وحرم رسوله "صلى الله عليه وسلم" وتؤمن السبل وتنظر فى أمر الأمه ..
ــ وكيف ذاك أفصح ؟.
ــ أن تعطى أولاد المهاجرين والأنصار حقهم من الفئ لئلا تزعجهم الحاجة عن أوطانهم . وتنظر فى أمور العامة والثغور وتبذل العدل والنصفه وأن لا تجعل دونها سترا . وتتخذ أهل العلم والورع شعارا وتشاورهم فيما ينوب . وتعصى أهل الريب ومن يزين لك أن تقطع ما أمر الله به أن يوصل ..
ــ ومن يطيق ذلك ؟.
ــ من تسمى بإسمك وقعد مثل مقعدك ..
ــ يا شافعى ألك من حاجة خاصة بعد العامة فتقضى أو مسألـة فتمضى ؟.
ــ أتأمرنى بعد بذل مكنون النصيحة وتقديم الموعظه أن أسود وجهى بالمسألة وأذل للحاجه ؟.
أطرق الرشيد ثم رفع رأسه ونظر للقاضى قائلا ............
ــ يا محمد بن الحسن سله عن مسأله ؟.
تنحنح القاضى هامسا للرشيد .............

يتبع.. إن شاء الله............................

Tarek Elemary
30/04/2009, 12h12
و الله يا سيدى لقد أدخلتنا فو جوٍ مفعم بالإيمان و التقوى و درس عميق فى كل شىء
قوة الإيمان ... فصاحة اللسان ... قوة الحجة و البيان ... قدر العلم و العلماء ... شهوة الملك و سطوة الحكم ... نفاق الحاشية و الجوقة ... الخوف من الله مهما غرك الملك الزائل
هذا عملٌ كبير لا يتصدى له إلا كبير
وفقك الله و دامت لنا إتحافاتك

عفاف سليمان
02/05/2009, 14h52
د أنس
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لماذا اطلت علينا الغيبةِ فى سرد هذه القصه الجميله
ماشاء الله على الامام الشافعى رحمُه الله وبارك لنا فى اعمالِه
وسيرته العطره الجميله
ما احب الله عبدا الا فقهه فى الدين وفى امورٍ كثيره من العلم والطب والفلك والشعر والعروض
والنصيحه والحكمه
د أنس
السرد للسيره العطره اصبح فى قمة الجمال
فى كل مره يزداد جمالا
من افعال الامام الشافعى
لم يُرسل الشافعى للقصاص منهُ عند امير المؤمنين
بل ارسلهُ الله ليعلم الامير امورا كثيره
منها المشاوره والحكمه واقامة العماره والسؤال على الناس حتى لا يحتاجوا او حتى لا يطلبوا المسأله
امورا كثيره حباها الله بامامنا الشافعى
وحضرتك قمت بتوضيحها لنا (د انس) عن السيره العطره لهذا الامام الجليل
كم اتمنى من الله عز وجل ان ينعم على ولو بقليل القليل مما انعم الله على امامنا الجليل
ويحسن خاتمة اعمالنا
اللهم امين
لك ولجميع مواطنى سماعى
كل التقدير والاحترام
اختكم عفاف:cool::emrose::emrose:

د أنس البن
02/05/2009, 18h19
أشكرك أخى العزيز طارق العمرى على صبرك فى قراءة هذه التجربه ..
وشكر من القلب للسيده الفاضله عفاف سليمان على متابعتها للسيره ,,
سائلا الله تعالى أن يعيننا على إكمال أحداثها على الوجه الذى يرضى ربنا ثم يرضى كل من يقرأها ..

د أنس البن
02/05/2009, 18h19
أطرق الرشيد ثم رفع رأسه ونظر للقاضى قائلا ............
ــ يا محمد بن الحسن سله عن مسأله ؟.
تنحنح القاضى هامسا للرشيد .............
ــ يا أمير المؤمنين إن كان أحدا من أهل العلم يخالفنا ويثبت خلافه علينا فهذا الرجل الشافعى ..
رد الرشيد بصوت خفيض ..............
ــ لم يا ابن الحسن ؟.
أجابه ابن الحسن وهو يخفض من صوته .................
ــ سعة علمه يا مولاى وتأتيه وتدقيقه فى المسائل . والله لو أن الناس ألقوا فى عقله لغرقوا فيه ..
ــ كيف عرفت ؟.
ــ لا أعرف بهذا الحجازى منى يا أمير المؤمنين ..
ــ تقول ذلك يا ابن الحسن وقد حملت ما حملت من علوم العراقيين كلهم ؟.
ــ أجل يا مولاى أمام هذا الحجازى لا يسعنى إلا أن أقول ذلك . لقد ملك زمام الحديث والسنه ولم يناظرنا أحدا من أهل الحديث وثبت أمامنا غيره ..
ــ لا تزرى من قدرك يا ابن الحسن , هيا سله واشدد عليه ..
أسلم أمره لله ثم التفت ناحية الشافعى مخاطبا ...............
ــ يا ابن إدريس ما تقول فى رجل عنده أربع نسوة فأصاب الأولى عمة الثانيه , وأصاب الثالثة خالة الرابعه ؟.
ــ ينزل عن الثانية والرابعه ..
ــ ما الحجة فى ذلك ؟.
ــ أخبرنا مالك عن أبى الزناد عن أبى هريره قال . قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" [ لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ] ..
أطرق ابن الحسن مفكرا ففاجأه الشافعى متحديا ليثير حماسه وغيرته ويرفع عنه الحرج الذى استشعره منه وهو يسأله ...............
ــ قل لى أنت يا محمد بن الحسن . كيف استقبل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" القبلة يوم النحر وكبر ؟.
وجم محمد بن الحسن وتتعتع ولم يحر جوابا فالتفت الشافعى للرشيد قائلا ...........
ــ يا أمير المؤمنين يسألنى عن الحلال والحرام فأجيبه , وأسأله عن سنة من سنن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فيتتعتع . والله لو سألته كيف فعل أبو حنيفة لأجابنى ..
نجح الشافعى فى إثارة حماسه وطرح رداء الحرج والحياء منه تجاهه . لم يشأ ابن الحسن بدوره أن يعلن استسلامه , رفع رأسه وسأل الشافعى متحديا .............
ــ ما تقول فى رجل غصب من رجل ساحة فبنى عليها بناء أنفق فيه ألف دينار . ثم جاء صاحبها أثبت بشاهدين عدلين أن هذا إغتصبه هذه الساحه وبنى عليها هذا البناء كيف تحكم بينهما ؟.
ــ أقول لصاحب الساحه يجب أن تأخذ قيمتها فإن رضى حكمت له بالقيمه وإن أبى إلا ساحته قلعت البناء ورددت ساحته إليه ..
إبتسم فى دهاء متسائلا .............
ــ فما تقول يا أبا عبد الله فى رجل إغتصب من رجل خيط إبريسم فخاط به بطنه , فجاء صاحب الخيط فأثبت بشهادة عدلين أن هذا اغتصبه هذا الخيط . أكنت تنزع الخيط من بطنه ؟.
ــ لا . ما يكون لى ذلك أبدا ..
تهلل وجه ابن الحسن ظنا منه أنه أوقع الشافعى فى حبائله .........
ــ الله أكبر , تركت قولك .
ــ لا تعجل أيها القاضى , أخبرنى أنت . لو أن هذا الرجل لم يغتصب الساحة من أحد وأراد أن يقلع عنها هذا البناء , أمباح له ذلك أم محرم عليه ؟.
ــ بل مباح ..
ــ عظيم , أفرأيت لو كان الخيط الذى خاط به بطنه خيط نفسه لم يغتصبه من أحد وأراد أن ينزعه من بطنه . مباح له فعل ذلك أم محرم عليه ؟.
ــ بل محرم عليه , أفى ذلك شك ؟.
ــ فكيف بالله عليك تقيس مباحا على محرم ؟.
أطرق القاضى قليلا وقد اعتراه بعض الوجوم . أخذ يفكر فى مخرج من هذا الفخ الذى أوقع نفسه فى حبائله ثم رفع رأسه قائلا ...........
ــ فما تقول فى رجل غصب لوحا من خشب فأدخله فى سفينة ووصلت السفينة إلى لجة البحر ثم أتى صاحب اللوح بشاهدين عدلين أنه له أكنت تنزعه من السفينه وترده لصاحبه ؟.
رد الشافعى من فوره .............
ــ لا . ما يكون لى أن أفعل ذلك ..
ــ فكيف تصنع إذن بصاحب السفينه ؟.
ــ آمره أن يقترب بسفينته إلى أقرب ساحل ثم أطلب إليه أن ينزع اللوح من مكانه ويرده فى الحال لصاحبه ..
ــ كيف تحكم بذلك ورسول الله يقول [ لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام ] ..
ــ ومن الذى ضره ؟. هو أضر بنفسه ولم يضره أحد ..
ران على المكان سكون كسكون المقابر لم يقطعه إلا صوت الشافعى وهو يقول .......
ــ قل لى أيها القاضى . ما تقول فى رجل من الأشراف غصب جارية من رجل من أراذل الرجال ثم أولدها عشرة كلهم قرأوا القرآن وخطبوا على المنابر وحكموا بين الناس . ثم جاء صاحب الجارية أم هؤلاء الأولاد العشره وأثبت بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبها منه وأنها مملوكة له , أخبرنى كيف تحكم له ؟.
ــ أحكم بأن أولاد هذه الجاريه أرقاء لهذا الرجل ..
ــ بالله عليك , أى هذين أعظم ضررا , أن تقلع البناء وترد الساحة إلى صاحبها أو تحكم برق هؤلاء الأولاد ؟.
جلس القاضى واجما بعد أن غطه العرق واكتسى وجهه بمسحة من ضيق وغم , وران على المكان صمت عميق كأنه صمت العدم . لم يستطع منع الضيق عن نفسه فتلك طبيعة البشر رغم حبه للشافعى ومعرفته بعلمه وتقديره له . لكن طبيعته السمحاء لم تكن تخل أحيانا من بعض القلق . منذ اللحظة الأولى عندما طلب إليه الرشيد أن يسأل الشافعى ويناظره وهو يعلم أنه وضع فى مأزق لا نجاة له منه . لم تنسه السنين قدر الشافعى وسعة علمه مذ كانا معا قبل سنوات فى مدرسة مالك بالمدينه ..
لم ينس ذكاءه ودقة فهمه للمسائل وقدرته الفائقة لى استنباط الأحكام والفتاوى منها وأنه لا قبل لأحد بمجاراته فى هذا المضمار مهما أوتى من العلم . فى تلك اللحظة ذاتها كان الرشيد غارقا فى تأملاته وهو يردد النظر بين قاضى الخلافة الأكبر قطب الفتاوى والأحكام فى بغداد الذى بدا زائغ العينين لا يجد ما يرد به على حججه القاطعه . وبين ذلك الرجل القرشى الأسمر النحيل الضامر العود الذى يجلس أمامه ساكنا واثقا من نفسه رغم علمه أن رأسه قد تهوى فى أية لحظة وأنه من الممكن أن يلحق بمن سبقوه ..
فوجئ الرشيد بسعة علمه ونباهته وتوقد ذهنه وفصاحة لسانه وثقته البالغة بنفسه وقدراته الفذة على المناظرة والجدال . أخذ يحدث نفسه ............ هذا الرجل القرشى نسيج وحده والله لم تر عيناى مثله ..
وبينما هو كذلك إذ نظر عن يمينه فلمح وزيره الفضل بن الربيع . تذكر أيام كانا فى المدينة المنوره فى رحلة الحج سويا قبل سنوات وأخذ يستحضر فى ذهنه ذلك الحوار الذى دار بينهما وهو يخبره بقصة لقائه بصديقه الشافعى وكيف حكى له يومها عن المناظرة التى كان هو فارسها . نظر إلى الفضل بن الربيع نظرة تحمل سؤالا صامتا كأنه يقول له هذا هو صاحبك الذى حدثتنى عنه . فهم الفضل ما يريده أمير المؤمنين فهز رأسه مرتين كأنه يقول له ........... أجل إنه هو يا مولاى ..
تذكر أنه قال لوزيره فى ذلك اليوم ............ لا تعجب يا أبا إسحق فإن عقل الرجل من قريش يعدل عقل رجلين . تذكر أيضا أنه تمنى ساعتها أن يلتقى بهذا الرجل وها هى الأقدار تسوقه إليه ويعاين بنفسه سعة علمه . إنه إذن هذا الرجل الذى أراد الله بعلمه فرفعه الله . أخذ يردد فى نفسه ............ لله درك يا شافعى ما أفطنك لقد قاتل الله عدوك فصار وليا لك ..
وكأنما شعر الشافعى بما أصاب القاضى محمد بن الحسن من الضيق والحرج فتنحنح قائلا .............
ــ يا أمير المؤمنين , إنما هو كلام نتكلم به فى المناظرات , لكنى لا أعلم أحدا أخذ من العلم ما أخذه محمد بن الحسن . إنه حامل فقه العراقيين وإليه يرجع الفضل فى جمع ما قاله أبو حنيفه وأبو يوسف ونشره على الكافه . إننى لا أدعى باطلا إذا قلت إنه أعظم أهل الأرض علما فى هذا الزمان بعد وفاة أبى حنيفه ومالك بن أنس والقاضى أبو يوسف . وما يكون لمثلى أن يناظر عالما جليلا مثله . الله يعلم يا أمير المؤمنين أنى ما ناظرته إلا عن أمرك ..
هز الرشيد رأسه مبتسما , معجبا بتواضع الشافعى وفطنته وأخيرا شق صوته أرجاء المكان قائلا وهو يهم بالقيام إيذانا بانتهاء المجلس .............
ــ قد علمت أن الله عز وجل لا يدع هذه الأمة حتى يبعث عليهم قرشيا فلقا يرد عليهم ما هم فيه من الضلاله . إذهب الآن أيها الشيخ الحجازى القرشى فى ضيافة .......
وقبل أن يتم عبارته تنحنح محمد بن الحسن . نظر إليه الرشيد متسائلا ..........
ــ مالك يا ابن الحسن ؟.
ــ معذرة يا أمير المؤمنين إسمح لى أن يكون الشافعى ضيفى ؟.
نظر للشافعى مبتسما كأنه يسأله فأجابه من فوره ............
ــ لو لم يقلها هو لقلتها أنا يا أمير المؤمنين ولفرضت نفسى ضيفا عليه ..
ــ ما السبب ؟.
ــ الحقيقة يا مولاى أنى كنت أتمنى منذ زمن أن أجلس إليه وأسمع منه سماعا ما دونه فى فقه أبى حنيفه قبل أن أقرأ كتب الخلاف بين العراقيين ..
ــ آه تقصد ما كتبه القاضى أبو يوسف رحمه الله فى أوجه الإختلاف بين أبى حنيفه وابن أبى ليلى أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا أمير المؤمنين ..
ــ على بركة الله أنت إذن فى ضيافة القاضى ولا تغادر أرض العراق حتى آذن لك ..

يتبع.. إن شاء الله............................

أبو مروان
02/05/2009, 18h43
نفحات إيمانية ,تقوى وورع ,معرفة وعلم ...الله يكرمك أيها ألأخ العزيز كما أكرمتنا بهذه االنفحات الروحانية وزاد الله من أمثالك ومتعك الله بالصحة والعافية ,,,

د أنس البن
08/05/2009, 09h02
أشكرك وسعيد بوجودك فى هذه الصفحات أخى الحبيب دكتور محمد بك .. أبو مروان ..
وأرجو ألا يكون السرد مملا

د أنس البن
08/05/2009, 09h02
مناظـرات ومحـاورات

@ تسابق أهل الدار جميعهم فى همة ونشاط إلى رفع صحاف الطعام وتنظيف المكان من بقاياه حيث ذبحت شاة وأعدت وليمة كبيرة ابتهاجا بنجاة الشافعى . كان القوم فى عجلة من أمرهم وهم يعيدون ترتيب المكان وإعداده , كل واحد منهم يعمل يديه فى همة لمواصلة حديث مثير قطعه طعام العشاء . لم تمض غير لحظات حتى عاد المكان مرتبا منسقا كما كان ..

جلس فى صدارته الفارس العائد المحتفى به وجمع كبير من قرابته وذوى رحمه وجيرانه , يتحلقونه فى شوق وفضول بعد أن اتخذ كل واحد منهم مكانه شاخصين إليه أبصارا إمتزج فيها القلق والترقب بفرحة اللقاء . مرهفين آذانا مشتاقة لسماع بقية حكايته المثيرة بأحداثها المتلاحقه وما كان من أمره فى الأشهر الماضية التى أمضاها فى أرض العراق , إلى أن عاد إليهم مرة أخرى سالما غانما مرفوع الهامه . بعد أن كتبت له النجاة وبرأه الله من كيد أعدائه ومكرهم الكبار , وما حاولوا إلصاقه به من إفك وبهتان حسدا من عند أنفسهم للإيقاع به وإيراده موارد الهلاك بعد أن أعيتهم الحيل والدسائس ..

بادر خاله سليم الأزدى متسائلا فى لهفة وقد بدا على ملامحه أنه أكثر القوم فضولا وشوقا لمعرفة باقى حكايته . بعد أن فرغ من إرواء عطشه مسح فمه بكمه ثم وضع آنية الماء جانبا وهو يسأل متلهفا ..............

ــ هيه وماذا بعد يا ابن إدريس , ألن تسمعنا الآن بقية حكايتك وما حدث لك فى أرض الخلافه بعد انتهاء المحاكمه ..

نظر إليه الشافعى ثم إلى من حوله متسائلا وهو يضع راحته على جبهته كمن يحاول أن يتذكر ...............

ــ أين توقفنا يا قوم فقد أنسانا شهى طعامكم آخر الحديث ؟.

إنبرى عبد العزيز مجيبا فى الحال ............

ــ وقفت بنا فى حكايتك عند اللحظة التى خرجت فيها من القصر بعد انتهاء المحاكمه فى صحبة القاضى محمد بن الحسن الشيبانى لما طلب إلى الرشيد أن تكون فى ضيافته , أليس كذلك ؟.

ــ بلى أيها الخال العزيز لقد تذكرت , يا لها من أحداث .

هز رأسه قليلا وهو يتنهد قائلا ...................

ــ إيه .... ما أعظم هذا الرجل وما أكثر فقهه وغزارة علمه وما أعذب تلاوته للقرآن . أقولها شهادة صدق مع اختلافنا كثيرا فى الرأى وفى منابع الفكر وقاعدة الفتوى وأصولها . ما رأيت فى حياتى كلها أو فى أى بلد حللت فيه أحدا يحسن تلاوة القرآن مثله , وما رأيت أخف روحا ولا أفصح لسانا ولا أرجح عقلا من هذا الحبر العراقى البدين ..

بعد لحظات صمت جليل ران السكون خلالها وخيم أرجاء المكان أردف قائلا وهو يهز رأسه ...................

ــ كنت أظن وأنا أسمعه يتلو آى الذكر فى خشوع أن القرآن نزل بلغته . إيه .... أيام رائعة مكثتها فى صحبته لم أفارقه خلالها إلا لضروره . المهم أننا بعد أن خرجنا سويا من دار الملك فى الرقه أخذنا الحديث ونحن فى الطريق إلى داره فى أمور شتى ومسالك متشعبه . كان ساخطا أشد السخط من مسلك صاحبه حماد البربرى ناقما عليه بعد أن علم أنه كان وراء هذه المؤامرة اللعينة التى أتقن صنعها ..

سألته امرأته ...........

ــ ماذا قال لك ؟.

ــ قال لى كلاما كثيرا مبديا دهشته وامتعاضه من مكره وكيده أذكر منه قوله فى هذا الحوار الذى دار بيننا : ………………

ــ والله إنى لفى عجب شديد ودهشة من أمر هذا الكوفى الذى صاحبته زمنا كنت أعلم مذ كنا معا فى الحلقة المالكية فى المدينه أنه يكن لك فى قلبه قدرا من الكراهية والحقد . لكنى لم أتصور يوما أن يتردى إلى هذا الدرك الأسفل من الخسة والنذاله . لا أدرى كيف ظل طوال هذه السنين الماضية وهو يحمل لك فى باطنه الأسود كل هذا الكم الكبير من الحقد والغل . ظننت آنذاك أنها أمورا عابرة كتلك التى تحدثها المنافسة أحيانا بين الزملاء ورفقاء العلم لا تلبث أن تمضى لحالها وتنطوى فى غياهب الزمن وسراديب النسيان ..

ــ ليتها كانت كذلك . غير أنى لا أجد ما أقوله أيها الشيخ الجليل إلا أن أدعو الله تعالى أن يسامحه ويغفر له ما سلف من أمره معى . لم يكتف بما فعله معى بالمدينة قبل سنوات من إيذاء ومهانة بل حاول مرات كثيرة بعد أن صارت له الإمارة وملك زمام الأمور فى اليمن أن يتحرش بى عن طريق بعض أتباعه والعاملين تحت إمرته ..

ــ يتحرش بك . كيف ذلك وما الذى فعله معك هذا الوغد المغرور الأحمق ؟.

إغرورقت عيناه بالدمع وهو يقول فى صوت متهدج حزين ...............

ــ لجأ إلى بعض السفهاء وضعاف النفوس من أذنابه وأطلقهم من ورائى فى كل مكان أغدو أو أروح فيه . يطلقون ألسنتهم مرات بالأذى والسباب والسخريه ومرات بإطلاق الشائعات والروايات الكاذبة الملفقة الباطلة التى تسئ إلى سمعتى وتنال منها وأساليب وضيعة أخرى لا أحب أن أتذكرها أو أذكرها لك ..

ــ عجيب والله ما أسمع . كل ذلك بسبب ما كان بينكما فى المدينة منذ سنوات . حقا لا أكاد أصدق ؟.

ــ لا يا سيدى ليس لهذا فحسب ..

ــ وما الدافع له إذن على هذا اللدد المتصل وذلك العداء وتلك الكراهيـه ؟.

تنهد قائلا ................

ــ إيـه ليس دافعا واحدا إنما أسباب كثيره . منها أننى حاولت مرارا وأنا قاض للبلاد أثناء ولايته إمارة مكة واليمن أن أمنع ظلمه وظلم أتباعه الذين طغوا فى البلاد أن يصل إلى ضعاف القوم ممن هم تحت إمرته . قمت بالفعل برد ما سلبوه وانتهبوه من حقوق إليهم . كان لسانى سيفا مسلطا على ظلمه للناس وطغيانه فى البلاد , فشق ذلك على نفسه وبعث كوامن الغضب فيه , وزاده حقدا وكراهية على ما كان يحمله فى باطنه ..

ــ إعلم يا أبا عبد الله أنه لا يقيم ميزان العدل ولا يركب هذا المركب الصعب إلا أولو العزم من الرجال . يفعلون ذلك وهم يعلمون أنهم سيتعرضون لخشونة الزمان وأذاه . وإنى لأظنك يا صاحبى من أولئك الرجال الذين لا يخافون فى الله لومة لائم ..

ــ لقد بلغ به السفه والحقد الأعمى أن يسلط بعضا من أتباعه ليقطعوا الطريق على مرات ومحاولة إيذائى أحيانا بالضرب وبالسب أخرى . كان ذلك قبل أن يشى بى عند أمير المؤمنين ويلفق لى تلك التهم الشنيعه ..

صمت برهة ثم قال فى صوت متهدج ونبرات حزينه ...............

ــ أخذ يشيع بين الناس من غير حجة أو سند سواء فى المدينة أيام كنا معا أو بعد ذلك فى اليمن عن طريق أذنابه أن قومى من الموالى , وأننى لست قرشيا بالنسب بل بالولاء ..

ــ أجل صدقت والله . أذكر أنى سمعته مرات بالمدينه قبل سنوات يزعم أن جدك شافعا كان مولى لأبى لهب ولم يلحقه عمر بموالى قريش ثم ألحقه عثمان بن عفان من بعد عمر بهم . أجل قال ذلك وأشياء من هذا القبيل لا زلت أتذكر طرفا منها لكن الأمر العجيب حقا وأكثر ما أدهشنى أن يكون الخلاف فى أمور العلم مدعاة لكل هذا الحقد وتلك الكراهيه . لدرجة تلفيق تهم باطلة شنيعة كتلك التهم التى لفقها لك أخيرا وهو يعلم يقينا أنه لا عقاب لها ولا جزاء عليها إلا الموت . أمر عجيب ومحير حقا ..

ــ والله ما ناظرت أحدا يا سيدى وأنت تعلم هذا إلا ولم أبال بين الله الحق على لسانى أو لسانه . فلا بغية لنا من وراء ذلك ولا أرب إلا النصيحة وبيان الحق ومعرفته لا الجدال العقيم أو الحجاج السقيم أو التعصب الأعمى للرأى . وما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها إلا عظم فى عينى وهبته واعتقدت مودته . ولا كابرنى أحد على الحق ودفع الحجة الصحيحة إلا سقط من عينى ورفضته ..

ــ ذلك هو نهجنا أيضا المهم عندنا هو الوصول إلى الحقيقة سواء كانت فى كلامنا أم كلام غيرنا ..

مرت لحظات صمت وهما يسيران بخطوات رتيبة عاد بعدها ابن الحسن يواصل سابق حديثه قائلا ...............

ــ يذكرنى كلامك هذا بما سمعته قبل سنوات طوال من إمامنا وشيخنا أبى حنيفه فى أخريات أيامه . إن كلماته لا تزال ترن فى أذنى إلى هذه اللحظة كأنما سمعتها منه بالأمس القريب ..

سأله فى لهفة ............

ــ حدثنى بالله عليك بما سمعته من حكم هذا الشيخ الجليل ودعنا من حكايات وذكريات أليمه ؟.

ــ كنت غلاما وقتذاك فى الثانية عشر من عمرى وسمعته ذات مرة وهو يقول موجها كلامه لجماعة من المشتغلين بعلم الكلام ............ “ كنا نناظر أيها القوم وكأن على رؤوسنا الطير مخافة أن يزل صاحبنا مع مخالفته لنا فى الرأى . وأنتم تناظرون وتريدون زلة صاحبكم وهمة أحدكم أن يظفر من صاحبه بشنعة يشنع بها عليه “ ..

ــ ما أعظمه من إمام وما أتقاه سمعت أنه نهى ولده حماد عن الإشتغال بهذا العلم أو تعاطيه ..

ــ أجل لقد وجهه حينا لدراسة علم الكلام ثم عاد ونهاه عنه . ولما سأله ولده عن ذلك وكان له هوى به قال له ............ “ يا بنى إن هؤلاء المختلفين فى أبواب الكلام ممن ترى كانوا على قول واحد ودين واحد حتى نزغ الشيطان بينهم فألقى بينهم العداوة والإختلاف “ ..

ــ صدق الشيخ الإمام فإن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال [ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم الحديث ] صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . أجل لأن يلقى الله عبده بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشئ من هذه الأهواء ………

يتبع.. إن شاء الله............................

سعدالشرقاوى
15/05/2009, 07h29
أستاذنا الفاضل الدكتور/انس
بارك الله فيكم وأطال فى اعماركم
فلا أبالغ إن قلت لك أنت الشمعة التى تنير لنا
طريق العلم والمعرفه
يا صاحب المائدة الدسمه
التى ماينتهى منها الزائر إلا وأحس بالشوق إليها
فأنت الساقى ونحن الشاربين
فلا تقتلنا ظمآ
ونسأل الله لك دوام التوفيق

د أنس البن
18/05/2009, 09h50
الصديق الشاعر سعد الشرقاوى صاحب الكلمة الرشيقه
أشكرك من القلب على قراءتك لتلك الصفحات
جبر الله بخاطرك كما جبرت بخاطرى , والله تعالى من أسمائه الحسنى الجبار

د أنس البن
18/05/2009, 09h50
@ إستمر الشافعى يحكى لمن تجمع حوله من أهله ................

ــ ظل الشيخ يقص على ونحن نقطع الطريق إلى داره ذكرياته فى صباه مع الإمام الأعظم وما كان من أمره معه وهو لا يزال غلاما فى مقتبل العمر . كانت المسافة طويلة فأخذنا نتدارس جانبا من فقهه وآرائه وفتاواه . ولمناسبة ذكر هذا الإمام الجليل وإمام دار الهجره مالك بن أنس وذكرياتنا معا فى حلقته العامره سألنى ابن الحسن وكان متعصبا لشيخه أبا حنيفة النعمان بن ثابت : ………………

ــ يا ابن إدريس أود أن أسألك فى شئ على شرط ؟.

ــ أى شرط ؟.

ــ أن تجيبنى فى صراحه ..

ــ سل عما شئت ..

ــ صاحبنا أعلم أم صاحبكم ؟.

ــ تقصد أبا حنيفه ومالك بن أنس أليس كذلك ؟.

ــ بلى ..

ــ تريد المكابرة أو الإنصاف ؟.

ــ بل الإنصاف طبعا ..

ــ ما الحجة عندكم حتى أجيبك على أساسها ؟.

ــ الكتاب والسنه والإجماع والقياس ..

ــ ناشدتك الله أن تقول لى . أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم ؟.

ــ إذ نشدتنى بالله فصاحبكم ..

ــ وسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أصاحبنا أعلم بها أم صاحبكم ؟.

ــ بل صاحبكم ..

ــ فمن أعلم منهما بأقاويل أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والمتقدمين . صاحبنا أم صاحبكم ؟.

ــ اللهم صاحبكم ..

ــ لم يبق إلا القياس أليس كذلك ؟.

رد محمد بن الحسن على عجل كمن ظفر بالحجه : بلى وصاحبنا أقيس من صاحبكم ..

ــ القياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فمن لا يعرف الأصول على أى شئ يقيس ؟. شيخنا مالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ومن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" كان هو الأولى بالكلام والفتوى ..

سكت برهة وأردف قائلا .................

ــ ومع هذا أقر أن أبا حنيفة لو بنى على أصول أهل المدينة لكان الناس كلهم عيال فى الفقه عليه . لكنه بنى على أصول هى فى بعض الأحوال أضعف من الفروع ..

ــ لا تعجل على يا صاحبى فلسوف تشهد الأيام القادمة بإذن الله محاورات كثيرة بيننا فى هذه القضايا . لكنا وصلنا الآن إلى الدار وآن لك أن تريح جسدك المكدود قبل أن تستأنف العمل ..

سأله الشافعى وهو يشير بيده على بناية جميلة تحيط بها الأشجار الكثيفة ونباتات الزهور من كل جانب فى نسق بديع يخلب الألباب ...........

ــ أهذه دارك ؟. ما أروعها ..

ــ أجل هذه هى دارى المتواضعه التى اتخذتها بالرقه مذ كنت قاضيا عليها قبل أن أتولى مهمة قاضى القضاه . لى دار أخرى فى بغداد أكبر من هذه وأكثر رحابة لكنى أفضل البقاء هنا فى هذه الدار وبالذات إذا كنت عاكفا على كتاب جديد ..

ــ ولم أيها القاضى ؟.

ــ السكون هنا وهدوء هذه المدينه يعيننى كثيرا على الكتابة والتأليف بعيدا عن الضجيج والزحام وصخب الأسواق وكثرة اللجاج فى بغداد . تفضل أيها الضيف الكريم ………………

يتبع.. إن شاء الله............................


@ واستمر الشافعى..............

ــ ما إن دخلنا داره وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث بادرته متسائلا عن شئ لاحظته على باب داره ………………

ــ من هذا الرجل الذى رأيته قائما على باب الدار يا ابن الحسن ؟.

ــ من “ رباح “ ؟. إنه رجل أقمته وكيلا مكانى عهدت إليه بالقيام بكافة أعمالى الشخصيه لما رأيت أنها ستشغلنى عن مهام العلم والتأليف . ونبهت على أهلى جميعا ألا يسألونى بعد اليوم أى حاجة من الحوائج وأن يأخذوا ما بدا لهم من وكيلى هذا ..

ــ ما أحسن ما صنعت فإن هذا أفرغ لقلبك ..

مضت لحظات من الصمت كان الخادم خلالها يصب فى أكواب وضعها أمامهم من إبريق فى يده شرابا ساخنا . أخذوا يرتشفون منه فى صمت قطعه الشافعى متسائلا ................

ــ أين كتبك يا ابن الحسن ؟.

إبتسم قائلا ....................

ــ لا تعجل بعد أن نشرب هذا الشراب المنعش الدافئ ونريح أقدامنا المنهكة من طول المسير سأريك كل ما عندى . إنى أحتفظ هنا بكل ما كتبت فى غرفة خصصتها للإطلاع والتدوين لا يدخلها أحدا غيرى ..

أخذه من يده وظل يمشى به فى بهو طويل حتى وصلا إلى عتبة درج . أخذا يرقيانه على مهل إلى أن وصلا للدور العلوى من الدار . وفى حجرة منعزلة تقع فى ركن بعيد كأنها خلوة ناسك أو صومعة راهب نظر الشافعى أمامه فهاله ما رأى . صفوفا متراصة من الكتب ينوء بحملها بعير حوالى ستين سفرا فى أحجام متباينه . أخذ يعرفه ببعضها قائلا ...................

ــ هذا كتاب الجامع الصغير دونت فيه أكثر من ألف وخمسمائة مسأله . وهذه الأسفار السته لكتاب المبسوط وهذا كتاب الرد على أهل المدينه . أما هذا فهو كتاب السير فى فقه الحرب وهو من أعز الكتب عندى وأحبها إلى قلبى ..

تهلل وجه الشافعى قائلا .................

ــ هو هذا الكتاب إذن ؟. سمعت به وبما بين دفتيه من علم غزير وتمنيت أن أقرأه يوما ما ..

ــ لما سمع به أمير المؤمنين هارون الرشيد بعث إلى بولديه الأمين والمأمون ومعهم سائر الأمراء ليطلعوا عليه وليتعلموا ما فيه مـن علـوم ..

قال الشافعى متوسلا ..................

ــ ليتك تعيرنى إياه يا شيخ العراق ؟.

ــ معذرة أيها الصاحب إلا هذا الكتاب . لا أستطيع إعارتك إياه , ولا تسألنى عن السبب عافاك الله ..

رد الشافعى مرتجلا فى حينه وعلى شفتيه ابتسامة ودودة صافيه :

العلم ينهى أهله .. أن يمنعوه أهله



لعلـه ببذلـه .. لأهلـه لعلـه ..



إبتسم ابن الحسن قائلا وهو يمد يده إلى الكتاب ويناوله للشافعى ..................

ــ إيه لا أجد ما أرد به عليك . طلبته عارية وأنا أعطيه لك هدية لقد غلبتنى كعادتك أيها القرشى اللبيب ..

وعلى منضدة خشبية كانت المحبرة والريشة وأوراقا كثيرة متناثرة توحى أن هناك كتابا يعكف الشيخ عليه ولم يكتمل بعد . سأله عنه بعد أن أبدى إعجابه ودهشته مما رأى ..

رد ابن الحسن قائلا ................

ــ هذا كتاب الجامع الكبير وضعته فى التفسير والأصول لم أفرغ منه بعد ..

ــ إسمع يا ابن الحسن لا يزال معى خمسون دينارا من عطية أمير المؤمنين إدخرتها لأمر فى نفسى ليتك تعيننى عليه ..

ــ مقضى إن شاء الله ما هو هذا الأمر ؟.

ــ أريد أن أنسخ من هذه الأسفار كلها نسخا آخذها معى حتى أتدبر ما فيها على مهل منى ..

ــ كنت أعلم يقينا أنك ستطلب منى ذلك وهى مسألة يسيرة بإذن الله . إذا كان الغد ذهبنا إلى سوق الوراقين وأحضرنا أمهر من فيهم هنا فى دارى ليعكفوا عليها وينسخوا لك نسخا منها . لن تغادر العراق بإذن الله إلا ومعك نسخا من جميعها ..

ــ وها هى أجرتهم وثمن القراطيس الخمسين دينارا التى ادخرتها ..

ــ أمسك عليك دراهمك يا شافعى فأنت ضيفى وأنا كفيل بأجرهم ..

ــ معذرة أيها الشيخ لن يدفع أجرهم أحدا غيرى ..

وبينما كانا يتابعان حديثهما إذ دخل عليهما أحد الغلمان يحمل بكلتا يديه صينية كبيرة عليها غطاء تحته صحافا كثيرة للطعام وضعها على منضدة قائلا ........

ــ الطعام يا سيدى ..

ــ هيا يا صاحبى إلى العشاء أولا وبعده سنجلس سويا لنشرع فى قراءة كتبى . لن تغادر العراق بإذن الله تعالى إلا وقد أقرأتك كل ما كتبت ..

ــ كأنك تقرأ حقيقة ما يدور برأسى . والله إن هذه هى لأمنيتى ترددت أن أفاتحك فيها كى لا أشق عليك ..

يتبع.. إن شاء الله............................

abuzahda
23/05/2009, 23h05
كناسِكي المحاريب
تواصِل لضم المسبحة ، فلا يشغل بالك من مَرَّ أو وَلـَّى
و هذا دأب المتبتلين

:emrose:

لك الورد ، سيِّدي ، ينحني تحت وطءِ شذاك

:emrose::emrose::emrose:

د أنس البن
25/05/2009, 20h54
كناسِكي المحاريب
تواصِل لضم المسبحة ، فلا يشغل بالك من مَرَّ أو وَلـَّى
و هذا دأب المتبتلين

:emrose:

لك الورد ، سيِّدي ، ينحني تحت وطءِ شذاك



صديقى الشاعر الأديب الفيلسوف سيد أبو زهده
يعلم الله أنى أقف عاجزا عن الكلام أمام كلماتك التى لا أدرى من أى كنز من كنوز المعانى تخرجها
واليوم منحتنى قلادة ووساما يجعلنى عاجزا عن كتابة أى رد
فسامحنى .............

د أنس البن
25/05/2009, 20h54
@ سألت أم حبيبه وهى تشير بيدها .................
ــ هذه إذن يا ولدى كتب القاضى محمد بن الحسن الشيبانى ؟.
ــ أجل يا أماه , حملتها وحدها على بعير ولم أفارق ابن الحسن إلا بعد أن سمعتها منه سماعا . كنا نصل الليل بالنهار معا وهو يقرؤها على . كم أتعبت معى ذلك الشيخ وشققت عليه طوال الأشهر الماضيه ..
ــ وما الذى تنوى فعله يا ولدى بعد ذلك؟.
ــ أريد فى البداية أن أزور شيخى زعيم المحدثين سفيان بن عيينه . لم أره مذ رحلت إلى اليمن للعمل بالقضاء . علمت وأنا بالعراق أنه ملازم داره بعد أن أضناه المرض وأقعده الكبر ولم يعد مداوما على حلقـة الدرس بالحرم ..
قال عبد العزيز ................
ــ أجل لقد أصابه الكبر وألح عليه الضعف ولم يعد قادرا على مواصلة التعليم والدرس . لكنى أراه أحيانا يتحامل على نفسه ليجلس بين تلاميذه وأحبابه يرد على أسئلتهم ويلقنهم ما تجود به نفسه من علومه ..
ــ شفاه الله وعافاه , ما أدركت أحدا من الناس فيه من آلة الفتيا ما فى شيخ المحدثين سفيان بن عيينه . وما رأيت أحدا أحسن تفسيرا للحديث منه , أطال الله لنا فى عمره ونفعنا من علومه ..
سألته حميده ...............
ــ هل ستذهب لزيارته الآن ؟.
ــ لا , غير معقول لقد تأخر بنا الوقت ولا أريد أن أقطع عليه راحته . فى الغد إن شاء الله أذهب إليه فى داره مبكرا فالوقت غير مناسب الآن لزيارته ..
وفى اليوم التالى بعد أن صلى الشافعى ركعتى الفجر فى ساحة الكعبه وجلس بعض الوقت يقرأ القرآن ويبتهل إلى ربه داعيا شاكرا , قام ميمما شطر دار شيخه سفيان بن عيينه . ولما دخل عليه وجده مقعدا فى فراشه عاجزا عن الحركة تماما بعد أن وهن العظم منه وقد بلغ من الكبر عتيا ..
أخذ يمنى نفسه وهو فى الطريق إليه أن يمتد به اللقاء مع شيخه وأستاذه الأول . كان فى شوق كبير للحديث معه بعد طول غياب, فلما رآه على تلك الحال من الوهن والضعف أخذ يحدث نفسه آسفا .............. إيه . الحالة التى عليها الشيخ لن تسمح لى أن أطيل الجلوس معه كما كنت أتمنى وأرجو . على أية حال أكتفى الآن بالسلام عليه والدعاء له بالشفاء ثم أتركه ليريح بدنه الضعيف ..
إلا أن الشيخ الذى كل بصره ووهن العظم منه ما كاد يتعرف عليه من صوته الذى لا يزال يذكر نبراته وجرسه مدققا النظر إليه بعينين كليلتين ذابلتين . حتى أشرق وجهه وتهلل واعتدل فى فراشه محاولا القيام منه عنوة لمعانقة تلميذه الأثير إلى قلبه . هب كأنما دبت العافية وسرت فى بدنه مرة واحده ..
وفى ذلك اللقاء الذى امتد إلى منتصف النهار كما كان الشافعى يتمنى ويرجو دار حديث ذو شجون . قال له الشيخ فى بدايته وكأنه يعاتبه عتابا رقيقا ...............
ــ قد بلغنا ولايتك القضاء فى اليمن وما أحسن ما انتشر عنك من أحكام وفتاوى وإقامة لميزان العدل وانت تحكم بين الناس . هكذا عهدى بك يا ولدى مذ كنت فتى فى مقتبل العمر ..
ــ بارك الله فيك يا سيدى ..
ــ لكن اسمع يا ولدى لقد أديت الذى عليك كما ينبغى ونصيحتى لك ألا تعد . إنها نصيحة والد محب لولده حريص عليه . أمثالك من أهل العلم لا ينبغى لهم ذلك ..
ــ أعدك يا سيدى الشيخ أن تكون المرة الأخيرة التى أمارس فيها عملا فى أى من دواوين الحكم . لقد أراد أمير المؤمنين هارون الرشيد قبل أن أغادر البلاد أن يكلفنى بشئ كهذا بل وألح عليه ..
ــ أى عمل هذا الذى عرضه عليك وكلفك به ؟.
ــ أن أعمل بالقضاء فى العراق ..
ــ وبماذا أجبته يا ولدى ؟.
ــ إعتذرت له بانشغالى فى الدرس والعلم وجمع الحديث فقبل عذرى وأمر لى بألف دينار من بيت المال تأتينى كل عام كى أتفرغ لرسالتى . الحمد لله أن أفادتنى هذه المحنة وعادت على بالخير الكثير والنعم الوافره ..
نظر الشيخ إليه متسائلا فأكمل الشافعى قائلا ...............
ــ أجل يا سيدى لقد كانت عناية من الله تعالى بى أن تحدث لى هذه المحنة لأتفرغ للعلم والدرس . كانت بيانا لى من الله وتحذيرا ألا يصرفنى عن طريق العلم صارف حتى لو كان ذلك الصارف شرفا تشرئب له الأعناق وتسعى له النفوس كتولى القضاء والحكم بين الناس . لقد يسر الله لى أن أتعرف أخيرا على علوم العراقيين وأن أجلس إلى شيوخهم وأتحاور معهم ..
ضحك الشيخ قائلا ..............
ــ أفلحوا إذن فى استدراجك إلى حواراتهم ولجاجهم الفارغ ..
ــ أضطررت يا سيدى الشيخ أن أناظرهم وأحاورهم مع كراهتى للجدل وكثرة اللجاج . ما دفعنى على ذك إلا رغبتى فى أن أدافع عن فقه أهل الحجاز وطريقتهم فى استنباط الأحكام ..
إبتسم الشيخ ابتسامة كليلة وهو يعقب قائلا ................
ــ أجل أجل صدقت يا ولدى هم قوم تمرسوا فى الجدل والحجاج وأتقنوه وعندهم ولع بالمناظرات واللجاج ..
ــ نعم يا سيدى هكذا حالهم ..
ــ وماذا وجدت عندهم ؟.
ــ إستخرجت مائة وثلاثين حكما من القرآن يخالفون ظاهرها ..
ــ وكيف استدلوا على أحكامهم هذه ؟.
ــ منها ما يستدلون عليه بالسنه ومنها ما يستدلون عليه بالأثر ومنها ما يستدلون عليه بقول الرجل من التابعين ومنها ما يخالفونه لا حجة فى خلافه . ومع ذلك يذمون القائلين بالشاهد الواحد مع اليمين وهى لا تخالف ظاهر القرآن ويدعون أن القائل بها يخالف كتاب الله تعالى ..
ــ أجل أعلم رأيهم هذا مستندين إلى قوله تعالى [ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ] . وقوله تعالى أيضا [ ذوى عدل منكم ] ويقولون أنه لا يجوز أقل من شاهدين ..
إلتقط الشيخ أنفاسه والشافعى ينصت فى أدب لحديثه ثم أردف متسائلا ..............
ــ مع من تحاورت منهم وناظرتهم ؟.
ــ جرت محاورات كثيرة ومناظرات شتى مع كل شيوخ بغداد والكوفة والبصره . كنت ألتقى بهم فى المساجد والساحات على أعين الناس وبعضهم ناظرته فى حضرة أمير المؤمنين هارون الرشيد ..
ــ مثل من يا ولدى ؟.
ــ سأحكى لك يا سيدى حكاية واحد منهم . حدث ذات مرة بعد أن فرغت من صلاة العشاء فى مسجد بغداد إذا بأحد غلمان الرشيد يتقدم نحوى قائلا ..........
ــ أجب أمير المؤمنين . سألته متى أذهب للقائه فأجابنى بأنه فى انتظارى الآن . توجهت فى الحال إليه وقبل أن أدخل مجلسه رميت بطرفى على الجالسين فى حضرته . توقفت مكانى وهممت أن أعود أدراجى من حيث أتيت ..
قاطعه سفيان متعجبا ............
ــ لم ؟.
ــ لمحت من بين الحاضرين رجلا من أولئك الذين لا أحب أن يجمعنى وإياهم مجلس واحد ..
ــ عن أى رجل تتحدث ؟.
ــ إنه واحد من أولئك المبتدعين من أهل الأهواء لا أظنك تعرفه أو حتى سمعت به . إسمه بشر بن غياث المريسى ..
ضحك الشيخ متحاملا على نفسه قائلا ...............
ــ بشر بن غياث , هداه الله , كيف لا أعرفه . قل من ذا الذى لا يعرفه ؟. أعرفه جيدا وأعرف آراءه التى صدع بها رؤوس الناس . إنه من قوم تمرسوا بالجدل وأتقنوه ورغم زهده وورعه وتقواه إلا أن شغفه بالفلسفات وعلوم الكلام وولعه بالحجاج والجدل العقيم أفسده . المهم أكمل حكايتك يا ولدى ..
ــ دخلت مجلسه على مضض منى بعد أن سمعت حارس الباب ينادى على بصوت عال ثم ألقيت السلام على أمير المؤمنين . وبعد أن أذن لى بالجلوس بالقرب منه قلت : ………………

ــ لبيك أمير المؤمنين ..

