المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الموسيقى الأندلسية العربية -مظهر من مظاهر التسامح في المجتمع الأندلسي


zanou
29/07/2008, 13h01
الموسيقى الأندلسية العربية -مظهر من مظاهر التسامح في المجتمع الأندلسي





بقلم : عبد العزيز بن عبد الجليل- مكناس



يشكل التعايش بين الديانات السماوية الثلاثة الذي عرفه المجتمع الأندلسي في ظل الحكم الإسلامي النموذج الأمثل لا لتحام العناصر البشرية التي كانت قوام هذا المجتمع ونعتقد أن الإلمام بالثقافة الأندلسية -بجميع مكوناتها العقائدية والفكرية والفنية - من شأنه أن يساعد على توطئة السبل لتأصيل الحوار البناء بين الثقافات،كما نعتقد أنه في و سع المجتمع الإنساني اليوم أن يستفيد من النموذج الأندلسي بما يساعده على نشر أسباب السلم والأمني عالم يتهدد ه الإرهاب والعنف، وتطغى فيه مظاهر التمييز الفاضح والفوارق الفاحشة وتعتبر الموسيقى-بحكم طبيعتها-من أكثر الظواهر الثقافية والفنية قدرة على خلق أجواء التعايش بين الحضارات الانسانية وتلاقح المجتمعات البشرية مهما تعدد ت أجناسها واختلفت معتقداتها .
وقد شكلت أرض الأندلس خلال الحكم العربي الإسلامي بها الفضاء الأمثل لتلا قح المعارف الموسيقية وتمازج الممارسات والتقاليد الغنائية ، مما أفضى إلى إفراز أنماط فنية مبتكرة تميزت بالأصالة والتجدد والتدفق انخرط في إبداعها وتطويرها سائر العناصر البشرية التي تساكنت بالأندلس ، عربا وبربرا و زنوجا وقوطا وصقالبة
ويؤشر تواصل الثقافات والمعارف الموسيقية بين هذه العناصر لقيام مجتمع مازال-حتى اليوم-يشكل النموذج الأمثل للمجتمع المشبع بروح التسامح.
وتتجلى مظاهر هذه التسامح فيما يختزنه التراث الموسيقي الأندلسي من معطيات و مقومات فنية تمت إلى أصول متعددة ، وتؤكد في ذات الوقت البعد الكوني لهذا التراث الذي يتجاوز المنطقة التي
نشأ وأينع فيها الىآفاق إنسانية رحبة مثلتها مكونات المجتمع الأندلسي ذات الأصول المتباينة.
و لقد تميز الحكم الإسلامي في الأندلس بتوخي التسامح والتساهــل وإشاعة
الخير والبر بالشعوب المحكومة من نصارى البلاد ، فترك لهم كامـل الحرية في أن يبقوا على د ينهم طالما آثروه على غيره من الأديان و شملهم برعايتـه وحمايته، كما سوى بينهم في الحقوق علىاختلاف طبقاتهم و شتــى مذاهبهم.
وقد كان نصارى الأندلس-في ظل هذه الا متيازات-ينعمون بالحـياة الكريمة فأقدم كثير منهم على اعتناق الإسلام طوعا لا كرها، وانـخرطوا في المجتمع الجد يد ، فتعلموا اللغة العربية و حصلوا على حظ وافـر من الثقافة، فلم يعد من العجب في شيء أن ينبغ فيهم كثير في مختلف العلوم والفنون.
وكما و جد المسيحيون المستعربون من الأسبان في كنف المسلمين ما ضمن لهم العيش الكريم ، فقد بلغ بعضهم في قصور الملوك والأمراء مناصب سامية ناهيك عن الصقالبة الذين بلغـوا في عهد عبد الرحمن الناصر مراتب عليا في ادارة شؤون الملك، كما أصبح بعضهم في عداد ملوك الطوائف يحكمون امارة بلنسية في القرن الخامس للهجرة.
ولم يكن هؤلاء المستعربون-على اختلاف فئاتهم-يجد ون أي حرج في الإعلان عن أصولهم ، حتى رأينا أباعامرأحمد بن غرسية-وهو من شهد له صاحب المسهب بالتمكن من أعنة اللغة العربية - يقو ل:
ان أصلي كما علمت و لكن لساني أعز من سحبان (1)
وعموما فان الفاتحين- عربا وبربرا-ما أن استقر لهم الحكم بالأندلس حتى تركوا ما كانوا عليه من جفوة الطبع ،و خشونة البداوة، فرقت أخلاقهم ولانت طباعهم ، وأصبحوا أكثر نزوعا إلى المرح والترف، وأشد ميل إلى التمتع بتلك الحياة، كما أصبحوا على مستوى رفيع من رهافة الحس و سمو الذوق، يحتفون بالشعراء والموسيقيين ، ويغدقون عليهم الهبات.
وفي أجواء التسامح التي خيمت على المتساكنين بالأندلس أتيح للكثير من تقاليد الموسيقى
الو سيطة الغربية أن تلتقي مع موسيقى الفاتحين، وأن تنصهر فيها بشكل يكاد يكون عفويا وتلقا ئيا.
و سوف يهون علينا القبول بهذه الحقيقة حينما ندرك مد ى حرص العناصر القوطية والصقلبية -تحت وطأة حاجتها إلى الفاتحين على الاندماج في المجتمع الجد يد الذي انبثق بأرض الأندلس بعد الفتح.
وقد كانت هذه الأوضاع قمينة بأن تبد د مشاعر الدونية عند القوط والصقالبة، كما كانت قمينة بتبديد نزعة التعصب الديني والعنصري،وذلك بالرغم من حـالات التمرد الناد رة والمتفرقة التي كان بعض المتزمتين يقومون بها أحيانا ليعكروا أجواء التسامح ،فيقــذ فون بأرواحهم وأرواح
غيرهم من بسطا الأسبان المغرر بهم، لا لظلم أو تعسف أو اضطهاد أو حرمان من ممارسة شعائرهم الدينية ، وانما لأن نفوسهم امتلأت حقدا على المسلمين (ونفست عليهم شغفهم بالعيش في ظلال الرفه والنعيم وتمتعهم بالحياة و حبهم للغناء والموسيقى و ولوعهم بالعلوم) (2) و شبيه بموقف هؤلاء القساوسة المتعصبين موقف الأسقف)البيروالقرطبي (أواسط القرن التاسع للميلاد ، فقد حز في نفسه شغف أبنـاء قرطبة من المستعربين بالشعر العربي والأغاني العربية ، فو جه إلى رؤسائه خطابا يستنكر فيه ما شاهده ويشكو تخلي مواطنيه عن الاهتمام بالأدب اللاتيني واللغة اللاتينية.
