المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دعوة إلى الرقص بقلم الشاعر : سعود الأسدي


بلقيس الجنابي
03/10/2008, 00h14
دعوة إلى الرقص

بقلم الشاعر: سعود الأسدي

قد يحبّ المرء لوحة ، أو قصيدة ، أو مقطوعة موسيقية ، فيرى ألاّ يستأثر بحبّها ، فيبقى حبّها سرّاً مكتوماً ، بل يحكي عنها ، ويبوح بها إلى مستمعيه أو قارئيه ، لأنه لا خير في الحبّ حتى يذيع ، ولا خير في الزهر حتى ينمّ .
ولعلّ المقطوعة الموسيقية Invitation to the Dance لمؤلّفها الموسيقي الألماني كارل ماريا فون فيبر Weberهي من المقطوعات الموسيقية التي يحلو الحديث عنها لما فيها من رومانسية عذبة ، وشاعرية رقيقة . ومن المعروف أن فيبر كان ذا أسلوب رومانسي ، وكان سابقاً لمرحلة الرومانسية المغرقة في العاطفية المفرطة .
إن مكانة فيبر ( 1786ـ 1826) لا تقل عن مكانة كبار الموسيقيين الألمان وسواهم ، وقد امتاز بموهبة نضرة تجلّت في مجمل أعماله ، وخاصة في مقطوعة دعوة إلى الرقص ، والصوناتة الثانية ، والرابعة لآلة البيانو . فهو بهذه المقطوعات كان قد مهّد السبيل لموسيقيين آخرين برعوا في العزف على آلة البيانو منهم شوبان ، ومندلسون ، وشومان ، ولِيسْت الهنغاري الذي يصّوره الكريكاتور بأربع أيدٍ لبراعته في العزف على البيانو ، وقد رأى النقّاد في فيبر مرشداً لهؤلاء في التعامل مع سيّدة الآلات الموسيقيّة الغربية ( البيانو ) ، ومثالا جديراً بأن يُحتذى .
لقد ملأت أنغام " دعوة إلى الرقص " سماء قاعات قصور أوروبا وصالاتها ، فكانت المقدّمة الأولى لظهور حفلات رقصة الفالس الشهيرة ، والتي طُوِّرت عن الرقصة الألمانية " لاندلر " من رقصات القرن الثامن عشر ) ، وقد شاعت رقصة الفالس في طبقات المجتمع الأرستقراطي في جميع العواصم الأوربيّة ، وكان من أشهرها الفالس النمساوي بموسيقى ريشارد شتراوس الأب والأبن ، كما استعمل كبار الموسيقيين أوزان الفالس في موسيقاهم ومنهم : برليوز، وبرامز ، ورافيل ، وتشايكوفسكي وغيرهم .
تبدأ مقطوعة دعوة إلى الرقص وهي من نوع الموسيقى التصويريّة Programmatic التي توحي بسلسلة من الصور ، أو المشاهد أو الأحداث ، تمييزاً لها عن الموسيقى الصرفة الخالصة أو المجرّدة التي لا توحي بشىء مما تقدّم .
لقد شرح المؤلّف نفسه تلك الصور كما ترسمها المقطوعة ، وأنني أوردها هنا بتصرّف حرّ فأقول :
يتقدّم الراقص الأنيق من سيدة جميلة في حفل بهيج فينحني لها ، ويقبّل يدها ، ويدعوها إلى الرقص بإيماءة في منتهى الرقّة ، ولكن السيدة تنثني كالغصن الرطيب ، وتعرض عنه بلطف ودلال ، وذلك في الفواصل الموسيقية من (1 - 5 ) . وبعد لحظات يلمح الراقص في عيني حسنائه رغبة في القبول مما دفع به إلى معاودة دعوتها ، وكان كلّما يزداد إلحاحاً كانت تزداد نفوراً كالغزالة الشرود ، وتصوير ذلك في الفواصل من ( 5 – 9 ) . ولكن لما كان " عسر النساء إلى مياسرة والصعب يُركب بعد ما جمحا " فإن تلك السيدة الحسناء ، وكما يقول تعبيرنا الصحراوي أعطت له القياد ، ويستدل على ذلك بالفواصل من ( 9 – 13 ) .
صحيح انّ للجمال قوّة غلاّبة هكذا قال شاعر يوناني مجهول ، فالطبيعة وهّابة تهب بسخاء ، فهي قد أعطت القطعان قروناً لصدّ عادية الغير ، وللخيول حوافر ، وللأسود نيوباً للافتراس ، وللطير أجنحة تطير بها ، وللسمك زعانف للعوم ، وللرجال فهماً يرجح بكل ذهب الأرض وكنوز ها ، كما منحتهم عدّة الحرب من سيوف ورماح وقوس ونشّاب ودروع وخوذات ، وبعد هذا وذاك فماذا يا ترى أعطت للمرأة ؟
أعطت جمالاً به تزهو وقوته يعنو له الصخرُ والفولاذُ واللهبُ
وسوف يبقى هو الأقوى وقوّته مذْ كان في هذه الدنيا لها الغلبُ
الشاب الأنيق يحني هامته من جديد لجمال تلك المرأة ، فما كان منها إلاّ أن ناولته يدها ، فراح يدرج بها إلى حلبة الرقص وسط عشرات القدود ، وعلى أنغام الفالس المثير تخطو الأقدام وتتمايل الأجسام يمنة ويسرة بخطى هارمونيية وملامسة جسدية وهمس دافىء يتأرجح على موجات نفح من عطور وبوح من خمور كما تصوِّر الفواصل من (13 – 16 ) . ويكون أن تتجاوب السيدة مع الغزل المثير ، فيطلقان لجسديهما وروحيهما العنان ، وهنا تشف عواطفهما في الفواصل (17 – 19 ) ، وتنمّ عليها تعابير وجهيهما المشرقين ، ويشعران كانهما يطيران في الهواء كما توضح الفواصل الموسيقية من ( 19- 21 ) .
ثم تعلو لدى الراقص وتيرة التعابير الصامتة الملهوفة بمرادفات رائعة ، فتقابله السيدة بما لا يقل من لهفة ملتهبة ومشاعر متأجّجة من ( 21 - 23 ) . ويستمران في حالة هي أشبه بالنشوة الصوفية ولسان حالهما يقول
صفاءٌ ولا ماءٌ ولطفٌ ولا هوىً ونورٌ ولا نارٌ وروحٌ ولا جسمُ
وكرمٌ ولا خمــرٌ وآدمُ لي أبٌ وخمرٌ ولا كرمٌ ولي أمُّها أمُّ
وتستمر الرقصة على هذه الحال كما تصف الفواصل من ( 21 – 23 ) والسيدة لا تكف عن التجاوب بحرارة من ( 23 _ 25 ) ويمعن الراقص في ذهاب بها وإياب من ( 25 – 27 ) وهو يسال هل هناك ما هو أروع ؟ وهي تجيب لا أروع ، من ( 27 – 29 ) ، والحركات في كرّ وفرّ وإقبال وإدبار معاً وبما هو أرق من النسيم من ( 29 – 31 ) ويتقدّمان على توقّع أن تبدأ الرقصة من جديد وتدوم إلى انبلاج الفجر من ( 31_ 35 ) ، ولكن لما كان لكل شيء نهاية ، والشكر يقابله الشكر ، فلا بدّ أن تودّعه وتمضي ، أما هو فقد ظلّ ثابتاً في مكانه ، وهو يرمقها بعينين حزينتين إلى أن عمّ سكون أشبه بخدر لذيذ ، حتى تتلاشى الشخوص بعيدًا بعيداً كتلاشي الأشباح !!