ــ بلغنى اليوم من القائد هرثمة بن أعين ما كان من أمر أولئك القوم معك ومناظرتهم إياك فى مسجد الكوفة قبل أيام . أعجبنى كثيرا ما سمعته من ردك عليهم ومحاجتك لهم , خاصة ذلك الرجل الذى سألك عن الإيمان . ليتك تعيد علينا ما دار بينكما من جدال ..
ــ أجل يا أمير المؤمنين , كان ذلك الرجل من أهل بلخ , سألنى عن الإيمان
فقلت له : .......... الإيمان قول وعمل , وهو يزيد وينقص بزيادة العمل ونقصه . فقال لى : ...... وما الدليل على أنه يزيد وينقص بالعمل ؟. قلت له : ...... بل أدلة كثيرة وليس دليلا واحدا . منها أن الله تعالى لما صرف القبلة عن بيت المقدس قال قوم أرأيت صلاتنا التى كنا نصليها إلى بيت المقدس ما حالها . فأنزل الله سبحانه "وما كان الله ليضيع إيمانكم" فسمى الصلاة إيمانا , وقوله تعالى "وإذا أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا"... أفهمت أم لا زلت مصرا على قولك ؟.
ــ وماذا كانت إجابته ؟.
ــ أصر على محالفتى قائلا لى : ....... بل هو قول واعتقاد فحسب , سألته عن الدليل فقال : ....... قوله تعالى "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" . فالإيمان قول والأعمال شرائعه , والدليل هو الفصل بينهما بالواو ..
ــ كيف كان ردك عليه إذن ؟.
ــ لما سمعته يقول ويؤكد إن الواو فصل , قلت له : ........ إذن فأنت تعبد إلهين , إلها فى المشرق وإلها فى المغرب , لأن الله تعالى يقول "رب المشرقين ورب المغربين" ..
ــ وهل رد على حجتك ؟.
ــ أبدا , غضب وهاج وماج وقال لى : ………………
ــ أجعلتنى وثنيا . ما كان ينبغى لك أن ترمينى بهذه التهمة الشنعاء ..
ــ بل أنت الذى اتهمت نفسك وجعلت نفسك كذلك ..
ــ متى وكيف ؟.
ــ الآن لما زعمت أن الواو فصل . حرف الواو التى احتججت به فى الفصل بين الإيمان والعمل هو بعينه نفس الحرف فى هذه الآيه ..
هدأ الرجل وقام معتذرا وهو يقول للشافعى ...............
ــ بل لا أعبد إلا ربا واحدا ولا أقول بعد اليوم إن الواو فصل . بل أقول إن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص ………………
كان الرشيد متكأ فاستوى جالسا ثم نظر لمن حوله قائلا ............
ــ أرأيتم هذا القرشى . صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لما قال "تعلموا من قريش ولا تعلموها , وقدموا قريشا ولا تقدموها"………………
.............................
@ واستمر الشافعى يحكي لشيخه .................
ــ ما كاد أمير المؤمنين يفرغ من كلامه , حتى قام بشر المريسى قائلا : …………
ــ يا أمير المؤمنين دعنى وإياه ..
رد الرشيد قائلا ..........
ــ شأنك وإياه يا بشر ..
ــ أخبرنى يا شافعى . ما الدليل عندك على أن الله واحد ؟.
ــ أما أنت يا بشر فإنك ما تدرك شيئا من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم , لكنى سأجيبك على مقدارك من حيث أنت . الدليل عليه به ومنه وإليه ..
ــ هلا أفصحت ؟.
ــ إختلاف الأصوات فى المصوت إذا كان المحرك واحدا دليل على أنه واحد وعدم الضد فى الكمال على الدوام دليل على أنه واحد . وأربع نيرات مختلفات فى جسد واحد متفقات على ترتيبه فى استفاضة الهيكل دليل على أن الله تعالى واحد . أيكفى هذا أم أزيدك بيانا ؟.
لما لم يجبه استأنف قائلا ...............
ــ وأربع طبائع مختلفات فى الخافقين أضداد غير أشكال مؤلفات على إصلاح الأحوال دليل على أن الله تعالى واحد . وفى خلق السموات والأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون . كل ذلك دليل على أن الله تعالى واحد لا شريك له ..
ــ هيه . وما الدليل على أن محمدا رسول الله ؟.
ــ القرآن المنزل وإجماع الناس عليه والآيات التى لا تليق بأحد وتقدير المعلوم فى كون الإيمان بدليل واضح . دليل على أنه رسول الله لا بعده مرسل يعزله ..
صمت الشافعى برهة أردف بعدها ...................
ــ واعلم أيها الرجل أن امتحانك إياى بهذين السؤالين وقصدك إياى بهما دون سائر فنون العلوم . دليل على أنك حائر فى الدين تائه فى الله عز وجل , ولو وسعنى السكوت عن جوابك لاخترته ..
حاول أن يبدو متماسكا غير آبه لما يوجهه الشافعى من تقريع إليه , فقال وهو يحاول رسم شبح ابتسامة باهتة على شفتيه ...............
ــ ألست تدعى الإجماع أيها الحجازى ؟.
ثم أردف غير منتظر جوابه ....................
ــ هل تستطيع أن تدلنى على شئ أجمع الناس عليه ؟.
فطن الشافعى إلى سؤاله وأدرك أنه يريد أن يمضى معه فى مسائل الفقه ومع تمكنه منها وثقته أن مناظره لن يثبت فيها أمامه تجاهل الشافعى مرمى سؤاله وأجابه ساخر على غير توقع منه .................
ــ نعم أجمع الناس على أن هذا الحاضر أمير المؤمنين فمن خالفه قتل ..
قام الرشيد واقفا وهو يضحك ملئ شدقيه إيذانا بانتهاء المجلس ..
----------


@ قال سفيان بن عيينه معقبا على حكاية الشافعى ..............
ــ إيه يا ولدى ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح . عجيب والله أمر هؤلاء المتكلمين يظنون أنه لا أعرف بالله منهم . لو علم الناس يا ولدى ما فى الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد ..
إلتقط نفسا عميقا قال بعده ................
ــ قل لى يا ولدى إلى من جلست من علماء العراق وأخذت ؟.
ــ أقمت فى دار محمد بن الحسن الشيبانى وسمعت منه كل ما كتب . وجلست إلى شيخهم وكيع بن الجراح الكوفى وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفى وإسماعيل بن علية البصرى ..
ــ أعرفهم جميعا فقد أخذوا كلهم عنى فى ساحة البيت العتيق ..
لم يقطع حديثهما الذى استمر ساعات إلا دخول الغلام الذى يقوم على خدمة الشيخ متسائلا ................
ــ هل تريد شيئا سيدى الشيخ ؟.
ــ الطعام يا غلام , لقد أدركنا الجوع , أليس كذلك يا أبا عبد الله ؟.
إبتسم الشافعى ولم يعقب حتى خرج الغلام فقال مستأنفا................
ــ لكنىلقيت فى بغداد شابا عراقيا حصيفا من بنى هلال علمت منه أنه من قبيلة ربعية عدنانية تلتقى مع النبى "صلى الله عليه وسلم" فى جده العالى نزار ..
ــ ما الذى رأيته فى هذا الشاب العراقى ؟.
ــ لاحظت نهمه للمعرفة وشغفه بمجالسة العلماء . لا يدع المحبرة من يده ولما سألته فى ذلك قال .......... أنا مع المحبرة إلى المقبره . فى الحقيقة لم ألتق بمثله من قبل وأظنه سيكون له شأن يوما ما ..
ــ شوقتنى إلى معرفته يا أبا عبد الله , ما اسم هذا الشاب يا ترى ؟.
ــ إسمه أحمد بن حنبل بن هلال ..
ــ أحمد بن حنبل . ليتنا نراه يوما ..
ــ أكد على أنه سيجئ إلى هنا فى مكه لمواصلة رحلة العلم ..
ــ آه رحلة العلم . هذا ما أردت أن أتحدث معك بشأنه يا ولدى ..
ــ ما الذى تعنيه يا سيدى ؟.
ــ لقد جمعت فى حوزتك يا ولدى علوما جمه وللناس هنا حق عليك أن تفيدهم من علومك هذه ..
ــ هل أعتبر هذا إذنا منك لى يا سيدى الشيخ فى الجلوس للدرس والفتيا ..
إبتسم الشيخ رغم مرضه ابتسامة عليلة لكنها تحمل معانى الرضا والقبول ثم قال فى صوت واه عليل ..............
ــ لقد أذنت لك فيهما مذ كنت فتى فى الخامسة عشرة من عمرك وكنت تأبى ألا تذكر ؟. أفلا آذن لك الأن وقد حصلت ما حصلت من فقه الحجاز والعراق والشام واليمن ومصر وجمعت ما جمعت من علوم جمه . إن حلقة الدرس بفناء زمزم تنتظرك يا ولدى قم على بركة الله واجلس هناك مكانى وعلم الناس مما علمت رشدا . لقد سبقت إليهم أنباؤك وهم جميعا فى شوق لسماعك . لا تحرم طالب علم من علمك ..
صمت برهة حاول خلالها أن يلتقط أنفاسه وهو يمد يده إلى منضدة بجواره . تناول من فوقها كتابا ضخما أعطاه للشافعى قائلا ..............
ــ إمسك يا ولدى ..
ــ هل ترغب فى أن أقرأ عليك منه شيئا ؟.
ــ لا يا ولدى خذه معك واعكف على قراءته وحدك فلسوف يفيدك كثيرا ..
ــ ومتى أرده لك سيدى الشيخ ؟.
إرتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة وهو يرد قائلا ..............
ــ إحتفظ به عندك إنى وهبته لك ..
ــ من صاحبه يا سيدى ؟.
ــ إنه كتاب جمعت فيه السنن والآداب وما أثق فى صحته من أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" كتبته فى الحولين الماضيين وأنت أحق من يرثـه منـى ..
تناوله الشافعى فرحا به وهو يقول ................
ــ شكرا لك سيدى الشيخ , شفاك الله وعافاك وأبقاك عمرا مديدا ..

يتبع.. إن شاء الله............................

عفاف سليمان
01/06/2009, 06h47
دكتورنا انس بعد صباح الخير على حضرتك وعلى اهل سماعى الكرام:)
لقد اشتقت كثيرا لتكملة هذه القصه الروحانيه وما يكون فيها من اصول الفقه والدين وشرح وتفسير وقياس وتحليل
وما فيها من مناظرات اتت ثمارها مع شيخنا الجليل الامام الشافعى رحمة الله عليه:emrose:
كم تخوفت الا يرى شيخه الذى علمه وتتلمذ على يديه
وما اجمل الهدايا التى اهديت اليه من شيخه والشيخ الشيبانى رحمهم الله جميعا
فهو يستحق كل نفيس وغالى لانه سوف يوصل كلمة الله وتفسير اياته وفقه بكل ما يساعده من اتقان وبضمير لعلمه انه سوف يقف امام الله يوما ويسئله ماذا فعلت بعلمك للامة الاسلاميه وكيف حللت كتاب الله وسنة رسوله
ولابد ان يكون مستعدا لهذا السؤال وجميع المسلمين
استاذى ودكتورنا (أنس):)
سلمت يداك
ودائما تجعلنا فى شغف للقاء ما فى هذه القصه من حوارات وتفسيرات
لك وللجميع خالص تحيتى
اختكم عفاف:emrose:

عفاف سليمان
01/06/2009, 07h47
الى دكتورنا الجميل واهل سماعى :emrose:اقدم اهداء بسيط لعل الله يجعله فى ميزان حسناتى
من دعاء أنس بن مالك
(من دعا بهذا الدعاء فى كل صباح لم يقدر احد على إيذائه)
وانا عن نفسى كل يوم بقوله بفضل الله حتى ايام الامتحانات وحتى لا يجير على احد)
روى عن عمر بن أبان أنه قال أرسلنى الحجاج فى طلب أنس بن مالك رضى الله عنه ومعى فرسان ورجال
فاتيته وتقدمت إليه فإذا هو قاعد على بابه قد مد رجليه
فقلت له :أجب الامير
فقال : من الامير!
فقلت له:الحجاج بن يوسف
فقال :أذله الله تعالى !هذا صاحبك قد طغى وبغى وخالف الكتاب والسنه.فالله تعالى ينتقم منه
فقلت له:أقصر الخطبه وأجب
فقام معنا: فلما دخل قال الحجاج:
أنت أنس بن مالك؟
قال : نعم!
قال: أنت الذى تسبنا وتدعو علينا؟؟
قال: نعم وذلك واجب على وعلى كل مسلم لانك عدو الله وعدو الاسلام تعز اعداء الله وتذل أولياءه
فقال الحجاج: أتدرى لم دعوتك ؟!
قال :لا
قال:أريد قتلك شر قتله
فقال أنس بن مالك:لو عرفت صحة ذلك لعبدتك من دون طاعة الله تعالى وشككت فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه علمنى دعاء وقال(كل من دعا به فى كل صباح لم يقدر أحد على أذيته ولم يكن لأحد عليه سبيل)
وقد دعوت به فى صباحى هذا
قال الحجاج: أريد أن تعلمنى هذا الدعاء
قال: معاذ الله أن أعلمه أحدا ما دمت حيا
فقال : خلوا سبيله
فلما خرج قال له الحاجب
أصلح الله الامير
تكون فى طلبه منذا كذا وكذا حتى إذا أصبته أخليت سبيله؟!
قال: والله لقد رأيت على كتفيه اسدين كلما كلمته يهمان إلى فكيف لو فعلت به شيئا؟
ثم إن أنس بن مالك رضى الله عنه لما حضرته الوفاة علمه ابنه وهو هذا
الدعاء
بسم الله الرحمن الرحيم . بسم الله وبالله
بسم الله خير الاسماء.بسم الله رب الارض والسماء
بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شىء فى الارض ولا فى السماء
بسم الله افتتحت وبالله ختمت وبه آمنت
بسم الله اصبحت وعلى الله توكلت
بسم الله على قلبى ونفسى.بسم الله على عقلى وذهنى
بسم الله على اهلى ومالى.بسم الله على ما أعطانى ربى
بسم الله الشافى .بسم الله المعافى.بسم الله الوافى
بسم الله الذى لا يضر مع اسمه شىء فى الارض ولا فى السماء وهو السميع العليم
هو الله.الله.الله.الله.الله ربى لا أشرك به شيئا
الله اكبر الله اكبر.الله اكبر الله اكبر
واعز وأجل مما أخاف واحذر
أسألك اللهم بخيرك من خيرك الذى لا يعطيه غيرك عز جارك وجل ثناؤك ولا اله غيرك
اللهم إنى أعوذ بك من شر نفسى ومن شر كل سلطان ومن شر كل شيطان مريد ومن شر كل جبار عنيد ومن شر قضاء سوء ومن شر كل دابة أنت أخذ بناصيتها
إن ربى على صراط مستقيم وأنت على كل شىء حفيظ
(إن وليى الله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)
اللهم إنى استجيرك وأحتجب بك من كل شىء خلقته وأحترس بك من جميع خلقك وكل ما ذرأت وبرأت
وأحترس بك منهم وأفوض أمرى إليك
وأقدم بين يدى فى يومى هذا وليلتى هذه وساعتى هذه وشهرى هذا
بسم الله الرحمن الرحيم(قل هو الله احد(1) الله الصمد(2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا احد(4))
من أمامى:بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله احد(1) الله الصمد(2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا احد(4))
من فوقى: بسم الله الرحمن الرحيم(قل هو الله احد(1) الله الصمد(2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا احد(4))
عن يمينى:بسم الله الرحمن الرحيم(قل هو الله احد(1) الله الصمد(2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا احد(4))
عن شمالى: بسم الله الرحمن الرحيم(قل هو الله احد(1) الله الصمد(2) لم يلد ولم يولد(3) ولم يكن له كفوا احد(4))
بسم الله الرحمن الرحيم(الله لا اله الا هو الحى القيوم لا تاخذه سنة ولا نوم له مافى السماوات وما فى الارض من ذا الذى يشفع عنده الا بإذنه يعلم ما بين ايديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشىء من علمه الا بما شاء وسع كرسيه السماوات والارض ولا يؤده حفظهما وهو العلى العظيم)
بسم الله الرحمن الرحيم(شهد الله انه لا اله الا هو والملائكه واولوا العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم)
ونحن على ماقال ربنا من الشاهدين(فإن تولوا فقل حسبى الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)سبع مرات
اعزائى اهل سماعى الكرام:emrose:
ارجوا ان يكون هذا الدعاء لى فى ميزان حسناتى وحبيت ان اضيفه لدكتورنا انس :emrose:
لانه يخص الشخصيه الجليله التى يتكلم عنها دكتورنا وهذا دعاءه
ولكم وللجميع خالص تحياتى
اختكم عفاف:)

د أنس البن
02/06/2009, 05h03
الأخت المحترمه الست عفاف هانم
ما أعذب هذا الكلام
وما أجمل وأعظم وأكمل هذا الدعاء
نسأل الله العلى القدير أن يجعله دعاء مستجابا
لكل من دعا به من عبادك الصالحين
وانفعنا وانفع أحبابنا به يا رب العالمين
اللهم آمين

عفاف سليمان
29/06/2009, 15h08
دكتورنا أنس:emrose: بعد مساء الخير على حضرتك وعلى جميع اهل سماعى الجميل:emrose:
نرجوا منك بعد الاستقرار فى كل الامور لدى حضرتك بالا تبخل علينا بمزيدا من هذه السيره العطره التى نتشوق اليها:emrose: ولك وللجميع خالص التحيه والتقدير
اختكم عفاف:)

د أنس البن
30/06/2009, 11h21
أشكرك من القلب السيده الفاضله عفاف سليمان على متابعة السيره ,,
سائلا الله تعالى أن يعيننا على إكمال أحداثها على الوجه الذى يرضى ربنا ثم يرضى كل من يقرأها ..

د أنس البن
30/06/2009, 11h21
185 هجـريـه .. الحلقـة الشافعيـه

@ فى حلقة عامرة قبالة الميزاب لم تشهد مكة مثلها من قبل إلا فى عصر الصحابة العظام . جلس الشافعى فى نفس المكان الذى كان يجلس فيه فقيه الأمة عبد الله بن عباس قبل مائة وخمسين عاما يبث المسلمين الأوائل ما تحتمله عقولهم وتقدر عليه أفهامهم مما يحمله فى قلبه من علوم جمه من كنوز علوم القرآن الكريم وأسراره والأحاديث التى سمعها شفاها من رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . جلس الشافعى رجلا فى عنفوان الشباب تعلوه مهابة الملوك ويكتنفه وقار الشيوخ . أدوات التفسير والفقه العظيم طوع بنانه وميزان الشرع فى يمينه يستنبط ويقعد القواعد . مع عقل ألمعى فذ يضع الأسس التى سوف يبنى عليها مدرسته الكبرى ومنهاجه الفريد وأصول الإستنباط والقياس الصحيح ..
وشاءت إرادة الله تعالى أن تكون مكة التى زادها الله شرفا بمولد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فى أرضها المباركة هى التى تشهد ميلاد هذا الفقه ونمائه وأن تكون هى القاعدة الأولى التى ينطلق منها إلى أرض العراق . ثم تصير مصر الفسطاط بعد ذلك هى القاعدة الثانية التى ينتشر فيها علمه وينطلق من مسجدها العتيق إلى شتى بقاع الأرض ..
جلس الشافعى مرتديا ثوبه الأبيض الناصع البياض وفى جعبته علوم القرآن كلها وآثار السلف من الصحابة والتابعين . مزودا بما قالت العرب من أشعار وحكم ومأثورات يقول لمن حوله ويرد على أسئلتهم : .................
............... والعلم علمان , علم عامة لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله , مثل الصلوات الخمس وأن على الناس صوم شهر رمضان وحج البيت وزكاة أموالهم . وأنهم حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر وما كان فى معنى هذا مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أموالهم وأن يكفوا عنه بما حرم عليهم منه ..
ــ وأين نجد العلم الذى يجب على عامة المسلمين معرفته وعدم الجهل به ؟.
ــ هذا الصنف من العلم موجود نصا فى كتاب الله وموجود عاما عند أهل الإسلام ينقله عوامه عمن مضى من عوامهم . يحكونه عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولا يتنازعون فى حكايته ولا وجوبه عليهم . وهذا العلم العام هو الذى لا يمكن فيه الغلط من الخبر ولا التأويل ولا يجوز فيه التنازع أيضا ..
ــ والنوع الآخر من العلوم أيها الشيخ ؟.
ــ النوع الآخر من العلوم علم الخاصه وهو ما ينوب العباد من فروع الفرائض وما يختص به من أحكام وغيرها مما ليس فيه نص كتاب ولا فى أكثره نص سنه . وإن كانت فى شئ منه سنه فإنما هى من أخبار الخاصة لا أخبار العامه . وما كان منه فإنه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا ..
ــ وأين عامة المسلمين من هذا العلم ؟.
ــ هذه الدرجة من العلم ليس تبلغها العامة ولم يكلفها كل الخاصه والفضل فيها لمن قام بها . قال تعالى فى سورة التوبه " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " . وهكذا كل ما كان الغرض فيه مقصودا به قصد الكفاية فيما ينوب . فإذا قام به من المسلمين من فيه الكفايه خرج من تخلف عنه من المأثم ..
ــ وإذا لم يقم به أحد ؟.
ــ لو ضيعوه معا خفت ألا يخرج واحد منهم مطيق من المأثم بل لا أشك إن شاء الله لقوله تعالى ‘‘ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ‘‘ . ولم يزل المسلمون على ما وصفت منذ بعث الله نبيه فيما بلغنا إلى اليوم يتفقه أقلهم ويشهد الجنائز بعضهم ويجاهد ويرد السلام بعضهم ويتخلف عن ذلك غيرهم . فيعرفون الفضل لمن قام بالفقه والجهاد وحضور الجنائز ورد السلام ولا يؤثمون من قصر عن ذلك منهم ..
ــ وكيف نأخذ أدلة الأحكام ؟.
ــ لا يصار إلى شئ غير الكتاب والسنة , وهما موجودان , لأن العلم إنما يؤخذ من أعلى ..
ــ وماذا بعد الكتاب والسنه ؟.
ــ للعلم أيها الناس طبقات شتى . الأولى الكتاب والسنة إذا ثبتت ثم الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنه . والثالثة أن يقول بعض أصحاب النبى "صلى الله عليه وسلم" قولا ولا نعلم له مخالفا منهم . والرابعة اختلاف أصحاب النبى "صلى الله عليه وسلم" فى ذلك ..
ــ هل بعد ذلك شئ ؟.
ــ أجل القياس على بعض الطبقات ..
ــ زدنا بيانا أيها الشيخ زادك الله علما وفهما ؟.
ــ يكفى ما قلناه اليوم . فى الغد إن شاء الله نكمل ما بدأناه ………………


@ إستمرت اللقاءآت وتوالت فى نفس المكان , يتخذ الشافعى مكانه والناس من حوله متحلقون وقد أعاروه آذانهم وهو يقول ................

ــ أيها الناس إعلموا أن العلم وجهان , إتباع واستنباط ..

ــ ماذا تعنى بالإتباع والإستنباط , وما الفرق بينهما ؟.

ــ الإتباع , اتباع الكتاب , فإن لم يكن فمن السنه , فإن لم يكن فقول عامة من سلف لا نعلم له مخالفا . فإن لم يكن فقياس على كتاب الله عز وجل , فإن لم يكن فقياس على سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , فإن لم يكن فقياس على قول عامة من سلف لا مخالف له ولا يجوز القول إلا بالقياس ..

ــ وما العمل إذا قاس من لهم القياس فاختلفوا ؟.

ــ إذا قاس من لهم القياس فاختلفوا وسع أن يقول بمبلغ اجتهاده ولم يسعه اتباع غيره فيما أدى إليه اجتهاده ..

ــ أيها الشيخ , قلت من قبل فى مراتب العلم وطبقاته أن الكتاب والسنه مرتبة واحده . وكنا نظن من قبل إلى أن قلت لنا ذلك أن السنة مرتبة تالية للكتاب . فهل لك أن تبين لنا حقيقة هذا الأمر حتى نكون على هدى وبينه ؟.

ــ إعلموا أيها القوم أن الكتاب والسنة كلاهما عن الله تعالى إذ ما كان النبى "صلى الله عليه وسلم" ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى . فكلاهما عن الله وإن تفرقت طرقهما وأسبابهما . والسنة مع الكتاب يتممان شرعا واحدا فكل من قبل عن الله وما فرضه فى كتابه قبل عن الرسول "صلى الله عليه وسلم" فى سنته وذلك لما فرض الله طاعة رسوله على خلقه وأن ينتهوا إلى حكمه . ومن قبل عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" , فعن الله تعالى قبل , لما فرض الله علينا طاعته ..

سكت الشافعى برهة وأردف قائلا .......

ــ ولأبينن لكم هذا الأمر أحدثكم عما قاله الصاحبى الجليل عبد الله بن مسعود لامرأة بنى أسد ..

ــ ماذا قال لها يا ابن إدريس ؟.

ــ يروى أن امرأة من بنى أسد جاءت عبد الله بن مسعود يوما وهى غاضبة تقول له : بلغنى أنك تلعن صنفا من النساء .

سألها عن ذلك فقالت له ..... ألم تقل لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله ؟.

قال لها ..... بلى قلته وما لى لا ألعن من لعن الله ورسوله .

قالت له مستنكرة ....... وهل وجدت ذلك فى كتاب الله ؟!.

قال لها .... نعم وجدته .

زاد استنكارها وهى ترد عليه قائلة ...... قرأت ما بين دفتى المصحف مرات فلم أجد آية واحدة تقول ذلك .

قال لها ..... كيف تدعين ذلك يا امرأه , ألم تقرأى قوله تعالى فـى سـورة الحشر ‘‘ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ‘‘ ..

يتبع.. إن شاء الله............................

د أنس البن
21/07/2009, 11h13
أحـداث المسـاء

@ بعد فراغه من صلاة العشاء فى مسجد القصر , خرج الرشيد كعادته وحده يتجول فى حدائق القصر ,يتنسم هبات من هوائها النقى المشبع بعبير الأزهار قبل أن يصعد إلى مجلسه . سار بضع خطوات توقف بعدها مكانه وهو ينظر حواليه كأنه يبحث عن شئ يفتقده . شعر أنه فى حاجة لأن يستريح بعض الوقت . جلس على أقرب مقعد صادفه مسندا ظهره عليه فى استرخاء ثم أطلق لخياله العنان وهو ينظر إلى صفحة السماء الصافية يزينها هلالا فى أيامه الأولى ..
وبينما هو سابح فى تأملاته وأفكاره مال برأسه ليرى حاجبه الأكبر الفضل بن الربيع قادما من بعيد متخذا طريقه ناحيته بعد أن التقطت أذناه وقع خطواته وهو يمشى على استحياء كارها أن يقطع على أمير المؤمنين خلوته وانفراده بنفسه ,لما رآه على تلك الحال وأدرك بذكائه أن مولاه فى لحظات تأمل . رآه الرشيد مترددا فى القدوم ناحيته نادى عليه وهو يشير إليه بيده .............
ــ مالك يا ابن الربيع تقف مكانك بعيدا هكذا . تعال اجلس هنا إلى جوارى ..
إمتثل وهو يتمتم كلمات الشكر والثناء ثم جلس صامتا فى انتظار أن يأذن له بالكلام بينما استأنف أمير المؤمنين تأملاته وهو يدق عصاه على الأرض فى ملل دقات رتيبة متتابعه . بعد برهة من الزمن جاءه صوته .............
ــ إيه يا أبا العباس ،أقرأ كلاما مسطورا على صفحة وجهك , أليـس كذلـك ؟.
ــ بلى يا مولاى ... إذا أذنت لى ..
ــ تكلم هات ما عندك ..
ــ فى الحقيقة يا مولاى كنت مترددا أن أفاتحك فى هذا الأمر كى لا أثقل عليك وأزيد الهموم والمواجع . لولا أنه يمس سلامة مولاى و.... وأمن البلاد ..
ــ تكلم يا ابن الربيع هات ما عندك فما عادت هنالك هموم تثقل القلب بعد أن فقدت ولدى أحمد ,أعز أبنائى وأتقاهم وأحبهم إلى قلبى . بعد أن خرج منذ أكثر من خمسة أعوام هائما على وجهه زاهدا فى حياة القصور . ظللت طيلة هذه السنوات الطوال لا أعلم عنه شيئا حتى أتانى من يخبرنى بوفاته . ليت هذا النعى لم يأت وتركنى أتصور أن ولدى لا يزال على قيد الحياه . كنت آمل أن ألقاه مرة أخرى ..
ــ معذرة يا مولاى , ما الذى جعلك تذكره بعد كل هذه السنين ؟.
ــ لا أدرى والله يا أبا العباس ,رأيتنى فجأة أتذكر كلمات رسالته التى جائتنى منه وما كانت تحمله من موعظة غاليه ..
نظر إلى السماء وهو يهز رأسه قائلا .............
ــ إيـه .... نصحتنى والله يا ولدى ..
ثم أردف قائلا بعد أن مسح براحة يده دمعة فرت من عينه رغما عنه وهو يشيح بوجهه جانبا .............
ــ لأى أمر جئتنى يا ابن الربيع ؟.
ــ أتذكر يا مولاى أمر يحى بن عبد الله الطالبى الذى تحدثت معك فى شأنه منذ أعوام . وعن مؤامراته التى كان يديرها فى الخفاء طمعا فى كرسى الخلافه ؟.
ــ أجل , كيف أنسى , وأذكر أنى عهدت بأمره لوزيرنا الفضل بن يحى البرمكى وأمرته أن يضعه فى السجن ويجعله بمعزل عن قومه وأنصاره . راودتنى نفسى أيامها أن أجهز عليه وأريحها مؤنته غير أنى اكتفيت بحبسه وعزله . لكن ماذا تريد أن تقول ؟.
ــ معذرة يا مولاى علمت منذ أيام أنه ليس فى محبسه وبالأمس تأكدت من هذا الأمر بنفسى ..
ــ ليس فى محبسه . ماذا تعنى . هل فر منه ؟.
ــ لا يا مولاى لم يهرب من محبسه ,لكنه يعيش حرا طليقا فى مكان آخر ..
ــ خارج السجن ؟.
ــ أجل يا مولاى , يعيش آمنا معززا مكرما فى كنف واحد ... واحد من أقرب المقربين إلى قلبك ..
ــ من يكون هذا الذى ثكلته أمه ؟.
ــ الوزير الذى عهدت إليه بأمره ..
ــ تقصد .. الفضل بن يحى البرمكى ؟.
ــ أجل يا مولاى ..
إنتفض الرشيد قائلا ............
ــ أأنت على يقين مما تقول يا ابن الربيع ؟.
ــ لما علمت بذلك من أحد رجالى المخلصين لم أصدق مثلك فى بادئ الأمر . غير أنى لم آت إلى هنا إلا بعد أن تأكدت بنفسى من صحة الروايه ..
قاطعه الرشيد متسائلا ...............
ــ تعنى أنك رأيته بنفسك ؟.
ــ أجل يا مولاى رأيته بعينى رأسى هاتين يرتع فى قصر الفضل بن يحى ..
بدا على الرشيد أنه غير مصدق لما يسمعه فاستأنف الفضل قائلا ............
ــ ما جئتك إلا بالحقيقة لا شئ غيرها يا أمير المؤمنين . وعلى أية حال سله بنفسك وإنى لعلى يقين أنه لن يستطيع الإنكار إن واجهته بها ..
أطرق الرشيد برهة يقلب الأمر فى رأسه وأخذ يقول لنفسه .......... الويل لك أيها الفارسى اللعين . أبلغت بك الإستهانة بنا وبأوامرنا هذا الحد .
ثم رفع رأسه مطلقا نظره إلى بعيد , وبدا عليه أنه نوى فى نفسه أمرا ..



@ إستأذن الفضل مجاهدا فى إخفاء سعادته وسروره خلف قناع مصطنع من الأسى ,تاركا الرشيد نهب هواجسه وأفكاره الحائره . توجه من فوره إلى حيث كانت تنتظره على أحر من الجمر مولاته " زبيده " فى قصرها المسمى دار القرار لتعرف منه ما كان من أمره هذا المساء فى لقائه مع زوجها أمير المؤمنين ..
كان يحدث نفسه وهو فى الطريق إليها.......... ما أثقله من حمل حملتنيه مولاتى زبيده , على كل حال يكفي ما قمت به اليوم مما كلفتنى به. مالى أنا والشأن الآخر فلأتركه لها. من غيرها يجرؤ على كشفه لأمير المؤمنين ؟. أجل إنها كفيلة به ..
فى السنوات الماضية جرت لقاءآت عديدة بينهما حيث يجمعهما هدف واحد هو القضاء على البرامكه واستئصال شأفتهم بعد أن زاد نفوذهم وعلا سلطانهم وأحكموا قبضتهم على مقاليد الأمور فى دولة الخلافه , متكئين على حب الرشيد لهم وثقته المفرطة فيهم ..
والفضل بن الربيع شأنه شأن أبيه الراحل يطمح فى أن يكون الرجل الأول فى بلاط الرشيد وصاحب الكلمة العليا والأمر والنهى من بعده . إلا أن الأخوين الفضل وجعفر أبناء يحى البرمكى كانا يقفان عقبة كؤود فى طريق طموحاته وتحقيق أحلامه بالسلطة والوزاره ..
أما زبيده الهاشميه أحب زوجات الرشيد إلى قلبه وأقربهن إليه منزلة لتدينها ورجاحة عقلها وفراستها من ناحيه ولجمالها الأخاذ ونضارتها من ناحية أخرى . كانت تحمل فى صدرها حقدا شديدا على كل البرامكه خاصة فتاهم المدلل الوزير جعفر بن يحى لمواقفه السابقة من ولدها محمد الأمين ولى العهد وتحديه له . وإصراره على أن يأخذ البيعة لأخيه غير الشقيق عبد الله المأمون إبن الجاريه على أن يصبح وليا للعهد من بعده للصداقة الحميمة التى كانت تربطهما معا برباط وثيق وتجمعهما معا سهرات اللهو والسكر والعربده ..
كانت تود أن تكون البيعة لولدها فحسب حتى تكون من بعده لأحد أبنائه لا لأخيه غير الشقيق . لهذا ظلت هى والفضل بن الربيع يترقبان فرصة مواتية يوقعان فيها بالأخوين وباقى عائلة البرامكه . ظلا يعملان معا فى الخفاء لجمع المعلومات عنهما حتى توصلا أخيرا إلى ما يوصلهما إلى هدفهما الذى أصبحا قاب قوسين أو أدنى من تحقيقه بعد أن كان يبدو من قبل أمرا مستحيلا ..

@ لدى اقترابه من أسوار القصر لمحته إحدى وصيفات زبيده . كانت مكلفة بمراقبة الباب الرئيسى من إحدى الشرفات . أسرعت فى الحال لتخبر مولاتها . أمرتها أن تسمح له بالدخول عليها فى الحال وأن تنبه الحراس إلى ذلك . لدى دخوله بادرته فى لهفة قبل أن يلقى التحية عليها .............
ــ هيه ماذا فعلت ,هل قابلت أمير المؤمنين ؟.
ــ أجل يا مولاتى ,إنى قادم من عنده الآن ؟.
ــ هل أخبرته بكل شئ كما اتفقنا ؟.
رد متلعثما فى خبث ...............
ــ فى الحقيقة يا مولاتى لم أجسر على إبلاغه إلا بأمر العلوى ..
ــ والأمر الآخر , إنه الأهم . كان أجدر بك يا كبير الحجاب أن تخبره به أولا فهو الضربة القاضية التى ستهوى برأس ذلك الفتى المدلل ..
ــ حاولت عدة مرات فى هذا اللقاء أن أفاتحه فى هذا الأمر الجلل ولو تلميحا , إلا أننى تهيبت يا مولاتى . كلما هممت بالكلام انعقد لسانى وأخذتنى الهيبة من أمير المؤمنين , حتى أنه لاحظ ذلك وسألنى عما بى . فتعللت أنى أشعر بدوار مفاجئ وآلام تدق فى رأسى ..
هزت رأسها قائلة ..............
ــ كنت أتمنى أن تحيط أمير المؤمنين علما بهذا الأمر ,لكن .... يبدو أنك على حق فيما قلت . أمر كهذا يحتاج إلى أن أقوم به بنفسى , الصدمة ستكون كبيرة على أمير المؤمنين وسيكون رد فعله عنيفا ومدمرا وهذا هو ما نريده فى نهاية الأمر . حتى يفيق من غفلته ويعرف حقيقة هؤلاء الموالى الفرس الذين وضع فيهم ثقته المطلقه ,أليس كذلك يا كبير الحجاب ؟.
ــ بلى يا مولاتى ,ليس أمامنا غير ذلك ..
ردت وهى تهم بالوقوف إيذانا بانتهاء المقابله .............
ــ لا عليك أنت .. سأقوم أنا بنفسى بتلك المهمة الصعبه . بعد الغد إن شاء الله أخبره عقيب فراغه من أمر العلوى وتأكده من تواطئ الفضل بن يحى معه وتهريبه إياه خارج السجن ..


@ بدأت الحكاية منذ عقد الرشيد لأخته العباسه على الوزير جعفر البرمكى , قيل وقتها أنه اضطر لذلك حتى يحل له النظر إليها فى مجلسه , على ألا يعاشرها معاشرة الأزواج ,حذره من أن تسول له نفسه أن يقربها أو يختلى بها . كذلك شدد على أخته العباسه وإلا كان مصيرهما سيف الجلاد الذى لا يرحم . أمر عجيب فرضته التقاليد العربية التى تأبى أن تتزوج هاشمية من الأشراف إلا بمن يماثلها فى الشرف والنسب والعروبه . وجعفر رغم منزلته وقدره عند الرشيد هو وعائلته كلهم جميعا إلا أنهم فى نهاية الأمر ليسوا أكثر من فرس من بلاد العجم ..

مع مرور الأيام لاحظت زبيده بذكاء الأنثى وبما كان لديها من فراسة أن العلاقة التى تربط بينهما أكبر وأعمق من أن تكون علاقة زواج صورى . لاحظت ذلك من النظرات التى كان يتبادلها الزوجان وكذلك لغة العيون التى كانت تدور فى صمت بينهما فى مجالس السماع والأنس . شعرت أن فى الأمر شيئا مريبا ,أخذت تتحسس أخبارهما عن طريق عيونها من الجوارى والخدم المندسين من حولهم فى كل مكان ,حتى تأكدت أنهما يلتقيان سرا بعيدا عن عيون الرشيد لقاءات متعددة وأن هذه اللقاءات أثمرت "ولدين" قاما بتهريبهما إلى مكان آمن بعيدا عن عيون الرشيد وجواسيسه . لم تجد العباسة مكانا أكثر أمنا من بيت لأحد أتباعها المخلصين فى ضاحية بعيدة فى إحدى شعاب مكه . بذلك تتمكن من زيارتهما كل حين متعللة بأنها ذاهبة لزيارة البيت الحرام ..