و لقد أنحى بعض المؤرخين الأوروبيين باللائمة على نصارى قرطبة المتعصبين الذين كانوا يعرضون نفوسهم للقتل لأسباب اختلقوها واعتبروا ذ لك انتحارا اختياريا لا يصد ر إلا ممن أصيب بالهستيريا وفي أجواء التسامح أيضا ازد هرت الحركة الأدبية بالأندلس ، وكان من آثار هذا
الازدهار أن لقي الشعر العربي بوجه عام والغنائي منه بوجه خاص قبولا حسنا لدى المستعربين ، وهو أمر جدا ببعض المؤرخين إلى القول بأنه كان من العوامل الفاعلة في صبغتهم بالصبغة العربية كما سنرى فيما بعد وقد عمل ملوك الدولة وأعيان الموسرين فيها على تقريب المغنيــن والشعراء، واتخذ وهم رفقاء في مجالسهم. وقد كان الحكم بن هشام فنانا بطبعه، يحب الموسيقى، ويهوى الشعر. وكان في بلاطه من أعلامها علون وزرقون،وهما أول من دخل الأندلس من الموسيقيين. وهو الذي أرسل فيطلب زرياب لما علم بوجوده في القيروان، وأوفد إليه منصورا المغني كي يرافقه إلى قرطبة. وقد تميز عهد عبد الرحمن بن الحكم بإحداثه (دار المد نيات) التي أقامها في حاضرة قرطبة ، و جعل على رأسها زرياب ، فكانت -بحق- أ و لمعهد لتعليم الموسيقى في الأندلس، وكان عمدته في النهوض بأعبـاء التعليم أبناؤه الثمانية وبنتاه وبعض جواريه.
وقد استقبلت (دار المدنيات) اضافة إلى الجواري الواردات من المشرق العربي أفواجا من العرب وغيرا لعرب من الأندلس وغير الأندلس.
وما فتئت مد ن أخرى أن حذت حذو قرطبة، كاشبيلية وطليطلة وبإنسية ، وغر ناطة، فأحد ثت بها مدارس ومراكز لتعليم الموسيقى، وكان من رجالها عباس بن فرناس (ت 274-888م ) الذي كان يتقن ضرب العود،ويعزى اليه الفضل في إدخال الموسيقى الشرقية إلى أسبانيا على عهد الحكم الربضي.
وكان الأمير عبد الرحمن الأوسط يستأنس بمجالسته ويطرب عند سماع غنائه. كما كان من رجالها ابن باجة (ت.525) أمام الموسيقى في الألحان والذي اعتكف مدة سنين مع جوار محسنات على حد قول التيفاشي.وبفضل خريجي هذه المعاهد ، وأغلبهم من النساء الأندلسيات المستعربات،انتشر تعليم الموسيقى والغناء في بيوتات الأحرار من نسـاء الأندلس، وما فتئت الحواضر الأندلسية أن أصبحت تعج بمجالس الغناء التي تضاهي مجالس بغداد فخامة وعظمة، حتى لقد حوى أحدها يوما أكثر من مائتين من المغـنـين والمغنيات يضربون على مختلف الآلات الموسيقية من عيدان وطنابير ومزامير.
ومن المؤسف-حقا-أن تضن أخبار هذه المجالس بذكر أ سـماء المغنين والمغنيات الذين تتلمذ أعلى زري أب ومن تلاه من أساتيذ الموسيقى والغناء إلا نادرا. ومن هذا النادر تلاميذ زرياب نفسه، وفي مقدمتهم بنوه الثمانية وبنتاه علية و حمدونة، ومغنيات وافدات من المشرق لمع من بينهن فضل، وعلم
وقمر، وأخريات أسبانيات الأصل هن الأكثر عد دا. ومن هؤلاء قلم ، وهي جارية إسبانية الأصل من سبي البش كنس ، أرسلت إلى المشرق حيث صقلت موهبتها ولقنت أصول الغناء العربي،ثم عادت إلى قرطبة لتلتحق بدار المد نيات. ومن هؤلاء الروميات أيضا الشفاء، وهي أم ولد لعبد الرحمن الأوسط، ومنفعة التي غنت بحضرة عبد الرحمن الأوسط أيضا فاستجـاد غناء ها، وتلميذات زرياب الأثيرات متعة ومؤامرة، وفلة، وغزلا ن،وطـروب أم ولده عبدالله، وضرتها فجر، ومصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن تهليل ، وهي التي خاطب ابن عبد ربه صاحبهامستأذ ناصا حبها في سماعها
يا من يضن بصوت الطائر الغرد ما كنت أحسب هذا الضن من أ حـــد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة أصغت إلى الصوت لم بنقص و لم يزد
وبعد هؤلاء ظهر جيل جد من المغنيات اللواتي انتشرن في الـحـواضر الأندلسية يعلمن الغناء، و خاصة في اشبيلية التي طما منها بحر زاخر عـلى حد تعبير ابن خلد ون(4). وفيهن طرب جارية
الأميرالمنذربن عبد الرحمن الأوسط الذي قال فيها
ليس يفيد السرور والــطرب إن لم تقابل لواحظي طرب
وفيهن أيضا جيجان جارية عبد الله ، وعتبة جارية ولا دة ،وهند جارية عبد الله بن سلمة الشاطبي، وهي التي خاطبها محمد بن يحيى بن ينق يوما فقال
يا هند هل لك في زيارة فتيــة نبذ والمحارم غير شرب السلسل
سمعوا البلابل قد شد واف تذكروا نغمات عود ك في الثقيل الأول (5)
وقد كان مما ميز عهد ملوك الطوائف الاحتفاء البا لغ بالشعر اء والأدباء،وتقريبهم استدرارا لمد يحيهم، فكثرت بذلك مجـالـس الأدب وكان طبيعيا أن يواكب هذا تقريب الموسيقيين والمغـنين والاحتفاء بهـم لما يخلقونه حول الملوك من مظاهر الأبهة والفخامة التي طالما طمح
اليها هؤلاء لما كان بينهم من شد يد التنافس على الحكم والحرص على توسي منا طق نفوذ هم .