علمت الأميرة زبيده بكل ذلك فأرسلت للفضل بن الربيع وأخبرته. إتفقا فى هذا اللقاء على أن يرقب تحركات العباسه وأن يتبعها بنفسه إلى مكة فى أول زيارة تقوم بها , أكدت عليه مولاته زبيده أن يستوثق بنفسه من هذه الأمور وأن يتأكد من وجود الصغيرين ولدى العباسه وجعفر فى مكمنهما ....... "أنظرهما بعينى رأسك قبل أن أبلغ أمير المؤمنين" ..

أخذ الفضل يترقب عن طريق عيونه ميعاد سفر العباسة إلى مكه حتى علم أخيرا أنها عزمت على السفر سرا . شد الرحال هو الآخر وراءها إلى هناك متعللا أمام أمير المؤمنين أنه ذاهب إلى مكه لزيارة صديقه الشافعى ودعوته للحضور إلى بغداد . لم يرجع من رحلته إلا بعد أن رأى الولدين بنفسه وتأكد من زيارة العباسة لهما سرا فى دار تقع فى أطراف مكه ..

فى تلك الرحلة القصيرة الخاطفة التقى بصاحبه الشافعى فى داره وجلس إليه وهو يلقى دروسه وسط حشد كبير من الناس على اختلاف ألوانهم وقد وفدوا إليه من شتى البقاع لسماع علومه والأخذ عنه . لم يخبره عن السبب الحقيقى لحضوره إلى مكه إلا أنه ألمح إليه لما سأله عن أحوال الخلافة قائلا ..........

ــ كل شئ يجرى على ما يرام إلا أن هنالك أمورا خطيرة لا يستطيع أن ينطق بها فمى الآن لأى أحد. إنما كل ما أستطيع أن أخبرك به أيها الصديق أن الطوفان قادم لا محاله ,أحداثا جسام سوف تشهدها البلاد فى الأيام القليلة القادمه . أظن أن التاريخ سيتوقف أمامها طويلا . أيام وستعلم كل شئ بنفسك ..

لدى عودته زف البشرى إلى مولاته زبيده وأخبرها بكل ما رآه هناك وأعلمها أن الولدان يعيشان فى مكه . أخبرها بمكانهما الذى يختبئان فيه فى إحدى الضواحى بعيدا عن العيون واتفقا فى هذا اللقاء أن يذهب للرشيد وينقل إليه كل ما فى جعبته من أسرار . غير أنه تراجع ولم يفعل واكتفى بقصة يحى بن عبد الله العلوى وما كان من أمر الفضل بن يحى البرمكى معه ,ولم يجرؤ على إخباره بأمر جعفر والعباسه كما تقدم ..


@ فى غرفتها أخذت تروح وتجئ عاقدة يديها خلف ظهرها وهى تستعيد فى رأسها ما سوف تقوله فى الغد لأمير المؤمنين . إلا أنها لم تطق صبرا لانتظار الغد وعزمت على أن تذهب إليه من فورها . بدأت تعد نفسها لهذه المقابلة المهمة فارتدت أجمل ثيابها وتزينت بأغلى حليها وتعطرت بأفخر وأطيب ما عندها من طيب ثم نادت على وصيفتها وكاتمة أسرارها لتكون برفقتها واتخذت طريقها إلى قصر أمير المؤمنين بعد أن وضعت النقاب على وجهها ..
أثناء هبوطها الدرج الموصل إلى حديقة قصرها استوقفتها إحدى الجوارى وهى تسير فى خطوات متلاحقة من الجهة المضادة قائلة ............
ــ عفوا مولاتى ..
ــ من . سميه ؟. ماذا وراءك أيتها الجاريه ؟.
ــ مولاتى رسالة جاءت للتو من حراس الأبواب الخارجية للقصر أن مولاى أمير المؤمنين فى طريقه إلى هنا ..
دون أن تعقب على حديث الجارية قفلت أدراجها راجعة إلى غرفتها تنتظر قدوم الرشيد وهى فى عجب من مجيئه إلى قصرها فى هذا الوقت المتأخر من الليل . دخل عليها فلاحظت تجهمه وقرأت علامات الضيق على جبينه . بادرته محيية ومرحبة وهى تبالغ فى إبداء سرورها من مقدمه عليها . بعد أن اتخذ مجلسه على السرير بادرها قائلا ..............
ــ أسمعت بما جرى يا ابنة العم ؟.
ــ خيرا إن شاء الله يا أمير المؤمنين ؟.
أجابها وعلى شفتيه ابتسامة ساخره وفى صوته مرارة ............
ــ خير . أى خير يا ابنة العم بعد أن جاءتنى الخيانة من أخلص رجالى وأحبهم إلـى قلبـى .
تساءلت فى دهشة مصطنعة كأنها لا تعلم شيئا ...................
ــ ماذا تقول ؟. لم أفهم بعد يا أمير المؤمنين ؟.
ــ أجل إنها الحقيقه ,ذلك الفارسى اللعين الذى أعطيته كل ثقتى إرتكب جناية وفعلة شنعاء . ما كنت أتصور أبدا فى يوم من الأيام أن تبدر من مثله ..
ــ أى رجالك تعنى ,وما الذى ارتكبه هذا الأحمق ؟.
ــ لن تصدقى إذا قلت لك . إنه الفضل بن يحى البرمكى الذى لم أناديه يوما هو وأخيه جعفر إلا يا أخى . علمت قبل قليل أنه أطلق سراح العلوى دون أن يخبرنى مع أنى نبهته مرارا ألا تغفل عينه عنه فى محبسه . إننا لم نأت به من بلاد الديلم إلا بالسياسة والحيله وأخاف أن يتمكن من العودة إلى هناك مرة أخرى ويرفع علينا راية التمرد والعصيان وتضيع الخلافة وتخرج البلاد من أيدينا ..
توقف الرشيد عن الكلام وهو يلمح بركن عينه ابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها . لم يتصور أن يكون هذا رد فعلها على ما سمعته منه . سألها فى دهشة ...........
ــ ماذا دهاك يا امرأه . أراك تبتسمين فى سخرية وتهكم ؟.
ــ ومالى لا أبتسم بعد أن سمعت منك ما سمعت .
سألها فى سخط وتبرم مستنكرا ............
ــ وهل فيما قلت ما يدعو للتبسم والضحك ما الذى دهاك يا ابنة العم ؟.
ــ كنت أحسبك ستخبرنى بالنبأ العظيم ..
ــ وأى نبأ أعظم من هذا يا ابنة العم . هل تعلمين شيئا لا أعلمه ؟.
ــ شئ ؟! بل أشياء . أنا أعلم ما هو أدهى مما قلت .... بل وأمر ..
تحجرت عيناه فى مقلتيهما قبل أن يبادر متسائلا ...................
ــ أدهى وأمر ؟. أى طامة تلك ؟. تكلمى يا امرأه فإنى فى حيرة من أمرى , أنا ما جئتك إلا من أجل الرأى والمشوره ..
نظرت إليه نظرة حادة كأنها سهم وانطلق لسانها يقول فى جرأة وجسارة من يملك الحقيقة المجردة والبرهان الدامغ . لم يكن يجرؤ على مثل ذلك بين يدى الرشيد من أهل المعمورة سواها لمنزلتها الخاصة عنده ولثقته من رجاحة عقلها وإخلاصها له ..
ــ سأخبرك عساك تفيق من غفلتك وتعرف حقيقة هؤلاء الفرس الموالى الذين أطلقت أيديهم فى الحكم ومكنت لهم . أنسيت أباهم الذى كنت تناديه يا أبت والذى أعطيته يوما خاتمك . أنسيت ما قلته له عندما أخرجته من السجن عقيب توليك إمارة المؤمنين وقلدته الوزارة . كم من مرة حذرتك من أفعالهم , وفى المقابل كنت لا أرى منك إلا السخريه واتهامك لى بالتجنى عليهم والغيرة منهم ..
إندفعت فى هجومها غير هيابة ولا وجلة وهى تسرد عليه فى ثقة حكاية جعفر وشقيقته العباسه . كان يستمع إليها ذاهلا لا يكاد يرى أمامه من هول ما يسمع وقد أخذ الغضب منه مأخذا عظيما شاعرا بالأرض تميد به من تحته . حتى إذا انتهت من كلامها مرت لحظات من السكون كأنه سكون المقابر جاءها بعده صوت الرشيد من أعماق صدره متحشرجا كأنه يحادث نفسه ............. وامصيبتاه رحماك يا ربى أية مصائب تلك التى حلت علينا . يا لفضيحتنا بين العرب والعجم . أيفعل بى ذلك من كنت أسميه أخى . كيف سولت له نفسه أن يفعل ذلك فى إبنة خليفة من خلفاء الله ؟. والله لأمحون هذا العار بالدماء ... أجل : من لم يؤدبه الجميل .. ففى عقوبته صلاحه ..


@ بضعة أيام مرت على هذه الأحداث الجسام , روعت بعدها أمة الإسلام كلها بزلزال رهيب ضرب أرجاءها . صحت بغداد لترى فتاها المدلل ,فخر شبابها جعفر ورأسه منصوبة على رأس الجسر الأوسط وأشلاء جسده على الجسر الأعلى والأسفل . لحق به الكثير من أهله الذين تهاوت رؤوسهم تحت ضربات سيف الجلاد مسرور . ومن كتبت له النجاة منهم وأفلت من هذا السيف كان مصيره الحبس حتى الموت صبرا ..

كان فى مقدمة المحبوسين أبو البرامكة وكبيرهم ومربى الرشيد ومؤدبه يحي بن خالد ومعه أكبر أبنائه الفضل . أغلق باب الشفاعة والرجاء فى تلك الأيام العصيبه , لم يجرؤ إنسان مهما تكن منزلته أو درجة قربه أن يفتح فمه بكلمة رجاء أو شفاعة لأحد منهم . بعد أن أرسل الرشيد مناديا ينادى فى المدائن والثغور أن لا أمان لبرمكى وكتب إلى ولاته فى البلاد بجمع أموالهم وغلاتهم ومتاعهم ..

ولما طال حبس الشيخ الهرم الذى قلده الرشيد يوما خاتم الدوله سمحت امرأته لنفسها ذات يوم وذلك حوالى منتصف العام الهجرى الثانى والتسعين بعد المائه أن تذهب إلى الرشيد وهى تتوكأ على عصاها ترجوه وتلح فى الرجاء . لما كان لها من مكانة وزلفى عند أمير المؤمنين وما لها من حق عليه . فهى أمه من الرضاع . رآها الرشيد فقام إليها محتفيا ومحييا قائلا لها وهو يقبل رأسها ............

ــ أهلا أم أمير المؤمنين ..

ردت فى صوت مختنق متهدج بينما تحاول مسح الدمع من عينيها ................

ــ يا أمير المؤمنين , لقد ربيتك وأخذت لك الأمان من دهرى . واليوم أتيتك راجية أن تصفح عن ظئرك يحى وأبوك بعد أبيك وأن تطلقه من محبسه ..

ــ أماه ..... قدر سبق ... وقضاء حم ... وغضب من الله نزل ..

ــ يا أمير المؤمنين ,تعلم أنى لم آت إليك من أجل ولدى الذى حكمت عليه بالموت . ولا من أجل ولدى الآخر الذى حبسته مع أبيه . لكن أتيت إليك هذه المرة متوسلة أن تعفو عن الشيخ الذى باتت أيامه فى هذه الدنيا قليله ..

ــ أماه . من يرد غير مائه يصدر بمثل دائه . لله الأمر من قبل ومن بعد ..



@ بضعة أشهر مضت على هذا اللقاء إنتقل بعدها يحي بن خالد البرمكى إلى جوار ربه ومن بعده ولده الفضل . وفى غرة جمادى الأولى للسنة الثالثة والتسعين بعد المائة الأولى للهجره رحل خليفة المسلمين هارون الرشيد هو الآخر إلى جوار ربه وهو فى حوالى الخامسة والأربعين من عمره . تولى من بعده ولى عهده ولده محمد الأمين . كان الشافعى قد لقيه من قبل بضعة مرات هو وشقيقه المأمون وهما فى سن الصبا فى حلقة إمام دار الهجره مالك بن أنس عندما كان يتلقى العلم على يديه . والتقى بهما مرة أخرى قبل تسع سنوات فى بغداد بعد نجاته من محنته الكبرى وهما غلامين فتيين مع مؤدبهما أبى عبد الصمد ..

وقصة هذا اللقاء الثانى أنه بينما كان الشافعى ذات يوم جالسا وحده فى الدار التى أسكنه فيها القاضى محمد بن الحسن مستغرقا فى تدوين أوراق أمامه إذ سمع طارقا يطرق الباب لا يكف يده . قام ليجد أمامه سراج خادم الرشيد وهو يقول له معتذرا بعد أن حياه ...............

ــ معذرة أيها الشيخ الجليل ..

ــ ماذا وراءك يا سراج ؟.

ــ أمير المؤمنين فى انتظارك..

إرتدى عباءته وأغلق باب الدار وانطلق بصحبة خادم الرشيد إلى قصر الذهب . لدى دخوله مجلس أمير المؤمنين قام إليه محييا ومرحبا ثم قال له ..........

ــ يا أبا عبد الله ,هذا ولدى محمد الأمين ولى العهد من بعدى . وهذا ولدى عبد الله المأمون ولى العهد من بعده ..

قالها وهو يشير إليهما أن يتقدما ليسلما على الشافعى , ثم أردف قائلا بعد أن قاما وسلما عليه ...................

ــ وهذا هو الشيخ أبى عبد الصمد مؤدبهما , وإنى أرسلت إليك اليوم لتوصيه ..

قال الشافعى بعد أن أقعد الشيخ أمامه ..............

ــ ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاح نفسك . فإن أعينهم معقودة بعينك والحسن عندهم ما تستحسنه أنت والقبيح عندهم ما تركته . علمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه ولا تتركهم منه فيهجروه . ثم روهم من الشعر أعفه ومن الحديث أشرفه . ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه , فإن ازدحام الكلام فى السمع مضلة للفهم ..



يتبع.. إن شاء الله............................

abuzahda
05/08/2009, 09h36
سيّدي الوالد الأديب
:emrose:الدكتور أنس البن:emrose:

تعْلمُ أن بكل بيتٍ ركنٌ ما ، يطيب لنا الركون إليه ، كما المُدُنِ يحتضننا فيها مكانٌ و ننفرُ من آخر

هنا ، و بعد النقر على الماوس مباشرة ، يغمرني ارتياحٌ يشبه السكينة . حيث النـَّص يشبهك يا :emrose:دكتور أنس:emrose: :
بسيطاً بلا ادعاء ، عميقاً بلا تكلف .
و أعترف أني لم أطبع حوالي ثلاث صفحات ، بسبب ما تعرفه من المشاغِل ،
أجرب الآن القراء من الشاشة

د أنس البن
05/08/2009, 19h23
أسعدنى حضورك وتشريفك , ونزلت كلماتك على بردا وسلاما كأنها جاءت فى وقتها
شكرا من القلب يا شاعرنا الكبير سيد أبو زهده ورسالة تحية من إمامنا قاضى الشريعه على توقيعك الجديد المقتبس من درر حكم كلماته

د أنس البن
05/08/2009, 19h23
الشافعـى يتحـدث ويتحدث



@ مضت سنوات والشافعى متصدر مجلسه العامر فى فناء الكعبة قبالة الميزاب حيث تنزل الرحمات والبركات كسيل العرم . وحلقته تتسع يوما عن يوم ويزداد روادها من داخل الحجاز ومن خارجها بعد أن ذاع صيته وطبقت شهرته الآفاق . صارت تضرب الإبل أكبادها إليه من كل فج عميق سعيا وراءه وطلبا لعلومه وآدابه ..
فى مجلسه ترى مئات من البشر يجلسون فى أدب وخشوع منهم من يكتب ومنهم من يرهف سمعه إلى كلامه الذى ينبع من عين علوم القرآن والسنه . تلك العين الجاريه التى تفيض على الحاضرين بأعذب الكلام فيروى ظمأهم ويطفئ غلتهم هذا المنهل العذب الصافى ..
إعتاد الذهاب كل يوم إلى ساحة الحرم مبكرا لا يتخلف عنها إلا لضرورة أو عذر . بيده ولده محمد وقد بلغ عامه السادس حيث يتركه بين يدى شيخه معلم القرآن ,فى نفس المكان الذى كان يختلف فيه قبل نيف وثلاثين عاما إلى شيخه الراحل إسماعيل بن قسطنطين ..
أحدهم يسأله .........
ــ يا ابن إدريس ما معنى الأمه فى قوله تعالى "إنا وجدنا آباءنا على أمه" ؟.
ــ إعلموا أيها القوم أن الأمه جاءت فى القرآن على ثلاثة وجوه . أما قوله تعالى فى سـورة الزخرف [ إنا وجدنا آباءنا على أمه ] أى على دين . وقوله تعالى فى سورة يوسف [ وادكر بعد أمه ] أى بعد حين أما قوله تعالى فى سورة النحل [ إن إبراهيم كان أمه ] أى كان معلما ..
فى تلك الأثناء كان رجال ثلاثة يتحركون على مقربة من مجلس الشافعى يتداولون فيما بينهم ,أحدهم يقول لصاحبيه ............
ــ هيا يا إخوان تعالوا بنا إلى حلقة هذا الحجازى المطلبى ..
أشار بيمناه ناحية الشافعى الذى بدا صوته بعيدا عنهم ,عاجله آخر وكان فارسيا بقوله .........
ــ ماذا تقول يا ابن حنبل . تقيمنا من عند شيخ يقول حدثنا الزهرى عن عبد الرزاق ويملى علينا أحاديث عمرو بن دينار لتأتى بنا إلى هذا الشاب المغمور ؟.
رد مبتسما فى مودة وثقه ........
ــ يا أبا يعقوب يا ابن راهويه . إن فاتك عقل هذا الرجل فإنى أخاف عليك ألا تجده إلى يوم القيامه . إقتبس أنت وصاحبك يحى بن معين من هذا المطلبى فلن تر عيناكما مثله . إنه رجل آتاه الله فصاحة اللسان وبلاغة البيان وقوة الجنان . إذا أخذ فى التفسير فكأنما شاهد التنزيل ..
رد فى ضيق........
ــ أنت يا ابن حنبل , تقول مثل هذا ؟.
ــ بل وأمسك بركاب بغلته إن أمككنى وأقودها له راضيا ..
ــ ماذا تقول يا ابن حنبل . أنت تفعل ذلك ؟.
ــ أجل وأكثر منه . لقد لازمته طويلا وقت أن كان يقيم فى العراق وأخذت عنه الكثير . كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بهذا الشافعى . إنه خطيب العلماء وسيدهم ..
سكت برهة ثم أردف متمما لصاحبه .........
ــ سمعته ذات يوم يقول مقالة فى حديث لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما سمعتها من أحد قبله ولا حتى من شيخ المحدثين سفيان بن عيينه ..
ــ عن أى حديث تتكلم ,وماذا قال فيه هذا الشافعى ؟.
ــ قوله "صلى الله عليه وسلم" ... [ أمكنوا الطير فى أوكاها وبكروا على إسم الله ] . هل لك أن تخبرنى بمعنى هذا الحديث ماذا فهمت منه ؟.
رد فى استخفاف .............
ــ هذا حديث مفسر ,وهو نهى عن صيد الليل أى دعوا الطير فى ظلمة الليل فى أوكارها . هكذا سمعت تفسيره من شيخنا وكيع بن الجراح ..
ــ إسمع إذن ما قاله الشافعى فيه لما سألته عن معناه ذات مرة قـال لى ....……
ــ كان أهل الجاهلية إذا أرادوا سفرا عمدوا إلى الطير فسرحوها . فإن أخذت يمينا خرجوا فى ذلك الفأل وإن أخذت يسارا أو رجعت إلى خلفها تطيروا ورجعوا . فلما أن بعث النبى "صلى الله عليه وسلم" قدم مكة فنادى فى الناس .... “ أمكنوا الطير فى أوكارها وبكروا على إسم الله “………………
قال ابن حنبل ..............
ــ أسمعت بمثل هذا من أحد قبل ذلك يا ابن راهويه ؟.
سكت واجما ولم يعقب بينما رد ثالثهم يحى بن معين قائلا ...........
ــ والله لقد شوقتنا إلى سماعه هيا بنا إليه ..
إقترب الثلاثة من مجلس الشافعى ,جلسوا بالقرب منه ينصتون إليه بينما يقـول ..............……..
ــ وقول المؤذن حى على الصلاة حى على الفلاح دعاء منه إلى الصلاه . ثم دعاء منه يعلم فيه أن دعاءه إلى الصلاة دعاء إلى الفلاح . وينبغى لمن دعا إلى الفلاح بالصلاة وعلم أنه لا يأتى الفلاح بطاعة الله فى الصلاة أو غيرها إلا بعون من الله أن يقول ...... لا حول ولا قوة إلا بالله . لأنه لا حول له يصل إلى طاعة الله إلا بالله عز وجل ..
سأله أحمد بن حنبل .............
ــ هلا أوضحت لنا هذا الأمر يا إمام ولو بضرب مثال ؟.
ــ لبيان هذا الأمر وحقيقته لن أجد خيرا مما قاله ابن عمنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه لرجل سأله عن القدر ..
ــ بالله عليك ماذا قال ؟.
ــ حدثنى يحى بن سليم عن جعفر عن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر . أن على بن أبى طالب خطب الناس يوما فقال : “ وأعجب ما فى الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضداد من خلافها . فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص . وإن ملكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن أسعد بالرضا نسى التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن . وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع وإن أفاد مالا أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغله البلاء وإن أجهده الجوع قصد به الضعف . فكل نقص به مضر وكل إفراط به مفسد “ …….. فلما انتهى على بن أبى طالب من خطبته قام رجل ممن شهد معه موقعة الجمل وقال له ............... أخبرنا يا أمير المؤمنين عن القدر . قال له : بحرعميق فلا تلجه . أعاد السؤال فقال ............ بيت مظلم فلا تدخله . أعاد الثالثة فقال له .......... سر الله فلا تبحث عنه . وفى الرابعة قال له ............. أما إذ أبيت فإنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض . قال له الرجل : يا أمير المؤمنين إن فلانا هذا يقول بالإستطاعة للعبد فى فعله . فلما أقاموه بين يديه سل من سيفه قدر أربع أصابع وسأل الرجل ..... الإستطاعة يا هذا تملكها مع الله أو من دون الله ؟.
قاطعه ابن حنبل متسائلا ...............
ــ لقد أوقعه فى مأزق لا مخرج له منه . كيف أجابه إذن ؟.
ابتسم الشافعى قائلا .............
ــ لقنه الإمام الإجابه ..
ــ كيف ؟.
ــ قبل أن يفتح الرجل فمه ليجيبه بادره على بن أبى طالب ...... إياك أن تجيب بأحدهما فترتد فأضرب عنقك . إحتار الرجل وقال ..... ما أقول إذن يا أمير المؤمنين ؟. قال له ...... قل أملكها بالله الذى إن شاء ملكنيها ..
وبعد برهة صمت قال الشافعى .............
ــ أيها القوم .......
قدر الله واقع يقضى وروده
قد مضى فيك حكمه وانقضى ما يريده ..
فأرد ما يكون إن لـم يكن ما تـريده ..
فى تلك اللحظه مال إسحق بن راهويه الخرسانى على أحمد بن حنبل هامسا فى أذنه .............
ــ هل لى أن أسأله عن مسأله ؟.
ــ سل ما بدا لك ..
تنحنح وهو يشرع برأسه فى تحد وغرور ناحية الشافعى ثم سأله بصوت مرتفع يصل إلى أسماع الحاضرين ................
ــ يا مطلبى ,ما تقول فى كراء بيوت مكة للغير ؟.
ــ أقول بجواز ذلك ..
ــ كيف تقول بجواز ذلك وقد ورد عن السيدة عائشة وجمع من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ما يفيد كراهة ذلك الأمر ؟.
ــ زدنى بيانا ..
ــ حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لم يكن يرى ذلك ..
ــ يرحمك الله أما علمت أن النبى "صلى الله عليه وسلم" قال [ هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار ؟. ] ..
بدا على السائل أنه لم يدرك ما يعنيه الشافعى ,فأخذ يرطن بالفارسية ويتمتم بشفتيه قائلا ............ “ مردك لا كمالا نيست “ يقصد بهذه العبارة أن الشافعى شأنه شأن أهل قرية عندهم بمرو يدعون العلم وهم ليسوا كذلك .
نظر إليه الشافعى فعلم أنه يقدح فيه وينسبه إلى الجهل فقال له .......
ــ من أنت أيها الرجل ؟.
ــ أنا إسحق بن إبراهيم بن راهويه الخراسانى ..
ــ آه أنت الذى يزعم أهل خراسان أنك فقيههم الأكبر أو كما يقولون عنك شاهنشاه الحديث ؟.
رد فى استخفاف هازئا ..................
ــ هكذا يزعمون . أم لك رأى آخر ؟.
ــ ما أحوجنى أن يكون غيرك فى موضعك هذا فكنت آمر بعرك أذنيه وتأديبه . أنا أقول لك قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأنت تقول قال طاوس ومنصور وإبراهيم . هل لأحد مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حجة يا رجل ؟.
نظر ابن حنبل إلى صاحبه معاتبا , ثم اتجه ناحية الشافعى قائلا فى حيـاء وأدب ......
ــ ليتك تزيدنا فهما فى هذه المسألة أيها الشيخ ؟.
ــ أخبرنا يا فقيه خراسان الأكبر . لما قال الله تعالى فى سورة الحشر [ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ] . هل نسب الدار إلى المالكين أو لغيرهم ؟.
ــ بل نسبها إلى المالكين ..
ــ وقول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ] . نسب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الدار إلى مالك أو غير مالك ؟.
ــ بل إلى مالك ..
ــ وتعلم أن عمر بن الخطاب اشترى دار الحجامين فأسكنها . وتعلم أن نفرا من الصحابة اشتروا دور مكه وأن آخرين باعوها ؟.
ــ أجل أعلم ذلك كله ..
ــ فما هى حجتك إذن بعد ما سمعت قول الله تعالى وقول رسوله "صلى الله عليه وسلم" وما كان عليه أصحابه ؟.
أطرق الخرسانى قليلا ثم رفع رأسه وهو يتصبب عرقا قائلا..........
ــ قال الله تعالـى [ سواء العاكف فيه والباد ] ..
إبتسم الشافعى وهز رأسه قائلا فى ثقه ..............
ــ هلا قرأت أول الآيه [ والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ] والعكوف لا يكون إلا فى المسجد . ألا ترى فى قوله تعالى عن هذا البيت [ للطائفين والعاكفين ] وقوله تعالى [ وأنتم عاكفون فى المساجد ] . فدل ذلك كله أن قوله تعالى [ سواء العاكف فيه والباد ] والذى تتخذه حجة لك مقصود به المساجد خاصة . أما من ملك شيئا فله أن يبيع وأن يكرى . لو كان الأمر كما تزعم يا فقيه خراسان لكان لا يجوز أن تنشد فيه ضاله ولا تنحر فيه البدن ولا تنثر فيه الأرواث . ولكن هذا فى المسجد خاصه . أفهمت أم لديك حجة أخرى ؟.
أطرق الخرسانى حياء بينما ابن حنبل يخاطبه خطابا صامتا بعينيه وكأنه يقول له ..... ألم أقل لك ؟. ثم قام يسلم على الشافعى وهو يقول له كالمعتذر ............
ــ الآن فحسب أدركت ما تعنيه يا إمام وفهمت قول النبى "صلى الله عليه وسلم" [ هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار ] . لا تؤاخذنى أيها الفقيه المكى ..
وقبل أن ينصرف الثلاثة الأصحاب من ساحة البيت مال الشافعى على أحمد بن حنبل وسأله ............
ــ متى ترجع إلى العراق إن شاء الله ..
ــ سوف أشد الرحال إن شاء الله تعالى فى مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم ..
ــ لا تنسى أن تأتنينى فى دارى قبل رحيلك . لدى أمانة مهمة أريد أن أبعث بها إلى الشيخ المحدث عبد الرحمن بن مهدى ..

@ على هذا المنوال ظلت الأيام تمضى تترى بالشيخ فى مكه . يظل طوال النهار فى رحاب ساحة الحرم المكى بين تلاميذه وطلاب علومه . أما ليله يمضيه كله قابعا فى داره جاعلا ثلثه الأول لغذاء عقله فى القراءة والتدوين . والثلث الثانى لغذاء روحه فى عبادة وتهجد ومناجاة لربه والثلث الأخير لراحة بدنه الذى لم يكن يعرف فى الحقيقة للراحة طعما . إلا تلك السويعات القليلة التى يلقى فيها على الفراش جسدا مكدودا ألح عليه التعب وبلغ الجهد شأوه معه , بعد أن ينتهى من صلاة الفجر ويروح فى نوم عميق ..
وفى بيته لم يكن يحرم أولاده من علومه كلما دعت إلى ذلك حاجة أو كانت هناك مناسبة أو ضروره . من ذلك أنه وصل إلى سمعه ذات مساء وهو عاكف على أوراقه أصواتا متداخلة من داخل الدار تنبئ أن شجارا وقع بين ولده محمد الذى بلغ عامه الثانى عشر وابنته زينب التى أكملت عشر سنوات من عمرها . ترك ما فى يده ونادى عليهما وبعد أن أوقفهما أمامه . سألهما عن الأمر الذى دعاهما للشجار ,بدأ محمد الكلام قائلا .............
ــ الحكاية يا أبى أنى كنت أخفيت النبال التى أدرب نفسى على الرماية بها فى مكان لا يعلم به أحد مخافة الضياع . ولما ذهبت اليوم أبحث عنها لم أجدها فى مكانها . سألت زينب فادعت أنها لا تعرف عنها شيئا . أعدت عليها السؤال مرة أخرى فحلفت لى مؤكدة كلامها ..
عاد الشافعى يسأله ............
ــ ما السبب الذى من أجله إذن علت أصواتكما إلى حد أن وصلت إلى مسامعى ؟.
أجابت زينب ..........
ــ لا شئ يا أبت غير أنى لما حلفت له قلت ....... وحياة أبى وأمى لا أعلم شيئا عن تلك النبال التى تبحث عنها . أخذ يعنفنى ويغلظ على القول ..
لاحت ابتسامة على وجه الأب وهو يسأل ولده بعد أن أدرك سبب ثورته على شقيقته ..........
ــ لم عنفتها يا محمد وأغلظت عليها القول ؟.
ــ لأنى سمعتك ذات مرة تقول أن كل يمين بغير الله فهى مكروهة بل ومنهى عنها ..
ــ آه .. نعم , صدقت يا أبا عثمان . قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : [ إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم . فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليسكت ] . أختك أخطأت لما حلفت بغير الله , لكنك أخطأت أنت الآخر ..
ــ أنا يا أبت أنا , أخطأت ؟.
ــ أجل أخطأت , وأخطأت مرتين لا مرة واحده ..
ــ مرتين ؟. أنا أخطأت مرتين ؟.
ــ أخطأت لما لم تصدقها أول مرة وألححت عليها حتى ألجأتها لأن تحلف ومن المروءة ألا يحلف المرء أبدا . ثم أخطأت ثانيا لما أغلظت عليها القول وأنت تحاول أن تنبهها لما وقعت فيه من إثم . والله تعالى أمرنا فى كتابه الكريم أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنه . أتذكر الآية الدالة على ذلك ؟.
ــ أجل يا أبت قوله تعالى فى سورة النحل [ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعـلم بالمهتديـن ] ..
ــ صدق الله العظيم . بارك الله فيك يا ولدى على غيرتك للحق ونصحك لشقيقتك ولا تعد لما نهيتك عنه مرة أخرى ..
أطرق الإبن حياء وأدبا دون أن يعقب بينما قالت زينب ...........
ــ وأنا يا أبت لن أحلف بعد اليوم أبدا ………………

@ فى خلال تلك السنوات التى أمضاها فى ساحة الكعبة بين الحجر والمقام كثر تلاميذه وأتباعه من شتى بقاع الأرض حيث يأتى المسلمون لزيارة البيت العتيق . من بين هؤلاء التلاميذ كان هناك ثلاثة لا يتخلفون عن مجلسه . أحدهم يدعى أبو بكر الحميدى والآخر أبو إسحق إبراهيم وهو من أبناء عمومته يلتقى معه فى جده شافع والثالث أبو الوليد موسى بن أبى الجارود ..
كان هؤلاء الثلاثة يقدمون الحلقة معا ويتخذون مكانهم أمام الشافعى فى مقدمة جموع الحاضرين وفى آخر اليوم يلتقون ليتدارسوا فيما بينهم ما استمعوا إليه من أستاذهم . يقول أحدهم للآخر ............
ــ أرأيت ياحميدى كيف بين لنا الشيخ فى هذا اليوم بعض ما فى الكتاب من أحكام وكذلك مقام السنة منه ؟.
ــ أجل لقد علمنا يا ابن أبى الجارود أن الأحكام فى القرآن على أنواع . منها المفصل الذى لا يحتاج إلى مزيد بيان والمجمل الذى بينته السنه ؟.
قال زميلهم الثالث أبو إسحق إبراهيم الشافعى ...............
ــ لقد أعطانا قاعدة هامة تتعلق بالنص المجمل والمفصل فى القرآن والتى بها نعرف كيف نستنبط الأحكام من القرآن والسنه . وضرب لنا بعض الأمثال لكل نوع منها ..
ــ أجل مثال ذلك بيان الشهر الذى فرض الحق تعالى على المسلمين صومه . وكذلك عدد الأيام ورد فى القرآن نصا فى قوله تعالى : [ شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ... ] ..
ــ ثم قال الشيخ ........ وما علمت أحدا من أهل العلم بالحديث قبلنا تكلف أن يروى عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أن الشهر المفروض صومه شهر رمضان الذى بين شعبان وشوال لمعرفتهم بشهر رمضان من الشهور . إكتفاء منهم بأن الله فرضه ولا هل هو واجب أم لا ..
ــ أما ما ورد مجملا فى القرآن وفصلت أحكامه السنه فقد بينه الشيخ لنا وبين أنواعه وضرب لها أمثلة أوضحت لنا جلية الأمر ..
ــ مثل الصلاه فى قوله تعالى : [ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ] . بين رسول الله "صلى الله عليه وسلم" عدد الصلوات وأحكامها وكيف تكون فى السفر والحضر ..
ــ والزكاه فى قوله تعالى : [ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ] . فصل لنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مقاديرها الواجبة فى كل نوع من أنواع الأموال وعلى من تجب وكيفيتها إلى غير ذلك ..
ــ وكذلك بينت السنة مناسك الحج ومواقيته وأنواعه وأحكامه . ما أعظمه من إمام وفقيه جازاه الله عنا خير الجزاء ………………

@ وذات يوم دخلت عليه امرأته حميده تذكره بميعاد الدواء حيث بدأ شكواه تكثر فى الأيام الأخيرة من علة البواسير وما تسببه من نزف وآلام تعوقه أحيانا عن الدرس والكتابه . كان لا يرى غالبا إلا متكأ على إحدى جانبيه يحاول جاهدا أن يدون فى أوراقه ما يتوصل إلى معرفته من علم . وكان يحتال بالدواء الذى أعده بنفسه يشربه على مضض منه ليخفف تلك الآلام القاسيه , حتى يتمكن من مواصلة العمل الذى وهب نفسه له . كان شرابا يحتوى على خلاصة مجموعة من الأعشاب القابضة والملينة والهاضمه ..

نظرت إليه وهى لا زالت واقفة لدى الباب . رأته متكأ على جانبه الأيمن ورأسه ناحية الباب وهو مكب على أوراق كثيرة والمحبرة من أمامه والريشة فى يمناه . يدون بها فى همة ودأب ما يرد على خاطره من مسائل وأحكام ..
آثرت ألا تقطع عليه حبل أفكاره فتوقفت مكانها وفى يدها قارورة الدواء دون أن تنبس ببنت شفه . إنتظرت أن يرفع رأسه أو تتوقف يمناه عن الكتابه , لكن وقتا طويلا مضى وهو على حاله . لم يراها أو يشعر بوجودها ولا بأنفاسها اللاهثة وهى تتابع على مقربة منه فى تلك الغرفة الرطبة الضيقة التى اتخذها للقراءة والتدوين ..
لم تجد مناصا بعد أن طال انتظارها وكلت قدماها من الوقوف أن تتسلل فى هدوء خارج الغرفه . تاركة زوجها سابحا فى أفكاره وخواطره بعد أن وضعت قارورة الدواء على مقربة منه دون أن تشعره بوجودها ..
لم يمض غير قليل حتى رفع الشافعى رأسه ليغمس الريشة فى المحبره فوقعت عيناه على قارورة الدواء . ما إن رآها حتى هز رأسه سرورا وهو يبتسم ابتسامة الرضا والعرفان من مسلك امرأته العثمانيه . أدرك أنها دخلت عليه وخرجت دون أن تسمح لنفسها أن تقطع عليه حبل أفكاره . نادى عليها بعد أن وضع ريشته جانبا ...........
ــ يا عثمانيه . يا عثمانيه . تعالى إلى هنا ..
جاءه صوتها من داخل الدار ملبية قبل أن تدخل عليه . ولجت من الباب وهى تضع يدها على رأسها . قال لها مازحا ..........
ــ ماذا أقول لك يا عثمانيه ؟. ومن البلية أن تحب … ولا يحبك من تحبه ..
ردت فى الحال تشاركه مزاحه ودعابته وإن كانت تبدو مرهقة متعبه ...........
ــ ويصد عنك بوجهه ... وتلح أنت فلا تغبه ..
ضحك الشافعى ثم عاد ينظر إليها متسائلا عما بها وهو يشير بيده إلى رأسها . ردت قائلة ............
ــ لا شئ يا أبا عبد الله لا شئ . أشعر ببعض الألم فى مقدمة رأسى ..
ــ كيف تقولين ذلك يا عثمانيه . أنا ألاحظ منذ أيام أنك تضعين يدك على رأسك كثيرا كما أنى رأيتك غير مرة تتعثرين فى مشيتك ؟. صارحينى بما عندك وحدثينى عن كل ما تشعرين به ..
ــ ليس هناك ما يدعو لكل هذا الخوف والإنزعاج . قلت لك لا شئ إنما هو ألم طفيف فى رأسى يراودنى من حين لآخر ..
أشار إليها أن تقترب منه قائلا لها ..............
ــ إجلسى هنا إلى جوارى يا عثمانيه وأشيرى بإصبعك على موضع الألم ..
أخذ يطيل النظر فى حدقتى عينيها وأخيرا هز رأسه وهو يرسم شبح ابتسامة مصطنعة على شفتيه قائلا لها بغير اكتراث ............
ــ لا . لا شئ . حقا ما تقولين إنها آلام الرأس العاديه . أعتقد أنك لا تنامين جيدا فى الليل ..
إبتسمت قائلة ..............
ــ صدقت يا أبا عبد الله . ألم أقل لك فى بداية الأمر إنه ألم طفيف . أزعجت نفسك وكدت أن تزعجنى أنا الأخرى دون داع ؟.
ــ لقد أخذتنى الظنون بعيدا فى بداية الأمر لكن الحمد لله ..
قال ذلك وهو يحدث نفسه فى أسى ومراره ........... لك الله يا أطيب النساء . لم أكن أظن أن الأمر خطير هكذا . لا حول ولا قوة إلا بالله لقد أصابها المرض اللعين . اللهم أفرغ علينا صبرا والطف بها وبنا فيما قضيت وقدرت يا أرحم الراحمين ..
لم يخرجه من هواجسه إلا صوتها الدافئ الحانى وهى تقول له ..............
ــ وأنت يا أبا عبد الله أما آن لك أن ترفق بنفسك وتعطى لبدنك حقه . لك أيام وأنت على هذا الحال مكبا على تلك الأوراق . إنك لا تكاد تعرف للنوم طعما ولا للراحة سبيلا ..
ــ آه تقصدين هذه الأوراق التى أدونها . لا ياعثمانيه لن أدعها من يدى حتى أنتهى منها تماما . لقد عقدت العزم على ذلك ..
نظرت إليه مستفسرة فقال لها موضحا ..........
ــ تعالى هنا إلى جوارى . سأشرح لك المسأله . لما ذهبت إلى العراق وجبت بلدانها شرقا وغربا وتحاورت مع شيوخها فى الكوفه والبصره والموصل وفى بغداد عروس المدائن . لاحظت أن القوم يعتمدون على مجرد الإجتهاد فى استنباط الأحكام . وتوسعوا فى مسائل القياس والإستحسان مرتكزين على فهمهم المجرد لمعانى الشريعه وأحكامها وغاياتها وما تومئ إليه نصوصها ..
ــ هيه وماذا بعد يا أبا عبد الله ؟.
ــ رأيت بعد تفكير وبحث طويل أن أضع قانونا كليا وثابتا يرجع إليه فى معرفة دلائل الشريعه وحدودا مدونة مرسومة للإستنباط والقياس . وأن أضبط الموازين حتى لا تكون المسألة راجعة للرأى المجرد الذى يجعل صاحبه متعصبا له لا يكاد يرى غيره . إن مجرد الطبع إذا لم يستعن بالقانون الكلى قلما أفلح ..
ــ وما الذى جعلك إذن ترجئ البدأ فيه كل هذا الوقت . ها أنت قد مضى عليك أكثر من ثلاثة أعوام منذ عودتك من العراق سالما بعد المحنه ؟.
ــ الحقيقة يا عثمانيه أنى ما نسيت هذا الأمر يوما . لقد شرعت فعلا لدى عودتى فى كتابة صفحاته الأولى . لكن كما ترين لا أكاد أجد وقتا أخلو فيه لنفسى . لهذا قررت أن أرجئ هذا الأمر إلى أن يأذن الله تعالى ..
ــ وما الذى جد فى الأمر إذن ؟.
ــ صديق تعرفت عليه فى العراق إسمه عبد الرحمن بن مهدى بن حسان . جمعنا معا فكر ونهج واحد فهو شيخ المحدثين فى العراق يحفظ عشرين ألف حديث بإسنادها . كذلك له مواقف مع القائلين بالرأى من أتباع أبى حنيفه ..
ــ هيه وماذا بعد ؟.
ــ أرسل إلى منذ أيام رسالة يطلب إلى فيها أن أضع كتابا فيه معانى القرآن وأجمع فيه فنون الأخبار وحجة الإجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنه . قال لى فى رسالته ضمن ما قال .......... إن أهل العلم فى هذا الزمان وفيما سبق كانت عنايتهم إلى جمع المسائل والفروع وبيان حكم كل منها من أدلة الشرع المعروفه . وهى فروع لا تكاد تتناهى بل إنها متجددة على مر الأيام ..
سكت الشافعى برهة تناول خلالها رشفة من قارورة الدواء بينما امرأته تنظر إليه فى فضول لمعرفة المزيد . قال لها بعد أن طوى رسالة صديقه العراقى وأعادها مكانها ......
ــ رسالة هذا الصديق جددت الآمال عندى مرة أخرى فعزمت على أن أكتب هذا الكتاب . لأبين فيه الأصول والقواعد العامه مع بيان مآخذها وما يتفرع عنها ويستنبط منها من أحكام المسائل والفروع التى تجد كل يوم حسب الزمان والمكان . ومتى عرفت هذه الأصول والقواعد الكلية العامه كان الإستنباط منها سهلا على صاحب العلم ..
ــ ما اسم هذا الكتاب ؟.
ــ سأسميه إن شاء الله “ الرساله “ ..
ــ ولماذا هذا الإسم ؟.
ــ لأنه فعلا رسالة منى أرد فيها على رسالة صديقنا عبد الرحمن بن مهدى كما أخبرتك ..
ــ وهل سيأتى إليك هنا لاستلامه منك ؟.
ــ لا أظن ذلك يا حميده . لا أظن ..
ــ كيف ترسله إليه إذن ؟.
ــ لقد أشرفت على الإنتهاء منه ولسوف أسلمه بعد أيام إلى أحد العراقيين من طلاب العلم هنا فى مكه ..
ــ من يكون ؟. هل أعرفه ؟.
ــ لا . إنك لم ترينه من قبل . شاب يدعى أحمد بن حنبل . سوف يأتى هنا إلى دارى بعد أيام قليلة قبل أن يبدأ رحلة عودته إلى بلده العراق ..
ــ أعانك الله يا أبا محمد . هل تريد أن أعد لك شيئا قبل أن أنام ؟.
ــ بارك الله فيك يا عثمانيه إذهبى أنت إلى فراشك فإنى أرى آثار النوم فى عينيك . ستقوم الجارية على خدمتى ..
ــ من . دنانير ؟. يا أبا عبد الله ألم أقل لك مرات من قبل أن هذه الجارية فى جهد منك ؟.
إبتسم دون أن يعقب بعد فهم ما ترمى إليه . ذلك أنه اعتاد وهو يدون مسائله فى الليل أن يوقد المصباح حتى إذا انتهى من كتابتها أمر الجارية أن تطفئه . ثم لا يلبث أن يستلقى على ظهره فى الظلام ويروح فى تفكير عميق وفجأة ينادى على الجارية وهى نائمة لتسرجه له مرة ثانيه . يظل على هذا الحال طوال الليل . لاحظت امرأته ذلك فقالت له معاتبة ............
ــ الجارية لا تنام الليل يا أبا محمد وتظل طوال النهار تتثائب وتتكاسل . سألتها عن ذلك أخبرتنى أنها تقوم فى الليل أكثر من عشر مرات , عاودت سؤالها عن السبب قالت لى : ………………
ــ لأسرج المصباح للشيخ وأطفئه . إنه ما إن يكتب المسألة ويفرغ منها حتى ينادى على .......... يا جاريه أطفئي المصباح . فأقوم من نومى لأطفئه ولا تكاد عينى تغفل قليلا حتى يأتينى صوته مرة أخرى ........ يا جاريه أسرجى المصباح . ثم يعكف بعدها على الكتابه وهكذا أظل طوال الليل لا شغل لى إلا أمر المصباح أسرجه وأطفئه ………………
أردفت حميده ........
ــ فهلا رفقت بها ؟.
ــ صدقت والله فإنها حقا فى جهد منى . لكن الظلمة يا عثمانيه أنفع للفكر وأجلى للقلب . والسراج يشغل قلبى ويشتت فكرى وأنا أحتاج لأن أتأمل فى هدأة الليل كى أستطيع أن أجمع شتات فكرى فى المسألة التى أبحثها . فإذا انجلت لى المسألة واهتديت إلى الصواب فيها أسرعت بتدوينها على ضوء المصباح . على كل حال , من الليلة سأتولى أمر المصباح بنفسى ..

@ إقترب موسم الحج للسنة الرابعة والتسعين بعد المائة الأولى للهجره , فى تلك الأيام من كل عام تأتى الوفود إلى مكة من كل بلاد الدنيا قاصدين زيارة البيت العتيق للحج والعمره ..
وذات يوم بينما الشافعى جالس وحده فى هدأة الليل عاكفا على كتبه فى ضوء سراج خافت , وكل من فى الدار يغطون فى نوم عميق إلا الجارية دنانير التى وهبت نفسها للعكوف على خدمته وتلبية حاجاته . إذا بطرقات شديدة على الباب تشق سكون الليل . ترك ما فى يده ونادى على الجارية . قامت فزعة إلى الباب وهى تقاوم النعاس . بعد قليل عادت لتخبره أن رجلا غريبا لدى الباب , سألها عن هويته فأجابت ......
ــ الحق يا سيدى لا أعرفه , لكنه يصطحب معه غلاما فى حوالى العاشرة من عمره . تلك أول مرة تقع عينى عليه , لكن يظهر من هيئته وملامحه أنه غريب عن البلاد ..
قام متثاقلا يتحامل على نفسه فى صعوبة مستندا على راحتيه مما يجده من ألم أسفل ظهره . مضى إلى الباب ليجد أمامه رجلا ينظر إليه مبتسما . أخذ يتفرس فى ملامح وجهه لحظات غير مصدق ما تراه عيناه . إنه صاحبه الذى لم يره منذ أعوام طويله . كانت آخر مرة لقيه منذ سبع سنوات عقيب نجاته من محنته ورجوعه من العراق . كان لقاء عابرا لم يتمكن خلاله أن يشبع رواءه منه أو أن يضيفه غير ساعات قليلة , ما لبث حتى فارقه بعدها عائدا إلى مصر وهو فى عجلة من أمره . وها هى المرة الثانية التى يلقاه فيها بعد طول غياب . هتف وهو يعانقه فى حرارة وموده ......
ــ أحلم ما تراه عينى أم حقيقه . لا أكاد أصدق . من . صديقى وحبيبى المصرى عبد الله بن عبد الحكم بشحمه ولحمه هنا فى مكه ؟. أهلا بك وسهلا فى دارك ..
وفى داخل الدار أمر جاريته أن توقظ سيدتها ليعدان طعاما للضيف , غير أنه قفل راجعا خلفها مسرعا وهو يقول لها هامسا ............
ــ إنتظرى يا دنانير , دعيها لى , سأوقظها بنفسى واذهبى أنت لإعداد الطعام ..
على باب الغرفة وجد امرأته تواجهه متثائبة تسأل فى دهشة وهى تحاول أن تمسح آثار النوم عن عينيها ..............
ــ ما الأمر يا أبا محمد ؟. ما سبب كل هذه الضجه . هل جاءنا أحد ؟.
رد هامسا والفرحة تطل من عينيه ...........
ــ إنه ضيف . أجل يا عثمانيه جاءنا الليلة ضيف عزيز ..
ــ فى هذا الوقت المتأخر من الليل . من يكون ؟.
ــ إنه قريبك المصرى , إبن عمتك الذى أهدانى أعظم وأتقى زوجه ..
ردت متهللة وقد انفرجت أساريرها .............
ــ من ؟. عبد الله بن عبد الحكم جاء من مصر , أهلا به وسهلا . حسبته واحدا آخر لا نعرفه ..
ــ أسرعى إذن يا حميده بإعداد الطعام للضيف ومن معه , إنه قادم من سفر طويل ..
ــ هل جاء معه أحد ؟.
ــ معه غلام صغير لم أسأله عنه بعد . لكن يبدو أنه أحد أولاده فهو يحمل كثيرا من ملامحه ..
رجع إلى ضيفه معتذرا له أن تركه وحده ثم جلسا يتحدثان وكل منهما لديه الكثير مما يقوله لصاحبه . سأله الشافعى وهو يشير للغلام ...........
ــ ولدك هذا أليس كذلك ؟.
ــ بلى ولدى عبد الرحمن أصغر أبنائى . ما إن علم بقدومى إلى هنا حتى تعلق بأذيال ردائى وأصر أن يأت معى رغم مشقة الرحلة وطولها على صبى مثله من مصر إلى هنا ..
نظر إليه الشافعى مستفهما فأردف ضاحكا ..............
ــ إنه يا صديقـى أصغـر أخواته "عبد الحكم وسعد ومحمد" . كلهم يتعلمون علوم الفقه والحديث ويثابرون عليها , لكنه انتهج وحده نهجا مغايرا لهم ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ له غرام بالتاريخ يا سيدى وولع بمعرفة أحوال البلدان وبالذات تاريخ مصر . يعكف يومه على سماع الحكايات والأساطير من القصاص فى سائر مساجد الفسطاط , مثل عثمان بن صالح وعبد الله بن أبى سرح . كما أنه مولع بقراءة ما يقع فى يده من كتب الرواة والمحدثين مثل يزيد بن أبى حبيب وعبد الله بن لهيعه ويحى بن بكير . ما إن تصادف عيناه شيئا من تلك البنايات القديمة أو البرابى التى بناها المصريون فى الزمان القديم حتى تتسمر قدماه مكانهما ولا يكف لسانه عن السؤال عنها وعمن شيدها وكم مضى عليها من الزمان . وعن تلك الكتابات الكلدانية والقبطية المنحوتة عليها إلى آخر تلك الأسئلة التى لا تنتهى ..
إبتسم الشافعى قائلا وهو يربت على كتفى الغلام ...............
ــ بارك الله فيك يا ابن عبد الحكم , لله درك يا ولدى . إعلم أنه ليس بعد آداء الفرائض شئ أفضل من طلب العلم . من أراد الدنيا فعليه بالعلم , ومن أراد الآخرة فعليه أيضا بالعلم ..
قال ذلك ثم التفت إلى ضيفه قائلا .........
ــ لم تخبرنى بعد متى وصلتما إلى مكه ؟.
ــ دخلنا مكة مع آخر ضوء فى النهار . توجهنا أولا إلى البيت العتيق نطوف طواف القدوم , وقمنا بتأدية مناسك العمرة ثم صلينا ركعات فى الحجر والمقام بعد أن تحللنا من ملابس الإحرام . مكثت فى ساحة الحرم بعضا من الوقت مع ولدى عبد الرحمن للدعاء ولأملأ عيناى من روعة وجلال المكان وترتوى روحى من بهائه وحسن منظره . بعد ذلك أخذت أسأل عنك وعن مكان دارك , فقام معى أحد الفتيان ولم يفارقنا إلا بعد أن فتحت جاريتك الباب ..
ــ أهلا بك وسهلا من بلد الله الأمين فى بلد الله الأمين . إيه , كيف تركت مصر يا أبا محمد ؟.
ــ تسأل عن مصر العلماء , أليس كذلك ؟.
ــ بلى . ليتك تحدثنى عن جانب من أحوال أهل العلم فيها ؟.
ــ تركت أهلها على ضربين فى العلم ..
ــ هما جماعتان إذن ؟.
ــ أجل , جماعة منهم وهى الأقوى والأكثر عددا مالت إلى قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس وأخذت به واعتمدت عليه وناضلت عنه ..
ــ ومن يقوم على أمرها ؟.
ــ أنا وأشهب بن عبد العزيز بعد وفاة عبد الرحمن بن القاسم وابن وهب ..
ــ والأخرى ؟.
ــ الجماعة الأخرى مالت إلى قول أبى حنيفه فأخذت به وناضلت عنه . والجميع أخذوا عن إمام مصر الليث بن سعد وتفقهوا جميعا على يديه ..
ــ إعلم يا صاحبى أنالعلم يدور على ثلاثة , مالك والليث وسفيان بن عيينه . وإمام مصر الليث بن سعد يرحمه الله كان أفقه من مالك , إلا أنكم أيها المصريون لم تقوموا به ..
ــ كيف تعرفت على آرائه وعلومه وأنت لم تلتق به من قبل ؟.
ــ أخذت جانبا من علومه وتعرفت على آرائه وفقهه أثناء إقامتى باليمن على يد صاحبه يحي بن حسان . كما أخذت فقه الأوزاعى إمام الشام على يد صاحبه عمرو بن سلمه ..
ــ أجل أجل , أئمة عظام حملوا علوما جمه ..
صمت برهة ثم نظر إلى صاحبه قائلا وقد علت شفتيه ابتسامة ...............
ــ سأقص عليك واقعة طريفة حدثت منذ أكثر من عشرين عاما بين إمامنا الليث بن سعد وأمير المؤمنين هارون الرشيد . تدلك على مدى علمه ونباهته وظلت لطرافتها حديث الناس لسنوات يتناقلونها فى مجالسهم ..
أعطاه الشافعى سمعه فاستمر يقول .....................
ــ حدث أن جرى حوار بين الرشيد وامرأته زبيده , وجرى كلاما حول قضية تتعلق بالقدر والحساب يوم القيامه . وصل النقاش بهما إلى أن احتد عليها قائلا لها فى نهاية كلامه .............
ــ أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنه ..
ــ هيه وماذا بعد ؟.
ــ ندم على هذا اليمين , وأصابهما الغم والحزن كأنما نزلت بهما مصيبة كبرى لموقع ابنة عمه منه . جمع الفقهاء وسألهم عن هذا اليمين فلم يجد مخرجا . كتب إلى عماله فى البلدان أن يبعثوا إليه بفقهائهم فأشخصوا إليه وجاءه منهم كثير وجلسوا بين يديه . ظل يسألهم واحدا بعد الآخر عن أى مخرج له من هذا اليمين وكل واحد منهم يجيبه بجواب . بينما إمامنا الليث بن سعد جالس فى آخر المجلس لا يتكلم حتى إذا انتهى إليه أمير المؤمنين قال له : ………………
ــ لم يبق إلا أنت أيها المصرى لم نسمع رأيك بعد ؟.
ــ قد سمعت يا أمير المؤمنين ما قال الفقهاء وفيه مقنع وكفايه ..
ــ لكنى أريد أن أسمعك أنت أيضا , وإلا ما أشخصناكم من بلدانكم ولاكتفينا بما قال لنا فقهاؤنا فى العراق ..
ــ إذن ليأمر مولاى بإخلاء المجلس وليدنينى منه , وأن أتكلم على الأمان وطرح التعمل والهيبة ..
ــ لك هذا ..
ــ وأن تطيعنى فى كل ما آمر به إن أردت أن تسمع كلامى ..
ــ لك هذا كله ..
قال ذلك وهو يصفق بيديه تصفيقتين لإخلاء المكان ثم نظر للشيخ مشيرا إليه أن يقول ما عنده فقال ............
ــ هات يا أمير المؤمنين المصحف الجامع وتصفحه حتى تصل إلى سورة الرحمن ثم ابدأ فى قراءتها ..
أمسك بالمصحف وأخذ فى القراءة وامرأته زبيده جالسة وراء حجاب تستمع لهذا الحوار , حتى إذا بلغ قوله تعالى "ولمن خاف مقام ربه جنتان", قال له الإمام الليث ............
قف ههنا يا أمير المؤمنين وقل ..........
ــ والله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ..
رد الرشيد وجلا وقد اشتد عليه حلف اليمين .........
ــ ما هذا ؟.
ــ يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط أولا , أن تطيعنى فى كـل أمر ..
نكس الرشيد رأسه برهة ثم رفعها وأخذ يحلف اليمين بصوت واجف مرتعش , ثم نظر إلى الإمام الليث الذى قال له بعد أن أتم اليمين ............
ــ قل يا أمير المؤمنين "والله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم , إنى أخاف مقام ربى" ..
ــ "والله الذى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إنى أخاف مقام ربى" ..
ــ يا أمير المؤمنين , فهى جنتان وليست جنة واحدة كما جاء فـى يمينك ..
ــ أحسنت والله , بارك الله فيك ………………
أخذ عبد الله بن عبد الحكم يقول للشافعى ..........
ــ ما أتم الإمام فتواه حتى سمع التصفيق والفرح من وراء الستار الذى كان تتخذه زبيده ووصيفاتها . وأقطع له الرشيد ضياعا كثيرة كانت له بمصر أخذها وظل يصرف منها على فقراء المسلمين , كذلك أعطته زبيده ضعف ما أعطاه الرشيد ..
ــ يرحمه الله , ألم أقل لك إنه أتبع للأثر من علماء عصره كلهم وأفقههم ..
ــ المهم , لم تخبرنى بعد متى تزور بلادنا ؟.
ــ أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله فى القريب وآتى أهلها بنهج وسط أشغلهم به عن القولين جميعا , قول مالك وأبى حنيفه ..
ــ نحن على أية حال فى شوق إلى قدومك لبلدنا كما سبق ووعدتنى ..
ــ يعلم الله أتى أشد شوقا إليها ..
سكت قليلا وأردف قائلا :
لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر .. ومن دونها قطع المهامه والقفر ..
فوالله ما أدرى أللفـوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى القبر ..
ــ الله الله يا ابن إدريس لا تزال فيك روح الشاعر المبدع . المهم أنك لا زلت تذكر وعدك لى عندما تقابلنا فى الحرم منذ سبع سنوات ؟.
ــ كيف لى أن أنسى . أجل ما زلت عند وعدى لك بالمجئ إلى مصر بعد أن أفرغ من هذه المهمه ..
ــ أية مهمة تلك ؟. خيرا إن شاء الله ..
ــ رحلة إلى العراق سوف أقوم بها بعد نهاية موسم الحج قد تستمر عاما أو أكثر وعندما أفرغ من مهمتى هناك إن شاء الله سوف أشد الرحال إلى بلادكم ومعى أسرتى كلها . لقد كتبت على الأقدار أن أحيا بقية عمرى فى أرض الكنانه وعلى ضفاف نيلكم العظيم ..
ــ وستجد مصر كلها إن شاء الله فاتحة لك ذراعيها . إن المصريين يعشقون اثنين أكثر من سواهما , آل بيت النبى "صلى الله عليه وسلم" وحملة العلم . أما سمعت مقالة عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله تعالى عنه عن أقباط مصر ومحبتهم للعرب عامة وقريش منهم خاصه ؟.
ــ ماذا قال ؟.
ــ قال ...."قبط مصر أكرم الأعاجم كلها وأسمحهم يدا وأفضلهم عنصرا كما أنهم أقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصه . من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها فى الدنيا , فلينظر إلى أرض مصر حين تخضر زروعها وتنور ثمارها" ..
سكت برهة رشف خلالها رشفة من شراب النعناع الدافئ من كوب فى يده ثم أردف قائلا ............


ــ ألم يأتك نبأ ما فعله أهل مصر مع سيدتنا نفيسه حفيدة زيد بن على حينما وفدت إليهم ؟.
ــ أوقدمت إلى مصر ؟.
ــ أجل وفدت على بلادنا العام قبل الماضى ..
ــ وماذا فعلتم لها أيها المصريون ؟.
ــ لن أنس أبدا ذلك اليوم المجيد . خرج الناس من شدة فرحتهم خارج حدود البلاد فى العريش ليكونوا فى شرف استقبالها والترحيب بها ضيفا عزيزا كريما بيننا ..
ــ عجيب والله أمركم يا أهل مصر ..
ــ والأعجب من هذا ما حدث منا نحن المصريون عندما عزمت على مغادرة البلاد راجعة إلى المدينه . لما تكاثر الناس على بابها وتزاحموا لديها التماسا لبركتها . كانت الدار التى نزلت فيها دارا ضيقة فأعاقها ذلك عن التفرغ للعبادة ومناجاة ربها ..
ــ وهل رجعت بالفعل إلى المدينه ؟.
ــ كيف ندعها تغادر مصر بعد ما لمسناه من بركتها وفضـلها وتقـواها ؟.
ــ ما الذى فعلتموه إذن ؟.
ــ شق علينا أن تفارق بلادنا فذهبنا إليها ورجوناها والتمسنا منها العدول عن قرارها فأبت . فزعنا إلى والى مصر فى ذلك الحين السرى بن الحكم طالبين منه أن يتوسط لديها . أرسل لها كتابا يرجوها فيه أن ترضى غير أنها أبت أيضا وأصرت على الرحيل , جاء إليها بنفسه يتوسل إليها ويلح عليها فى الرجاء فقالت له : ………
ــ يا والى مصر , إنى كنت عازمة على البقاء فى بلدكم . غير أنى امرأة ضعيفة وقد تكاثر الناس حولى وأكثروا من زيارتى فشغلونى عن أورادى وجمع زادى لمعادى . ومنزلى هذا يضيق بهذه الجموع الكثيفة من الناس , وأيضا زاد بى الحنين إلى روضة جدى المصطفى "صلى الله عليه وسلم" ..
ــ يا بنت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" كل ما تشتكين منه أنا كفيل بإزالته , وعلى أن أمهد لك السبيل وأعد لك ما فيه رضاك وراحتك . أما عن ضيق المنزل فإن لى دارا رحبة واسعة فى درب السباع . أشهد الله تعالى أنى قد وهبتها لك . أرجو أن تقبليها منى ولا تخجلينى بردها على ..
ــ أما عن الدار فإنى قبلتها منك . لكن ماذا أصنع بالجموع الغفيرة من الناس الذين يفدون على فى كل وقت ؟.
ــ سنجعل لك يومين فى الأسبوع تلتقين فيهما بالناس وليكونا يومى السبت والأربعاء والأيام الباقية تتفرغين فيهما لربك ………………
سأله الشافعى ...........
ــ وهل قبلت ؟.
ــ لم يسعها غير القبول ووافقت أخيرا على البقاء بيننا فى دارها الجديده وطاب لها المقام بيننا تنثر علومها على طالبيها حتى أننا لقبناها “ نفيسة المصريه “ ..
أخذهما الحديث ساعات قبل أن يفترقا للنوم وعلم من صاحبه أنه يشغل منصب صاحب المسائل . أخذ يشرح له طبيعة هذه الوظيفة لما سأله عنها .......
ــ إنها وظيفة لا تسند إلا للعلماء الأمناء المشهود لهم بالصدق . حيث يتولى القائم بها مهمة التحرى عن الشهود الذين يترددون على مجالس القضاء والتأكد من نزاهتهم وصدقهم ضمانا لسير العدالة ..
إبتسم الشافعى وهو يقول له ...........
ــ أتعلم أنى ابتدعت وظيفة كهذه وأنا قاض فى نجران ..
أخذ يشرح له ما فعله آنذاك وهو قاض فى نجران وجرهما الحديث إلى ذكر ما كان من أمره فى اليمن . إلى أن سيق مكبلا بالأغلال إلى بلاط الرشيد وما جرى له فى تلك المحاكمة وما أعقبها من أحداث ..
صبيحة اليوم التالى نادى الشافعى على أولاده محمد الذى بلغ الخامسة عشر من عمره وزينب التى أتمت عامها الثالث عشر وفاطمه أصغر بناته فى العاشرة من عمرها ..
ــ هيا تعالوا يا أولاد سلموا على خالكم ..
أخذ يقدمهم إليه قائلا وهم يسلمون عليه واحدا بعد الآخر ............
ــ هـذا ولـدى محمد “ أبو عثمان “ أكبر أبنائى حفظ القرآن ووعاه صغيرا وهو الآن مواظب على دروس أئمة الحرم للتفقه فى علوم القرآن والحديث ..
سأله بعد أن أجلسه إلى جواره .........
ــ ماذا تريد أن تعمل يا أبا عثمان بعد أن تكمل رحلة العلم ..
رد فى الحال ..........
ــ أحب أن أكون قاضيا أحكم بين الناس بشرع الله عز وجل ..
ضحك وهو يمسح على كتفيه فى أبوة ثم مد يده ليسلم على ابنتى الشافعى الذى أخذ يقدمهما له واحدة بعد الأخرى...........
ــ هاتان ابنتاى زينب وفاطمه أتمتا حفظ القرآن أيضا وأخذتا نصيبا من علومه وعلوم الحديث والعربية..


تم بحمد الله
الفصل الرابع

يتبع ....
الفصل الخامس والأخير ......
إن شاء الله............................

د أنس البن
30/09/2009, 08h50
الفصـــل

الخامــس

195 هجـريـه .. فـى مدرسـة العـراق

@ أمضى الشافعى حوالى تسعة أعوام بعد عودته من العراق أول مرة قابعا فى أحضان مكة والبيت الحرام لا يتحرك منها قبل أن يرجع سيرته الأولى متنقلا بين البلدان والأقطار طولا وعرضا . إما باحثا فى دروب العلم وسراديبه عن أسراره , أو منقبا فى باطنه عن كنوزه ودرره أو ناشرا لما تجمع لديه وصار فى حوزته من أفكار وآراء على طلاب علمه فى مكة والقاصدين إليه من بلدان الدنيا . أتاح له مقامه الطويل فى مكة بعيدا عن ضجيج العراق وصخبها وما تموج به من أراء وأفكار متابينة وفرق شتى , وما هيأته له من مناخ هادئ ملائم أن يتأمل فى روية وأناة ويستنبط القواعد التى أسس على متنها أصول مذهبـه الكبير ..
عكف على القرآن زمنا يدرس أحكامه وطرق دلالاتها , ليتعرف على ناسخها ومنسوخها وخصائصها , ناظرا فى جميع ما توافر عنده من سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليعرف مكانها من الشريعة وطرق الإستدلال بها ومقامها من القرآن الكريم . ثم كيف يستخرج الأحكام إذا لم يجد نصا فى قرآن أو سنة . وبدأ فى وضع الضوابط والحدود لمن أراد أن يجتهد فى حكم حتى لا يتعدى الثوابت النصية ويأمن من الشطط والزلل أو يقع فى المحذور ..
هذه القضية الأساسية وما تبعها من فروع وروافد جعلته يستقر طوال هذه السنوات وأن يطول به المقام فى مكان واحد تاركا إلى حين هوايته وشغفه بالتنقل والأسفار . حتى إذا انتهى إلى إرساء القواعد والأصول للإستنباط والإجتهاد واطمأن قلبه إلى ما جمعه فى حوزته , قرر أن يخرج بما عنده إلى الناس عامة وإلى جموع الفقهاء والدارسين خاصة ..
كان من المنطقى على رجل مثله أن يرنو بصره فى هذه المرحلة إلى بغداد قلعة العلوم ومعقل العلماء فى شتى فنون العلم وطرائقه . التى اجتمع فيها فقهاء أهل الرأى من أصحاب أبى حنيفه وفقهاء أهل الحديث من أصحاب مالك . قال لامرأته حميده ذات ليلة وهو جالس وحده يخط رسالة عزاء لأحد أصحابه .............
ــ يا حميده , أعدى لى حاجياتى وكتبى . إنى مسافر فى الغد إن شاء الله ..
ــ فاجأتنى والله يا أبا محمد . إلى أين يا ترى هذه المرة ؟.
ــ إلى بغداد ..
ردت فى دهشة ..........
ــ بغداد . لم ؟.
ــ أجل , بغداد قلعة العلوم وحاضرة الأمة الإسلامية ومهبط العلماء ..
إبتسمت قائلة ...............
ــ ياه منذ زمن طويل لم تغادر مكة حتى ظننت أنك لن تعود سيرتك الأولى راحلا متنقلا من بلد إلى بلد ..
ــ صدقت ياحميده , لكنى رأيت أنه من الضرورى بل من الواجب على أن أعجل بالذهاب إلى العراق هذه الأيام ..
نظرت إليه متسائلة فأردف قائلا ...........
ــ علمت من بعض الوافدين من أهل العراق إلى هنا لتلقى العلم أن كثيرا من علماء البصرة والكوفة ينكرون حجية الحديث ويتشددون تشددا مفرطا فى قبول الحديث . مع أنه من أهم وأوثق مصادر التشريع بعد كتاب الله عز وجل ويكفى لقبوله أن يكون متصلا صحيح الإسناد , ولم يعلم أولئك أن السنة أصل مبين ومفصل ومكمل ..
أردف قائلا وهو يشير إلى خزانة كتبه ........
ــ لهذا لا تنسى أن تضعى مع حاجياتى "الكتاب البغدادى" ..
ــ تعنى هذا الكتاب الضخم الذى صنفت فيه الرد على كل مسائلهم التى اطلعت عليها فى كتب أستاذهم محمد بن الحسن ؟.
ــ أجل يا حميده , فما أبعد شقة الخلاف بيننا نحن الحجازيون أصحاب الحديث وبين العراقيين القائلين بالرأى والإستحسان . إنهم يقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده , كما أنهم يتركون بعض الأحاديث بدعوى أنها غير مشهورة . فى المقابل يعملون بأحاديث أخرى لم تصح عند المحدثين بدعوى أنها مشهورة . لقد عكفت على قراءة كل ما كتبوه نقلا عن أئمتهم وعلى ما وصل إلى سمعى من كلامهم ودرسته دراسة متأنية ..
ــ كيف وجدتهم ؟.
ــ وجدتهم غرقوا فى الفروع والجزئيات , وأهملوا كثيرا من الأصول ..
ــ وعلى من ستنزل فى بغداد ؟.
ــ سأنزل على دار محمد بن أبى حسان الزيادى وأمضى أياما عنده ثم أتوجه بعد ذلك إلى تلميذى الحبيب ..
أشارت بيدها فقال ......
ــ أحمد بن حنبل ..
ــ لم تذهب أولا إلى دار الزيادى ؟.
ــ إنها دار عامرة بالعلم والكتب . أبوه رحمه الله كان قاضيا وعالما جليلا , وأعلم أنه يحتفظ فى داره بخزانة حسنة ضخمة للكتب ورثها عنه ولده محمد . ليتنى أستطيع أن أتزود منها بما ينفعنى وينفع الناس ..
سألته امرأته مستفسرة وهى تشير إلى رسالة العزاء التى انتهى لتوه من كتابتها فقال لها .............
ــ علمت اليوم أن ولدا لعبد الرحمن بن مهدى قضى نحبه , وعلمت أيضا أنه اشتد جزعه عليه حتى أنه عزف عن الطعام والشراب , فكتبت له هذه الرسالة أعزيه وأذكره . سأعطيها فى الغد لأحد المسافرين إلى العراق ليوصلها إليه , إلى أن أصل إلى هناك وأواسيه بنفسى ..
قرأ على وجهها تساؤلا وهو يلتفت إليها فبادرها من فوره ........
ــ تودين أن أقرأها عليك . أليس كذلك ؟.
ــ بلى ليتك تسمعنى ما كتبت , فإنك وربى لا تنطق إلا بالحكمة ومأثور القول ؟.
ــ قلت له ........
إنى معزيك لا أنى على ثقة .. من الخلود ولكن سنة الدين ..
فما المعزى بباق بعد صاحبه .. ولا المعزى وإن عاشا إلى حين ..
يا أخى عز نفسك بما تعزى به غيرك , واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك . واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر , فكيف إذا اجتمعا على اكتساب وزر ؟. فتناول حظك يا أخى إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك . ألهمك الله عند المصائب صبرا وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا ..


يتبع.. إن شاء الله............................



@ بعد أيام قلائل كان الشافعى يمتطى صهوة بغلته آخذا طريقه صوب العراق . قبل أن يفارق الدار قالت له امرأته وهى تمسح دمعة فرت على خدها ..
ــ ليت المقام لا يطول بك فى أرض العراق يا أبا محمد . ما أحوجنا جميعا إلى وجودك بيننا , لم يعد لنا طاقة بفراقك ؟.
رد قائلا وهو ينظر إليها نظرة حنان ومودة.........
ــ إطمئنى يا عثمانيه , عملت حساب هذا ..
ــ ماذا تعنى يا أبا محمد ؟.
ــ خالى على كما تعلمين يسافر كثيرا إلى العراق والشام لجلب البضاعة لدكانهم بعد أن توسعوا فى تجارة العطارة والأعشاب . مررت عليه فى داره بالأمس وأعلمته بسفرى إلى العراق وأكدت عليه أن يسأل عن مكانى فى بغداد عند أول قدمة له إليها ويأتينى فيه ..
ــ لم أفهم بعد ما الذى تقصده ؟.
ــ تعلمين أنه قد يطول بى المقام هناك , لهذا طلبت منه أن يأتى بكم جميعا . أنت والأولاد والجاريه فى قدمته الثانيه بعد أن يستقر بى الأمر وتكون لى دارا هناك ..

----------

@ رنا الشافعى إلى بغداد سنة "195" هجريه وبين ثنايا عباءته منهاج فى الفقه لم يسبقه إليه من قبل أحد, كان الشغل الشاغل لأهل زمانه ومن قبلهم فى أحكام الفروع والجزئيات . فجاءهم بقاعدة القواعد يضبط ويعرف بها الجزئيات والفروع . تطلع إليها حاملا معه فى جرابه كتبه التى كتبها فى مكة وفى مقدمتها الرسالة الأصولية والكتاب البغدادى . وقبل أن يدخل بغداد كان كتابه المسمى بالرسالة الذى وضعه فى مكة قد سبقه إلى أهلها بعد أن سلمه إلى تلميذه أحمد بن حنبل قبل سنة ليوصله إلى عالم العراق عبد الرحمن بن مهدى ..
وفى مجلس ضم رهطا من علماء بغداد وفقهائها وبينهم جلس شيخ المحدثين عبد الرحمن بن مهدى فى الجامع الغربى ,يقرأ عليهم رسالة الشافعى فى علم الأصول بعد أن عكف عليها وحده أياما طويلة ينهل من علمها الوفير مخاطبا نفسه كلما مضى فى قراءتها .......... عجبا والله لما أقرأ . كلام نفيس لم تقع عينى على مثله طيلة عمرى . أى رجل هذا . والله ما ظننت أنه يكون فى هذه الأمة اليوم مثل هذا الرجل , وما أظن أن الله خلق مثله فى أهل العلم .
جلس العلماء من أهل الحديث وأصحاب مدرسة الرأى وغيرهم من طلاب العلم وهم فى عجب مما يسمعون من صاحبهم . كلام جديد يطرق آذانهم لأول مرة لم يسبق لهم أن استمعوا إلى مثله من قبل . ومع الأيام تولد لديهم شوق إلى رؤية كاتبه والجلوس إليه وسماع هذه العلوم والمعارف منه . كانوا يتسائلون فيما بينهم ...... متى يجيئنا هذا الشيخ ناصر الحديث وواضع هذه الأصول ؟.
ما كادوا يعلمون بدخوله بغداد من باب الشام ووجوده بينهم حتى انثالوا عليه جماعات كأمواج البحر الهادر . أخذت حلق العلماء الآخرين تتناقص واحدة بعد أخرى حتى صارت ثلاث حلقات بعد أن كانت تعد بالعشرات فى شتى مساجد بغداد ..


يتبع.. إن شاء الله............................



@ دخل الشافعى العراق وهى تموج وتضطرب بالفرق وأصحاب المذاهب من المسلمين ومن غيرهم . المسلمون منهم شيعة وخوارج ومتكلمون ومعتزلة وقدريون ومرجئة ولكل فرقة منها فروع شتى تفرعت عنها . هذا بخلاف أهل السنة وهم جمهور الأمه إلا أنهم تفرقوا إلى مذاهب شتى . فور دخوله بغداد من باب الشام ذهب إلى دار محمد بن أبى حسان الزيادى كما أخبر امرأته ,ثم توجه إلى تلميذه الأثير إلى قلبه أحمد بن حنبل , ولما علم منه أن صديقه وزميله القاضى محمد بن الحسن قضى نحبه منذ ست سنوات ,طلب أن يزور قبره وقبر الإمام الأعظم أبى حنيفه فرد عليه قائلا ........
ــ سنذهب إذن إلى مقابر الخيزران ..
ــ الخيزران ؟.
ــ أجل .. إنه إسم المكان الذى أقيمت فيه مقبرته . بلغنا أن الإمام أوصى أن يدفن فى هذه الأرض قائلا إنها أرض طيبة غير مغصوبه ..
ــ رحم الله الإمام ورضى عنه . هيا بنا إلى هناك فإنى أتبرك به ..
ولدى عودتهما إلى الدار سأله ابن حنبل ..............
ــإذا أذنت لى يا شيخنا,أعرف أنك ترفع يديك فى الصلاة عند القيام من الركوع ..
ــ أجل ..
ــ واليوم رأيتك تفعل خلاف ذلك وأنت تصلى ركعتين عند أبى حنيفه , ما السبب يا ترى ؟.
ــ رأيت ألا أفعل أدبا مع الإمام رضى الله تعالى عنه وأن أظهر خلافه بحضرته ..

....................

@ أمضى الشافعى بضعة أيام فى دار أحمد بن حنبل يريح فيها جسده المكدود من عناء السفر قبل أن يخرج إلى الناس ليعلمهم . كانت فرصة أتاحت لكل واحد منهما أن يتعرف على صاحبه عن قرب , حتى أن الشافعى قال له ......
ــ يا أبا عبد الله أنت أعلم بالأخبار الصحاح منا , فإذا كان خبر صحيح فأعلمنى حتى أذهب إليه كوفيا كان أو بصريا أو شاميا ..
رآه ينظر إليه متعجبا فأردف قائلا وهو يشد على يديه ............
ــ لا تعجب يا أخى فأنت الثقة ..
وقبل أن يغادر الشافعى دار صاحبه لمح ابنته تميل على أذنه تهمس له بكلمات بينما عينيها تروح وتجئ عليه كأنها تتحدث عنه وعلى إثرها نظر ابن حنبل لأستاذه مبتسما فسأله بدوره ...........
ــ إيه يا أبا عبد الله ماذا تقول لك ابنتك ,أحسبها تسأل عن شئ ؟.
إبتسم صاحب الدار قائلا ..........
ــ فى الحقيقة ليس شيئا واحدا .. بل أشياء ؟.
ــ تكلم يا أبا عبد الله ..
ــ والله يا سيدى إنى فى حرج منك ولا أدرى ما أقول لك ..
ــ دع عنك الحرج وهات ما عندك يا رجل ..
ــ تقول لى هلا سألت الشيخ الآن عن المسائل التى حدثتك عنها ؟.
ــ أية مسائل تلك التى تسأل عنها ؟.
ــ الحكاية يا سيدى أن هذه البنت الفضولية جاءتنى بالأمس وسألتنى :
......……………
ــ من يكون هذا الشيخ يا أبت ؟.
ــ شيخى وأستاذى محمد بن إدريس الشافعى ..
ــ آه , الذى حدثتنا عنه غير مره . هذا هو إذن ؟.
ــ أجل يا ابنتى , لكن ... لكن لم تسألين ؟.
ــ لاحظت يا أبت أشياء على هذا الشيخ حيرتنى , ليتك تسأله عنها ..
ــ خيرا إن شاء الله ..
ــ لاحظت أنه عندما قدمنا له الطعام أكل كثيرا مع أنى سمعتك مرة تقول عنه أنه لم يشبع من قبل قط .
ــ إيه وماذا بعد أيتها الفضوليه ؟.
ــ عندما دخل غرفته للنوم لاحظت أنه لم يتحرك من مكانه ولم يقم أبدا ليصلى صلاة الليل ..
عاود سؤالها وقد بدا نافد الصبر .........
ــ هل بقى شئ ؟.
ــ شئ واحد . لما صلى بنا الفجر لم يطلب ماء للوضوء . أتراه صلى بغير وضوء يا أبت ؟.
ــ ما هذا الذى تقولينه يا ابنتى ؟. أتريدين منى أن أذهب إلى هذا العالم الجليل . إلى شيخى ومعلمى وقدوتى ... و ... وأسأله عن مثل هذه الأمور . كيف أجرؤ على ذلك يا ابنتى كيف أجرؤ ؟.
ــ إذن دعنى أسأله أنا ؟.
ــ لا لا . لا يجوز يا ابنتى . عفا الله عنك ... أحسنى الظن بالشيخ ..
ــ والله يا أبت ما قصدت إساءة الظن به, لكنها أمور لاحظتها وأردت أن أعرف تأويلها حتى لا يكون فى النفس شئ ………………
إبتسم الشافعى وهو ينظر إليها متعجبا من فطنتها ودقة ملاحظتها . ثم قال وهو يربت على كتفيها براحة يده رفقا ومودةوأبوه ............
ــ بارك الله فيك وأكثر من أمثالك يا ابنتى . أجل يا أبا عبد الله كل ما قالته حق ويحق لمثلها أن تسأل عنه . أما عن مسألة الطعام فإنى أكلت كثيرا على غير عادتى لأنى أعلم أن طعامك من حلال كما أنك كريم وطعام الكريم دواء كما أن طعام البخيل داء . فأنا ما أكلت لأشبع وإنما أكلت لأتداوى بطعامك يا أبا عبد الله . أما عن عدم قيامى الليل للتهجد فسبب ذلك أننى لما وضعت رأسى لأنام نظرت كأن أمامى الكتاب والسنه ففتح الله على باثنتين وسبعين مسألة من علوم الفقه , لهذا لم أتمكن من قيام الليل للتهجد ..
ــ كأنك لم تنم إذن ؟.
ــ أجل .. لم تنم عينى وظللت يقظان حتى جاء النداء للصلاه ..
ــ لهذا لم تجدد الوضوء وصليت بنا الفجر على وضوء العشاء ..
ــ أجل ..
ــ بارك الله فيك وزادك علما وتقى وصلاحا أيها الشيخ المبارك الصالح ..
ــ مهلا مهلا ... مالى أنا والصالحين يا ولدى . أنا أحب الصالحين لكنى لسـت منهم ..
ــ ماذا تقول يا شيخنا إنك ....
قاطعه الشافعى مرتجلا فى الحال ..........
أحب الصالحين ولست منهم .. لعلى أن أنال بهم شفاعه ..
وأكره من تجارتهم معاصى .. وإن كنا سويا فى البضاعه ..
رد ابن حنبل من فوره .........
بل ...... تحب الصالحين وأنت منهم .. ومنكم سوف يلقون الشفاعه ..
وتكره من تجارتهم معاصى .. وقانا الله من شر البضاعه ..


يتبع.. إن شاء الله............................