ولم يكن الشعر الجد يد -بنوعيه الموشح والزجل- أقل حضورا من صنوه الاتباعي العروضي في هذه المجالس. و ليس أد ل على هذا من انخراط الشعراء الو شاحين والزجالين فيها. فهذا الشاعر
المولد ابن قزمان( 480-555) يدنيه المتوكل على الله، و يرقيه إلى مجالس الملك مستدرا مديحه ، فتأتي أزجاله المسيحية لتحتل ثلث ديوانه.فإذا علمنا أن الزجل إنما و ضع في الأصل للغناء ، وأنهم أرادوا به إخضاع الشعر للنغم ، أد ركنا مد ى قـو ة حضور الموسيقى في مجـالس ملوك الطوائف وفي منادماتهم ونزهاتهم. يقول التيفاشي في وصف أحد مراكز تعليم الموسيقى باشبيلية. وهذا الغناء اليوم-أي بدايات القرن الثالث عشر-موقوف على اشبيلية، وبها عجائز محسنات يعلمن الغناء لجوار مملوكات لهن ومستأجرات عليهن مولداتٍ. ويستفاد من كلام التيفاشي أنه كان من مستلزمات تعليم هـؤلاء الجواري إتقان ضرب الآلات آلي جانب إتقان الغناء.
وقد كانت مجالس الحكيم الأديب محمد بن الحسن المذحجي المتطبب المعروف بابن الكتاني (ت420) تضم مجموعة من الجواري ، كان يعلمهن ويثقفهن، ومن بينهن أربع روميات نقلهن من الجهل إلى العلم و لقنهن المنطق والفلسفة والهندسة والموسيقى والنحو والعروض (6) . ويذكر ابن عذارى عن إحدى هؤلاء ء الروميات أنـه (لم ير أخف منها روحا ...ولا أطيب غناء...مع السلامة مــن اللحن فيما تكتبه وتغنيه).
و من الأخبار الطريفة المتصلة بتلقين أصول الموسيقى العربية للأسبان والتي تقوم شاهدا على رسوخ فضيلة التسامح في المجتمع الإسلامي بالأندلس خبر اعتقال الشاعر الإسباني أمير بواتيي كيوم
السابع في معركة كان يقودها الأمير ريمون الرابع عام1097. فقد أكرمه آ سره وقربه إليه في مجالسه الخاصة ،وفي هذه المجالس تعلم كيوم الغناء ،ثم عاد إلى قومه وقد أتقن الغناء العربي.
وقد كان للأميرالمعتضد مؤسس طائفة بني عباد مجموعة من المغنين في قصره ، فيهم العرب، وأكثرهم أسبان، وكان مغنـيـه المفضل صقلبيا يستدعيه في الملمات ليرفه عنه، كما كان يتفاءل مما يختاره له من الأغاني .وعلى الرغم مما زعمه ابن عبد الملك من أن( الخوض في ذكر القيان يكاد يكون و صمة و جرحة ...وعثرة لا تقال، وزلة لا تغتفر، و سيئة لا تكفير لها) فان كثيرا من فقهاء الأندلس لم يكونوا ليجد و أي حرج فـي حضور مجالس القيان الموسيقية ، ومن هؤلاء محمد بن أبي عيسى قاضـي الجماعة في قرطبة وأمام مسجدها على عهـد الخلافة الأموية الذي استمع يوما الى جارية تغني أغنية في بيت رجل من بني خدير، فأخذت بلبه، وكتب أبيات الأغنية في باطن كفه، ثم انطلق إلى الصلاة مع الناس ، فكان يكبر فتبد و الأبيات كلما انفتحت راحة يده (8) وهذا نصها.
طابت بطيب لثاثك الأقداح وزها بحمرة خدك التفا ح
وإذا الربيع تنسمت أرواحة طابت بطيب نسيمك الأرواح
وإذا الحنادس ألبست ظلماؤها فضياء وجهك في الدجى صباح
ومن هؤلاء ء أيضا قاضي قرطبة في عهد ملوك الطـوائف . فقد سجل ابن حزم في أحد مشاهداته أن هذا القاضي حضر مجلس جارية طـيبة الصوت،كانت تحسن تجويد القرآن وتتقن الغناء، فأصغى إليها أولا وهي تجود القرآن،ثم استمع إليها ثانيا وهي تغني.
ولا ريب أن تصرفا مثل هذا الذي يصد ر من قاضي قرطبة قمين بأن يدل على سيادة روح التسامح في الأندلس المسلمة وأن يدل -في ذات الوقت - على اقتناع سائر الشرائح المكونة للمجتمع الأندلسي بأن مجالس الغناء و الطرب-هي أيضا-من مقومات هذا المجتمع، وأن مراكز تعليم الموسيقى والغناء لا تتدنى مقاما عن حلقات العلم ومحافل الأدب .يقول أ حمد التيفاشي (580-651)
في كتابه (متعة الأسماع في علم السماع) أن أهل الأندلس في القد يم كان غناؤهم إما بطريقة النصارى وإما بطريقة حداة العرب و لم يكن عند هم قانون يعتمد ون عليه إلى أن تأثلت الدولة الأموية.وكان ذ لك زمن الحكم الربضي ،فوفد عليه من المشرق و من إفريقية من يحسن غناء التلاحين المدنية،فأخذ
الناس عنهم،إلى أن وفد الإمام المقدم في هذا الشأن علي بن نافع الملقب بزرياب غلام إسحاق المو صلي على الأمير عبد الرحمن الأوسط،فجاء بمالم تعهده الأسماع واتخذت طريقته مسلكا ونسي غيرها،إلى أن نشأ ابن باجة الأمام الأعظـم واعتكف مدة سنين مع جوار محسنات، فهذب الاستهلال والعمل
ومزج غناء النصارى بغناء المشرق،واقترح طريقة لا توجد إلا في الأندلس مال إليها طبع أهلها فرفضوا ما سواها. ويد لنا تحليل هذه العبارة على أن الأندلس في أوائل العهد بفتحهـا أيام حكــم الولاة كانت تعرف نمطين مستقلين من الغناء،أحد هما يجري على طريقة النصارى، وهو الذي كان شائعا بين سكان الأندلس الأصليين من القوط،مادته الأناشيد الغريغورية التي كانت ترجع في الكنائس. وثانيهما يجري على طريقة حداة العرب ،وهو ما جلبه الفاتحون الأوائل. ولم يكن عند
الأندلسيين يومئذ-عربا وقوطا-قانون موحد في الغناء.