@ جلس الشافعى فى ساحة الدرس بالجامع الكبير فى بغداد ,أمامه جموع غفيرة من أهل العراق وخراسان يتقدمهم ثلة من علماء اختلفت مشاربهم وميولهم ودارسين تقاطروا عليه من جميع الأقطار . يعلمون أنهم فى حضرة رجل أعلم منهم بلغة الكتاب والسنة وأبصر بالمعانى ,وأقوى منهم جميعا جدلا وحجة . كذلك حكى لهم وعرفهم من رآه وهو يناظر ويحاور فى ساحة الحرم فى مكة ,ومع هذا فهو قمة فى تواضعه ودماثة خلقه ..
تعرف على بعضهم وصاروا من المقربين إلى قلبه وروحه , ومع توالى الليالى والأيام انصرفوا عن مذهب أهل الرأى الذى كان سائدا عندهم بعد أن وعوا أقوال الشافعى وآراءه وفكره . من أولئك الحسين بن على الكرابيسى وأبو ثور الكلبى وأبو عبد الرحمن البصرى , وأخيرا ذلك الفتى النبطى الذى كانت له حكاية مع الشافعى فى أول لقاء لهما ..
ذكره ذلك الفتى عندما وقعت عليه عينه فى المرة الأولى ,بنفسه وحاله وقت أن كان يختلف إلى إمام دار الهجرة قبل أكثر من عشرين عاما , والصدفة وحدها هى التى عرفته على هذا الشاب وعلى مواهبه ,بل جعلته من أصحابه المقربين لا يفارقه ,وظل ملازما له حتى آخر يوم له فى العراق . وحكايتهبدأت مع أول لقاء له بتلاميذه فى بغداد , لما طلب إليهم أن يختاروا من بينهم من يقرأ لهم . وانتظر أن يتطوع واحدا منهم دون جدوى , لم يجترئ واحدا منهم أن يتقدم , تهيبوا من القراءة فى حضرته , إلى أن تقدم من بينهم أخيرا فتى نحيلا دون الخامسة عشر من العمر يبدو من هيئته وسماته أنه من غير بلاد العرب , قال ......
ــ أنا أقرأ لهم أيها المعلم ..
ــ هل أنت أفصحهم لسانا يا فتى ؟.
ــ لا أقول ذلك يا سيدى ولا أدعيه . لكنى سمعت البعض يقول لى ذلك , وبالأمس طلب بعضهم أن أتولى أمر القراءه ..
نظر إليه الشافعى طويلا معجبا من فصاحة لسانه وعذوبة صوته ,قال له .....
ــ ما اسمك يا فتى ؟..
ــ أبو على الحسن الصباح ..
ــ من أى البلاد ؟.
ــ ما أنا بعربى يا سيدى المعلم , بل نبطى من قرية بالسواد يقال لها الزعفرانيه ..
ــ الأنباط يا بنى تمتد جذورهم إلى عرب جنوبي الجزيرة قبل أن يستوطنوا جنوب الشام . فهم فى أصولهم من العرب .. أليس كذلك ؟.
ــ بلى أيها المعلم ..
ــ إذن أنت من الآن سيد قرية الزعفرانيه . هيا اقرأ علينا يا زعفرانى من كتاب الرسالة وسننصت كلنا جميعا لك . ومن يعن له منكم أمرا أو يجد فى نفسه شيئا فليسأل عنه فى الحال , وسأجيب كل واحد على مسألته إن شاء الله ..
أمسك الفتى بالكتاب وبدأ يقرأ على الجالسين وهم منصتون إليه إلى أن قال .........
ــ ومن جماع علم كتاب الله ,العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب . والمعرفة بناسخه ومنسوخه والغرض فى تنزيله والأدب والإرشاد والإباحة . وما أراد بجميع فرائضه ومن أراد ,كل خلقه أم بعضهم دون بعض ..
سأل أحد الجالسين .........
ــ سمعنا من يقول من علماء بغداد والكوفة أن فى القرآن عربى وأعجمى ,وفيه مما ينطق به غير العرب . وأنت تقول لنا إن جميع ما فى كتاب الله إنما نزل بلسان العرب فليتك تزيدنا بيانا ؟.
ــ إن جهل بعض العرب ببعض ما فى القرآن ليس دليلا على عجمة هذا البعض بل هو دليل على على جهل هؤلاء ببعض لغتهم . ليس لأحد أن يدعى الإحاطة بكل ألفاظ اللسان العربى لأنه أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا . ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبى الله "صلى الله عليه وسلم" مثل العلم بالسنه لا يحيط بها واحد علما مع ثبوتها للمجموع , والواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا . وقد تكلم فى العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب إلى السلامة له إن شاء الله ..
ــ وما قولك إذن فى بعض الكلمات القليلة التى أشكلت على القوم ؟.
ــ من الممكن أن يكون بعض الأعاجم تعلم شيئا من ألفاظ اللغة العربية وسرت إلى لغاتهم فتوافقت بعض كلمات القرآن القليلة مع تلك الألفاظ . كما يجوز أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب ..
ــ فما الحجة فى أن كتاب الله محض بلسان العرب ولا يخلطه فيه غيره ؟.
ــ الحجة فيه منه أى من كتاب الله . قال الله عز وجل "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" ..
ــ الرسل قبل محمد "صلى الله عليه وسلم" كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة , أما محمد "صلى الله عليه وسلم" فإنه بعث إلى الناس كافة فيحتمل أن يكون بعث بألسنتهم جميعا . فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم ؟.
ــ الدلالة على ذلك بينة فى كتاب الله فى غير موضع . قال الله عـز وجـل "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين" وقال "وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها" وقال "قرآنا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون" . فأقام حجته بأن كتابه عربى ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كل لسان غير لسان العرب فى آيتين من كتابه فقـال تعالـى "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهذا لسان عربى مبين" وقال "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمى وعربى" ..
ــ ولماذا نبهت على هذا الأمر فى أول كتابك ؟.
ــ لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها . ومن علمه انتفت عنه الشبه التى دخلت على من جهل لسانها . فتنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين , والنصيحة لهم فرض لا ينبغى تركه ..
ــ وماذا على المسلمين الأعاجم ؟.
ــ على كل واحد منهم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده . حتى ينطق به الشهادتين ويتلو به كتاب الله ويتعلق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك . فكلما ازداد علما باللسان الذى جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له , كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتى البيت ويتوجه لما وجه له ..

يتبع.. إن شاء الله............................




@ فى تلك الأثناء ولم يكن قد مضى عليه فى العراق كثير جاءه خاله على كما وعده قبل سفره فى داره الرحيبة التى اتخذها سكنا له فى بغداد على مقربة من دار تلميذه وصاحبه أحمد بن حنبل . تعرف على مكانه وأمضى معه أياما قليلة رجع بعدها إلى مكه على وعد منه أن يحضر إليه فى القريب وبرفقته عائلة الشافعى ليقيموا جميعا معه فى العراق ..

مكث غير بعيد ثم أتاه مرة ثانية يدق عليه الباب ومعه عائلته كلها إمرأته وأولاده وجاريته ليعيشوا معه وفى كنفه فى العراق حولين كاملين . لم يهدأ فيهما لحظة واحدة إنما عمل دؤوب وحركة دائمة هنا وهناك يسعى من خلالها لتقريب شقة الخلاف بين العراقيين وأهل الحجاز ويكون بحق رائد الوسطية فى علوم الفقه والتشريع على مر العصور . إشتهرت جلالة الشافعى فى العراق وعم ذكره الآفاق واعترف بفضله خصومه قبل مؤيديه وانضم إلى ركبه العديد من أئمة أهل الفقه بل ورجع كثير منهم عما كانوا يعتقدونه ..

فى المقابل كان بعض السخفاء من أصحاب البدع يحضرون مجالسه لا غرض لهم ولا أرب إلا السخرية منه والاستهزاء به . وآخرون يسألونه أسئلة تافهة مضحكة لا وزن لها . يرد فى تواضع على بعضها ويكتفى بالسكوت والإبتسام على البعض الآخر . من ذلك أن واحدا سأله ذات مره ............

ــ ما تقول أيها المطلبى .. فى رجل دخل منزل آخر فرأى بطة ففقأ عينها , ماذا يجب عليه ؟.

إبتسم الشافعى قائلا .........

ــ عليه أن ينظر إلى قيمتها وهى صحيحة وقيمتها وقد ذهبت عينها ثم يقوم ما بين القيمتين ..

وآخر يسأله نوعا من تلك الأسئلة التى شغفوا بها ............

ــ ما قولك أيها الشيخ فى واحد حلف قائلا ......... إن كان فى كمى دراهم أكثر من ثلاثة فعبدى حر . ثم ظهر أن فى كمه أربعة دراهم ؟.

ــ ما تقول أنت ؟.

ــ أقول يعتق عبده ..

ــ وأنا أقول لك لا يعتقه ..

ــ لم ؟.

ــ لأنه استثنى من جملة ما فى كمه دراهم والزائد على الثلاثة عنده درهم واحد وليس دراهم , أفهمت أيها الكوفى ؟.

ــ آمنت بالذى فوهك هذا العلم ………………

كان القوم يستمعون إلى ردوده فيدهشهم ما يرونه من حلمه وسعة صدره . لا يسعهم وهم خارجون من عنده إلا أن يقولوا لبعضهم .... هذا رجل معه نصف عقل الدنيا إنه أفقه من رأينا من أهل الأرض ..

وآخرون يقولون عنه فى مجالسهم ومنتدياتهم ..........

ــ هذا المطلبى لا يأخذ فى شئ إلا تحسبها صناعته ..

يرد عليه الآخر ...........

ــ إذا أخذ فى الشعر والعربية تقول هذه صناعته ..

ويعقب ثالث .......

ــ وإذا أخذ فى أيام العرب تقول هذه صناعته ..

ويقول رابع ............

ــ والله ما كنا ندرى ما الكتاب ولا السنة نحن ولا الأولون حتى سمعنا من الشافعى الكتاب والسنة والإجماع ..

فى المقابل لم يسلم الشافعى من بعض المضايقات والصغائر من أولئك النفر المتعصبين لمذهب شيخ العراق أبى حنيفة النعمان . دفعهم التعصب الأعمى لشيخهم إلى ملاحقته بنوع من الأسئله تصوروا أنهم يحرجوه بها أو ينقصوا من قدره . لم يكن غرضهم فى حقيقة الأمر هو التعلم أو البحث عن الحقيقه . سأله أحد الكوفيون ذات مره .......

ــ أخبرنى عن القرآن أخالق هو ؟.

ــ اللهم لا ..

ــ فمخلوق ؟.

ــ اللهم لا ..

ــ فغير مخلوق ؟.

ــ اللهم نعم ..

ــ فما الدليل على أنه غير مخلوق ؟.

أطرق برهة ثم رفع رأسه قائلا ..........

ــ تقر أيها الرجل بأن القرآن كلام الله ؟.

ــ أجل كلام الله لقوله تعالى لرسوله "صلى الله عليه وسلم" .... " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ..

ــ وتقر بأن الله كان وكان كلامه أو كان الله ولم يكن كلامه ؟.

ــ بل كان الله وكان كلامه ..

إبتسم الشافعى قائلا ..........

ــ يا كوفيون إنكم لتأتونى بعظيم من القول . إذا كنتم تقرون بأن الله كان قبل القبل وكان كلامه فمن أين لكم الكلام . هل الكلام الله أو سوى الله أو غير الله أو دون الله ؟.

سكت الرجل ,لم يجد ما يرد به , قال الشافعى موجها كلامه للحاضرين .........

ــ القرآن كلام الله تعالى , وهو غير مخلوق , ومن قال بأنه مخلوق فقد كفر بالله العظيم ………………



يتبع.. إن شاء الله............................




@ عظمت رتبته وعلت عند أمير المؤمنين محمد الأمين وأفراد حاشيته . أرسل إليه مرات وهو فى العراق يدعوه إلى زيارته فى قصره ليسمع منه علومه وما دونه منها فى كتبه . سأله مرة عن رأيه فى فرقة من الناس يسمون القدريه من أتباع رجل إسمه معبد الجهنى فقال له .........

ــ تسأل يا أمير المؤمنين عن أولئك الذين يقولون أن الإنسان حر الإرادة يصنع أفعاله ويقدرها بعلمه وإرادته وينفذها بقدرته ؟.

ــ نعم هؤلاء أعنى ..

ــ لا أقول فيهم إلا ما قاله رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : "هم مجوس هذه الأمه" وهم الذين يقولون : إن الله لا يعلم المعاصى حتى تكون ..

ــ وما تقول أنت فى القدر ؟.

رد مرتجلا فى حينه :

ما شئـت كان وإن لم أشأ .. وما شئـت إن لـم تشأ لم يكن ..

خلقت العباد على ما علمت .. ففى العلم يمضى الفتى والمسن ..

على ذا مننت وهذا خذلت .. وهـذا أعنـت وذا لـم تعـن ..

فمنهم شقـى ومنـهم سعيد .. ومنـهم قبيـح ومنـهم حسن ..

وكان الخليفة الأمين يسأله عن أمور كثيرة ويعجب من ردوده التى لم يسمع بمثلها من قبل حتى فى المسائل التى لا تتعلق بعلوم القرآن والحديث . من ذلك أنه فاجأه مرة وهو جالس أمامه وحاشيته من حوله ..............

ــ يا محمد لأى علة خلق الله الذباب ؟.

بدا السؤال غريبا على أسماع الحاضرين إلا أن الشافعى رد قائلا وهو ينظر إليه بعد أن أطرق برهة ............

ــ خلقه مذلة للملوك يا أمير المؤمنين ..

ضحك الأمين وهو يقول ............

ــ رأيت الذبابة يا محمد وهى تسقط على خـدى ؟.

ــ أجل ولقد سألتنى وما عندى جواب فأخذنى من ذلك الزمع . فلما رأيت الذبابة سقطت بموضع لا يناله أحد إنفتح فيه الجواب كـما سمعـت ..

ــ لله درك يا محمد ما أفطنك .

وقبل أن يأذن له فى الإنصراف من مجلسه سأله وهو يسلم عليه ............

ــ سؤال أخير يا ابن إدريس ؟.

ــ على الرحب والسعة يا أمير المؤمنين ..

ــ ماذا تقول فى السماع ؟.

ــ من لم يطرب فى السماع يا أمير المؤمنين فما له حس ..

ــ إذن فأنت تبيح السماع ؟.

ــ يا أمير المؤمنين ما أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه فى الأوصاف . أما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار ونشيد الأعراب فمباح كله ..

ــ هل من دليل من السنه ؟.

ــ أخبرنا سفيان عن إبراهيم عن ميسره عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال : أردفنى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقال هل معك من شعر أمية بن أبى الصلت شئ ؟. قلت نعم قال : هيه . قال فأنشدته بيتا . قال هيه فأنشدته حتى بلغت مائة بيت. وسمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الحداء والرجز وأمر ابن رواحه فى سفره فقال : "حرك بالقوم" فاندفع برجزه ..



يتبع.. إن شاء الله............................



الأحباب الكرام .......
عود على بدء .......
توكلنا على الله .......

@ إستمر زهاء سنتين ينشر علومه وآراءه فى أرجاء العراق مفسحا صدره لكل صاحب رأى مخالف مهما أظهر من لدد أو لجاج فى مناظرات ومحاورات حامية صاخبه كان فيها هو الفارس المنتصر ,بما يملكه من قواعد كلية مؤصلة الأصول ليست فروعا جزئية كتلك التى عاشوا عليها فى بلادهم وتشربوا بها . تلك الحصيلة الهائلة من الآراء المستقلة فى قضايا الفقه وما عاينه بنفسه من توجهات العراقيين ونهجهم فى الفتوى والتشريع ,بهما دون الشافعى فى بغداد كتابا ضخما سماه "الحجه" . وكذلك "كتاب السير وكشف الظنون" و "كتاب المناسك" و "كتاب الصلاه" و "كتاب الجزيه" و "كتاب السنن وقتال أهل البغى" و "كتاب القضايا" وغيرها كثير . ومع ذلك العطاء والفيض كله كان الشافعى يقول فى تواضع العلماء العاملين لمن يعجب من كثرة ما كتب وصنف .............
ــ ما أبالى يا قوم , لو أن الناس كتبوا كتبى هذه ونظروا فيها وتفقهوا ثم لم ينسبوها إلى أبدا ………………

@ وإلى الكوفة معقل الخلاف وموطن اللجاج وتباين الآراء ذهب الشافعى وجلس وسط علمائها وطلاب العلم فيها وهو يعيد عليهم بيان منهجه استجابة لرغبة أهلها لما قالوا له ........
ــ بين لنا يا شيخ ,القاعدة الأصولية فى التشريع كما وضعتها ؟.
ــ سأوجز عليكم بيانها وعليكم أن ترجعوا لما كتبت . إعلموا أن الأصل قرآن وسنه فإن لم يكن فقياس عليهما . وإذا اتصل الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وصح الإسناد منه فهو سنه . والإجماع أكبر من الخبر المفرد والحديث على ظاهره وإذا احتمل معانى فما أشبه منها ظاهره أولاها به . وإذا تكافأت الأحاديث فأصحها إسنادا أولاها . وليس المنقطع منها بشئ ما عدا منقطع ابن المسيب . ولا يقاس أصل على أصل ولا يقال للأصل "لم" و "كيف" وإنما يقال للفرع "لم" . فإذا صح قياسه على الأصل صح ,وقامت به الحجه ..
ــ كيف تزعم ذلك ,وقد بلغنا أنك تأخذ بالحديث على إطلاقه ؟.
ــ أفك المبلغ وافترى وإنما خذوا عنى ما أقوله أمامكم . إذا ثبت الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإنه لا يعدله شئ من رأى أو قياس أو أثر مروى عن صحابى أو تابعى . أيضا إذا حدث ثقة عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ولم يكن هناك حديث يخالفه عمل به ..
ــ وكيف تعمل إذا تخالفت الأحاديث ؟.
ــ أنظر لأرى هل فيها ناسخ ومنسوخ كأن يتأخر أحدها فى الزمن ويثبت بدليل ما أن الأخير ينسخ الأول فأعمل بالأخير . فإن لم يتأكد وقوع النسخ ننظر فى أوثق الروايات فإن تكافأت المرويات عرضت على الكتاب وعموم السنة الثابتة وعمل بما كان منها أقرب إلى ذلك من غيره ..
ــ فما تقول فى الإستحسان . سمعنا أنك لا تقول به وتبطل عمله أليس هو نوع من القياس ؟.
ــ الإستحسان بخلاف القياس ولا يجوز لأحد أن يقول بالإستحسان لأنه من استحسن فقد شرع . الإستحسان لا يخرج عن كونه رأى تجرد من الإستناد إلى أصل شرعى ولا ينتسب إلا إلى صاحبه مهما تحكمت فيه روح الشريعه . بهذا فهو لا يمت للتشريع الإسلامى بأية صلة ولو جاز تعدى القياس وتعطيله إلى الإستحسان . جاز لأهل العقول من غير أهل العلم أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الإستحسان ..
ــ وما تقول فى خبر الخاصة ,هل يحتج به ؟.
ــ لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا .... منها أن يكون من حدث به ثقة فى دينه معروفا بالصدق فى حديثه عاقلا لما يحدث به عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ . وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمعه ولا يحدث به على المعنى لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى حرام ………………

@ وفى مساجد البصرة أيضا جلس إلى أهلها يحاورهم ويحاورونه كدأبهم ......
ــ يرحمك الله أيها الشيخ ,سمعناك تقول أن فى كتاب الله خبرا عاما يراد به الخاص وخبرا خاصا يراد به العام , تلك أول مرة يقرع آذاننا مثل هذا الكلام عن العام والخاص, ليتك تبينه لنا ؟.
ــ سأضرب لكم مثالا مما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخصوص قوله تعالى " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له . إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له . وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " . فى هذه الآيه يوجه الخطاب بلفظ الناس وهى لفظة تستغرق الجنس وتحمل دلالة العموم المطلق . إلا أن الخصوص واقع على تلك الفئة التى تدعو من دون الله إلها آخر . واستثنى من ذلك من لم يفعل والمرفوع عنه التكليف لعدم المشاركة فى الإثم ..
ــ هل لك أن تزيدنا بيانا بمثال آخر ؟.
ــ هذا كثير فى القرآن لمن نظر فى كتاب الله إقرأ مثلا قوله تعالى فى سورة البقره "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" . يحمل لفظ الناس فى هذه الآيه على العموم فى منطوقه بينما تتضمن الآية مفهوم الخصوص . وهو الحاصل من أن من أفاضوا فى عرفه لم يكونوا كل الناس فى زمان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . كما أخبر رب العزة عن نار جهنم فقال "وقودها الناس والحجاره" فدل كتاب الله تعالى على أنه إنما أراد وقودها بعض الناس . لقول الله جل ثناؤه "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" ..
ــ عرفتنا الخبر العام فى الكتاب يراد به الخاص .. فماذا عن الخبر الخاص يراد به العام ؟.
ــ أيضا هذا كثير فى القرآن مثال ذلك قوله تعالى فى سورة الطلاق "يا أيها النبى إذا طلقتم النساء" . فهو خطاب خاص لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" يراد به عموم الأمه ..

يتبع .. إن شاء الله............................

د أنس البن
16/01/2010, 15h28
كلمة شكر أجد أنه لزاما على توجيهها
لواحد من حراس لغتنا الجميله
شيخنا الجليل امحمد شعبان
على غيرته ومبادرته باجراء التصويبات الإملائية
فى صمت نبيل
وأناشده أن يستمر
....................

د أنس البن
16/01/2010, 15h28
198 هجـريـه .. إلـى أرض الكنانـه


@ أمضى عامين كاملين لم يهدأ خلالهما يوما واحدا وهو يجوب أنحاء العراق شمالا وجنوبا نشرا لمذهبه فى كل مدارسها ,وتعريفا لعلومه وفكره . قرر بعدها أن ينهى إقامته فى العراق ويحزم أمتعته عائدا إلى مكة مـرة أخرى ,لما لاحظ فى الأيام الأخيرة أن العلة التى تعانى منها امرأته حميده أخذت تستشرى فى جسدها بلا هوادة وتستحكم فى أعضائها يوما عن يوم . زادتها وهنا على وهن بينما هى صامدة صابرة لا تظهر شكواها لأحد ولا تبثها إلا إلى ربها فى صلواتها وهى قائمة فى خشوع بين يديه . كان يدرك بما لديه من خبرة فى أمور مداواة الأبدان ,حجم معاناتها وما تتحمله وحدها فى صمت من آلام وعذاب ..
حينئذ قرر الشافعى العودة للبلاد حتى إذا أدرك الموت امرأته لقيها وهى فى أحضان مكة بين الأهل والأحباب . وفى ليلة السفر ودع تلاميذه وأصحابه العراقيين . لم يمكنوه من مفارقتهم إلا على وعد منه أن يعود إليهم مرة أخرى فى القريب , وكان قد أسر لبعض المقربين منه عن سبب رحيله المفاجئ . لم تمض أيام حتى كانت مكة تفتح له ذراعيها مرة أخرى ,غير أنه بدا هذه المرة حزينا على غير عادته وهو يعلم أن امرأته التى شاركته رحلة الحياة بحلوها ومرها باتت أيامها معدودة فى هذه الدنيا الفانيه ..
صح ما توقعه وحسب حسابه من قبل أن هذا المرض الذى ابتليت به وهى فى ريعان الشباب ومقتبل العمر لن يمهلها طويلا . لم يكد يستقر بهم المقام فى مكة أياما قليلة حتى صحا ذات ليلة على صوتها وهى تناديه بصوت واه كأنه قادم من عالم آخر . لم تكن تبغى إلا وداعه قبل أن تفارق الدنيا . مرت لحظات قليلة قبل أن تنطق بضع كلمات تدمى الفؤاد ,بينما أنفاسها المتلاحقة تضطرب شهيقا وزفيرا . أوصته على أولادهما وشددت فى الرجاء له أن يتزوج جاريته دنانير ,ثم أسلمت الروح وهى مسجاة على فراشها كالملاك الطاهر البريء. استراح الجسد وهدأت آلامه بعد أن خاصمتها العافية بضع سنوات وصعدت روحها الطيبة إلى بارئها ورجعت نفسها المطمئنة إلى ربها راضية مرضيه ..
@ مرت بضعة أشهر على وفاتها ,سافر بعدها الشافعي إلى العراق مرة ثانية كما وعد أصحابه ليكمل ما بدأه . لم يمكث فيها هذه المرة إلا نصف العام ثم رجع إلى مكة مرة ثالثة بعد أن اطمأنت نفسه وشعر أنه أدى واجبه فى بغداد كما كان يتمنى ويرجو حيث أرسى فيها قواعد راسخة ثابته لأصول الأحكام واستنباط قواعد الشرع ..
وفى تلك الأثناء نفذ وصية امرأته الراحله وتزوج جاريته دنانير التى أمضت من عمرها سنوات طويلة تخدمه فى تفان وإخلاص . لم يجد خيرا منها بعد العثمانية زوجا له تشاركه ما بقي من سنوات عمره . كانت حقا كما قالت عنها امرأته الراحله أحرص الناس على راحته والقيام على مصالحه وأنها تعرف طباعه وميوله وما يوافق هواه وما لا يوافقه . أثبتت الأيام ذلك حتى أنها كانت إذا نظرت إليه أو شرع إليها بوجهه تعرف ما يريده منها دون أن يترجم ذلك إلى كلمات على لسانه ..
وفى يوم نادى عليها بعد أن بلغ الليل منتصفه أو كاد وهى راقدة فى فراشها على غير إرادتها إذعانا لأمره . كانت تفضل أن تبقى ساهرة إلى جواره ربما احتاج منها إلى شيء أثناء سهره وهو يلح عليها كى تريح جسدا أضناه طول السهاد وهى قائمة على خدمته . نادى عليها وطلب منها أن تجلس إلى جواره . سألته ...........
ــما بك يا أبا عبد الله ؟.
ــ لا شئ يا دنانير أود أن أتحدث معك قليلا . أين الأولاد ؟.
ــ كلهم نائمون ,هل أوقظهم ؟.
ــ لا . لا دعيهم فإنهم متعبون من عمل الأمس كما أنى أود أن أتحدث معك الآن على انفراد . سأخبرهم فيما بعد على ما عزمت عليه ..
ــ طوع أمرك ..
ــ دنانير ,لقد طوفت سنوات كثيرة فى عديد من بـلاد الإسلام . والحمد لله أن أعاننى على نشر كثير مما أنعم به على من علوم ورد شبه المبطلين وتصحيح الكثير من المعتقدات الخاطئة فى أحكام الشريعه . وبيان ما أبهم من أمور الدين ومواطن الزلل التى وقع فيها البعض ..
ــ أجل كل هذا صحيح . لكن ماذا تود أن تقول ؟.
ــ أردت أن أخبرك أنه آن للراحل أخيرا أن يحط عصاه ..
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله . أخيرا قررت ألا تغادر مكة بعد اليوم وأن تستقر فيها بعد طول ترحال ؟.
ــ لا يا دنانير ما قصدت هذا وإنما عنيت أمرا آخر . لقد شاءت الأقدار أن يكون مقامنا الأخير ومستقرنا فى غير هذا البلد ..
أجفلت قائلة وقد ظهر الدهش فى عينيها وعلى قسمات وجهها الأسمر الداكن :
ــ ماذا تعنى يا أبا عبد الله . هل سنرحل من مكة إلى الأبد ؟. إلى أيـن ؟.
ــ خارج جزيرة العرب ,إلى بلد اشتقت إليه كثيرا . منذ سنوات وأنا أتطلع إلى الرحيل إليه . بذا جرت المقادير يا ابنة صالح ..
زادت دهشتها فأكمل قائلا ............
ــ لا تعجبى يا دنانير فهذا أمر أشعر أنى أساق له سوقا . كأنما الأحداث الحاضرة وما تموج به البلاد من قلاقل وفتن تدفعنى إليه دفعا لتتحقق الرؤيا التى رأتها أمى قبل ثمانية وأربعين عاما . لقد ألمحت لى عليها مرات فى السنوات الماضيه لكنها وهى على فراش الموت حدثتنى بما لم تحدثنى به من قبل . سمعت منها ما لم أسمع بمثله منها يرحمها الله قالت : ………………
ــ هل تذكر يا ولدى , ما سبق أن قلته لك عن خبر تلك الرؤيا التى أريتها وأنا فى بلاد الشام ؟.
ــ أجل يا أم الشافعى حدثتنى منذ زمن عن كوكب شاهدته عيناك فى المنام وهو يخرج من النافذه . وبضع شظايا تخرج منه لتنزل فى العراق والشام واليمن ومكة والمدينه . ثم وهو يدور فى السماء إلى أن حط فى مصر ..
ــ إسمع يا ولدى تلك الرؤيا التى رأيتها ذات يوم وعبرها لى أبوك إدريس أراها مع الأيام وهى تتحقق أمام عينى . صورة واقعة حقيقية كما قال لى وأكد يومها على كلامه .. يرحم الله أباك يا ولدى ..
ــ ماذا تعنين يا أماه ؟.
ــ قال لى أبوك يا ولدى أن هذا الكوكب الذى رأيته ,هو .... هو .. أنت ؟.
ــ أنا يا أماه ؟.
قالها فى دهشة فأجابت ..........
ــ أجل يا ولدى , قال لى وأنت لا تزال جنينا فى أحشائى أنك أنت هذا الكوكب وأنك عالم قريش الذى يملأ الأرض علما . وقبل أن يفارق الدنيا أوصانى بك ,وأكد على أنك ستكون عالم قريش الذى أخبر عن مجيئه رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . والحمد لله الذى أحيانى إلى هذا اليوم حتى شهدت رؤياى وهى تتحقق يوما بعد يوم أمام عينى وأراك وأنت ترحل من بلد إلى بلد تسمع الناس علوما ما سمعوا بها من قبل ولا طرقت آذانهم . لكن يا ولدى بقى ختام الرؤيا وأشعر أنى سألقى ربى قبل أن أراه يتحقق أمام عينى ..
ــ الرحيل إلى مصر ..... أليس كذلك يا أماه ؟.
ــ أجل يا ولدى إنها كنانة الله فى أرضه والبلد التى سوف تخلد علومك كما خلدت من قبل تراث أبناءها منذ آلاف السنين . ومنها ستنتشر إلى شتى بقاع الأرض على مر الزمان ..
ــ صدقت والله يا أماه . إنى أجد فى قلبى من الحنين إليها والشوق إلى ترابها وأهلها ما لم أكن أدري له سببا ولا تأويلا من قبل . إلى أن علمت منك اليوم حقيقة ذلك الشوق وسبب هذا الحنين الذى يجذبنى إلى ترابها جذبا ………………
سألته دنانير ..........
ــ لهذا إذن قررت الرحيل إلى مصر ؟.
ــ أجل يا دنانير لقد سبقنى إلى هناك منذ عشرة أيام تلميذى أبو بكر الحميدى . يحمل معه رسالة منى إلى صديقى المصرى عبد الله بن عبد الحكم . أعرفه فيها بقدومنا إلى مصر حتى يكون فى استقبالنا ..
ــ ومتى الرحيل يا إمام ؟.
ــ بضعة أيام ونشد الرحال جميعا إلى هناك فى صحبة والى مصر العباس بن موسى الذى جاء إلى مكة منذ أيام ليصطحبنا معه . سننزل فى البداية إن شاء الله على أخوالى الأزد فى الفسطاط نقضى معهم وفى ضيافتهم أياما قليلة قبل أن يستقر بنا المقام فى دارنا ..
ــ أى دار تلك . ألنا دار فى مصر ؟.
ــ أجل سيكون لنا بإذن الله تعالى دار واسعة بالفسطاط وعد أن يعدها لنا صديقى المصرى عبد الله بن عبد الحكم بالقرب من دور بنى عبد الحكم فى خطة أهل الرايه ..


@ أبت نفس الأب الطيب الذى تربى منذ نعومة أظفاره على فيض متجدد دائم من الحنان والمودة من أمه الراحله ,إلا أن يطلع أبناءه على ما نواه ,لم يشأ أن يباغتهم بقراره الذى اتخذه ,وهو يعلم يقينا أنه عسير على أمثالهم أن يفارقوا إلى الأبد بلدا تربوا فى أحضانه وعاشوا فى ربوعه ووديانه أيام طفولتهم وصباهم ,ولهم فى كل لمحة فيه ذكريات وأحلام ,ويرحلون إلى بلاد يسمعون بها ولا يعرفون فيها أحدا ولا يعلمون عنها شيئا ..

فى اليوم التالى جمع الشافعى أبناءه محمد وزينب وفاطمه ,أجلسهم أمامه وأخبرهم بما نواه وقرره كى يعدوا أنفسهم ويتهيأون لهذه الرحلة الطويلة الشاقة . أخذ يشرح لهم الأسباب التي دفعته إلى اتخاذ قراره ,كانت تدور حول رغبته فى نشر علومه وآرائه على الكافة ,وأن يكون تلاميذه المصريون هم حملة علومه وحفاظها ,ينقلونها للناس جيلا بعد جيل على مر الزمان ..

سأله محمد ..........

ــ كم سنمكث فى مصر يا أبت قبل أن نرجع إلى بلدنا وأهلنا ؟.

سكت الشافعى قليلا ثم قال ...............

ــ إعلم يا محمد أنه لا ينبل قرشى بمكة ولا يظهر أمره حتى يخرج منها ويهاجر إلى بلد آخر ..

عاد يسأل غير مصدق ............

ــ تعنى يا أبت أننا لن نرجع إلى مكة مرة أخرى ؟.

فوجئ ومعه شقيقتاه وهو يقول لهم ...............

ــ أجل لن نغادر مصر يا أبا عثمان إلى أى مكان آخر . إنها مقرنا الأخير ومحط رحالنا ومستودعنا إلى أن ألقى وجه ربى ..

رد متلعثما وقد أصابته المفاجأة بالدهشة والوجوم ..........

ــ يا أبت لو كان الأمر غربة لفترة محدودة ونرجع إلى بلدنا كما عودتنا من قبل لهان الأمر . أما أن نغادر بلادنا التى تعودنا العيش فى كنفها وفيها أهلنا وأصحابنا وإخواننا ونهاجر إلى بلد لا نعرف فيه أحدا ولا يعرفنا أحد , نبدأ فيه حياتنا من جديد ,فهذا أمر لا نستطيع تصوره ..

ــ على رسلك يا أبا عثمان ,يبدو أنك لا تعرف شيئا عن مصر أو المصريين ,ليس أحد أعرف بهم منى ولسوف ترى بنفسك . إن هى إلا أيام معدودات فى مصر وستعرف كل الناس ويعرفك أيضا كل الناس . ستشعر وأنت بينهم أنك بين أهلك لم تفارقهم . إنهم يا ولدى شعب ودود طيب ينسيك المقام معهم أنك فى دار غربة ..

@ فى تلك السنة و الشافعى يتخذ عدته للرحيل إلى مصر ,آل أمر خلافة المسلمين إلى عبد الله المأمون عقيب مقتل شقيقه الأمين ,معارك ضارية دارت بين الأخوين وأنصارهما فى قلب بغداد . وصلت إلى ذروتها فى وقت كان الشافعى يحزم فيه أمتعته استعدادا للعودة إلى مكه . لكن تتابع الأحداث كان أسرع منه وتولى المأمون زمام الأمور والشافعى لا يزال قابعا هو ومن معه فى قلب بغداد لا يستطيع الخروج منها وهى محاصرة بجيوش المأمون وأنصاره من الفرس قيادة الفضل بن سهل ,فى الوقت الذى كان صاحبه الفضل بن الربيع وزير الأمين وساعده الأيمن يقف على رأس المدافعين عنه ضد المأمون ..

كانت الخلافات قد بدأت عقب تولى الأمين خلافة المسلمين وإعلانه خلع أخيه المأمون من ولاية العهد ومبايعة ولده موسى وليا للعهد وخليفة للمسلمين من بعده كى تظل الخلافة فى عقبه . هذا الخلاف بين الأخوين ألقى بظلاله على أحوال البلاد عامة فسادتها حالة من الفوضى وعدم الإستقرار ,ولم تعد الأمور إلى ما كانت عليه قبل موت الرشيد إلا بعد تولى الخليفة المأمون زمام الأمور ..
نال مصر نصيب من الفرقة والإنقسام بين الأخوين وتحزب أهلها إلى فريقين ,فريق مع هذا وآخر مع ذاك . غير أن الفريق الموالى للمأمون كان أكثر عددا وأقوى حتى أنهم أعلنوا عصيانهم وتمردهم . وصل بهم الأمر إلى إعلانهم خلع الأمين من الخلافة وإعلان المأمون أميرا للمؤمنين . قام المصريون بالثورة على واليه فى البلاد جابر بن الأشعث وطرده وتولية واحد من الموالين للمأمون يدعى عباد بن محمد . لم يكن قد مر إلا حوالى العام على تولى الأمين زمام أمور الخلافه ..
ولما استتب الأمر للمأمون وتفرق الجمعان قفل راجعا إلى بغداد من مقره الذى اتخذه مؤقتا لإدارة أمور الخلافة من مرو فى خراسان وسط أتباعه وأنصار دولته من الفرس . فور رجوعه بدأ يعيد ترتيب الأمور فى البلاد وفق ميوله واتجاهاته . من ذلك أنه أرسل إلى الشافعى قبل أن يهم بالرحيل إلى مكة بعد أن سمع بآرائه وما يملكه من جرأة فى الجدال وثبات فى الرأى وحداثة فى الفكر ,لم يزل يذكره وقت أن كان يختلف إلى شيخ المدينة مالك بن أنس مع شقيقه الأمين وهما فى سن الصبا ,ويذكر له محاوراته مع الشيخ ومواقفه مع تلاميذه ..
قال له الخليفة المأمون بعد فيض من الحفاوة والترحيب , كأن له به عهدا قديما .....
ــ أتعلم لم أرسلت إليك يا محمد ؟.
ــ خيرا إن شاء الله يا أمير المؤمنين ..
ــ علمت أن والدنا هارون الرشيد طيب الله ثراه عرض عليك أن تعمل فى قضاء بغداد ولم تقبل .. أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا أمير المؤمنين وقبل عذرى أيامها وأعفانى من هذا الشرف الكبير ..
ــ وأنا اليوم أعرض عليك مرة أخرى أن تكون قاضى القضاه ولك الخيار فى القبول أو الرفض . وإن كنت أتمنى أن تقبل . نحن فى حاجة لأمثالك يا محمد ..
ــ أشكرك يا أمير المؤمنين على ثقتك فى وأرجو قبول اعتذارى ..
ــ هل لى أن أسألك عن علة إبائك ورفضك ؟.
ــ لقد عزمت يا مولاى على الرحيل إلى مصر ,وآمل أن يجعل الله لى فيها مستقر ومستودع ..
ــ لم يا محمد ؟, أقصد لم اخترت مصر ؟.
ــ لا يزال أمامى الكثير أن أفعله لمواصلة رحلة العلم ,تلك الرحلة التى لم يأن لها أن تنتهى بعد . ومصر هى المكان الملائم لمثلى ..
ــ ماذا تعنى ؟.
ــ فى مصر يا أمير المؤمنين أستطيع جنى ثمار ما حصلت من علوم . إنها الواحة التى أستطيع أن أحكم فيها كتبى وأعيد صياغتها ..
ــ متى ترحل إن شاء الله ؟.
ــ سأسافر إلى مكة أولا ثم أرحل منها إلى مصر ..
رد المأمون قائلا وهو يهم واقفا إيذانا بانتهاء المقابلة ............
ــ على بركة الله ,ولا تغادر مكة حتى يأتيك رسولا من عندى ..
ــ هل لى أن أعرف السبب يا مولاى ؟.
ــ ستعرف , ستعرف حتما عندما يأتيك حاجبى ..
توقف برهة قبل أن يصافح الشافعى . كان المأمون لماحا فأردف قائلا بعد أن قرأ بفراسته كلاما على وجهه يتردد فى النطق به ............
ــ هل لك رغبة فى شئ يا محمد . أطلب ما تشاء وأنا آمر به فى التو والحين ..
لاحظ المأمون أنه لا يزال مترددا فاستحثه مؤكدا له أن طلبه مقضى كان ما كان , فقال فى حياء ..............
ــ لى مطلب واحد يا أمير المؤمنين وما أجرأنى عليه إلا معرفتى بما أنت عليه من حلم وميل إلى العفو ..
إبتسم المأمون فى مودة قائلا ............
ــ هى شفاعة إذن ؟. لمن تشفـع يا محمد ؟.
لاحظ تردده وحياءه من ذكر اسمه فأخذ يستحثه قائلا ...............
ــ هيا يا رجل , لا تضيع الفرصة ,قل ولا تتردد وإلا رجعت فى كلامى ..
ــ الفضل بن الربيع ..
نطق اسمه حذرا متوجسا ثم أردف قائلا على عجل بعد أن لاحظ وجوم الخليفة المأمون وتغير وجهه .............
ــ أعلم يا أمير المؤمنين أن جنايته عظيمة لكن ,أعظم منها كرمك وعفوك ..
إنفرجت أساريره قائلا ..............
ــ وأنا قد عفوت عنه يا محمد إكراما لخاطرك . إن كنت تعرف مكانه الذى يختبئ فيه بلغه ذلك ,وقل له يأتينى هنا وقد أعطيته الأمان ..
ــ الحقيقة يا أمير المؤمنين أنه جاءنى قبل أن يفر هاربا بعيدا عن العيون ورجانى أن أشفع له عندك ثم فارقنى دون أن أعرف له مكانا ..
ــ على أية حال إن جاءك مرة أخرى أو رأيته بلغه أنى قد عفوت عنه . والله يا محمد لو عرف الناس حبى للعفو لتقربوا إلى بالجرائم . سأصلى الآن ركعتين شكرا لله أن رزقنى العفو عنه ..
ــ شكرا لك يا مولاى أستودعك الله ………………


@ كان المأمون رجل علم شغوف بالقراءة والإطلاع وما يثير الفكر من قضايا مولع بقراءة ما صنفه الفلاسفة الإغريق فى كتبهم . لهذا أدنى منه جماعة من الفقهاء عرفوا بالمعتزله يرون إثبات العقائد وما يتعلق بها من قضايا بمقاييس العقل . يستخدمون فى كلامهم ومجادلاتهم لغة المنطق وأدواته وأساليب الفلاسفة وطرائقهم ..

وجرت المقادير بما جرت بالنسبة للشافعى من تولى المأمون خلافة المسلمين فى هذا الوقت تحديدا . كأنما كان مجيئه على قدر لتتحقق الرؤيا التى رأتها أم حبيبه قبل نصف قرن من الزمان . حتى يحط الكوكب الدرى فى مصر وتستقر سفينة العلوم وتضع شراعها بعد إبحار طويل على ضفاف نهر النيل العظيم ..