وقد تلت هذه المرحلة مرحلة ثانية بدأها وفود بعض المغنين في عهد الحكم الربضي كان فيهم عباس بن فرناس الذي قال عنه ابن حيان القرطبي. (هو أول من فك الموسيقى) مثلما كان فيهم زرقون وعلون والعباس بن النسائي، ثم تلا هؤلاء قد و م المغني البغدادي زرياب على عهد عبد الرحمن الأو سط واستقراره بقرطبة حيث اضطلع بالتعليم وفق الطريقة التي أقرها التداول الشائع بالمشرق
العربي بين أصحاب الموسيقى على حد تعبيران المنجم في(رسالة النغم ) ورأسهم يومئذ إسحاق الموصلي.
وما عتم أن جاء زرياب بما لم تعهده الأسماع عند ما أرسى القواعد الأولى لنظام النوبة فوضع مراسم جد يد ة للغناء تقوم على افتتاحه بالنشيد ثم الا نتقال الى البسيط، والختم بالمحركات والأهزاج.
وستعرف هذه المرحلة التي تميزت بالا ستقرار واستتباب الحكم للدولة انخراط العناصر السكانية المحلية من قوط وصقالبة في المجتمع المسلم الجد يد، وإقبالهم على تعلم اللغة العربية وآدابها، وظهور كثير من المغنين والمغنيات المستعربين ونبوغهم في أداء ( الأصوات) الغنائية التي نشرها أبناء زرياب وتلاميذه من بعده بالحواضر الأندلسية، كما ستعرف هذه المرحلة تسرب بعض تقاليد الغناء المحلي بنوعيه الكنائسي sacre والشعبي الدنيوي profane الى أو ساط الفـنانين الممارسين للغناء، وذلك ما سيدشن للدخول في مرحلة ثالثة طبعها تحو ل جد يد في مسار تطور الموسيقى بالأندلس ووسمها التمازج بين الموسيقى الإسبانية المحلية والموسيقى العربية المشرقية، وهو تحول كان رائده الفيلسوف ابن باجة الذي هذب الاستهلال والعمل ومز ج غناء النصارى بغـناء المشرق، واقترح طريقة استأثـرت بها الأندلس دون غيرها من الأقطار الخاضعة للحكم الإسلامي، وهي طريقة مال إليها طبع أهل الأندلس واطمأنت إليها أذواقهم دون سواها.
ومن المؤكد أن غناء تطمـئن إليه أذواق ساكنة الأندلس- مستعربين وعربا على نحو ما ذكره التيفاشي -إنما هو نتاج طبيعي للتفاعل ا لحاصل بين الموسيقى الإسبانية المحلية و بين ما جلبه العرب الفاتحون للأندلس والذي أفضى الى التحام كثير من المعطيات الفنية للتراثين معا. و هو نتاج كان -حتما-ثمرة لتضافر جهود عناصر من العرب والمستعربين في أجواء يسودها التفاهم والتسامح بعيدا عن تعصب أي طرف لموسيقاه.ومن هنا فإننا لا نعجب - اليوم-حينما نلاحظ كيف استطاعت المو يقى
الأندلسية أن تحافظ على كثير من ملامح الموسيقى الأوروبية الوسيطة سواء على مستوى البناء اللحني
والإيقاعي أم على مستوى النظام المقام للنوبة، في حين لا تملك الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية من أسباب التواصل مع الموسيقى الوسيطة غير النزر القليل. ومن هنا -أيضا-تتميز الموسيقى الأندلسية-في واقعها اليوم-باحتوائها على كثير من الملامح التي يمكن اعتبارها مفاتيح للغو امض التي تكتنف
الموسيقى الأوروبية في العصر الوسيط.
وفي وسع الباحث أن يتلمس و جوه التفاعل بين الموسيقى الإسبانية المحلية وبين الموسيقى المشرقية الوافدة عليها، وذلك من خلال تحليل العناصر المكونة للنوبة والتي لم تستطع المستحدثات الطارئة عليها منذ الهجرة الغرناطية في نهايـة القرن الخامس عشر أن تغير من جوهرها أو أن تشوه معالمها.و سوف نتناول فيما يلي تحليل هذه العناصر عبر ثلاث مستويات تتعلق على التوالي بالنص الشعري واللحن الموسيقي، وأسلوب الأداء غناء وعزفـا، وهذه جماع المقومات التي تحدد بنية النوبة في الموسيقى الأندلسية.
1- مستوى النص الشعري
تأتي النصوص الشعرية في مقدمة مكونات الموسيقى الأندلسية باعتبارها مطية لألحان هذه الموسيقى. ويهمنا هنا الحديث عن نمطين من الشعر اختص بإبداعهما شعراء الأندلس هما التو شيح والزجل.
و قد درج دارسو الآداب الأندلسية على القول بارتباط ظهور هذين النمطين بتطورالموسيقى في الأندلس المسلمة. و يعلل بعض هؤلاء ذ لك بانتشار الأغنية الشعبية المحلية بين المتساكنين العرب و المستعربين، و التي كانت مصوغة من لغة هي مزيج من العربية العامية و اللهجة الرومانسية وهي ذاتها التي كان غالبية الناس يتحدثون بها. غير أن هنا لك عوامل فنية بحتة لا ريب أنها تحكمت في نحت و صياغة التوشيح والزجل فجاء على نحو ينسجم مع ضرورات الغناء ويستجيب لنسق التلحين الذي ابتكره الأندلسيون وارتضوه نمطا سائرا بينهم ، يستأثرون به دون سواهم من الأمصار الإسلامية، ولا يقبلون بغيره أسلوبا للإنشاد على حد ما ذكره التيفاشيو فكأنما كانت البحور الخليلة تحد من إبداع الملحن الأندلسي بما تفرضه من قيود تتمثل في هيمنة الوزن الواحد، والقافية المتكررة على امتداد أبيات القصيدة من جهة، ثم بما يفرضه البيت الشعري من رتابة لحنية وإيقاعية يقتضيها النسق المتكرر لثنائية الأشطر من جهة أخرى. ثم فكأنما أحس الملحن -وهو يقدم على صب لحنه في أبيات القصيدة- بانحباس نفسه و اختناق سجيته أمام ضيق الفسحة التي يمنحها البيت الشعري بصدره وعجزه، حتى فكأن كلمات البيت لا تفي باستيعاب فقرات اللحن الذي يختلج في نفسه، فراح ينحت الكلمات على نحو جديد يتجاوب مع امتداد اللحن،فإذا هو يهتدي الى ابتكار قالب سيصطلح على تسميته بالتوشيح أو المو شح،وهو قالب شاذ عن أعاريض العرب، خارج على تقاليد النظم الخليلية، قوام نظمه عناصر عربية أصيلة وأخرى محلية ذات أصل إسباني رومانسي، وأبرزه اختم التو شيح بقفل أطلقوا عليه اسم الخرجة وهي فقرة تأتي على ألفاظ العامة أو بعبارة أعجمية .
ويميل جمهرة المستشرقين الى الاعتقاد بأن الخرجة إنما هي من آثار الأغاني الإسبانية القديمة المكتوبة باللهجة الرومانسية، أو أ نها هي ذاتهـا أغان شعبية إسبانية ا استهوت نفوس شعراء الأندلس فانطلقوا لينظمون على منوالهـا نظما جديدا يكون قابلا لأن يغنى على ألحانها وأوزانها، فكان ذ لك النظم الجد يد هو التو شيح. وفي هذا المعنى يقو ل غومث. إن هذه الخرجات عبارة عن أغان قصيرة باللهجة الرومانسية كانت معروفة من قبل،وأنه على هذه الأغاني بنيت التوشيحات (9).
و مهما تتضارب الأراء حول أصول التو شيح والزجل من الو جهة الأدبـية البحتة فانه لا مناص من أن نقر بوجود آ ثار لتقاليد موسيقية محـلية أ سهمت الى جانب الموسيقى المشرقية في تشكيل نمط التو شيح و صاغته على نحو مغاير لما كان عليه أسلوب التلحين كما سنرى فيما بعد.
وتحتل التوشيحات والأزجال من ديوان الا لة الأ ند لسية حيزا كبيرا يد ل على مد ى سعة
الإقبال على نظمها،و خاصة في مواقع التصدي رة و القفل في الميازين الأربعة الأصلية )البسيط-القائم ونصف-البطايحي-القدام وفيغالبية الصنعات المو سعة والمشغولة بالتراتين.
وقد أحصيت الموشحات الواردة في كناش الحايك الذي حققه الحاج إدريس بن جلون فبلغ
عددها زهاء 600 ما بين توشيح عروضي وحر ، فيما بلغ عد د الأ زجال حوالي 130 نصا، وبذلك يرتفع مجموع النمطين الى ما يناهز 66%وذلك في مقابل هي نسبة مجموع النصوص الشعرية الخليلية زهاء والبراول وفي مقابل التأثير المحلي الذي طبع المو شح الأ ندلسي كما رأينا فقدكان له-من جهة أ خرى-كبير الأثر في الآداب الأوروبية..يقو ل ستا نلي ليقول في هذا الصد إن الشعر الأندلسي-خاصة منه التوشيح والزجل-هو الذي أوحى للشعراء المغنين في إسبانيا بأناشيد هم وأغانيهم القصصية، وهو الذي حاكاه شعراء بروفانس وإيطاليا (10)، بل إن أغاني التروبادور ليست الا الصورة الأوروبية لفني التوشيح والزجل العربيين الذين كان لهما الأثر الكبير في نشأة الشعر القشتالي العامي المعروف في الشمال الإسباني تحت اسم بيلانثيكو Villancico الذي كان كثير الاستعمال في الأناشيد الدينية كأناشيد عيد ميلاد المسيح عليه السلام (11).
ومثلمـا أفضـت ضرورات الغناء إلى ابتكار المو شح والزجل، فكذلك أفضت الى ابتكار مقاطع لفظية لا يستقيم التلحين إلا بها، وذلك ما يعرف في المعجم الموسيقي بالتراتين،من قبيل( آنانا-هانانا-طيري طان-ياللان... )
ووظيفة هذه الألفاظ إشباع الجملة اللحنية عند ما تمتد وتطول فتصبح الكلمات المنظومة قاصرة عن
الإيفاء بها واستيعاب فقراتها. وفي هذه الحالة تدعى الصنعة المغناة على هذه النحو صنعة مشغولة (12)
وقد أشار ابن سناء الملك الى هذه الظاهرة حين قسم الموشح قسمين قسم يستقل التلحين به ولا يفتقر الى ما يعينه عليه، وه وأكثرها، و قسم لا يحتمله التلحين ولا يمشي به إلا أن يتوكأ على لفظة
لا معنى لها تكون دعامة للتلحين وعكازا للغناء. ويضرب ابن سناء الملك لذ لك مثالا بقول ابن بقي
من طالب ثأر قلبي ظبيات الخد وج فتانات الحجيج
ثم يقول فان التلحين لاستقيم إلا بقول(لالا) بين الجزأين الجيميين من هذا القفل (13) ومن الكتاب المحدثين الذين تحدثوا عن ظاهرة الشغل أيضا الباحـث المغربي الكبير المرحوم محمد الفاسي . فقد قال في شيء من الإسهاب،وهو بصدد الكلام عن تقاليد غناء ميازين الآلة ولم يكفهم الكلام لجعله يطابق كل أجزاء الأنغام التي يعبرون بها عن عواطفهم، فعمد والى حروف وحركات يكررونها من نوع ما نراه في الأغاني الشعبية الغربية التي لها شبه من هذه الناحية فقط بمو سيقانا لكونها-وان كتبت-فانها تلقن بالحفظ لأن من يقبلون عليها هم من طـبقات الشعب التي لا تحسن قراءة الكتابة الموسيقية، فيحفظون الأ لفاز و معها كثير من الترددات من نوع "طرفلا لا ليرو وطير نط وطيرونطوطيرونطير" والغريب أن نفس هذه الحروف هي التي تستعمل كذلك في هذه الترجيعات عندنا مثل"يالالان-طيري طان "ونحوها والتي تسمى التراثين (14) ويستشف من هذا الكلام نزوعا لأستاذ محمد الفاسي الى الإيحاء بما يدل على أن استعمال هذه الألفاظ في الموسيقى الأندلسية و الموسيقى الشعبية أوروبية معا إنما هو من قبيل التشابه العفوي أو من باب وقوع الحافر على الحافر، وليس له أية علاقة البتة بموضوع التفاعل بين الموسيقيتين.