ولأن الله تعالى قد جعل لكل شئ سببا ,مكن المأمون من أمر البلاد ليكون ذلك دافعا للشافعى للرحيل بعيدا خارج جزيرة العرب إلى مصر . واحة العلماء وخبيئة العلوم والفنون منذ آلاف السنين ,بعد أن شعر بحسه المرهف وبصيرته النافذه أن نسمات من الهواء الفارسى الجاف القاسى سوف تهب على بغداد وجزيرة العرب فى ظل خلافة المأمون ,بما تحمله من هيمنة للفرس وما يعتنقونه من أفكار وفلسفات دخيلة على الإسلام وتشيعهم لآل البيت العلوى وما ينطوى عليه ذلك من إحياء للفرقة وإذكاء لنيرانها التى شاء الله تعالى أن تخبو قليلا فى السنوات الماضيه ..

أدرك الشافعى كذلك أن نجم دولة علماء المعتزله فى طريقه للبزوغ واللمعان وأن الساحة ستكون مرتعا خصبا وخاليا لهم ,بما عندهم من ولع بالجدل العقلى العقيم فى أصول العقيدة وأحكامها وكل ما هو خارج عن منطقة العقل . وهو لم يزل متطلعا لاستكمال رسالته التى وهب لها سنى عمره كلها وأن يعيد صياغة ما كتبه فى هدوء وطمأنينة وأمن ,لن يجده إلا فى ربوع وادى النيل الخالد وحناياه الدافئه ..

هذا هو ما عبر عنه وقاله لصديقه عبد الله بن عبد الحكم ذات ليلة بعد أيام قليلة من وصوله إلى مصر وهما يتبادلان حديثا ودودا حيث جمعهما قارب صغير يتهادى بين شاطيئ نيل مصر . ركباه بعد أن أديا صلاة العشاء فى المسجد العتيق متخذين طريقهما إلى الجيزة لزيارة واحد من شيوخ مصر وتلاميذ الشافعى إسمه الربيع الجيزى ..............

ــ أجل يا ابن عبد الحكم هذا هو ما دفعنى للإسراع بالمجئ إلى بلادكم وأن يكون مثواى الأخير فى تراب هذا البلد الطيب ..

ــ أطال الله بقاءك يا صديق العمر . لكأنى بك تسابق الزمـن وتصارع الأيام ؟.

ــ تلك هى الحقيقة يا أخى . أشعر والله أن ما تبقى لى من أجل لن يكون كافيا لأن أكمل رسالتى . أجل لا يزال أمامى الكثير ..


يتبع.. إن شاء الله ...........................

abuzahda
04/02/2010, 02h02
سيّدي الجليل
:emrose:الوالد الدكتور أنس:emrose:

كلما مررتُ من هنا ، خِلتُني بمكانٍ أعشقه بمصر ، ذلك المكان الذي من فرطِ تعلقي به ، أصبحَ هو خميرةَ مصر التي أخبئها بين الشِغاف .

هل أذِنتَ لي بأن أحدِّثك عن "خان الخليلي" ؟

........ شُكراً لكَ يا دكتور


كنتُ في طريقي من "النحّاسين" بشارع المعز لدين الله ، إلى الروضة الحسيّنيّةِ العطرة ، أحبُّ أن أستريح بدكانِهِ الصغير - بأول الممر يساراً – الذي لا يتسع إلا لزبونٍ واحد ، بينما هو جالسٌ إلى طاولةٍ خشبيّةٍ عليها بعض الأدوات اليدويّة – التي أظنه قد صنعها بيديه.


لقد تخصص في صنعةٍ نادرة "صناعة الخواتم الفضيّة" بما في ذلك إصلاحها و ضبط مقاساتها و لحام المكسورِ منها .


و لأنني مولعٌ بكل ماهو يدوي ، كنت أختلق الأسباب التي تجعل جلوسي إليه شيئاً ضرورياً ، كأن أشتري خاتماً من دكاكين "الفضة القديمة" – و حبذا لو كان به عيب كأن يكون مفقودَ الحجر "الفص" أو به شرخٌ أو بحاجة إلى تضييق ... إلخ !


و من كثرة ترددي عليه ، كنت السبب في تعارفٍ بينه و بين أبي رحمه الله ، الذي كان مولعاً بالأحجار الكريمة و أحوالها.

،
عند استقامة الممر بنهايتهِ من الجهة الشرقيّة ، دكانٌ آخر بمواجهة "مقهى وليّ النِعَم" ، لكن هذا الدكان كان يتميّز رغم صِغرِهِ بأنهُ مكشوفٌ للمارّة ، و صاحبه يجلس بحلقِ دكانِه الصغير على هيئة جلوس التشَهُدِ أمام مخرطةٍ غاية في البساطة
، يُدير قِطعةَ الحجر الكريم بين فكينٍ من قضيبٍ التَفَّ على طرفِه خيطٌ تثبَتَ بطرفي قضيبٍ لا يشبهه .


كان صانِعُ المسابِحِ يستنبت من قِطعَةِ الحجر حبة تسبيحٍ ، و كأنه يعزِف على ربابةٍ مستلقية بين يديه. و يداهُ ، كأنهما لرجلين لا يتخاطران.


،

كنتُ أتعَجَبَ لحركتي يديه ، فاليُسرى تستولِدُ اللفاتِ بلا انتباهٍ منهُ ، و اليُمنى بها إزميلٍ يخرط الحبّة فتنفلت منها قِشرَةُ الحجر الكريم (الرايش) تتلوى حرماناً من البقاءِ للتسبيح.

،


كان صانع المسابح قد ألِفَ تـحَلـُّقِ الناس بِه ، فيعرض عنهم ، و أكثرهم من السيّاح و محطات التلفزة العالمية ، يصورونه بكل أنواع الكاميرات ، و هو سادرٌ بسمتِهِ كأنه يُلَقِّنُ الحبّة َ ماسوف يُتلى عليها بيدِ المَسَبِّحين .


حتى إذا رضيَ عن حجمها ، أخذَ ورقة سنفرة ناعمة يحضن بها الحبّة التي لا تكف عن الدوران ،لصقلها، ثم يسند القوس إلى الأرض كأنه يهدهد طِفلاً ليخلع الحبَّةَ بتفريجِ فكي القضيب ، ماسِحاً الهواءِ ببسمةٍ ودودة تِجاه المُتحلقين به من المارّة (وانا أولهم)

كأنه تعلـَّم تلك الصنعة منذ التسبيح ، لا يلتفتُ إلاَّ إليه .
،

تذكرتُ المشهدين و أنا هنا بحضرةِ سيّدي المُلَقبِ بقاضي الشريعة عند أهل مِصر .


و أنتَ تواصل ، يا دكتور أنس ، تبسيط سيرته العطرة لأمثالي من بناة الأكواخ ، تواصل إتمام ناطحة سحابٍ إسمها : السيرة الشافعيّة ،


كأنك سابك الفضة أو صانع السبح ، حيث لسان حالكم يقول للعابرين ، بلا مشاركاتٍ:



فالدُّرُّ يَزدادُ حُسْناً وَهْوَ مَنْتَظِمٌ ..... وَليسَ يَنْقُصُ قَدْراً غيرَ مَنْتَظِمِ




و

:emrose:تحيّة إكبارٍ و توقير لشيخنا الجليل امحمد شعبان:emrose:



.

د أنس البن
04/02/2010, 09h42
لا أجد فى مفردات الكلام بحسب خبرتى ما يصلح أن يكون ردا على تلك الكلمات التى صاغها قلمك فى عناية بالغه دون تكلف أو إفراط بل خرجت من القلب إلى قلوبنا جميعا
لكنى ...........
من غير استئذان طبعا ومستغلا صلاحياتى السماعيه
قمت بنسخ هذه الخاطرة الزهدية فى موضوع مستقل
حيث صاغها صائغ الجواهر أعلاه فى رده الأخير حول السيرة الشافعيه
منها نتعلم ويتعلم من لم يتعلم كيف يحاك جلباب الكلمات يدويا كما كان يفعل الترزى العربى وليس آليا كصنع الماكينة العجماء الصماء
الله الله الله يا ابو زهده ..............
............................

د أنس البن
04/02/2010, 09h42
@ وقف الشافعى وخيوط الصباح الأولى تنسج أنوارها الفضية فى سماء مكة بعد أن فرغ من حزم أمتعته القليلة وكتبه الكثيرة ,يعاين بنفسه الجياد والإبل التى ستحمله وأهله وأمتعته إلى مصر ,أخذ يستحث أولاده وامرأته مناديا عليهم ليضعوا حاجياتهم على متن المطايا قائلا .............

ــ هيا أسرعوا تأخرنا على الوالى ,قافلة والى مصر العباس بن موسى تنتظرنا كى نرحل فى صحبتهم ..

كان الخليفة المأمون قد عين واحدا من أبناء عمومته يدعى العباس بن موسى واليا على مصر من قبله ,بعد أن أمر بعزل واليها المطلب بن عبد الله وأوصاه أن يمر على الشافعى فى مكة قبل أن يرحل إلى مصر ليكون فى صحبة قافلته ,ومن حول الشافعى تجمع أخواله وباقى أقاربه وخاصة تلاميذه ومحبيه الذين أبوا أن يدعوه يغادر البلاد قبل أن يودعوه الوداع الأخير ,ظلوا يتوافدون على داره جماعة بعد أخرى , وأخيرا امتطى متن راحلته متقدما قافلته الصغيرة فى رحلة الهجرة من مكة البلد الأمين الطاهر إلى مصر الكنانة والأمن ..

أخذ ينظر عن يمينه إلى سهولها ووديانها وشعابها ويملى ناظريه من مساكنها وسفوحها وجبالها قبل أن يفارقها الفراق الأخير ,أجل إنه على يقين أنه الفراق الأخير . بدأ يردد مرة أخرى بيت الشعر الذى قاله لصاحبه المصرى .......

فوالله ما أدرى أللفوز والغنى .. أساق إليها أم أساق إلى القبر ..


ثم رجع البصر أمامه فى الأفق البعيد فرآه يطوى فى باطنه تاريخ أرض الكنانة البعيد والقريب وما حوت فى أحضانها من كنوز وأسرار ,وما سطرته القرون الماضيات فى سمائها من أحداث . أبصر فى أحضان الفسطاط حاضرة البلاد مسجدها العتيق أو تاج الجوامع كما يسميه المصريون ,أشهدته مخيلته ثمانين من الصحابة العظام تقدموا جيش الفاتحين ,على رأسهم عمرو بن العاص والزبير بن العوام وأبو ذر الغفارى وأبو الدرداء وعباده بن الصامت وسعد بن أبى وقاص ,يعملون معاولهم فى مكان قريب من الفسطاط الذى كان يقيم فيه قائدهم ليقيموا أول مسجد على أرض الكنانه ,تلك الأرض الطيبة التى شاء الله تعالى أن ينشر فيها وعلى أهلها من رحمته بعد طول ظلم ومعاناة على أيدى طغاة بيزنطه ,ويهئ لهم من أمرهم رشدا على أيدى الفاتحين العظام تحت لواء القائد الكبير عمرو بن العاص فى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ..

دخلها عمرو بن العاص كما بشره من قبل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ليخلص أهلها من أقوام طالما ساموهم سوء العذاب وسقوهم كؤوس المذلة والهوان منذ مئات من السنين جيلا بعد جيل من قبل ميلاد المسيح عليه السلام ,حتى دخلها المسلمون وردت مصر لأهلها بعد أن كانت ولاية رومانية ثم بيزنطية منذ انتصار أغسطس قيصر على ملكة البلاد كليوباترا وانتهاء دولة البطالسه فى موقعة أكتيوم قبل ميلاد المسيح بثلاثين عاما ..

وزاد اضطهاد الرومان الوثنيين لأهل مصر لما اعتنقوا المسيحيه ,حتى بعد أن اعتنق الرومان المسيحية بعد حوالى أربعمائة عام تجدد إيذاؤهم واضطهادهم للمصريين لخلاف جدلى بين الكنيسة المصريه فى الإسكندريه والكنيسة الرومانية البيزنطيه فى القسطنطينيه حول طبيعة السيد المسيح عليه السلام. تعرض رموز المسيحية فى مصر من أساقفة وبطاركة إلى إضطهاد فاق كل اضطهاد . دفع البعض منهم للفرار فى الصحراء هربا من بطش المستعمر وطغيانه ,بهذا صار الطريق ممهدا لفتح مصر على يد العرب ..

تذكر الشافعى ما كان من أمر عمر بن الخطاب الذى كان مشفقا على جيش المسلمين من هذه المعركه لأنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول.... "إن مصر كنانة الله فى أرضه وفيها خير أجناد الأرض " . لهذا حاول كثيرا أن يثنى قائده عمرو بن العاص عن هذا الأمر دون جدوى . فلما رأى منه إصرارا وعزما أكيدا قال له ..... سر على بركة الله لكن إذا جاءك كتابا منى وأنت فى الطريق ولم تكن حينذاك فى أرض مصر فلا تدخلها وعد من فورك إلى هنا ,وإن جاءك وأنت داخل أرض مصر فامض على بركة الله ..

كان عمرو بن العاص قد عقد العزم على أن يدخل مصر مهما كلفه ذلك فإنه سمع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وهو يقول ..... "الله الله فى قبط مصر فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا فى سبيل الله" . سار القائد بجيش قوامه أربعة آلاف جندى من قيساريه بفلسطين حتى بلغ العريش ومنها إلى الفرما ثم بلبيس . كان يقضى على كل مقاومة يلقاها من جيوش البيزنطيين الذين كانوا يجثمون على أنفاس المصريين ويسومونهم سوء العذاب . حتى وصل إلى أم دنين شمال حصن بابليون على رأس دلتا النيل والباب المفتوح إلى الإسكندريه عاصمة مصر آنذاك . لقى فيها مقاومة عنيفة إلى أن تم أخيرا فتح الحصن الذى كان يحتمى به الرومان بعد حصار دام أربعة أشهر . إستسلم بعدها المقوقس على أن يدفع أهل مصر الجزية ويظلوا على دينهم وألا يبت فى أمر الرومان المحتلين إلا بعد أن يكتب إلى ملكهم هرقل فى روما ..

دارت المعارك مرة أخرى ضاريه بعد أن رفض هرقل أن يسرى على الرومان ما سرى على المصريين . وواجه عمرو بن العاص مقاومة عنيدة على أبواب الإسكندريه . تلك المدينة التى بهرته ذات يوم بكثرة أهلها ومالها وما فيها من عمارة وبنيان عندما دخلها قبل سنوات فى الجاهلية فى صحبة واحد من الرهبان من أهلها إلتقى به مصادفة فى بيت المقدس ..

أخيرا أمكن للفاتحين أن يفتحوا حصون الإسكندرية المنيعة بعد أن استسلم الرومان وتم إجلاؤهم عن البلاد بعد أن عقدت معاهدة الصلح والهدنة الثانية والأخيره بحامية الإسكندريه ,وفتحت مصر كلها أحضانها للعرب المنقذين لأهلها وفلذات أكبادها من بأس القوم الظالمين ..

لم يمض غير قرن من الزمان على فتح مصر حتى تغلغل الإسلام فى أنحاء البلاد شمالا وجنوبا وانتشرت المساجد والمنابر شيئا فشيئا مع انتشار الإسلام فى ربوعها جنبا إلى جنب الكنائس التى كانت مقامة من قديم وتلك التى تم تشييدها أيضا بعد الفتح الإسلامى . أفتى بجواز ذلك فقهاء مصر وعلى رأسهم فقيهها الأول الليث بن سعد قائلا فى ذلك ........... إن هذا لمن عمارة البلاد وإن عامة الكنائس لم تبن فى مصر إلا فى زمن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم ..

لم يعرف أبدا أن المسلمون هدموا كنيسة ليبنوا مسجدا بل ساعدوهم على استرداد الكنائس والأديرة التى كانت بأيدى البيزنطيين . تركت لهم حرية العبادة والإحتفال بكافة الأعياد الدينيه وكانوا يشتركون معهم فى الصلاة من أجل أن يفيض نهر النيل بالماء إذا أصاب البلاد جدب أو قحط لقلة فيضانه ..

بلغ سكان مصر سنة دخول الشافعى إليها حوالى عشرين مليونا من البشر يسكنون ثمانين كورة أو مقاطعه بها أكثر من عشرة آلاف قرية يدير أمورها مصريون من أهلها ,وبدأت قبائل العرب الوافدة هجرة من أنحاء الجزيرة إلى مصر تنتشر فى سائر أنحاء البلاد ويندمج أفرادها مع أقباط مصر فى شتى الأقاليم يصاهرونهم ويتزوجون من نسائهم ,يعملون معهم فى الزراعة وفى شتى الصناعات التى كانت منتشرة فى البلاد آنذاك مثل صناعة المنسوجات والزجاج والخزف والورق والمعادن ,بعد أن كانوا فى سنوات الفتح الأولى قلة لا شغل لها إلا السياسة والحكم والحروب ولا تربطهم بأقباط مصر أية علاقات ولا يشاركونهم فى أعمالهم أو يزاحمونهم فيها ..

بذلك كثر المسلمون فى مصر من العرب ودخل كثير من أهل مصر دين الإسلام فصارت بهذا المزج مجتمعا جديدا يحكمه حاكم عربى مسلم بشريعة الإسلام السمحاء ,وأخذت اللغة العربية تسود فى البلاد شيئا فشيئا مكان اللغتين اليونانية والقبطية التى لم يكن المصريون يعرفون غيرها ,إلى أن صدر فى العام الخامس والثمانين للهجرة أمرا من الأمير عبد الله بن عبد الملك بن مروان باستعمال اللغة العربية فى جميع دواوين البلاد وصارت هى اللغة الرسمية لشعب مصر ..


علـى ضفـاف النيـل



@ ما كاد أبو بكر الحميدى ,تلميذ الشافعى يصل مصر وتطأ قدماه أرض الفسطاط ,حتى أخذ يجد السير بين خططها يسأل عن دار بنى عبد الحكم فى خطة أهل الرايه ,لما لقيه أخبره أن الشافعى فى طريقه إلى مصر وأنه قادم بعد أيام قليلة فى صحبة والى مصر الجديد. على الفور زف عبد الله بن عبد الحكم البشرى إلى أصحابه ولم ينم المصريون فى الفسطاط ليلتهم إلا وقد سرى النبأ العظيم فى أنحاء البلاد وهم يتناقلون فيما بينهم البشرى بقرب وصول عالم قريش محمد بن إدريس إلى بلادهم . علموا أنه سيقيم فى مصر بقية عمره لن يغادرها إلى بلد آخر ..
غمرتهم الفرحة كما غمرتهم من قبل فى القرن الماضى لما جاءتهم السيدة زينب بنت على كرم الله وجهه فى غرة شعبان للسنة الثانية والستين للهجره عقيب مذبحة كربلاء التى فاضت فيها الدماء الطاهرة أنهارا على رمال العراق . لم ينتظر المصريون دخولها مدينة الفسطاط فخرجوا يومها حفاة يستقبلونها عند ميناء بلبيس يتقدمهم والى مصر والفقهاء والقضاة وكبار القوم . كذلك فعلوا مع السيدة نفيسه حفيدة الإمام على لما قدمت إلى مصر كما سبق وحكى ذلك ابن عبد الحكم للشافعى وهو يزوره فى مكة قبل عامين ..
دخل الشافعى أرض مصر ليجد صاحبه عبد الله بن الحكم ومعه كوكبة من فقهاء مصر وشبابها من طلاب العلم ينتظرونه فى الحوف ,خارج حدود الفسطاط بالقرب من مدينة بلبيس على شاطئ خليج أمير المؤمنين ,تلك القناة التى أمر بحفرها عمر بن الخطاب وسميت بإسمه لتصل نهر النيل بالبحر الأحمر حتى تكون خط اتصال بحرى تجرى فيه السفائن بالخيرات بين مصر والحجاز ..
إستأذن الشافعى من والى مصر فى الذهاب مع صاحبه ومن معه ,وقبل أن يفارقه قال له الوالى .......................
ــ يا ابن إدريس ,أمامنا مهام صعبة فى الفترة القادمه ,علمت أن المصريين تمردوا على أمير المؤمنين المأمون وشغبوا على ولدى عبد الله الذى سبقنى إليهم نائبا عنى بعد أن قبض على المطلب بن عبد الله الوالى السابق وحبسه . وبالأمس جاءتنى الأنباء وأنا فى الطريق أن الجند ثاروا على ولدى عبد الله وأخرجوه من الفسطاط وأنهم أيضا أخرجوا واليهم السابق من محبسه وأعادوه واليا عليهم مرة ثانيه ..
ــ وما الذى تنوى فعله يا سيدى الوالى ؟.
ــ والله يا ابن العم لم أقرر بعد ,ليتك تشير على فأنا لا أدرى فى الحقيقة ما فعله ذلك الأحمق ,ليتنى ما جعلته يسبقنى ..
ــ إن أردت الرأى والمشوره على ما علمت منك الآن ,فإنى أنصح لك بعدم دخول الفسطاط هذه الأيام ,لتبق ههنا فى بلبيس بضعة أيام أنت ومن معك ريثما يستطلع رجالك جلية الأمر . نسأل الله العلى القدير أن يكشف الغمة وأن يجنب هذا البلد كل سوء ..
ــ نعم الرأى والمشورة يا ابن إدريس فليس معى من الحراس والجند ما يجعلنى أعيد السيطرة على مقاليد الأمور ,أو يمكننى من تدارك ما حدث وإخماد نيران الفتنه ..
قال ذلك ثم ودعه راجعا لصاحبه المصرى الذى قال له ...........
ــ هيا تعال أنت ومن معك ,دع هذه العير بما عليها من متاع ,سيتكفل رجالنا بأمرها ..
ــ ماذا تعنى هل سنكمل بقية رحلتنا سيرا على الأقدام ؟.
رد عبد الله بن عبد الحكم مداعبا وقد غلبه الضحك ............
ــ إن كان فى مقدورك أن تمشى هيا بنا . إنها مسافة قريبة جدا لا تزيد على مجرد خمسين ميلا فحسب ..
ــ أراك تمزح . كيف الوصول إذن إلى الفسطاط ما دمنا سنترك العير لمن يلحقنا بها من رجالك ؟.
أشار بيده إلى شاطئ خليج أمير المؤمنين قائلا وهو لا يزال على حاله من الضحك ..........
ــ أنظر يا صاحبى وراءك ,ماذا ترى ؟.
إبتسم الشافعى قائلا وهو ينظر سفينة ضخمة تقف بالقرب من الشاطئ ........
ــ تعنى أننا سنكمل رحلتنا فى هذه السفينة عبر مياه الخليج ؟.
ــ أجل ستكملون بقية الرحلة معنا فى هذه السفينه ..
ــ لكنا لم نعتد ركوب البحر من قبل ..
قاطعه ضاحكا .............
ــ لا تخف يا رجل إنها سفينة متينة صنعتها أيد مصرية مدربة فى جزيرة الروضه . كما أنه يقوم على أمرها ملاحون مهره . سوف ترسو بنا إن شاء الله على الشاطئ الشرقى للنيل أمام المسجد العتيق تماما ..
أسلم الشافعى أمره لله ونادى على أهله ثم توجهوا جميعا إلى الشاطئ وركبوا السفية فى حذر تاركين ركائبهم بما عليها من متاع للمصريين يلحقونهم بها . وعلى متن السفينة راح عبد الله بن عبد الحكم يحكى لصاحبه ويحدثه عن أحوال البلاد وما جرى فيها من أحداث فى الأيام الماضيه . عرف منه أن الوالى القادم معه من الحجاز لن يمكنه بالفعل دخول الفسطاط , لغضب المصريين مما فعله ولده عبد الله معهم واشتداده عليهم وظلمه لهم فى الفترة القصيرة التى أنابه فيها أبوه عنه فى مباشرة أمور البلاد ..

يتبع .. إن شاء الله ...........................

محمد رمضان ماضي
13/02/2010, 11h52
بسم الله الرحمن الرحيم
أديبنا ودكتورنا الدكتور أنس
إنني علي أحر من الجمر، لترسم ريشتكم نهاية هه الملحمة ،لأطالعها من البداية للنهاية ، فلقد إعتدت القراءة المتواصلة،
فلوحة الفنان الجميلة ترى مكتملة لا مجزئة،
انني أنتظر وكلي شوق،
أدآم الله عليكم الصحة والعافية،والمزيد من الإبداع
تلميذ على باب الأدب
محمد ماضي

د أنس البن
15/02/2010, 17h19
@ رست السفينة أخيرا فى ميناء الفسطاط بمحاذاة المسجد العتيق , وقعت عين الشافعى على مدينة لم ير مثيلا لها من قبل فى أناقتها وجمالها وبساتينها النضرة ومتنزهاتها الفسيحة . رأى أبنية يرتفع بعضها إلى عدة طوابق ,شاهد أسواقا ومتاجر فخمة مليئة بالبضائع والتحف العجيبة التى صنعتها وركبتها أيد مصرية ورأى شوارعها التى تضيئها القناديل طوال الليل ..
شاهد وهو يسير فى الجهة الشمالية من المسجد العتيق أشهر أسواق الفسطاط ,يسميه المصريون سوق القناديل تصطف على جانبيه العديد من المحال والمتاجر . جلس أمام بعضها عمالا مهرة ينحتون فى خفة أوانى البلور ويصنعون المقابض والأمشاط والأوعية من الصدف وأنياب الفيل . رأى محالا أخرى تصنع النعال من جلود تشبه جلود النمر وآخرون يصنعون الكؤوس والأقداح والأطباق والأوانى من الخزف الشفاف . وحول المسجد العتيق رأى الخطط التى اختطها رؤساء الجند وزعماء العرب الذين شاركوا فى فتح مصر على عادتهم فى تخطيط الأماكن التى ينزلون فيها ..

@ وكما فعل الشافعى فى أول زيارة له فى بغداد لما زار قبر أبا حنيفه إفتتح أول أعماله فى مصر بزيارة قبر الليث بن سعد فقيه مصر الأكبر والترحم عليه والدعاء له . وقف على قبره يقول ............
ــ لله درك يا إمام ,حزت أربع خصال لم يكملن لعالم أبدا .... العلم والعمل والزهد والكرم ..
زار بعد ذلك أخواله الأزد فى الفسطاط وفاء لذكرى أمه الراحلة اقتداء برسول الله "صلى الله عليه وسلم" لما نزل المدينة مهاجرا ونزل أول ما نزل على أخواله بنو النجار . مكث عندهم بضعة أيام تعرف خلالها عليهم وأنس بهم . سمع منهم حكايات كثيرة عن تاريخ القبيلة وتفرقها فى البلاد وجذورها وفروعها فى بلاد الشمال والجنوب . علم من شيخهم أنه كان يعرف ابن عمومتهم جده عبيد الله الأزدى مذ كانا فى سن الصبا وأنه زارهم هنا فى مصر مرات عديده حيث كان دائم السفر إلى مصر والشام والعراق واليمن لأعمال التجاره ..
قال له الشافعى .............
ــ أجل يا خال كم حكى لى فى صباى عن رحلاته تلك . لا زلت أتذكر كلماته لى عن ذكرياته فى البلدان التى نزل فيها ,ومنها مصر ..
بعد بضعة أيام جاءه عبد الله بن عبد الحكم فى موعده الذى اتفق معه أن يأتيه فيه ليصحبه إلى حيث مقامه الذى اتخذه له فى الفسطاط . وحدث ما توقعه ,لقى مقاومة شديدة وتصدى له رجال الأزد وهم عاقدين العزم ألا يغادر خطتهم وأن يبقى معهم . حاول كبيرهم وهو شيخ تخطى السبعين من عمره إقناع الشافعى بالبقاء بينهم قائلا له متوسلا .......
ــ إبق معنا يا ولدى فأنت هنا بين أهلك وعشيرتك ترعاك عيوننا وتحيطك مهجنا وتكن فى منعة وأمن بيننا ..
ــ يا كبير الأزد إنى قد عقدت العزم إن شاء الله أن أعيش هنا بقية أيام عمرى وأمامى أعمال كثيرة ورسالة لم أفرغ منها بعد .
ــ سنوفر لك ولمن معك كل ما تحتاجه لراحتك وعملك ..
ــ لابد لى من دار أعيش فيها وحدى فإن ذلك أفرغ لى ولقلبى ..
لم تفلح كل هذه المحاولات وغيرها فى إثناء الشافعى عن عزمه على أن تكون له دار يسكنها وحده مع أسرته . شكره الشافعى وقد غلبه التأثر من فيض المحبة والود الذى لقيه عند أخواله . أخذ يشد على يديه على وعد أن يزورهم بين الحين والحين . ثم ذهب أخيرا مع صاحبه ليبقى فى ضيافته أياما أخرى قبل أن ينتقل ومعه أسرته إلى الدار التى أعدت لإقامته فى منطقة القرشيين بالقرب من المسجد العتيق ,ليستأنف عملا متواصلا دؤوبا لا يصرفه عنه صارف أو يوقفه عن آداء رسالته إلا تلبيته نداء ربه ..

تـاج الجـوامـع



@ إنتشرت المساجد فى شتى أرجاء مصر بعد الفتح الإسلامى وأدخلت تعديلات وتوسعات كثيرة ومتعاقبة على المسجد الذى أسسه عمرو بن العاص الذى أطلق عليه أيامها مسجد أهل الرايه ,لتوسطه خطط أهل الرايه من القبائل التى شاركت فى الفتح الإسلامى للبلاد . ومع مرور الأيام وتقادم العهد أسماه المصريون تاج الجوامع تمييزا له عن بقية جوامع مصر . أتى الشافعى المسجد العتيق بصحبة عبد الله بن عبد الحكم . وقعت عيناه وهو يدلف داخله من زقاق الكحل من الجانب الشمالى الشرقى من باب عرف باسم باب الكحل ,على أقدم منبر عرف فى تاريخ الإسلام بعد منبر رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والذى عرف باسم منشئه قرة بن شريك الذى أعاد بناء الجامع من جديد ..
وقف فى صفوف المصلين وأدى أول صلاة له فيه ,صلاة الفجر خلف أبو رجب العلاء بن عاصم إمام المسجد ومتولى القصص فيه . بعد أن انتهت الصلاة أثنى الشافعى عليه وشد على يده قائلا .............
ــ بارك الله فيك يا أبا رجب هكذا تكون الصلاة . ما صليت خلف أحد صلاة أتم ولا أحسن من صلاتك هذه ..
وأبو رجب هو الذى يقوم علاوة على إمامة المصلين بقراءة القرآن للناس من المصحف ويتولى وعظهم وإرشادهم وتذكيرهم بأخبار الأمم السالفة وأيام الناس . ثم يختم وعظه بالدعاء لأمير المؤمنين وأعوانه بالنصر والفلاح والدعاء على أعدائه وأعداء الإسلام بالهلاك والتبار ..
هم الشافعى بالقيام فمال عليه عبد الله بن عبد الحكم قائلا بصوت خفيض ...........
ــ ألن تجلس إلى الناس يا أبا عبد الله . لك أيام مذ وصلت إلى مصر وأنت لا تزال معتكفا فى دارك والناس جميعا هنا سمعوا بمقدمك . إنهم جميعا عطشى إلى علومك مشتاقون إلى الجلوس إليك ..
ــ لا أجد ما أقوله لك يا صديقى العزيز . الحمد لله على كل حال ..
ــ آه . هى ضراء مستك ؟.
ــ لا أخفى عليك سرا أيها الصديق الحبيب ,إنى أجد حرجا فى الجلوس إلى الناس وأنا على تلك الحاله ..
ــ لا بأس عليك يا أبا عبد الله ,مم تشكو ؟.
ــ ما أجده فى ظهرى من آلام اشتدت على وزادت فى أعقاب تلك الرحلة الطويلة حتى أنها أقعدتنى عن الحركة أياما . المهم أين أتخذ مجلسى ؟.
ــ سيكون مجلسك بإذن الله تعالى هناك ,(وأشار بيده) فى هذا الركن المعروف بزاوية الخشابيه ,سيكون مجلسك العامر فيه إن شاء الله ,تبث للناس ما تجود به عليهم من علوم القرآن والحديث والسنة واللغة والشعر والعروض ..
ــ وفى أى وقت من أوقات النهار أجلس إلى الناس ؟.
ــ فى أى وقت تشاء ..
رد الشافعى متعجبا ..............
ــ كيف ذلك ... ألا تتخذون فى مصر أوقاتا معينة للعمل ,وأوقاتا تفرغون منها من أعمالكم ؟.
ــ ماذا تقول يا صاحبى . إننا هنا نؤدى أعمالنا كيفما اتفق لنا فى الصباح أو بعد الظهيرة وربما أحيانا فى الليل ..
ــ حتى فى دواويين الحكم ؟.
ــ أجل ,حتى فى دواويين الحكم . أى غرابة فى هذا ؟.
ــ إن هذا لمما لا يجوز فعله . كما أن للناس عليك حقا فإن لأهل بيتك عليك حقا ولبدنك عليك حقا ..
ــ ما الذى تراه أنت إذن ؟.
ــ أرى أن يبدأ الواحد منا عمله بعد أن يفرغ من صلاة الصبح وينتهى منه فى الظهيره . ثم إنه لكل علم من هذه العلوم طلابه فلو رأيت أن نقسم وقت النهار بينهم لكان أفضل لهم ولنا وأدعى للفائده ..
ــ ليكن درس القرآن لأهله إذن فاتحة الدروس عقيب صلاة الصبح ,فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل مذاكرة الحديث والسنة . فإذا ارتفعت الشمس استوت الحلقة للرد على أسئلة أصحاب المسائل والفتاوى . وعند ارتفاع الضحى تختمها بدروس اللغة والشعر والعروض لأهل اللغه . فإذا انتصف النهار انصرفت إلى دارك فما رأيك ؟.
ــ على بركة الله أحسنت الترتيب يا صاحبى . هكذا كان يفعل فقيه الأمه عبد الله بن عباس فى مكه ..
ــ هيا بنا إذن ؟.
قال الشافعى وهو يهم بالقيام ..........
ــ لنبدأ فى الغد إن شاء الله ..
ــ وفيم الإنتظار للغد ؟.
ــ أود أن أذهب أولا ,بل الآن إلى دار بنت العم ,فإنى لم أسلم عليها بعد ,هيا بنا إلى دارها ..
ــ من ؟. آآآآآه السيدة نفيسه ؟.
ــ أجل أسلم عليها وأسمع منها ما حدثت به من أحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأسألها خالص الدعاء . إنى لأظنها إن شاء الله من أولئك الذين آتاهم الله رحمة من عنده وعلمهم من لدنه علما ..
ــ صدقت فى ظنك يا صاحبى ,إنها سيدة جليلة القدر مقبولة الدعاء . خذنى معك فإن لى أياما لم أشرف بالسلام عليها والجلوس فى حضرتها ..
فى الطريق أخذ يحكى له جانبا من كراماتها التى أجراها الله تعالى على يديها فى مصر وتناقلها المصريون قال ...............
ــ فى العام الماضى توقف نهر النيل عن الفيضان وانتظرنا أياما طويلة أن يفيض بالماء كعادته كل عام دون جدوى . هرع الناس إليها يسألونها الدعاء فلبت وألحت فى الدعاء لربها . ثم أعطت للناس قناعها وطلبت إليهم أن يطرحوه فى النهر . فما غربت شمس هذا اليوم حتى زخر النيل بمائه وزاد زيادة عظيمة لم نعهدها فيه من قبل ..
وصلا أخيرا إلى باب دارها توقف الشافعى برهة قبل أن يطرق الباب وهو يقول فى أدب وخشوع مشيرا بيده ....................
يا أهل بيت رسول الله حبكم .. فرض من الله فى القرآن أنزله ..
يكفيكم من عظيم القدر أنكم .. من لم يصلى عليكم لا صلاة له ..


@ بدأ الشافعى فى مصر عملا دؤوبا مليئا بالكفاح والنشاط ومضت أيامه زاهرة بالعلم زاخرة بالأحداث غنية بالاستنباط وتخريج الأحكام والتصنيف . إتبع نظاما ثابتا لا يحيد عنه وهو يجلس إلى طلاب علومه فى المسجد العتيق فى الزاوية التى صارت مع الأيام تعرف بإسمه . كان الناس فى البداية يقولون لبعضهم ........... هيا بنا إلى زاوية الخشابيه نستمع إلى هذا الشيخ القرشى الجالس هناك . ثم صاروا مع مرور الأيام وتعاقبها يقولون لبعضهم ............ هيا بنا إلى زاوية الشافعى ..
جلس الشافعى بعد صلاة الصبح وقد بدا شيخا طويلا أسمر البشرة رقيقها معتدل القامة خفيف العارضين له لحية حمراء قانية يخضبها بالحناء . لابسا ثوبه الرقيق من الكتان والقطن البغدادى . بداخله نفس صفت من أدران الدنيا وشوائبها وعقل حاضر البديهة عميق الفكرة بعيد الغوص . لا يكتفى بالقشور وظواهر الأمور بل يغوص إلى الأعماق ويتعدى القشر إلى اللب حتى يصل إلى الحق كاملا فيما يراه . لا ينغلق عليه أمر وإن آثر السكوت أحيانا عن الرد ورعا وهيبة . مع كل هذا يقول لتلاميذه فى تواضع العلماء العاملين ...........
ــ إذا ذكرت لكم أدلة فلم تقبلها عقولكم ,فلا تقبلوها ،فإن العقل مضطر إلى قبول الحق ..
ومع تدقيقه فى البحث والتحرى ,كان يحتاط من الوقوع فى الزلل فيقول لمن يتلقى عنه ............
ــ كل مسألة تكلمت فيها وصح الخبر فيها عن النبى "صلى الله عليه وسلم" عند أهل النقل بخلاف ما قلت ,فأنا راجع عنها فى حياتى وبعد موتى .... حديث النبى أولى ولا تقلدونى ..
جلس ومن حوله جمع كبير من الناس جاءوا إليه عطشى إلى رشفة من مورده العذب . منهم جماعة من الشباب فى أعمار متقاربة لا يفارقونه أبدا كظله يتحركون بحركته ويسكنون بسكونه ...الربيع الجيزى والربيع المرادى وهو مؤذن المسجد العتيق وحرملة بن يحي وإسماعيل المزنى وأبو يعقوب يوسف البويطى ويونس بن عبد الأعلى ,بينما أصغرهم سنا فتى فى السابعة عشر من عمره إسمه محمد ,إبن صاحبه عبد الله بن عبد الحكم .... أوصاه أبوه سرا وقال له ..........
ــ أوصيك يا بنى أن تلزم حلقة الشافعى ....لا تفارقه ..
كان الولد فى عجب من أمر أبيه صاحب الشافعى وصديق عمره .... قال ........
ــ كيف يا أبت أترك مجلسا أتعلم فيه منك ومن شيخنا أشهب بن عبد العزيز فقه إمام دار الهجره مالك بن أنس . إلى مجلس آخر لا علم لنا بصاحبه ؟.
ــ إسمع منى يا ولدى ....إنك لو جاوزت هذا البلد وتكلمت فى مسألة فقلت فيها قال أشهب فسيقولون لك ومن أشهب ؟. إلزم الشافعى يا ولدى تنل خيرا كثيرا بإذن الله تعالى ..
لم يسلم الأب من معاتبة أصحابه من المتعصبين لإمام دار الهجرة فى ذلك وهم يقولون له ...........
ــ يا أبا محمد ..... إنا نرى ولدك محمدا إنقطع إلى هذا الرجل المكى وتردد إليه تاركا حلقتنا راغبا عن مذهب أصحابنا ..
لكنه كان يرد عليهم ملاطفا ليحد من حنقهم ...........
ــ هو حدث ويحب النظر فى اختلاف أقاويل الناس ومعرفة ذلك ..
كان هؤلاء الحواريين يسبقونه إلى الحلقة متخذين أماكنهم من حوله لا يقومون منها إلا بعد أن يقوم من مكانه . كل واحد منهم يعيره سمعه بينما يتابعون بعيونهم ما تخطه أيديهم من كلام الشيخ أولا بأول فى قراطيس أمامهم لا يكاد يتفلت من ريشة أحدهم حرف واحد منه ..
قال الشافعى لأهل القرآن بصوته العذب كأنه قيثارة تداعب أوتارها الآذان بجرسها وتأسر النفوس برقتها ..............
ــ الحمد لله بما هو أهله وكما ينبغى له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . وأن محمدا عبده ورسوله المفضل على جميع خلقه بفتح رحمته وختم نبوته . المرفوع ذكره مع ذكره فى الأولى والشافع المشفع فى الأخرى وبعد : يقول الله جل ثناؤه " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم . ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا " . وقال " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم . فإن تنازعتم فى شئ فردوه إلى الله والرسول " ..
ــ من هم أولو الأمر ؟.
ــ قال بعض أهل العلم : " أولوا الأمر " هم أمراء سرايا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" والله أعلم لأن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة . كانت تأنف أن تعطى بعضها بعضا طاعة الإماره فلما دانت لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" بالطاعه لم تكن ترى ذلك يصلح لغيره "صلى الله عليه وسلم" . لذلك أمروا أن يطيعوا أولى الأمر الذين أمرهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا طاعة مطلقة بل طاعة مستثنى فيها لهم وعليهم . ثم قال تعالى " فإن تنازعتم فى شئ " يعنى والله أعلم هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم . " فردوه إلى الله والرسول " يعنى والله أعلم إلى ما قال الله والرسول إن عرفتموه فإن لم تعرفوه سألتم الرسول عنه إذا وصلتم إليه ومن وصل منكم إليه . لأن ذلك الفرض الذى لا منازعة لكم فيه لقول الله عز وجل " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " ..
ــ وماذا يفعل المسلمون من أمثالنا بعد انقضاء أجـل رسـول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ من تنازع من بعد رسول الله رد الأمر إلى قضاء الله ثم قضاء رسوله "صلى الله عليه وسلم" . فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصا ردوه قياسا على أحدهما ..

ويظل الشافعى رائحا غاديا مع أهل القرآن سائحا فى معانى آيات الكتاب ودقائقها وما تشير إليه من أحكام . يحلق بهم فى أجوائه العطره وهم مرهفون السمع إليه لا يتحركون من أماكنهم حتى يأذن لهم فيجيئه أهل الحديث والمشتغلين بالسنة وأخبارها ليقول لهم ..............

ــ المحدثين من أهل العلم وضعوا موضع الأمانة ونصبوا أعلاما للدين وكانوا عالمين بما ألزمهم الله من الصدق فى كل أمر والحديث فى الحلال والحرام أعلى الأمور وأبعدها من أن يكون فيه موضع ظنه . فمن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم يقبل حديثه . كما يكون من أكثر الغلط فى الشهادات لم تقبل شهادته . وأقبل الحديث : حدثنى فلان عن فلان إذا لم يكن مدلسا ولا أقبل فى الشهادة إلا : سمعت أو رأيت أو أشهدنى . وأقبل فى الحديث الرجل الواحد والمرأه ولا أقبل واحدا منهما فى الشهادات وحده ..
ــ وما الحجة فى قبول خبر الواحد ؟.
ــ قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" " نضر الله عبدا سمع مقالتى فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " . فلما ندب رسول الله إلى استماع مقالته وحفظها وآدائها امرأ يؤديها والأمر واحد دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا بما تقوم به الحجه على من أدى إليه . لأنه إنما يؤدى عنه حلال وحرام يجتنب وحد يقام ومال يؤخذ ويعطى ونصيحة فى دين ودنيا . نعود لما كنا نتحدث فيه قبل سؤال السائل ..
تمر لحظات صمت يلتقط فيها الشيخ أنفاسه وقد جف حلقه قبل أن يواصل كلامه قائلا بعد أن أفرغ فى جوفه قليلا من الماء من آنية وضعوها إلى جـواره .........
ــ وتختلف الأحاديث فنأخذ ببعضها استدلالا بكتاب الله أو سنة أو إجماع أو قياس وهذا لا يؤخذ به فى الشهادات . وأحيانا تترك اللفظة من الحديث فتحيل معناه أو ينطق بها بغير لفظ المحدث فتحيل معناه والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث . فإذا كان الذى يحمل الحديث يجهل هذا المعنى وكان غير عاقل للحديث لم يقبل حديثه إذا كان ممن لا يؤدى الحديث بحروفه . وكان يلتمس تأديته على معانيه غير عاقل للمعنى . ولا يجوز لأحد أن يختصر حديثا فيأتى ببعضه ويترك بعضه وإنما يحدث بالحديث كما روى بألفاظه ..
سأله يونس بن عبد الأعلى .............
ــ حدثنا يا إمام بحديث صحيح ؟.
ــ حدثنا مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عتبه عن زيد بن خالد الجهنى قال : صلى بنا رسول الله "صلى الله عليه وسلم" صلاة الصبح بالحديبيه فى إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟. " قالوا الله ورسوله أعلم قال " أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر . فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بى وكافر بالكوكب . وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بى مؤمن بالكوكب " . ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" عربى اللسان يحتمل قوله هذا معانى . وإنما مطر بين ظهرانى قوم مشركين لأن هذا فى غزوة الحديبيه . فأرى معنى قوله "صلى الله عليه وسلم" والله أعلم أن من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك إيمان بالله عز وجل لأنه يعلم أنه لا يمطر ولا يعطى إلا الله . أما من قال : مطرنا بنوء كذا على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا فذلك كفر كما قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . لأن النوء وقت والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئا ولا يمطر ولا يصنع شيئا ..
قاطعه أحد الجالسين قائلا وقد أدركه الخوف ................
ــ يا إمام نحن نقول شيئا كهذا ولكنا لا نعنى ذلك الذى قصده الكفار . أيكون قائله داخل فيمن أخبر عنهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ ماذا تعنون إذاً ؟.
ــ يقول بعضنا من سكان شمال البلاد أو شرقها ممن يعيشون على شواطئ البحار . مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا فى نوء وقت كذا كما يقول الواحد منا مثلا مطرنا فى شهر كذا ..
ــ هذا ليس كفرا لكن غيره من الكلام أحب إلى من هذا القول . يقول مثلا مطرنا فى وقت كذا أو يقول كما كان يقول بعض أصحاب النبى "صلى الله عليه وسلم" إذا أصبح وقد مطر الناس قال : مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ قوله تعالى " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها " . وقد روى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال يوم جمعه وهو على المنبر : كم بقى من نوء الثريا ؟. فقام العباس فقال : لم يبق منه شئ إلا العوا . فدعا عمر ودعا الناس فمطر مطرا أحيا الناس منه . هذا القول من عمر يبين لكم ما وصفت لأنه إنما أراد بقوله : كم بقى من وقت الثريا ؟. لمعرفتهم بأن الله تعالى قدر الأمطار فى أوقات فيما جربوا كما علموا أنه قدر الحر والبرد فيما جربوا من أوقات ………………
ويقوم جماعة الحديث بعد أن يطفئوا غلتهم ويأخذوا زادهم ويأتى فى أعقابهم أصحاب المسائل والفتاوى . يجلسون ويسألون ويحاورون والشيخ يجيب كل واحد على مسألته وتدور بينه وبينهم أسئلة وحوارات كهذه ..............
ــ هل معنى قول النبى "صلى الله عليه وسلم" " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " . يستغنى به ؟.
ــ لا ليس هذا معناه . فلو أراد النبى "صلى الله عليه وسلم" الإستغناء به لقال : يتغانى أو قال يستغن ..
ــ ما معنى الحديث إذاَ ؟.
ــ يتغنى من الغناء فالمعنى على ذلك أن يقرأ القرآن حدرا وتحزينا وأن يحسن صوته عند تلاوته ..
سأله يونس بن عبد الأعلى : يا إمام هل فى القرآن الكريم ذكر للصلوات الخمس المفروضة علينا فى اليوم والليله ..
ــ نعم أما قرأت قوله تعالى فى سورة الروم " فسبحان الله حين تمسون " هذه صلاة المغرب والعشاء . " وحين تصبحون " صلاة الصبح . " وله الحمد فى السموات والأرض وعشيا " أى صلاة العصر . " وحين تظهرون " صلاة الظهر تلك هى الصلوات الخمس مـن كتاب الله تعالـى ..
سأله أبو يعقوب يوسف البويطى : ما هو المعـروف فـى قـول الله تعالـى " ولهـن مثل الذى عليهن بالمعروف " ؟.
ــ جماع المعروف إعفاء صاحب الحق من المؤنة فى طلبه وآداؤه إليه بطيب نفس لا بضرورته إلى طلبه . ولا تأديته بإظهار الكراهية فى تأديته وأيهما ترك فظلم بين ..
وتتوالى أسئلة الحاضرين فيسأله الربيع الجيزى : هل سجود التلاوة فرض . ومن لم يسجد هل عليه قضاء ؟.
ــ سجود القرآن ليس بحتم ولكنا لا نحب أن يترك لأن النبى "صلى الله عليه وسلم" سجد فى سورة النجم مرة وترك أخرى وليس على تاركه قضاؤه لأنه ليس بفرض ..
ــ ما الدليل على أنه ليس بفرض ؟.
ــ السجود صلاه وقد قال الله تعالى : "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" . فكان الموقوت يحتمل موقوتا بالعدد وموقوتا بالوقت . فأبان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أن الله جل ثناؤه فرض خمس صلوات فسأله رجل : يا رسول الله هل على غيرها ؟. قال : لا إلا أن تطوع . فلما كان سجود القرآن خارجا من الصلوات المكتوبات كان سنة اختيار من تركه ترك فضلا لا فرضا ..
ــ أيكون هذا هو أيضا حكم من نوى أن يصوم يوما تطوعا ثـم أفطـر ؟.
ــ أجل لا قضاء عليه هو الآخر ..
ــ لكنا سمعنا من يفتى بغير ذلك وحجته قول رسول الله "صلى الله عليه وسلم" للسيدة عائشه والسيدة حفصه رضى الله عنهما : "صوما يوما مكانه" لما أصبحتا صائمتين فأهدى لهما شئ فأفطرتا ..
ــ ما تقوله صحيح وبعض الناس جادلنى فيه وبنى حجته على هذا الحديث المرسل لابن شهاب ومراسيله ومراسيل أقرانه بل من هم أسن منه ليست حجه والكلام فى هذا يطول بنا لو استقصيته معكم ..
حانت منه التفاتة قبل أن يهم بالقيام إلى الفتى محمد ابن صديقه عبد الله بن عبد الحكم فابتدره مبتسما : ماذا يا ابن عبد الحكم ألمح تساؤلا على وجهك ؟.
ــ لقد أثقلنا عليك يا سيدى وأكثرنا السؤال ..
ــ سل يا ولدى فالنهار لم ينتصف بعد ..
ــ ليتك تحدثنا عن رفع الأيدى فى الصلاه ؟.
ــ يرفع المصلى يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه وإذا أراد أن يركع . وإذا رفع رأسه من الركوع عند قوله سمع الله لمن حمده رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك فى السجود ..
ــ فما الحجة فى ذلك ؟.
ــ حدثنا ابن عيينه عن الزهرى عن سالم عن أبيه عن النبى "صلى الله عليه وسلم" مثل قولنا ..
ــ فإنا نقول : يرفع يديه فى الإبتداء حين يفتتح الصلاه ثم لا يعود لرفعهما ..
ــ أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبى "صلى الله عليه وسلم" كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه . وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وكذلك فعل ابن عمر . فكيف تخالفون رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وابن عمر وتقولون لا يرفع يديه إلا فى ابتداء الصلاة وقد رويتم عنهما أنهما رفعا فى الإبتداء وعند الرفع من الركوع ؟. أفيجوز لعالم أن يترك على النبى وابن عمر لرأى نفسه ؟. أو على النبى "صلى الله عليه وسلم" لرأى ابن عمر ؟. ثم القياس على رأى ابن عمر ؟. ثم يأتى موضع آخر يصيب فيه فيترك على ابن عمر لما روى عن النبى "صلى الله عليه وسلم" فكيف لم ينهه بعض هذا عن بعض ؟.
ــ فإن أتباعه يحتجون بقوله : وما معنى رفع اليدين عند الركوع ؟.
ــ هذه الحجة منهم فى غاية الجهاله لأن معنى رفع اليدين عند الركوع مثل رفعهما عند الإفتتاح . تعظيما لله تعالى وسنة متبعة يرجى فيها ثواب الله . ومثل رفع اليدين على الصفا والمروة وغيرهما ..
ــ فإذا انتهى الإمام من قراءة الفاتحه هل يرفع صوته بأمين ؟.
ــ نعم ويرفع بها من خلفه أصواتهم ..
ــ ما الحجة فيما قلت على هذا ؟.
ــ ما أورده مالك بإسناده عن أبى هريره أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال : "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" . وفى هذا القول دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين لأن من خلفه لا يعرف وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه ..
ــ فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين ..
ــ هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم (مالك) عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" . كذلك روى وائل بن حجر أن النبى "صلى الله عليه وسلم" كان يقول آمين يجهر بها صوته ويحكى مطه إياها . وكان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقنى بآمين . وكذلك أخبرنا شيخنا ومفتى مكه مسلم بن خالد الزنجى أن عطاء كان يسمع الأئمة يقولون آمين ومن خلفهم يقولونها حتى أن للمسجد للجه ………………

@ وذات مرة وكان ذلك فى شهر رمضان والشافعى راجع من صلاة القيام . حيث اعتاد أن يصليها إماما فى مسجد أقامته السيدة نفيسة فى دارها . وبينما هو فى حديثه مع الناس إذ دخل المسجد فتى أعرابيا بيده رقعة ,كان يبدو فى عجلة من أمره . أخذ يتخطى رقاب الناس حتى صار أمام الشافعى ,ناوله الرقعة ثم وقف مكانه منتظرا ..

قرأها وابتسم ابتسامة خفيفة وهو يأمر بالدواة والريشة وأخذ يكتب كلاما على ذات الرقعه . طواها وأعطاها له دون أن يتبادلا معا كلمة واحده والجالسون فى عجب من أمر هذا الفتى الأعرابى لا علم لهم بمسألته أو بجواب الشيخ له . لم يخرجهم من حيرتهم ودهشتهم إلا عودة الشافعى لسابق حديثه . غير أن الربيع المرادى مؤذن المسجد العتيق وأكثر تلاميذ الشافعى فضولا وأشدهم حرصا على جمع كل أقواله لا يكاد يفارقه إلا إلى داره حريصا على قضاء مصالحه . لم يطق صبرا فتسلل فى خفة خلف الفتى الأعرابى ..
لحظه الشافعى بركن عينه فلم يجد بدا من الإبتسام من فضول المؤذن . على بعد خطوات من المسجد أدركه الربيع فاستوقفه مناديا عليه وسأله ...........
ــ نشدتك بالله يا أخا الإسلام أن ترينى رد الشيخ على مسألتك ؟.
أعطاه الأعرابى الرقعة على مضض منه بعد ان استحلفه بالله . أخذ الربيع يقرأ غير مصدق ما تراه عيناه . طوى الرقعة وعاد إلى مجلس الشيخ وهو يتمتم فى سره ..............
ــ ما هذا الكلام العجيب المكتوب فى تلك الرقعه ؟. كيف يفتى الشيخ لفتى فى مقتبل العمر بمثل هذه الفتوى ..
إتخذ مكانه وفى نفسه شئ حتى إذا انتهى الدرس ناداه الشافعى وقال له ........
ــ انتظر يا ابن سليمان سنمضى سويا ..
بعد أن خرجا سويا من باب المسجد ابتدره الشافعى قائلا ليرفع عنه الحرج وهو يدرك تماما ما يتلجلج فى صدره ولا ينطق به لسانه ...............
ــ إيه يا ربيع لم لا تتكلم ؟. لعله وقع فى خاطرك سوء ظن من جهتى أليس كذلك ؟.
ــ معاذ الله يا سيدى الإمام إنما أنا فى عجب مما قرأت فى رقعة هذا الفتى الأعرابى ..
إبتسم الشافعى متسائلا ............
ــ أصدقنى القول أنت فى عجب من سؤال الفتى أم من الإجابه ؟.
أجاب الربيع بن سليمان على استحياء ناظرا بعينيه إلى الأرض متحاشيا أن تقع عينه على شيخه وقد ذهب عنه بعض الروع وإن لم يفارقه ..........
ــ من كليهما ..
ــ لم لم تسأل الفتى الأعرابى عن أمره ؟.
ــ حاولت أن أسأله إلا أنه تولى عنى غاضبا ..
ضحك الشافعى قائلا ............
ــ لأنك اطلعت على أمر أراد أن يكون سرا بينى وبينه . هذا الشاب الهاشمى يا أبا حامد قد تزوج فى هذا الشهر وهو كما رأيت حدث السن فكتب فى رقعته .... سل المفتى المكى هل فى تزاور .. وضمة مشتاق الفؤاد جناح . فأدركت أنه يسأل هل عليه جناح أن يقبل أو يضم من غير وطء ؟. فأجبته بما علمت وأنكرته أنت على ..
ــ أجل يا سيدى الإمام لقد كتبت له .... أقول معاذ الله أن يذهب التقى .. تلاصق أكباد بهن جراح . بارك الله فيك يا سيدى ومعذرة لقلة فهمى . والله ما رأيت أحدا فى مثل حكمتك وفراستك ………………

@ ويأتي أهل اللغة والشعر والعروض فيحكى لهم الشافعى طرفا من نوادره وحكاياته ونتفا من أشعاره فى المواعظ والحكم ,وهم فى دهشة من فصاحة لسانه وعذوبة نظمه وإلقائه وهو ينشدهم :

لقد أسمع القـول الذى كان كلما .. تذكرنيه النفس قلبى يصدع ..
فأبدى لمـن أبداه منـى بشاشة .. كأنـى مسرور بـما منه أسمع ..
وما ذاك من عجب به غير أننى .. أرى ترك بعض الشر للشر أقطع ..
قال أبو يعقوب البويطى أكثر تلاميذه زهدا وورعا وأرجحهم عقلا وأدناهم منه مجلسا .............
ــ قد قلت فى الحكم يا شيخنا ,فهل لك فى الغزل ؟.
ــ يا كاحل العين بعد النوم بالسهر.. ما كان كحلك بالمنعوت بالبصر ..
لو أن عينى إليك الدهر ناظرة .. جاءت وفاتى ولم أشبع من النظر ..
سقيا لدهر مضى ما كان أطيبه .. لولا التفـرق والتنغيص بالسفر ..
إن الرسول الذى يأتى بلا عدة .. مثل السحاب الذى يأتى بلا مطر ..

خـلاف مالـك


@ فى تلك الأثناء أنجبت دنانير ولدها أبو الحسن بعد أن صار لهم فى مصر حولين من الزمان . جاءوا له بمرضعة من صعيد مصر إسمها "فوز" تتولى أموره . مضت الأيام تترى والشافعى ينشر آراءه وفتاويه من زاويته بالمسجد العتيق تماما كما كان يفعل فى حلقته فى البيت العتيق تحت الميزاب وتلاميذه المخلصون يكتبون كل حرف يقع فى أسماعهم , حتى صارت لدى كل منهم ذخيرة هائلة من الفتاوى والآراء والمسائل فى شتى أمور الدين , لكن بقى مؤذن المسجد العتيق "الربيع المرادى" أكثرهم إخلاصا للشافعى وأخذا منه وخدمة له . كان ينجز له كثيرا من مصالحه ويشترى له حاجيات بيته .

عاتبه الشافعى باسما ذات مرة , لما جاءه بورقة دون فيها ثمن ما اشتراه من السوق ..............

ــ ما هذا الذى كتبت . ضيعت قراطيسك باطلا ,إنى لا أنظر فى حساب لك يا ابن سليمان ..

ــ معذرة أيها الشيخ الجليل إن أم أبى الحسن ربما طلبت الشئ ولم تأذن لى أنت فيه ؟.

رد الشافعى مازحا ومداعبا ...........

ــ يا طويل الرقاد , أنت فى حل مـن مالى كله ..

فإذا ما خرج عن الدرس لحاجة مهمة أعاد عليه الشافعى ما فاته سماعه قائلا له ...........

ــ أكتب يا ربيع فأنت راويتى . ما أحبك إلى قلبى . والله لو أمكننى أن أطعمك العلم لأطعمتك ..

وكثيرا ما كان يطلب إليه وإلى الفتى الحبيب إلى قلبه "محمد" إبن صديقه عبد الله بن عبد الحكم أن يأتيا إليه فى داره ويقول لهما مرغبا ...........

ــ سوف أنتظركما ولن أتغدى حتى تأتيا . عندى جارية ماهرة فى صنع الطعام وتحسن عمل أصناف الحلوى التى تشتهونها ..

وكان فى المقابل لا يرد دعوتهما له إذا طلب إليه أحدهما أن يذهب معه لحفل عرس فى الفسطاط ولا يستنكف من إظهار سروره والتبسط مع القوم . وفى تلك المجالس لا ينكر عليهم ما يفعلونه من لهو برئ وضرب على الدف فى هذه المناسبات بل يشاركهم فرحتهم قائلا لمن يلمح على وجهه استنكارا لذلك منه وهو الشيخ الوقور ...........

ــ يا هذا لا تعجب . الوقار فى النزهة سخف ………………

وذات مرة حدث أنه لما تزوج الربيع المرادى ,سأله الشافعى .........

ــ كم أصدقتها ؟.

ــ ثلاثين دينارا ..

ــ كم أعطيتها من الثلاثين ؟.

ــ ستة دنانير ..

ما انتهى من إجابته حتى دخل الشافعى داره وعاد إليه قائلا وهو يمسك صرة فى يده ...............

ــ خذ يا ربيع تلك أربعة وعشرون دينارا . هيا أدً ما تبقى عليك من صداق امرأتك ..



كم من مرات كثيرة يستنهض همة تلاميذه بعد أن تعلموا منه الكثير وأخذوا عنه علوما جمه . كان يشيع روح المنافسة بينهم ويعد الواحد منهم بدينار أو أكثر إن أجاب إجابة صحيحة على سؤاله . أما ولده محمد أبو عثمان فإنه كان لا يفارقه فى مجلس العلم يظل معه الساعات الطوال وأبيه جالس يملى على تلاميذه كأنه يسابق الزمن رغم ما كان به من علة البواسير . حتى أن تلاميذه أحضروا له ذات مرة طبيبا مصريا لما رأوا من ضيق صدره وشدة المرض عليه وتحامله على نفسه . قال له الطبيب ناصحا بعد أن ركب له الدواء .............
ــ يا أبا عبد الله أنصحك ألا تطيل الجلوس وأن ترفق بنفسك ,فلا تحملها بعد فوق ما تحتمل . إعلم أن هذا الدواء وحده لا يكفى ..
لكن هيهات ,إنه يشعر ببصيرته وتفاقم علته أن أيامه فى الدنيا باتت قليله وأنه لن يعمر تحت سمائها طويلا . لم يكن أمامه بد من أن يعيش فى سباق مع أيامه الباقيه حتى يكمل رسالته التى لم يأن لها أن تكتمل بعد . لهذا كان يستمد قوته وعافيته من نبع آخر لا يوجد فى عقاقير الأطباء أو نصائحهم . كان إذا اشتد عليه المرض وأجهده السقم يقول لتلميذه محمد بن عبد الله بن الحكم ..........
ــ إذهب يا ولدى إلى بنت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" السيدة نفيسه . قل لها إن ابن عمك الشافعى ما منعه من زيارتك منذ أيام إلا المرض ويسألك الدعاء ..
وفور عودته من عندها يقول لشيخه .............
ــ السيدة نفيسه تقرئك السلام وقد دعت لك بالشفاء والعافيه ..
ــ علمت يا ابن عبد الحكم وأنت فى الطريق إلى ,فإنى عوفيت والحمد لله ..
وكان من عادة الشافعى أن يمر على دارها وهو فى طريقه إلى المسجد العتيق بالفسطاط وأيضا فى غير ذلك من الأوقات . وفى تلك الواحة الوارفة الظلال حيث تقيم يجلس إليها يتدارس معها العلم ويسمع منها الأحاديث النبوية الشريفه ولا ينسى فى كل مرة قبل أن يخرج من عندها أن يسألها الدعاء ..
لم تكن تلك العلة هى الشئ الوحيد الذى ينغص عليه حياته ويكدر صفو لياليه لكن أبت الأقدار رغم معاناته مع المرض وتقلباته أن تتركه ينعم بالدعة والسكينة والأمن الذى شعر به منذ وطأت أقدامه تراب مصر ثم على امتداد عامين ارتوى خلالهما من ماء نيلها العذب . أخذت الأمور تتفاقم بينه وبين بعض المتعصبين لآراء إمام المدينه مالك بن أنس الذين ظنوا لضيق أفقهم وضحالة أفهامهم أنهم بأفعالهم الحمقاء وتهجمهم واجترائهم على الشافعى أكثر غيرة على شيخهم وأشد ولاء وأنهم أكثر محبة ووفاء له من سواه ..
لم يعلموا لقصر نظرهم أن الشافعى باحث أمين عن الحقيقة المجردة التى لا مجال فيها للمحاباة أو المداراة حتى لو كانت مع شيخه الحبيب إلى قلبه . الذى كان يقول دائما إذا سئل عنه .............
ــ إذا ذكر العلماء فمالك هو النجم وهو الأثر ..

وقصة هذه الخلافات التى ظلت تحتدم وتتفاقم حتى وصلت إلى المواجهة والصدام بدأت منذ بدأ الشافعى يلقى دروسه على الناس ويجاهر غير هياب ببعض الآراء والفتاوى . تصور بعض المتعصبين ذوى الأفق الضيق أنه يقصد من ورائها تعمد هدم ما تعلموه فى الزاوية المالكيه وما انتهجوه على يد شيوخهم من فقه إمام دار الهجره مالك بن أنس . وانفجر بركان الحقد والغل يوم أن خرج الشافعى على الناس بكتاب كتبه بعد أيام من وصوله إلى مصر وظل حبيسا لا يرى النور حولا كاملا إلى أن جاءه بعض الناس من طلاب العلم قائلين له ................

ــ كنا بالأمس نتحاور فى مسألة مع واحد من أولئك الذين يجلسون فى زاوية المالكيه عند الشيخ أشهب بن عبد العزيز فاختلفنا حول مسألة من المسائل فقلت له : قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وتلوت عليه الحديث الذى يؤيد رأيى ....

سأله الشافعى ....
ــ ماذا فعل ؟.
رد على غاضبا ...... إمامنا مالك قال كذا وتلا على حديثا آخر . فما كان منى إلا أن فارقته دون أن أتم الحوار معه ..
ــ حسنا فعلت يا رجل . أما هؤلاء فإنهم بلهاء حمقى مبتدعون يتصورون أنهم بحماقاتهم تلك وتعصبهم يوقرون شيخهم . بينما هم فى الحقيقة يسيئون إليه ويضعون من قدره ..

ظل الشافعى طوال الطريق وهو راجع إلى داره بعد هذا اللقاء يقلب فى رأسه ما سمعه لتوه . كان فى حيرة من أمره إزاء هذه النازلة وتلك الفتنة التى تطل برأسها على الناس . إنها نازلة التعصب البغيض وفتنة الفرقة والخلاف والجدل وهو يشعر أن عليه واجبا تجاه الدين والعلم ويحمل على كاهله أمانة وواجبا عليه آداؤه لأمة الإسلام والمسلمين . ما كادت قدماه تلمسان عتبة الدار حتى كان القرار النهائى مستقرا فى رأسـه ..

بدأ من حينه فى تدوين هذا الكتاب الذى أسماه “ خلاف مالك “ . ظل ليال طوال عاكفا عليه يثبت فيه المسائل التى يختلف فيها مع شيخه إلى أن أتمه أخيرا ثم طواه ووضعه فى خزانة عنده . ظل الكتاب حبيسا عن أعين الناس لا يطلع أحدا عليه حولا كاملا . ما فعل ذلك إلا تأدبا مع أستاذه الراحل وحياء وهيبة منه ووفاء لذكراه منتظرا أن يأتيه أمر من ربه أو يشرح صدره لنشره على الناس . حتى كان يوم جاءه فى داره وكان معتكفا منذ أيام تلميذه الدؤوب "الربيع المرادى" . إستأذن فى الدخول ولدى جلوسه سأله بعد أن تبادلا عبارات الترحيب والسلام ...........

ــ كيف أصبحت يا إمام ؟.
ــ أصبحت ضعيفا يا أبا حامد ..
ــ قوى الله ضعفك يا شيخنا ..
ــ أجاب الله قلبك ولا أجاب لفظك يا ربيع ..
ــ ماذا تعنى يا سيدى ؟.
إبتسم الشافعى قائلا ...........
ــ إن قوى الله على ضعفى قتلنى يا رجل ..
نظرا إليه متسائلا فأجابه الشيخ قبل أن يسأل ...........
ــ قل قواك الله على ضعفك ..
ــ لا تؤاخذنى يا شيخنا والله ما أردت إلا خيرا وما قصدت إلا الدعاء لك ..
إبتسم الشافعى مرة ثانية وهو يقول ..........
ــ لا أكذبك يا بنى . والله لو شتمتنى صراحا لعلمت أنك لم ترد . المهم ماذا وراءك يا أبا حامد ؟.
ــ بالأمس جمعنى لقاء مع الجيزى والبويطى وابن عبد الأعلى فى دارى بعد صلاة العشاء . أخذنا الحديث والنقاش فى أمور كثيره حتى اختلط علينا الأمر فى بعض القضايا ولم نستطع بيان الحقيقة فيها . وبعد أن ذهب كل واحد إلى داره أخذت أفكر وحدى فيما قلناه وأعيد النظر فيه . شعرت أن الحقيقة لا تزال تائهه فعزمت بينى وبين نفسى أن آتى إليك لتجلى لنا حقيقة الأمر ؟.
ــ لم أفهم بعد ماذا تقصد تحديدا وإن كنت أدركت من كلامك أنك ربما تعنى تلك الأمور التى كنتم تعملون بها وجئتكم أنا بخلافها . أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا إمام ..
ــ إذن سل يا مؤذن المسجد العتيق ما بدا لك ..
ــ بأى شئ تثبت الخبر عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإنا نسمع أحاديث يخالف بعضها بعضا ؟.
ــ آه سؤال مهم وبداية طيبة منك . كتبت رأيى فى تلك القضية المهمة مؤيدا بالحجة فى كتاب أسميته جماع العلم وفصلت الكلام فيها فى كتاب آخر لم أخرج به بعد على الناس ..
ــ ليتك تروى ظمأى بشئ منه الآن ..
ــ إسمع يا أبا حامد إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهى إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فهو ثابت عنه "صلى الله عليه وسلم" . ولا تترك لرسول الله حديثا أبدا إلا حديثا وجد عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حديث يخالفه ..
ــ تلك هى القضية التى شغلتنى ماذا أفعل إذا اختلفت الأحاديث ؟.
ــ إذا اختلفت الأحاديث عنه فالإختلاف فيه وجهان ,أحدهما أن يكون بها ناسخ ومنسوخ فنعمل بالناسخ ونترك المنسوخ ..
ــ فإذا لم يكن لدينا دليل على أيها الناسخ وأيها المنسوخ ؟.
ــ لا تتعجل يا ابن سليمان ,هذا هو الوجه الآخر . إذا اختلف حديثان ولا دلالة على أيها الناسخ نذهب إلى أثبت الروايتين . فإن تكافأتا ذهبت إلى أشبه الحديثين بكتاب الله وسنة نبيه فيما سوى ما اختلف فيه الحديثان من سنته . فإذا كان الحديث عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لا مخالف له عنه وكان يروى عمن دون رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حديث يوافقه لم يزده قوة وحديث النبى "صلى الله عليه وسلم" مستغن بنفسه . وإن كان يروى عمن دون رسول الله "صلى الله عليه وسلم" حديث يخالفه لم ألتفت إلى ما خالفه . وحديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أولى أن يؤخذ به ..
ــ هل يذهب صاحبنا هذا المذهب ؟.
ــ تقصد شيخنا مالك بن أنس إمام دار الهجره ؟.
ــ أجل ..
ــ نعم ذهب هذا المذهب فى بعض العلم وتركه فى بعض لقول واحد من الصحابة أو لقول بعض التابعين أو لرأى نفسه . ثم يقول فى بعض ما ذهب إليه من المختلف فيه : الأمر المجتمع عليه عندنا ولا يجوز ادعاء الإجماع بالمدينه أو فى غيرها . وفى قول الذى ادعى فيه الإجماع اختلاف . ولا يجوز القول أيضا بأن الناس اجتمعوا على شئ إلا إذا التقى أهل العلم وأقروا بما اجتمع عليه الناس . أو يقولوا فى أقل القول لا نعلم من أهل العلم مخالفا فيما قلتم اجتمع الناس عليه . أما أن تقولوا اجتمع الناس وأهل المدينة معكم يقولون ما اجتمع الناس على ما زعمتم أنهم اجتمعوا عليه فأمران أسأتم النظر بهما لأنفسكم وعندى أمثلة كثيرة تدلك على صحة ما أقول ..
ــ هل تفصلها لنا يا سيدى حتى نزداد تفقها فى أمور ديننا ؟.
ــ سأوردها للناس وأعرفهم بجلية الأمر فى حينه حتى ينتبهوا قبل رين الغفلة إن شاء الله ..
ــ ليتك تنير بصيرتى وتجلى لى هذا الغموض الآن ولو بمثال واحد يا سيدى ؟.
ــ سأضرب لك مثالا الآن بسجود القرآن . ماذا تقولون فيه ؟.
ــ نقول اجتمع الناس على أن سجود القرآن إحدى عشرة سجده ليس فى المفصل ( السور التى آياتها قليله ) منها شئ ..
ــ وهذا قول مالك أليس كذلك ؟.
ــ بلى ..
ــ أى الناس أجمع على أن لا سجود فى المفصل وقد روى هو عن النبى "صلى الله عليه وسلم" أنه سجد فى "إذا السماء انشقت" . وأن أبا هريرة وهو من الصحابه سجد فيها وأن عمر بن عبد العزيز وهو من التابعين أمر القراء أن يسجدوا فيها . أليس هو نفسه عمر بن عبد العزيز الذى تجعلون قوله فى مسألة اليمين أصلا من أصول العلم مع أنه يخالف فيها سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ثم تجدونه يأمر بالسجود فى هذه السورة ومعه سنة رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ورأى أبى هريرة . فتتركونه ولم تسموا أحدا خالف هذا وتزعمون أن الناس اجتمعوا أن لا سجود فى المفصل . يا ليت شعرى من هؤلاء المجتمعون الذين لا يسمون فإنا لا نعرفهم ولم يكلف الله أحدا أن يأخذ دينه عمن لا يعرفه ..
ــ الحقيقة يا سيدى أنى سمعت نفرا ممن يجلسون إلى شيوخ الزاوية المالكيه مثل أشهب بن عبد العزيز والقاضى عيسى بن المنكدر . يثرثرون بكلام فهمت منه أنهم يعترضون على بعض الآراء لك ويقولون إنك تخالف ما هم عليه وما تعلموه على يد شيوخهم ..
ــ يريدون المناظرة إذاَ . لا بأس فليس أحب إلينا من إظهار الحق وبيانه حتى لو كلفنا ذلك ما لا نطيق ..
صمت برهة ثم أردف قائلا بعد أن مد يده إلى خزانة كتبه وأخرج كتابا منها .....
ــ أتدرى ما هذا الكتاب يا أبا حامد ؟. إنه الكتاب الذى حدثتك عنه فى بداية اللقاء . دونت فيه مسائل الخلاف بينى وبين أستاذى ومعلمى مالك بن أنس . كتبته كما كتبت قبل ذلك المسائل التى اختلف فيها فقهاء العراق ..
ــ متى كتبته ؟.
ــ فى العام الماضى ..
أخذته الدهشة قائلا ........
ــ يااااه حول كامل ولا تخرج به علينا ؟.
ــ أجل ترددت كثيرا فى إظهار ما فيه على الملأ . ليس خوفا من تلك القلة القليلة من بعض الحمقى الذين يسيئون للشيخ بتعصبهم الأعمى ورعونتهم . بل أدبا وحياء من الشيخ أن أظهر خلافه ؟.
ــ لكن آن الأوان إذن لإظهاره على الملأ يا سيدى ..
ــ لا لن أخرج به على الناس الآن يا أبا حامد . أخشى أن أتجاوز بهذا الفعل واجبى نحو شيخى ومعلمى وأكره أن أفعل ذلك قبل أن أستخير ربى أولا والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ..


@ لم تكد تمض أيام على هذا اللقاء حتى خرج الشافعى بكتابه على الناس بعد أن استخار ربه واطمأنت نفسه إلى أن حق العلم وأمانته أولى من حق العلماء والشيوخ . كان يهاب شيخه حتى وهو فى عالمه الآخر وذكرياته معه لا تزال حاضرة فى قلبه تلح عليه كلما جاءت مناسبة له أو حديثا عنه . قال غير مرة لتلاميذه وأصحابه
ــ ما هبت أحدا قط هيبتى من مالك ..
لكن ما الحيله وهو يعلم أن أستاذه فى نهاية الأمر بشر يجتهد رأيه فيخطئ ويصيب ككل البشر . وله مع ذلك أجرا إذا أخطأ وأجران إذا أصاب . أخرج الشافعى من عباءته علوما ما سمع بها أهل مصر من قبل غيرت كثيرا من مفاهيمهم حول أركان الإسلام مثل الصلاة والزكاة والحج وما يتعلق بها من فروع وتفصيلات . أيضا ما يتعلق بسائر التكاليف والتشريعات والأقضيه ..
ظل أياما على هذا المنوال يتحامل على نفسه ذاهبا كل يوم إلى زاويته يطعم الناس علومه ويرشدهم إلى الصواب فى أمور دينهم . حتى غلبه المرض وأقعده فلم يجد مناصا من البقاء فى داره رغما عنه لا يستطيع حراكا . وبعد أيام بدأت الآلام ترتحل عنه شيئا فشيئا وأخذ يستعيد بعضا من قواه التى افتقدها أياما طويلة مرت عليه كأنها دهر من الزمان ..
فى تلك الأثناء زاره صديق عمره عبد الله بن عبد الحكم ومعه ولده محمد . كان الشافعى يكن لهذا الفتى مودة خاصة ويحبه كأحد أبنائه . حتى أنه تحامل على نفسه وهو لا يزال عليلا قبل أيام وذهب ليعوده لما علم بمرضه فلما رآه راقدا فى فراشه يكابد مشقة المرض حزن فى نفسه عليه حزنا شديدا ورجع إلى داره مهموما كاسف البال . مضت أيام قلائل وجاء الولد برفقة أبيه بعد أن عوفى من مرضه ليعود أستاذه وشيخه . رآهما الشافعى وهما لدى الباب فهب من فراشه وهو يشعر بالعافية تسرى إلى بدنه قائلا
ــ أهلا ومرحبا بالأحباب ..
هرع إليه صديقه ليعيده إلى فراشه وهو مشفق عليه فقال له الشافعى
ــ دعنى أيها الصديق والصاحب لقد برئت لتوى من علتى لرؤية ولدى محمد بعد أن عافاه الله وصرف عنه ما كان فيه ..
ثم أنشد مرتجلا :
مرض الحبيب فعدته .. فمرضت من حذرى عليه ..
وأتى الحبيب يعودنى .. فبرئت مـن نظـرى إليه ..
@ وذات يوم تهيأ للخروج من داره قاصدا زاويته فى مسجد الفسطاط العتيق بعد أن أقعده المرض أياما . نادى على ولده الذى صار له من العمر عشرون عاما كاملة يتعجله للذهاب معه كعادته مذ جاء إلى مصر وبالذات فى الأيام الأخيرة لما اشتد المرض عليه وأنهك قواه لم يعد قادرا على الخروج وحده دون مساعدة ولده . كان يتخذه تكأة يستند على كتفيه فى الطريق ..
ــ هيا بنا يا أبا عثمان لقد تأخر بنا الوقت يا ولدى ..
جاءه صوته ملبيا من داخل الدار ولم يلبث أن خرج عليه مسرعا وهو يحكم رداءه حول خاصرته . وقبل أن يأخذ بيد أبيه ليخطو به خارج الدار توقف الشافعى مكانه وهو يحملق فى وجهه الذى بدا مهموما كئيبا على غير عادته ثم قال له
ــ مالك يا أبا عثمان أراك مهموما حزينا . و تبدو عليك آثار السهد والأرق . مالك يا ولدى , صارح أباك ؟.
قال ذلك بعد أن استدار جالسا وأشار لولده أن يجلس إلى جواره فى ردهة الدار ليحكى له عما أهمه وأرق جفونه . قال متلعثما بعد أن ظل يراوغ ويتعلل بعلل واهية :
ــ الحقيقة يا أبت أنى سمعت بالأمس كلاما عليك أثار ضيقى وحنقى وعز على أنى لم أقتص من قائله بل عففت لسانى من الرد عليه ..
تبسم الشافعى قائلا فى هدوء وسكينه
ــ ما هى الحكاية يا أبا عثمان ؟.
ــ كنت بالأمس أسير فى سوق القناديل فمررت على جماعة يجلسون أمام أحد الدكاكين متحلقين حول شيخ الزاوية المالكيه ..
ــ من فيهم ؟. آه ,فهمت. لعله أشهب بن عبد العزيز ؟.
ــ أجل يا أبت ..
ــ إيه .عجيب أمر هذا الشيخ . ما أخرجت مصر أفقه منه لولا طيش ورعونة فيه . المهم أكمل يا ولدى ..
ــ لما رآنى رفع صوته وقال كأنه يحدث من حوله ليسمعنى …………
ــ أتحسبون هذا الحجازى المدعو محمد بن إدريس فقيه حقيقة ؟. إنه ليس بفقيه البته كما يدعى ويروج له أصحابه . إنه يتخبط فى أقواله ويتطاول على شيخه ومعلمه ثم يدعى ويقول مداريا : ما أحدا أمن على من مالك بن أنس . كيف يدعى ذلك الإفك فى ذات الوقت الذى ينشر على الملأ كتابه الذى ملأه بأباطيله وافتراءاته على معلمه ؟……………
ضحك الشافعى قائلا ...
ــ أهذا ما أحزنك يا ولدى وأغمك وأرقك ؟.
قال ذلك ثم ربت على كتفيه قائلا ...
ــ يا ولدى …
إنى نشأت وحسادى ذوو عدد .. رب المعارج لا تفنى لهم عددا ..
رد ولده فى الحال معقبا وقد بدا ضيق الصدر رغما عنه ...
ــ تدعوا الله يا أبت لحسادك والحاقدين عليك أن يبقيهم ويزيدهم عددا ؟.
إتسعت ابتسامة الأب قائلا ...
ــ ولم لا أفعل يا أبا عثمان ؟. كل ذى نعمة محسود . يا ولدى دعائى لهم بالبقاء والزيادة هو دعاء منى إلى الله تعالى أن يبقى على ما أولانى من نعم وأن يزيدنى منها . ألم يأمر النبى "صلى الله عليه وسلم" أن يطلب الزيادة فى العلم لما قال له “ وقل رب زدنى علما “ هل أمره بالزيادة من شئ آخر بخلاف العلم ؟.
هز الإبن رأسه ساكتا دون أن يعقب فأردف الأب ...
ــ ما دمت تعلم هذا فلم الحزن والغضب ؟.
ــ يا أبت هذا الذى قاله لم يحزننى وإن أساءنى وأغضبنى . إنما الذى أحزننى هو ما سمعته منه بعد ذلك ..
ــ ماذا سمعت منه يا ابن الشافعى ؟.
ــ بعد أن فرغ من شتائمه وإهاناته رفع يديه للسماء وأخذ يدعو عليك قائلا ... اللهم أمت الشافعى ولا تجعل له مقاما بيننا وإلا ذهب علم مالك ..
رد الشافعى مبتسما وهو يتهيأ للقيام من مجلسه استعدادا للخروج :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت .. فتلك سبيل لسـت فيها بأوحد ..
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم .. لئن مت ما الداعى على مخلد ..
هات ذراعك يا أبا عثمان لأتكئ عليها وهيا بنا إلى الدرس لقد مضت أيام لم أخرج فيها إلى الناس . سنعرج فى البداية على دار السيدة نفيسه نسلم عليها ونسألها الدعاء قبل أن نمضى إلى مسجد أهل الرايه أو تاج المساجد كما يسميه المصريون . هيا يا ولدى وإياك أن تلتفت مرة أخرى لمثل هذا الصغار أو تشغلنك أمثال تلك الترهات عن علومك ودروسك ..

@ بلغت سمعة الشافعى أطراف البلاد فى الشمال والجنوب فكانت ترد عليه وفود القبائل من صعيد مصر وشمالها يحكمونه فى قضاياهم ,وتأتيه الرسائل منهم يستفتونه فى أمور دينهم آخذين منه حكم الشرع فيما يشكل عليهم من قضاياه . جاءه ذات مرة جماعة من صعيد مصر يسألونه عن قول الله عز وجل : "كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" قال لهم ...