وهو يعلل رأيه بانتشار الأمية بين ممارسي الموسيقى الأندلسية الذين هم في رأيه- من طبقات الشعب التي لا تحسن القراءة، فتعتمد على الحافظة. والواقع أنه لاعلاقة لاستخدام التراتين بالأمية، فلقد تحدث عنه سناء الملك كما رأينا منذ عهد كان فيه الأندلسيون على مستوى رفيع من الثقافة ومن المعرفة
الموسيقية.
2- مستوى اللحن
أدى صوغ التوشيح وفـق نسـق نظـمي خاص تتعاقب فيه الأقـفال والأبيات الىتبني قالب مبتكر في التلحين يعتمد توالي لحنين تيمين اثنين على نحو يتنوع بحسب عدد الأقفال والأبيات في الصنعة.
ومن جهة أخرى فقد أفضى تعاقب الصنعات وفق أنساق إيقاعية تتدرج من البطيء الى المهزوز فالسريع الى إقرار الصورة النهائية لنظام النوبة التي وضع زرياب من قبل مراسمها الأولى منتقلا من النشيد الى البسيط فالمحركات.
ولا ريب أن إنجازا فنيا كهذا ابتدعته العبقرية الأندلسية إنما هو نتاج لجهود أفرزتها أجواء التكافؤ والتعايش التي سادت العلاقة بين فناني الأندلس في ظل الحكم الإسلامي بها، وهو نتاج متفرد يقيم الدليل على فرادة نموذج الحضارة الإسلامية في الأندلس.
ويكفي للتدليل على مدى قوة التواصل بين ثقافات العناصر البشرية المتساكنة بالأندلس النظر في منظومة الطبوع (المقامات) التي تتحكم في طبيعة ألحان الموسيقى الأندلسية. ذلك أن هذه الطبوع شكلت في بنائها و تركيبها خلاصة ما أسفر عنه التلاقح الذي تم على أرض الأندلس بين معارف نظرية وممارسات عملية مختلفة المشارب والذي تعانقت فيه خصوصيات السلم العربي الذي حمله الفاتحون من المشرق العربي في القرن الثاني للهجرة مع خصوصيات الأ جناس اليونانية والغريغو رية و الإفريقية .
ولمعرفة طبيعة السلم العربي الذي انتقل الى الأندلس مع الفاتحين تجدر الإشارة الى أنه هو ذاته الذي شرحه الفيلسوف العربي أبو يعقوب الكندي في رسائله ويحيى بن المنجم في رسالة الموسيقى.وهو الذي تستوعبه أوتار العود الأربعة،ومداه أوكتاف كامل تتوالى نغماته السبع و فق نظام السلم الطبيعي Diatonique و هو ذاته الذي جرى عليه المغنون الممارسون بالمشرق في عصور الازدهار العبا سية.
وقد ظل هذا السلم قائما بالأندلس ولم يتأثر بالتحولات التي طرأت عليه في المشرق العربي منذ استهلال القرن السادس للهجرة بفعل تأثير موسيقى الشعوب التركية.
و لقد تفاعل السلم العربي في الأندلس مع الأجناس اليونانية القديمة والتي كانت تشاد عليها ألحان الأناشيد الكنسية ، و هي الدورياني، والفريجي والايولي ، والميكسوليدي، والليدي،و أفضى
ذلك الى انبثاق منظومة جديدة من الطبوع تضم الى طبيعتها العربية بعض معطيات موسيقى الشعوب التي تساكنت في الأندلس.
وقد توجهت بعض الدراسات الحديثة الى تصنيف الطبوع الأندلسية في ثلاث مجموعات هي
1-طبوع تتطابق مع السلالم الإغريقية القديمة من حيث قيام عقودها السفلى على أبعاد السلم الطبيعي (تون ونصف تون)، كعراق العرب، والأصبهان، وغريبة الحسين أو كرمل الماية، والماية، والحسين، لولا اعتراض علامة الخفض لنغمة (سي) عند نزول اللحن، أو كعراق العجم ، و حمدان لولا أن نغمة القرار فيهما مغايرة لما في نظيريهما اليونانيين .
2- طبوع ممزوجة هي حصيلة تمازج أجناس يونانية مع مقامات شرقية، ومن ثم فهي تحمل ملا مح مشرقية كاعتراض ا لثانـية الزائدة (seconde Majeure) لعقودها السفلى إضافة الى المسحة التصويرية التي تطبعها. وتندرج في هذه المجموعة طبوع الزوركند، والعشاق،والتي هي من فصيلة الحجاز كالزيدان والحجاز الكبير، والحجاز المشرقي
3-طبع إفريقي الأصل، وهو طبع الرصد الذي يحمل ملامح السلم الزنجي، إذ هو يحاكي السلم الخماسي الشائع استعماله في منطقة سوس بالأطلس الصغير أو في موسيقى كناوة(15)
3- مستوى الأداء
من الظواهر السائدة في غناء مستعملات الموسيقى الأندلسية لجوء المغنين الى تقطيع الكلمات على نحو يبدو مخلا بالقواعد العروضية والضوابط اللغوية والنحوية، وذلك بسبب تجاوزهم المفرط في مد ما ليس ممدودا من الحروف أو تجزئة الكلمة الواحدة الى مقاطع ترجع مستقلة و منفصلة عن بعضها.ويبدو ذلك في طريقة إنشاد صنعة (صلوا يا عباد) من بسيط رمل الماية. فان كلمة (صلوا) بمفردها تأتي مشحونة بالشغل الذي يتخلل مقطعيها على نحو يبتعد بأدائها عن أسلوب الغناء العربي بحيث يغنى حرف الصاد المفتوح، ثم حرف اللام الممدود ضما، كل منهما بمعزل عن الآخر، مما يذكر بطريقة إنشاد الصلوات الكنسية (16).
ونحسب أنه كان لابتكار الموشح- كقالب يتسم بـالحرية والخروج عن ضوابط علم العروض -صلة بهذه الظاهرة التي لا ريب أنها تستمـد بعض خصوصياتها من نمط الإنشاد عند الا سبان الذين انخرطوا بعد استعرابهم في المجتمع الأندلسي وهو نمط تميز بضروب من التصرف في إخراج الحروف
وتقطيع الكلمات على نحو كثيرا ما يكون مسفا بالكلام العربي ومخلا بالإعراب
ويزيد في عجمة الأداء عوامل عدة منها شحن الأ ز جال الأندلسية بعبارات من العامية تغرق أحيانا كثيرة في الا غراب اللفظي ونظم خرجات الموشحات على ألفاظ من اللهجة الرومانسية الإسبانية. إضافة الى شحن الصنعات المشغولة بالتراتين مما يؤدي الى انسياب اللحن الموسيقي لدرجة يصبح معها تقطيع البيت الشعري مطية لارضاء الخط الميلودي على حساب جمالية اللحن وسلامة المخارج
ونعتقد أنه كان لتفشي هذه الظاهرة بين المغنين ما يبرر عزوف مؤرخي الأدب الأندلسي الأوائل عن ذكر الموشحات في مؤلفاتهم فضلا عن موقفهم المأثور منها كنمط أدبي مبتدع
وقد وقف التيفاشي نفسه من الموشحات والأزجال موقف هؤلاء.وهو مع إقراره بأنها ركن من أركان النوبة الأندلسية، وأنها أيضا هي الأجود عند الموسيقيين، فانه يعتبر الزج بها ضمن الصنعات التي تنظمها النوبة مظاهر الانتكاسة التي أصابت ا لموسيقى العربية على عهده ومن ثم عزف عن ذكر الموشحات والأزجال، واقتصر على سوق نماذج من الأغاني القائمة أشعارها على البحور الخليلية (17)

وقد استمر إنشاد صنعات الموسيقى الأندلسية على هذا النحو ديدن الممارسين ولم نقف على من أنكر ذلك أو استهجنه من عشاق الفن وما نحسب أن هذا كان عن جهل بمعايير البيان و حلاوة النطق و سلامة المخرج وتعديل اللفظ ونقاء اللهجة،فلقـد أثر عن الفقهاء أنهم طالما أنحوا على المقرئين والمؤذنين غلوهم في التلحين حتى أخلوا بقواعد التجويد و شروط الأذان. فهذا الامام الغزالي ينقل عن صاحب الإقناع أنه قال: "لا يجوز التلحين بالأذان"، أي التغني فيه بزيادة حرف أو حركة أو مد، وهذا فقيه من فقهاء المغرب ينكر على بعض المؤذنين مدهم لحرف الباء في كلمة أكبر من عبارة (الله أكبر) لأن في ذلك ما يحول صيغة هذه الكلمة إلى (أكبار) التي هي جمع "كبر" بمعنى طبل، وفي هذا خطيئة لا تغتفر، وإفساد للمعنى المقصود .
على أن الفنان الأستاذ عبد اللطيف بن منصور أبى إلا أن يشذ عن العرف السائد في تقاليد أصحاب الآلة عندما رفض طريقتهم في أداء بعض الصنعات وهو يضر بذلك مثلا بتصدرة بسيط رمل الماية حيث يجنح المنشدون الى تمديد الواوات المرفوعة في كلمة "صلوا" معقبا بأن في ذلك ما يثير الضحك والأسى معا ومتمثـلا بقول الشاعر.
أمور يضحك السفهاء منهـــا و يبكي من شناعتها الحليم
و شبيه بموقف ابن منصور انكار اسحاق الموصلي على معاصره إبراهيم بن المهدي تمديد الحروف التي لا يعقبها اشباع عند الغناء، فقد بعث اليه من يسأله أخبرني عن قولك" ذهبت من الدنيا وما ذهبت مني" ، أي شيء كان معنى صنعتك فيه ، وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه الا أن تقول" ذهبتو"؟. فان قلت" ذهبت "ولم تمدها انقطع اللحن والشعر، وان مددتها قبح الكلام و صار على كلام النبط.
الغناء الشعبي
لقد كان مما ميز المجتمع الأندلسي أنه استطاع-في ظل التسامح الذي نشر الإسلام لواءه-أن يحافظ على الألوان الموسيقية الشعبية المحلية، وأن يمد جسور التواصل بينها وبين موسيقى العناصر السكانية الوافدة في ركاب الفتح الإسلامي من العرب والبربر والزنوج ، حتى لقد أصبحت هذه الألوان على درجة واسعة من الشيوع بين الناس في حفلاتهم الأ سرية وفي محافلهم العامة .
وقد سجل الشاعر الرقيق ابن حمديس الصقلي(447/527-1055/1132) أحد مشاهد الاحتفالات الشعبية العامة فقال:
وراقصة لقطت ر جلهــــا حساب يد نقرت طا رهــا
فجاء و صفه وكأنما ينطبـق على حلبة من حلبات الرقص التي تقيمها اليوم فرق الفلامنكو ، فترى الراقصة فيها وهي تمسك بأهداب فستانها لتكشف عن خفها و هـو يوقع على أديم الأرض ضربات تتجاوب مع نقرات يدها على الطار. فما أشبه الليلة بالبارحة . ونكاد نجزم بأن شيوع الألوان الشعبية التي ألمحنا إليها كان في مقدمة العوامل التي ساعدت على ابتكار الزجل والتغني به، يدل على ذلك ارتباط نشأة هذا الفن بالرقص الشعبي وباستخدام الآلات الموسيقية ذات الطابع الشعبي كالطار والبوق والمزمار والقيثارة والصاجات. فلقد ذكر ابن سعيد أن يحيى بن عبد الله البحبصة-و هو من زجالي المائة السابعة للهجرة-كان يقول الزجل على طريقة البداة، وكانت أكثر أزجاله بمصاحبة النفخ على البوق
(19) .أما ابن خلدون فنعت الزجل بفن العامة الأندلس.