ــ لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا . وهو دليل على أن أولياءه يرونه يوم القيامه ..
سأله كبيرهم وقد تهللت أساريره من إجابة الشيخ ...........
ــ هل تدين بهذا يا سيدنا ؟.
ــ والله لو لم يوقن ابن إدريس أنه يرى ربه فى المعاد لما عبده فى الدنيا ..
وفى ذات مرة جاءه رجل , سأله الشافعى عن حاجته فقال له .............
ــ مسألة فى الميراث ..
ــ هات مسألتك ..
أعطاه رقعة مكتوبا فيها :
رجل مات وخلف رجلا .. ابن عم ابن أخى عم أبيه
أجابه الشافعى فى الحال مرتجلا :
صار مال المتوفى كاملا .. باحتمال القول لا مرية فيه ..
للذى خبرت عنـه أنه .. ابن عم ابـن أخى عم أبيه ..
وكان مجلسه لا يخلو من طرف ودعابات تفرضها أسئلة البعض من الظرفاء . كانوا يعرفون عن الشافعى موهبته فى الشعر وسرعة بديهته فى الرد . من هذه المرات أتاه أحد المصريين يقول :
ماذا تقول هداك الله فى رجل .. أمسى يحب عجوزا بنت تسعين ؟.
إبتسم الشافعى قائلا :
نبكى عليه فقد حق البكاء له .. حب العجوز بترك الخرد العين ..
@ وجاء أحد الناس إلى مجلسه ذات مرة وسأله ..........
ــ أى الأعمال عند الله أفضل ؟.
ــ ما لا يقبل عمل إلا به ..
ــ وما ذاك ؟.
ــ الإيمان بالله الذى لا إله إلا هو أعلى الأعمال درجة وأشرفها منزلة وأسناها حظا ..
ــ سمعنا أنك تقول أن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص ؟.
تفرس الشافعى فيه برهة وقد لاحظ تململ أصحابه منه لمعرفتهم به وبنهجه الشاذ وأفكاره الضاله ثم سأله .........
ــ وما تقول أنت فيه ؟.
ــ أقول أن الإيمان قول يكفى فيه الإقرار باللسان والتصديق بالقلب أما الأعمال فإنها شرائعه ..
ــ ما اسمك يا رجل ؟.
ــ إسمى حفص الفرد ..
رد الشافعى فى لهجة ساخرة لاتخلو من حدة واستنكار ..............
ــ بل حفص المنفرد . علمت ساعة وقعت عينى عليك أنك من أهل الأهواء وأصحاب البدع أولئك القائلين بخلق القرآن . أفى هذا الذى تدعون إليه كتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمه وواجب على الناس البحث فيه ؟.
ــ لا . إلا أنه لا يسعنا خلافه ..
ــ قد أقررت على نفسك الخطأ أين أنت من الكلام فى الأخـبار والفقه ؟.
رد فى لهجة مستفزة وهو يكتم ضيقه وتبرمه ..........
ــ دعنا من هذا وأخبرنى أنت عن الإيمان ؟.
ــ الإيمان عمل لله والقول بعض ذلك العمل ..
ــ صف لى ذلك حتى أفهمه ؟.
ــ إن للإيمان حالات ودرجات وطبقات منها التام المنتهى والناقص البين نقصانه والراجح الزائد رجحانه ..
ــ ما الدليل على ذلك ؟.
ــ إن الله فرض الإيمان على جوارح بنى آدم فقسمه فيها وفرقه عليها . ليس من جوارحه جارحة إلا وقد وكلت من الإيمان بغير ما وكلت به أختها بفرض من الله تعالى . فمنها أمير جوارحه وسيدهم قلبه الذى يعقل به ويفهم ويفقه وعيناه وأذناه ويداه ورجلاه وفرجه ولسانه ورأسه . وسمى الله تعالى الطهور والصلوات إيمانا فى كتابه فى قوله تعالى مبشرا المسلمين أنه يقبل صلاتهم التى صلوها إلى بيت المقدس قبل تغيير القبله : “ وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيـم “ . فمن لقى الله حافظا لصلواته وجوارحه لقيه مستكمل الإيمان . ومن كان لشئ منها تاركا لقى الله ناقص الإيمان ..
ــ هذا عن إتمام الإيمان ونقصانه فما الدليل على أنه يزيد ؟.
ــ قول الله جل ذكره : "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا . فأما اللذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون . وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافـرون" ولو كان هذا الإيمان كله واحدا لا نقصان فيه ولا زيادة لم يكن لأحد فيه فضل واستوى الناس وبطل التفضيل . لكن بتمام الإيمان دخل المؤمنون الجنه وبالزيادة فيه تفاضلوا بالدرجات عند الله وبالنقصان من الإيمان دخل المفرطون النار . كل امرئ على درجة سبقه لا ينقصه الله حقه ولا يقدم مسبوق على سابق ولا مفضول على فاضل . ولو لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه للحق آخر هذه الأمة بأولها ..
@ ولم يكن الشافعى يستنكف أو يجد حرجا فى إعلان آراء وأحكام فى مصر تخالف ما كان يقول به قبل ذلك فى الحجاز والعراق . لم يتمسك برأى أو يتعصب لفتوى ,بل غير كثيرا من آرائه وفتاواه السابقه . من ذلك أن شيخا طاعنا فى السن سأله ذات مرة ............
ــ يا إمام إنى رجل بلغت من العمر أرذله وأجد مشقة كبيرة فى صوم شهر رمضان . هل لمثلى أن يفطر ؟.
ــ الشيخ الذى تلحق به مشقة شديدة إذا صام وأن يجهده الجهد غير المحتمل . وكذلك المريض الذى لا يرجى برؤه لا صوم عليهما أبدا لقوله تعالى ‘‘ وما جعل عليكم فى الدين من حرج ‘‘ ..
ــ وهل على فدية إذا أفطرت ؟.
ــ كنت أقول من قبل وأنا بالحجاز أنه لا فدية عليهما لأنه سقط عنهما فرض الصوم كالصبى والمجنون تماما وهو قول مكحول وربيعة ومالك وأبا ثور . لكن ثبتت لدى أدلة أقوى تجعلنى الآن أقول بوجوب الفديه وهى مدٌ من طعام لكل يوم برا أو تمرا أو شعيرا أو غيرها من أقوات البلد . به قال طاوس وسعيد بن جبير والثورى والأوزاعى وذلك لقول ابن عباس رضى الله عنهما : "من أدركه الكبر فلم يستطع صيام رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح" . وقال ابن عمر رضى الله عنهما : "إذا ضعف عن الصوم أطعم عن كل يوم مدا" . وروى أن أنس بن مالك رضى الله عنه ضعف عن الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم ..
فتح الموضوع شهية جماعة العلم للسؤال والحوار . تنحنح الفتى محمد بن عبد الحكم قائلا .............
ــ ما الحكم إذن فيمن فاته الصوم أو غيره من نذر أو كفارة لعذر وأمكنه القضاء ثم أدركه الموت قبل أن يقضى ما عليه . هل يصح قيام وليه بقضاء ما عليه أم تجب الفدية فى تركته أم لا شئ عليه ؟.
ــ من فاته لعذر شئ من صيام رمضان أو نذر أو كفارة فمات على حالته التى هو فيها كالسفر أو المرض قبل إمكان القضاء فلا تدارك له بفدية أو قضاء ولا إثم عليه . لأنه فرض لم يتمكن من فعله إلى الموت فسقط حكمه كالحج مثلا . أما سؤالك الذى تسأل عنه فهو حكم من فاته شئ من ذلك بعذر أو بغيره فمات قبل القضاء عليه وبعد التمكن منه أليس كذلك ؟.
ــ بلى يا سيدى الإمام ..
ــ كنت أقول من قبل فى هذا أن الوالى بالخيار إن شاء صام عنه وإن شاء أخرج عنه من تركته لكل يوم مد طعام وتبرأ ذمة الميت بأيهما فعل . إستنادا إلى حديث ورد فى ذلك عن السيدة عائشه وعبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما . لكن تبين لى بعد البحث أنهما لم يعملا به ووجدت رأيا آخر لابن عمر وابن عباس وعائشه وبه قال شيوخنا مالك وأبى حنيفه وغيرهم أنه من فاته الصوم فمات قبل القضاء وبعد التمكن فإنه يجب فى تركته لكل يوم مد من طعام ولا يصح لوليه أن يصوم عنه ..




يتبع .. إن شاء الله ...........................

حسن عـلى
11/05/2011, 22h49
سيدى الفاضل
د انس البن
عجزت اليد عن الكتابة بعد قراءة المقدمة الجميلة فقط
وحضرتك بتتكلم عن نجم من نجوم العلم وكوكب من كواكب الاسلام
الذى انار الله به الارض بعد الانبياء والمرسلين
والله عجز العقل عن التفكير لكتابة رد يليق بحضرتك على مجهودك الجبار
وفقك الله الى ما يحبه ويرضاه
وجعله فى ميزان حسناتك
ارجو التكملة

د أنس البن
14/05/2011, 18h07
أخى حسن على
أشكرك على كلماتك الطيبه وشعورك النبيل
أسأل الله أن يوفقنى إلى استكمال بقية الصفحات التى قاربت على النهايه ....................

د أنس البن
14/05/2011, 18h25
@ واصل الشافعى أحاديث ولقاءآت قطعها المرض واستحكام العلة وضعف البدن . إتخذ مكانه والتلاميذ ملتفون من حوله يملأون منه عيونا عطشى لرؤيته ,ترنو إليه أبصارهم فى شوق وشغف والفرحة لا تسعهم من عودته إليهم معافا بعد طول غياب لينفحهم نفحات من غيث علمه المنهمر وكلمه الطيب النافع لهم فى دينهم ودنياهم ,زادا تتغذى به أرواحهم وتنشرح به صدورهم وتستنير منه عقولهم ..
لم يلتفت إلى الفتن والقلاقل والدسائس والحروب التى كانت تدور رحاها على مقربة خطوات منه فى دار الولاية بالفسطاط ,بل لم تسمح له نفسه التى كان شغلها الشاغل نشر العلوم وتأصيلها أن يتدخل فى مشاكل الحكم ولو حتى بالرأى ,لكن سمت على خلافات الحكام ونزاعاتهم ..
ولم يكن أيضا يهاب ما يثيره بعض المتشنجين المتعصبين من غبار حوله وهم يتحرشون به مرات وأخرى بالمقربين من تلاميذه ,حتى أن بعضهم تطاول عليه بالسب وسقط القول فعف لسانه عن الرد عليهم ولم يلتفت إليهم ,بل قال لمن حوله يثنيهم عن الرد أو دفع الأذى وقد فاض بهم الكيل ......
ــ أيها الأبناء ما نظر الناس إلى شئ هم دونه إلا بسطوا ألسنتهم فيه ..
ومع ذلك تأتيه الأسئلة من تلاميذه وغيرهم عن شيوخ العراق فيوفيهم حقهم من التكريم والتعظيم مع اختلافه معهم فى كثير من مسائلهم وهو يقول لتلاميذه ...
ــ إنما نحن نجادل الآراء ونناقشها لا أصحاب الآراء ..
ويغضب لدى سماعه ما لا يليق من اللفظ فى حلقته . يسمع تلميذه المزنى وهو محق ينعت أحدهم بالكذب لحديث رواه فيقول له معاتبا .....
ــ تخير اللفظ الحسن يا أبا إسماعيل ..
ــ وكيف أرد على من يروى حديثا ملفقا ينسبه كذبا إلى حضرة النبى "صلى الله عليه وسلم" ؟.
ــ هلا قلت حديثه ليس بشئ ..
لكن تلاميذه لم يقعدوا مكانهم مكتوفوا الأيدى وهم يرون الإهانات تلقى على شيخهم جزافا من أفواه أعماها المرض وسرت فى أجسادهم حمى التعصب . أثارهم أكثر ما أثارهم وأوجعهم صبر شيخهم وحلمه مكتفيا بأن يقول لتلاميذه بعد أن ينصرف هؤلاء السفهاء :
إذا نطق السفيه فلا تجبه .. فخير من إجابته السكوت ..
فإذا سأله أحدهم .....
ــ ولماذا نسكت على الواحد منهم ونحن قادرون بعون من الله على إفحامه وإلقامه حجرا ..
يرد الشيخ فى هدوئه المعهود :
فإن كلمته فرجت عنه .. وإن خليته كمدا يموت ..
لكن الكيل فاض بهم وبلغ السيل الزبى كما يقولون ,أخيرا ذهب منهم وفد إلى والى مصر دون علم شيخهم وشكوا إليه ما يفعله السفهاء به من إيذاء ولدد . سألهم عن رأس الفتنة فيهم والمحرض لهم فقالوا له ....
ــ فتيان بن أبى السمح ..
صاح الوالى فى رجال الحرس .....
ــ إئتونى به هنا فى الحال مكبلا فى الأغلال ..
لم يمض غير قليل حتى قبض عليه الحراس وجاءوا به فى حديده أمام الوالى . سأله عن هذه الدعوى فلم ينكر تهمته . عاد يسأله ....
ــ ما الذى دعاك لهذه الأفعال المنكرة أيها الأحمق ؟.
ــ ما جرؤت على ذلك يا سيدى الوالى إلا بعد أن ضاقت نفوسنا وفاض بنا الكيل وطف الصاع من أفعاله وأقواله التى أفسد بها عقول الناس هنا . لقد دخل بلادنا ورأينا فيها واحد وأمرنا واحد ففرق بيننا بعد أن ألقى بذور الشر وزرع الفتنة والفرقة ..
ــ عن أية فتنة تتحدث يا رجل ؟. هلا بينت قولك وأوضحت لنا كلامك ؟.
ــ إنه يفتى الناس بأشياء ويحدث بينهم أمورا تختلف عما هم عليه ..
سأله الوالى فى غلظة وقد نفد صبره ....
ــ بين كلامك يا ابن أبى السمح ودعك من هذا التعميم فى الكلام والمراوغة . أعطنى البينة على صحة ما تزعم ..
ــ أنا لا أراوغ يا سيدى الوالى وعندى الكثير من الأدلة الدامغة التى تؤيد صدق كلامى . إسأله إن شئت فلن يجرؤ على الإنكار أمامك . إنه يقول بخبر الواحد ويقدمه على القياس الصحيح بل يقدمه على إجماع أهل المدينه ولا يرى إجماع أهل المدينة إجماعا . ويزعم أنه مجرد رأى بعض علمائها دون البعض الآخر ويسخر منهم مدعيا أنه لا يعرفهم ولم يسمع بهم . أيضا أبطل أحكاما كثيرة لإمام المدينة التى إليها كانت الهجره وبها نزل القرآن ويقوم بتلقين الناس وتعليمهم خلافها . مع أن إمامنا وعالمنا الليث بن سعد نزل على قول مالك وأقره على أحكامه والأخذ بإجماع أهل المدينه ..
ــ أما عن مزاعمك هذه فلسوف أذهب للشيخ بنفسى كى أسمع منه . لكنك لابد أن تلقى عقابا يليق بك وبأمثالك من السفهاء الذين يتطاولون على آل بيت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" ..
قال ذلك ونادى على الحراس آمرا ....
ــ خذوا هذا الوغد واجلدوه بالسياط خمسين جلده ثم طوفوا به على بعير فى خطط الفسطاط والجيزه وأمامه مناديا ينادى فى الناس ..... هذا جزاء من تطاول على آل بيت النبـى "صلى الله عليه وسلم" ..

يتبع .. إن شاء الله ...........................

د أنس البن
19/05/2011, 19h30
بسم الله الرحمن الرحيم
أديبنا ودكتورنا الدكتور أنس
إنني علي أحر من الجمر، لترسم ريشتكم نهاية هه الملحمة ،لأطالعها من البداية للنهاية ، فلقد إعتدت القراءة المتواصلة،
فلوحة الفنان الجميلة ترى مكتملة لا مجزئة،
انني أنتظر وكلي شوق،
أدآم الله عليكم الصحة والعافية،والمزيد من الإبداع
تلميذ على باب الأدب
محمد ماضي



صديقى الحبيب محمد ماضى
أرجو أن تقبل شديد اعتذارى عن غفلتى التى لا أعلم لها سببا والتى جعلتنى لا أرى مداخلتك الطيبة هذه وأنا أحاول ترتيب الصفحات
لك كل الشكر والتحية على كلماتك النابعة من قلبك الطيب وأعدك أن أنتهى من تلك الصفحات فى سيرة مولانا الشافعى فى الأيام القليلة القادمة بإذن الله إن كان لنا عمر

د أنس البن
07/06/2011, 18h23
@ فى اليوم التالى شوهد والى مصر واقفا على عتبة دار الشافعى يلتمس الإذن فى الدخول عليه ....

ــ قولى لسيدك والى مصر بالباب ..

نزل الشافعى من غرفته أعلى الدار وكلمات الترحيب بضيفه تسبقه . وبعد أن تبادلا عبارات الترحيب والمجامله قال له الوالى ....

ــ علمت بالأمس فحسب ما جرى لك من هذا الفتى الأحمق فتيان بن أبى السمح بعد أن رفع إلينا بعض أصحابك أمره وعلمنا من تطاوله عليك ما آلمنا وأثار غضبنا . لقد نال بعض جزائه الذى يستحقه وأمثاله ..

ــ ما كان على أصحابنا أن يفعلوا ما فعلوا فإنى لم آذن لهم فى شكايته ..

ــ يا إمام مصر لو لم يأتنى أحد وعلمت بما كان منه معك لفعلت فيه ما فعلت وأكثر. إنكم آل بيت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" لكم مكانتكم فى نفوسنا ومنزلتكم فى قلوبنا وما جئت إلى دارك إلا كى أطيب خاطرك وأعتذر لك عما فعله أولئك السفهاء ..

ــ لقد فعلوا أكثر من ذلك مع من هو خير منا وما تغير قلبه منهم بل عفا عنهم ودعا لهم وقدم العذر فقال "صلى الله عليه وسلم" : [ اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون ] . ونحن لنا فى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أسوة حسنه والحمد لله على ذلك ..

ــ بارك الله لنا فيك يا أبا عبد الله ..

ــ أما ما نقلوه عنى أو ادعوه على يا سيدى الوالى فباطل كله . إن مالك شيخنا وأستاذنا ,وليس مثلى من يقول فيه رأيا فإنه كان مقدما عند أهل العلم قديما بالمدينة والحجاز والعراق معروفا عندهم بالفضل والإتقان فى الحديث ومجالسة العلماء . لقد رأيت شيخنا سفيان بن عيينه إذا ذكره رفع بذكره وكثيرا ما حدث عنه . وكان شيخنا مسلم بن خالد الزنجى وهو مفتى أهل مكة وفقيهها فى زمانه يقول لنا : جالست مالك بن أنس فى حياة جماعة من التابعين منهم زيد بن أسلم ويحي بن سعيد وهشام بن عروه . سيدى الوالى لولا مالك وابن عيينه ما حفظ أحد أحاديث أهل الحجاز ..

ــ ليتك تزيدنى بيانا ,لم إذا خرجت على الناس بهذا الكتاب فى خلاف مالك والذى أثار كل هذا الجدل واللجاج ؟.

ــ شيخنا مالك بن أنس حبيب إلى قلبنا ,لكن الحق أحب إلينا منه وهو بشر يخطئ ويصيب ككل البشر . كنت فيما مضى ألقى بآرائى خالفت أو وافقت رأى أستاذنا من غير نقد له فلما قدمت إلى مصر لم أكن أعرف أن مالكا يخالف من الأحاديث إلا ستة عشر حديثا . نظرت فإذا هو أحيانا يقول بالأصل ويدع الفرع وأحيانا أخرى يقول بالفرع ويدع الأصل . ثم علمت أن من المسلمين قوما إذا حدثتهم بحديث لرسول الله "صلى الله عليه وسلم" يعارضونه بقول إمامنا وشيخنا مالك وآخرين يقدسون آثاره وثيابه فى بعض البلدان . أدركت أن هناك خلل ما وأن الناس مقدمون على أمر خطير . إذ يعارضون بأحاديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أقوال من يصيب ويخطئ وما كان لأحد مهما تكن منزلته مع الحديث رأى . فما دفعنى لوضع هذا الكتاب والخروج به على الناس إلا واجبى نحو الدين والعلم . الواحد منا عليه أن يجتهد وأن يفهم ما يسمعه ولا يقلد أحدا كان ما كان ,فإنه من تكلف ما جهل ولم تثبته معرفة كانت موافقته للصواب غير محموده وكان بخطئه غير معذور إذا ما نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب . فلا محمدة للمقلد ولا عذر له لأنه كحاطب ليل يقطع حزمة الحطب فيحملها دون أن يفتش فيها ولعل فيها أفعى تلدغه وهو لا يدرى . لهذا أغفل بالتقليد من أغفل منهم وعليه أن يستغفر ربه ,والله يغفر لنا ولهم ..

ــ لكنهم يأخذون عليك أنك تقول بخبر الواحد ؟.

ــ هل أنا صاحب بدعة فى هذا ؟. ألم تنقل أم سلمه لامرأة حكم السنه فى من قبلها زوجها وهو صائم . والرجل الذى نقل إلى الناس حكم القرآن فى تغيير القبله لما جاء إلى أهل قباء يقول لهم إن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قد أمر أن نستقبل الكعبة بقرآن نزل فاستداروا جميعا وهم فى الصلاة إلى الكعبه . وعندما حرمت الخمر تحريما قاطعا كيف أن رجلا نقل إلى الصحابة هذا الحكم فكسروا الجرار بالمهراس دون انتظار لأن ينقل الخبر جماعه ولم يطلبوا منه أن يجئ لهم بمن يؤيد كلامه . ألم يبعث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" اثنى عشر رسولا إلى اثنى عشر ملكا يدعوهم إلى الإسلام وولى على الناس العامل وحده بعد العامل ولم يكن لأحد أن يقول للوالى أو المبعوث أو الخليفة أو القاضى أو أمراء السرايا وهم آحاد أنت واحد ولا نأخذ منك . والولاة من القضاة يقضون فتنفذ أحكامهم ويقيمون الحدود وينفذ من بعدهم أحكامهم ..

ــ معذرة يا شيخنا ,لى تعقيب على ما تقول ..

ــ تكلم بما شئت ..

ــ إن عمر بن الخطاب لم يقبل بهذا بل كان يستوثق ويطلب أن يزكى الراوى آخر ؟.

ــ كان ذلك منه رضى الله عنه زيادة فى الحيطه . الزيادة فى التأكيد ليست مانعة أن تقوم الحجة بالواحد . قد رأيت من الحكام من يثبت عنده الشاهدان العدلان والثلاثه فيقول للمشهود له زدنى شهودا وإنما يريد بذلك أن يكون أطيب لنفسه ولو لم يزده المشهود له على شاهدين لحكم له بهما . ومع قولى بخبر الواحد فإنى لا أقول بأنه قطعى الثبوت كالسنة المجمع عليها فهى كالكتاب العزيز قطعية الثبوت ومن شك فيهما خرج عن الإسلام . أما خبر الواحد فإنه جاء على الإنفراد ,ولو شك فيه أحد لم نقل له تب ,بل نقول له ليس لك أن تشك إن كنت عالما كما ليس لك أن تقضى بشهادة الشهود العدول وإن أمكن فيهم الغلط ,ولكن تقضى بذلك على الظاهر من صدقهم ..

رد الوالى قبل أن يقوم مستئذنا ....

ــ بارك الله فيك يا عالم قريش وزادك علما ونفع الناس بعلومك . هل من موعظة يا إمام ؟.

ــ أيها الوالى أنظر من يكون صاحبك فإنه يحبك أو يبغضك . وانظر من يكون كاتبك فإنه يعبر عن عقلك الظاهر إلى الناس . وعف عن أموال الناس يكثر شكرهم لك وإياك والإنبساط إلى رعيتك فتذهب هيبتك ..



يتبع .. إن شاء الله ...........................

احمد مرزوق
28/09/2011, 23h10
السيد الدكتور انس /
الحقيقة انها اول مرة لي اساهم بالتعليق على شئ فى سماعي مع انني متابع لها منذ عامين و لكن كلما حدثتني نفسي بالتعليق
خجلت ان اكتب شيئا وسط هؤلاء الاخوة العظماء . انا لا استطيع ان اوفيك حقك من الشكر على ما قدمت من الخير لنا و للناس جميعا بهذا النص المتفرد و العبقري و اثق ان جزاءك الاوفى هو عند الله . فشكرا الف شكر و لا تحرمنا من تتمة الحلقات و لا تتركنا مشوقين كثيرا . و استئذنك عند فراغك منها ان تسمح بوضعها كاملة فى ملف و احد pdf ليتيسر تحميلها مجمعة و حفظها لمن يريد . جزاك الله كل خير و عافية و اعانك ان تكمل ما بدأت و تزيد عليه بسير باقى الائمة الاربعة .

د أنس البن
04/03/2012, 07h07
أخى العزيز أحمد مرزوق
كلمة شكر تأخرت كثيرا واجب على أن أقدمها لشخصكم الكريم
وأرجو المعذرة عن هذا التأخير لأنى فى الحقيقة لى زمن لم أدخل هذه الصفحات حياء من صاحب السيرة مولانا الإمام الشافعى قاضى الشريعه وساكن مصر المحروسه وثالث أئمة الفقه الأعلام العظام من جيل التابعين وتابعى التابعين
وإن شاء الله لن أغادر هذه الصفحات حتى أضع سطور النهاية لهذه السيرة العطرة التى بتنا على بعد خطوات منها
والله الموفق والمستعان وهو يقول الحق وهو يهدى السبيل

د أنس البن
04/03/2012, 07h24
204 هجـريه .. ليلـة توارى فيـها القمـر



@ دخل الربيع بن سليمان مؤذن المسجد العتيق فراشه مبكرا آملا أن يأخذ قسطا كبيرا من الراحة استعدادا للغد , أجل ينتظره يوم شاق من العمل فى المسجد العتيق . إنه يوم الجمعه وفيه يقوم بإعداد المسجد وتنظيفه وترتيبه لاستقبال آلاف المصلين الذين يتوافدون عليه ..
راح يغط فى نوم عميق حتى إذا انتصف الليل صحا من نومه فزعا وهو يستغفر الله متمتما فى نفسه .......... لا حول ولا قوة إلا بالله .. ما هذا ؟. ما هذا الذى رأيته الآن فى منامى ؟.
شعرت به امرأته وهو يهب فزعا من فراشه قاعدا يتصبب عرقا. سمعته يبسمل ويحوقل ويستغفر فقالت له وجلة ..........
ــ مالك يا رجل أفزعتنى أنا الأخرى ؟. ماذا دهاك الليله ؟.
ــ أسكتى يا امرأه فإنك لم ترين ما رأيته .
ــ ماذا !. هل دخل الدار أحد ؟!. أنا لم أشعر بشئ .
ــ يا امرأه .. أعنى ما رأيته فى منامى هذه الليله ؟.
سرت فى جسدها قشعريرة من وقع كلامه وأجفلت قائلة ........
ــ خيرا إن شاء الله , ماذا رأيت ؟.تكلم يا رجل !. أوقعت قلبى .
ــ إيـــه دعينى أتذكر . آه . رأيتنى أمشى فى سوق الوراقين ,وإذا بالناس يتدافعون من كل ناحية ويجرون على غير هدى حتى كدت أقع تحت أقدامهم . أصابنى الهول والفزع ورحت أسأل كل من يقابلنى عن الخبر ولا من مجيب . إلى أن رأيت شيخا طاعنا يجلس حزينا على دكة وحده واضعا رأسه بين يديه . ما إن اقتربت منه وناديت عليه حتى رفع رأسه وقال لى دون أن أسأله………………
ــ إنا لله وإنا إليه راجعون .. إنا لله وإنا إليه راجعون ..
سألته وجلا بصوت مرتعش خائف ........
ــ هل مات أحد ؟..
ــ نعم ... مات أبو البشر ..
ــ من تقصد ؟.
ــ أبو البشر . الخليفه . ألا تفهم ؟.
ــ تعنى ......؟.
ــ أجل . هو ما أعنى . آدم . مات آدم وستخرج جنازته بعد العصر من المسجد الجامع . هيا اذهب إلى هناك لتصلى عليه ………………
عاد الربيع يقول لامرأته ..........
ــ ثم صحوت من نومى وأنا على هذه الحال من الخوف والفزع كما ترين ..
ردت فى ضجر بلهجة لا تخلو من سخرية واستخفاف .......
ــ يا رجل ,حرام عليك , إتق الله ,تفزعنى فى تلك الساعة من الليل لتحكى لى هذه التخاريف ,إن هى إلا أضغاث أحلام . يبدو أنك أثقلت فى طعام العشاء . أين نحن من أبينا آدم عليه السلام ؟. نم يا رجل واتركنى أنا الأخرى كى أكمل نومى . فى الصباح اذهب إن شئت إلى أحد العرافين فما أكثرهم هنا ..
نظر إليها كأنه لم يسمعها بينما راحت تشد الغطاء عليها تاركة زوجها تتلاعب به الهواجس والظنون وهو جالس فى فراشه لا يحرك ساكنا . ظل على تلك الحال إلى أن غفت عيناه قليلا . وبينما هو كذلك إذا به يرى طاقة يخرج منها شعاعات ضوء . أخذت تتكاثف وتتجمع حتى تشكلت فى صورة شبح نورانى . نظر إليه الربيع وهو يقترب منه رويدا رويدا إلى أن وقف أمامه مطرقا . دقق النظر فيه فإذا هو بشيخ نحيل يرتدى ثيابا بيضاء ناصعه وأسفل عينه اليمنى شامة سوداء . إنه الشيخ الورع الزاهد الفضيل بن عياض الذى ظهر من قبل للخليفة المنصور والمهدى . وهو نفسه الذى رآه الشافعى مناما قبل أن يراه يقظة فى صباه ..
قال للربيع آمرا فى نبرات حزينة قبل أن يفتح فمه بالسؤال .........
ــ هيا يا مؤذن المسجد العتيق قم . ألم يأتك النبأ العظيم ؟.
سأله واجفا ...........
ــ أى نبأ يا سيدى وإلى أين أذهب ؟.
ــ ألم تسمع بموت آدم ؟.
ــ بلى سمعت . لكنى لم أفهم ..
ــ قم يا ربيع وانهض من فراشك . ستعرف كل شئ بعد حين ..
أخذ الشيخ يتراجع بظهره للخلف ويضمحل شيئا فشيئا حتى اختفى أخيرا وهو يردد فى صوت كالصدى ............ مات آدم . مات آدم . مات آدم ..


يتبع .. إن شاء الله ...........................

د أنس البن
04/03/2012, 08h10
فتح الربيع عينيه وهو قاعد مكانه لا يستطيع حراكا وقد انتابه ذهول وتملكه فزع شديد مما رآه . أخذ يفرك عينيه غير مصدق أنه يقظ غير نائم . بعد أن استجمع قواه أزاح الغطاء عنه فى رفق وهو يمسح حبات العرق من على جبينه رغم برودة الليل . جلس فى فراشه وهو يقول لنفسه .......... وبعدين !. ما الحكاية يا ترى . ما هذا الذى يحدث لى ,ما كل هـذه الألغـاز ؟..


إستجمع أفكاره وهو يحاول أن يسيطر على حواسه ويستعيد وضاءة ذهنه ثم قام متسللا خارج الغرفة فى خفة وقد قرر فى نفسه أمرا . توضأ ثم بدل ملابسه على عجل وانطلق خارج الدار تاركا زوجته تغط فى نومها دون أن تشعر به . كان الظلام الدامس لا يزال يلف المكان . شعر بقشعريرة تهز كيانه وسرت فى أوصاله رعدة كادت توقعه أرضا مع تتابع لسعات الهواء البارد كأنها إبر من جليد تخترق جلده وتسرى فى عظامه . تمالك نفسه وعاد مسرعا إلى داره ليحضر عباءة ثقيلة وضعها على كتفيه وشملة من الصوف لف بها وجهه . عاد أدراجه مرة أخرى متخذا طريقه إلى دار صديقه يونس بن عبد الأعلى الذى كان يسكن بالقرب منه . ليس غيره يعرض عليه ما جرى له فى ليلته ويلقى إليه بما ينوء ظهره بحمله ملتمسا لديه الرأى والمشوره . هو أكثر أصدقائه رجاحة عقل وحكمه ..
لم يتعجب صاحبه من حضوره إليه فى هذا الوقت المتأخر من الليل وفى هذا الجو العاصف . كان معتادا على مثل ذلك منه من قبل كثيرا .
بادره بالسؤال فى لهفة ومودة عن خروجه من داره الآن فى هذا الزمهرير القارس . لم يجبه على سؤاله بل قال له .....
ــ هيا ارتدى ملابسك يا صاحبى ..
تعجب من طلبه هذا ورد قائلا ............
ــ إلى أين نذهب فى هذا الوقت . هل أصاب شيخنا الشافعى مكروه لا قدر الله ؟.
ــ لا أدرى ,لكنه أمر جائز ..
رد قائلا وهو يجذبه من يده فى إشفاق ..........
ــ لم أفهم بعد . أعتقد أنى لن أفهم منك شيئا وأنت على تلك الحال . هلا بالله عليك دخلت وقصصت على فى روية ما عندك . سأستمع إليك وأنا أرتدى ملابسى فإنى أراك قلقا مضطربا ..
فى داخل الدار أخذ يقص عليه ما جرى له فى ليلته من أمور عجيبة لا يجد لها تأويلا ثم أردف قائلا ..........
ــ كل ما أخشاه يا أبا موسى أن يكون لشيخنا نصيب مما رأيت فى ليلتى . إنى رأيتها رؤيا حق كما أراك الآن وأنت ترتدى ملابسك والله شاهد على صدق قولى ..
قال له وهو يضع عباءته على كتفيه ......
ــ لن يخرجنا من هذه الحيرة يا أبا حامد إلا ساكن جزيرة الروضه ..
ــ من تعنى ؟. آه الشيخ الزاهد عبد الرحمن أبى المواهب . أجل يا صاحبى صدقت إنه رجل صالح وله علم بتأويل الأحاديث . هيا بنا إليه ..


يتبع .. إن شاء الله ...........................

د أنس البن
04/03/2012, 08h55
كان الشيخ الزاهد عبد الرحمن أبى المواهب يسكن فى مكان منعزل وحده فى جزيرة الروضه ,حاذقا فى تعبير الأحلام وله فراسة وبصيرة بالأمور . ما كاد الربيع يقص عليه ما جرى له فى ليلته حتى قال له ...........
ــ رؤياك يا بنى والله أعلم تشير إلى شأن عظيم وخطب جلل .
سأله الربيع متلعثما وقد اصفر وجهه ......
ــ ماذا تقصد يا سيدنا ؟.
ــ تعنى والله أعلم موت أعلم أهل الأرض فى زماننا ..
ــ زدنى بيانا يا سيدنا ..
ــ سأزيدك ... قال تعالى فى سورة البقره [ وعلم آدم الأسماء كلها ] . هذا ما يعنيه موت آدم الذى أخبرت به فى رؤياك . أما الشيخ الذى أتاك فى المرة الثانية فهو كما وصفته لى شيخنا فى الحجاز العابد الزاهد الفضيل بن عياض يرحمه الله ..
نظر الصاحبان لبعضهما نظرة تلاقت فيها أفكارهما وتوحدت وقد لمعت فى ذهنهما فى وقت واحد صورة شيخهما وأستاذهما الشافعى . إنهما لا يعرفان على وجه الأرض من هو أعلم منه ولم يصدفا فى حياتهما من يفوقه علما ونبوغا وفهما . أجل لا أحد غير شيخهما أحق بهذا الوصف . تأكد لهما أن المعنى بهذه الرؤية هو شيخهم وأستاذهم الشافعى ..

إستأذنا من حضرة الشيخ وهما يعتذران له على إفساد وحدته عليه واقتحام خلوته فى هذا الوقت المتأخر من الليل . خرجا من عنده متخذان طريق العودة شطر المسجد العتيق استعدادا لآذان الفجر الذى اقتربت خيوطه ..
أخذا يسيران فى الطريق صامتين لا يتكلمان وقد غطهما الحزن بسرابيله . كان الربيع أكثر حزنا وغما وهو الذى أحب الامام وتعلق به طوال السنوات الست الماضيه . لم يفارقه خلالها فى ليل أو نهار إلا نادرا قائما على خدمته وقضاء حوائجه وشؤونه بنفس سمحة راضيه . فى الوقت نفسه يدون ويجمع كل كلمة يسمعها من فتاوى الشيخ وآراءه وردوده على أسئلته وأسئلة الآخرين فى أوراق تعدت فى مجموعها الألف ورقه . عاكفا فى أوقات فراغه على ترتيبها وتصنيفها وتبويبها حتى يسهل عليه الرجوع عند الحاجة إلى ما فيها من ذخائر ودرر غالية نفيسه ..
وفى طرقات المدينة التى بدت خالية من الناس أخذ يستعيد فى ذهنه ما سمعه لتوه من الشيخ أبى المواهب ويستعرض فى الوقت نفسه شريط أحداث الأيام الماضيه . حيث لم يفارق خلالها شيخه إلا مسافة الليل يذهب إلى داره بعد أن يلقى عليه النظرة الأخيرة فى آخر الليل ليتأكد أنه راح فى نوم عميق ..
أخذ يسترجع ما كان من شيخه معه بالأمس وهو يأمره أن يدنو منه قائلا له ......
ــ يا ربيع يا ولدى قلت لك مرات أنك ستكون راويتى فاتق الله ومثل الآخرة فى قلبك واجعل الموت نصب عينيك . كن من الله تعالى على وجل وكن مع الحق حيث كان . لا تستصغرن نعم الله عليك وإن قلت وقابلها بالشكر . وليكن صمتك تفكرا وكلامك ذكرا ونظـرك عبـره ..

يتبع .. إن شاء الله ...........................

د أنس البن
05/03/2012, 07h29
@ كان الشافعى فى الأيام الماضية قد لزم غرفة أعلى الدار لا يغادرها وقد بلغ منه الجهد كل مبلغ . سقطت الريشة من يده بعد أن اشتدت عليه وطأة المرض وزادت آلامه وحاصرته من كل ناحية حتى ضاق صدره . إضطر مع تفاقم المرض أن يمتنع عن لقاء الناس إلا خاصة تلاميذه ومريديه . قال فى ذلك للربيع المرادى ..........
ــ يا بنى إن كثيرا من الناس يأتون إلى دارى ليسلموا على فيزيدونى رهقا , وأنا على حالة لا تسمح لى أن ألقاهم . هلا جعلت أسفل الدار فى الغرفة المواجهة للسلم من يجلس من أبنائنا لانتظار من يأتى منهم ويخبرهم بحالى وعلتى ..
وقبل أيام كان بعض تلاميذه وأهله قد ألحوا عليه فى جلب طبيب يداويه فقال لهم :
إن الطبيـب بطبـه ودوائه .. لا يستطيع دفاع مقـدور القضا ..
ما للطبيب يموت بالداء الذى .. قد كان يبـرئ مثله فيما مضى ..
هلك المداوى والمداوى والذى .. جلب الدواء وباعه ومن اشترى ..
ثم قال لهم ...........
ــ أنا أعرف أين أجد دوائى ..
سألوه فى لهفة عن مكانه فأشار لمحمد بن عبد الحكم مخاطبا ........
ــ هيا يا محمد إذهب إلى ابنة عمنا السيدة نفيسه وبلغها سلامى . سلها أن تدعو لى فما أحوجنى الآن إلى دعواتها الصالحات ..
عاد بعد قليل يحمل رسالة لكنها تختلف عن سابقاتها ,سأله الشافعى فى صوت عليل ....
ــ هيه ماذا قالت لك . هل دعت لى ؟.
ــ أجل سيدى الشيخ ..
ــ قل بالله عليك كل كلمة قالتها لك ؟.
ــ قالت لى قل لشيخك الشافعى .... متعه الله بالنظر إلى وجهه الكريم ..
نظر الشافعى لمن حوله قائلا .......
ــ أسمعتم . ألم أخبركم أنها المنية وأنها قد قربت . لا فائدة مع الموت من الطبيب والدواء أيها الأحباب . يرحم الله أبو ذؤيب الهذلى : وإذا المنية أنشبت أظفارها .. ألفيت كل تميمة لا تنفع ..

يتبع .. إن شاء الله ...........................

احمد مرزوق
18/06/2012, 11h56
الله الله يا استاذي ، و الله ان دمعي ليتجمع فى مقلتي و احس نشيج البكاء يتردد فى صدري و كأني اتهيأ لنازلة من نوازل الدهر . اهي النهاية اهو انقضاء العلم و ذهاب التقوى ايموت هذا العالم الجليل ؟ اني اتساءل و كانني لا اعلم او اتغافل او اتجاهل كل ما اعرفه انني قد تركت عصري هذا و عشت من خلال كلماتك فى عصر عالمنا و فقيهنا الشافعي جزاه الله عنا و عن المسلمين خير الجزاء و اثابك كل خير على ما ذكرتنا من سيرته العطرة و حديثه الذي لا يمل فعد بالله عليك و لا تبطئ و اختم لنا ما قد بدأت و عزينا بكلماتك فى فقد الشيخ فوالله كأنه يحتضر بين يدي الان .

د أنس البن
27/07/2012, 19h35
أشكرك يا أستاذ أحمد على كلماتك الطيبة النابعة من القلب وأحب أن أقول لك أنه لم يتبق الا صفحتان أو ثلاث ونختم هذه السيرة الطيبة العطره لسيدنا الامام الجليل قاضى الشريعه ساكن مصر المحروسه مولانا محمد ابن ادريس الشافعى. كل التقدير لك.

د أنس البن
27/07/2012, 19h36
@ ما كاد الربيع المرادى ينتهى من صلاة الفجر حتى أقبل على إخوانه وقص عليهم ما رآه فى ليلته وما قاله له الشيخ أبو المواهب أمام صديقه يونس . ثم استطرد معربا عن مخاوفه قائلا ……
ــ وأخشى أيها الإخوان أن يكون شيخنا محمد بن إدريس الشافعى هو المعنى بتلك الرؤيا بعد أن أقعده الداء فانقطع عن الدرس ولزم داره ..
رد يونس بن عبد الأعلى ......
ــ أجل فنحن لا نعلم أحدا على وجه الأرض أعلم منه فى هذا الزمان . الفقه فيه طبيعة مطبوعة .. ولمن سواه تكلف وتصنع ..
رد أبو يعقوب البويطى معقبا ..........
ــ رأيت كثيرا من الناس من أهل العلم . والله ما رأيت أحدا يشبه الشافعى رضى الله عنه ولا يقاربه فى صنف من العلم . والله إنه أورع عندى وأشد تواضعا من كل من رأيته ينسب إلى الورع أو التواضع . ومع هذا ما كلمته فى شئ قط إلا واقشعر بدنى من هيبته ..
قال محمد بن عبد الحكم ........
ــ إنه يستنبط الأصل الواحد من الكتاب والسنة لا يسبقه إليه أحد ثم يشعب من هذا الأصل مائة شعبه . من فعل مثل ذلك ممن سبقوه أو يفعله من أهل العلم فى زماننا ؟.
قال الربيع .......
ــ هيا بنا يا إخوان إلى دار الشيخ حتى لا يفر الوقت منا ولا يضيع سدى قبل أن نلقى عليه نظرة وداع أخيرة ونستمع إلى وصيته . لقد تركته بالأمس وهو فى أشد حالاته ضعفا وكربا ..
*
يتبع .. إن شاء الله ...........................
*

abouhayder
22/02/2020, 19h42
اكمل يا دكتور بارك الله فيكم ونفع بكم .