ويؤكد هذا الرأي قول الدكتور إحسان عباس عن الزجل:لعله تأثر-إلى حدما- بالبيئة وما ورثته من فن شعبي لأهلها. ولا ريب أنه مولود أندلسي تعاونت في إيجاده عناصر وعبقريات من الطوائف المختلفة.(20)
أما المستشرق والباحث الاسباني ريبييرا فهو يبدو أكثر اقتناعا بما أسفر عنه التواصل بين العرب والمستعربين في هذا المجال إذ يقولان الموسيقى الشعبية فـي اسبانيا-بل في موسيقى جنوب الغربي من أوروبا بأسرها-في القرن الثالث عشر وما بعده كانت-كالروايات الغرامية الغنائية والتاريخية في الأقاليم-مقتبسة من مصدر أندلسي منبثق في نشأته من مصادر عربية و فارسية.
وأما ليفي بروفنسال ففي رأيه أن كلمة Zambraالتي تطلق على مشاهد الزمر الراقصة منحوتة من كلمة الزمرة العربية التي تعني البطانة التي تردد ما يغنيه المنشد المنفرد، وهو يضيف أن هذه المشاهد ذات الطابع الشعبي تكرس تقليدا قد يما توارثه الأندلسيون منذ كانت فتيات قادس يرقصن على وقع صلصلة الصنوج البرونزية ومن ثم فانها-في العهد الاسلامي- أصبحت تشكل نتاجا مشتركا أفرزه التواصل الحاصل بين الفاتحين والمستعربين، وغذته أزجال ابن قزمان التي زادت من انتشاره .
وقد كانت بعض هذه المشاهد تضم-الى جانب الغناء والرقص-أنواعا من الغناء المطرب. يقول ابن الحداد القيسي في وصف مجلس من مجالس المعتصم صمادح ملك المرية وقد جمع بين الطرب واللعب (22)

وأسمـعـتـنـا لا حنـا لافــتا وأحضرتنا لاعبا ساحــرا
يزفن فوق رؤوس القــيـــــا ن فتنظرما يذهل الناظــرا
ويخطفها ذ يـل سربالــــــه فتبصر طالـعـهـا غـائــرا
ولقد بلغ من ذيوع مشاهد الزمر الشعبية أنها امتدت الى حلقات الذكر التي كانت تقام في غرناطة بمناسبة الاحتفال بالأعياد و المناسبات الدينية
وتحفل المصادر الاخبارية و الأدبية بأخبار رواد الغناء الشعبي في الأندلس ممن كانوا يتصدرون الحلقات في الساحات أو في مجالس الأنس الخاصة، فينفخون في مزاميرهم أو يضربون على صناجاتهم ودفوفهم وتتكشف هذه الأخبار عن حقيقة لا يتطرق الشك إليها، وهي أنه كان لآلات النفخ ولأربابها حضور قوي في أو ساط ممارسي الموسيقى بالأندلس، وهو حضور حمل التيفاشي على التنويه بآلة البوق،فأسهب فـي وصفها، ونعتها بأنها "أشرف آلة عندهم وأكملها لذة في الرقص والغناء، يخرج عند العمل(بها) أصوات غريبة عظيمة في غاية الإطراب وإلاعجاب، وهذا عندهم من أعظم احتفال آلة الغناء والرقص"
وقد كان مستخدموا المزامير والنايات و الأبواق و الطبول خليطا من العرب والمستعربين. وممن اشتهر من هؤلاء زريوط الطنبوري، وابن مقيم الزامر أحد المطربين الملهين في الأندلس على عهد الحكم المستنصر. وهو الذي عاب أبو علي القالي على أحد تلاميذه استناده عليه في تحقيق لغوي (24) ومنهم بشارة الزامر الذي صاحب -يوما-بآلته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر حاجب دولة صنهاجة وهو يغني في حضرة ابن أبي عامر في قرطبة.(25)
ومن هؤلاء أيضا النكوري الزامر الذي كان ينفخ في البوق، واشتهر في قرطبة على عهد عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر, وقد وصف الحميدي موكب عرس في أحد شوارع قرطبة كان النكوري يتوسطه بآلته، ومعه مغني يغـني مـن شـعر أ حمد بـن كليب النحوي أبياتا يبدو أنها مما يتناشده العامة في محافلهم الشعبية منها

و أ سلمـني في هوا ه أسـلم هذا الرشــا


غزال لــه مـقلــة يصيب بهـا من يشــا

وغير هؤلاء كثير ممن شغلوا الناس و فتنـوهم حتى لقد حكم أبو بكر بن العربي المعافري-يوما-على أحدهم بثقب أشداقه فاستحال عليه النفخ بعد ذلك لاستحالة تخزين الهواء في فمه(27). ولقدكان حريا بهذه التقاليد الغنائية الشعبية أن تغالب الزمن لتدرك عصرنا هذا مثلما أدركته تقاليد الموسيقى الأندلسية المنتشرة في بلدان الشمال الأفريقي (الآلة- الغرناطي- الصنعة-المألوف) لولا أن رجال الكنيسة وقفوا خلال حرب الاسترجاع وبعدها- من سائر أصناف الموسيقى الشعبية الأندلسية المتأثـرة بالموسيقى العربية الإسلامية موقف المناوئ المعارض، فحرموا تداولها وصادروا آلاتها، وتعقبوا ممارسيها، فكان ذلك من أهم أسباب ضياعها، وهو موقف نعتقـد أنه كان نابعا من التعصب الديني والعنصري ضد كل ما يمت الى العرب والمسلمين بصلة،كما كان منسجما مع موقف الكنيسة التي تحرم ألوان الموسيقى الا ما كان مرتبطا بالمراسيم الدينية.




عن: الحمراء : نشرة فصلية إخبارية ثقافية . عدد 16 / 2008

حسام الداود
12/12/2008, 18h44
لقد وضعت يا استاذ يدك على الجرح عندما صورت المجتمع القائم في تلك الحقبة بالتمازج
وهذا الهدوء السائد في تلك الحقبة افتقدناه في المجتمع الحاضر حتى في الموسيقى التي أصبحت في مستوى هابط جدًا

حسام الداوود