المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : للحن الدور الأعظم في نجاح أعمال الراحل محمود كريّم


زياد العيساوي
29/06/2008, 15h29
ما كان لأية أغنية ، أنْ تظهر للأسماع ، لو لم يقف وراءها ملحن ماهر ، و متسلح بالجملة الموسيقية المُعبِّرة عن مفرداتها المصاغة من شاعر مرهف الحسِّ و مثقف ، يكتب الكلمة التي تفصح عمّا يختزنه من مشاعر ، من دون أنْ يوعزَ إليه ، بطلبٍ مسبق ٍ من الملحن أو المؤدي ، لأنّ هناك نفراً من الملحنين و المؤدين ، من قد يطلب إلى الشاعر ، أنْ يعدَّ له أغنية ما ، تحكي عن معنى معين يمسّه من دون سواه ، و يريد أنْ يعبر عنه و يسمعه للمتلقي ، ففي تاريخ الغناء العربي القديم ، لم يسجّل المؤرخون في مؤلفاتهم ، و كذلك المهتمون بهذا الشأن الفني ، حدوث هذا النهج في ولادة أيِّ عمل غنائي ، لكنهم خبّرونا عبركتاباتهم ، بأنّ خلق الأغنية ، لا يأتي إلا وفق الطريقة التقليدية و المعتادة ، التي يكون فيها الشاعر ، هو المولد الحقيقي لفكرة أية أغنية ، و لكن بعد مرور الزمن ، صار ليس من المستغرب ، أنْ تنشأ الأغنية ، و يؤسس لها بطريقة ممنهجة و مغايرة للتقليد المتعارف عليه سابقاً ، الذي ألمحت إليه منذ قليل ، أي بأنْ تـُنظمَ كلمات الأغنية أولاً ، ثم يقوم الشّاعر بعرضها على الملحن ثانياً ، الذي قد يختارها من ضمن مجموعة شعرية غنائية ، كان هذا الشّاعر قد أعدّها في فترات سابقات ، و هذا الأسلوب المستحدث في إعداد و تجهيز الأغنيات ، قد تمرّد عليه موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " إذ أنه كان يعدّ الجملة الموسيقية لأغنية ما ، لم تـُكتـَب بعد ، و لم تظهر إلى حيز الوجود ، ثم يطلب إلى أحد الشعراء الملازمين له دائماً ، و القريبين إليه وجدانياً ، مثل : شاعر النصِّ الغنائي الدرامي " حسين السيد " و الشاعر الراحل " مرسي جميل عزيز " و الشاعر المعروف بكتاباته للأصوات النسائية " عبد الوهاب محمد " أنْ يتخيَّر له الكلمات ، التي تتوافق مع طبيعة اللحن المُعد سلفاً ، من حيث الحزن و الشجن و الفرح الكامن في معزوفاته و تفعيلاته و لوازمه الموسيقية ، فيصبح الشاعر في هاتِه الحالة الغنائية الخاصة ، مؤلفاً غنائياً ، و مثل هذه الحالة حدثت في الأغنية الليبية ، عندما طلب المطرب و الملحن الليبي " سلام قدري " من الشاعر الغنائي " أحمد الحريري " أنْ يؤلف له العمل الذي أضحى معروفاً بين الناس ، و هو أغنية ( يانا عليّ يا غزالي ) إثر استماعه لهذه الكلمة الدارجة مصادفة من أحدهم ، و سأل عن كنهها ، فعرف ما تنطوي عليه من معانٍ كثيرات ، رأها تصلح لأن تـُغنى ، و تـُعنوَّن بها أغنية ، باتت ذائعة الصيت ، و بالمثل قد يوظّف المطرب موهبة أحد الشعراء في عمل غنائي خاص ، بعدما يعرب له عن رغبته الملحة ، في أنْ يتغنى بمضمون أو خاطرة معينة ، قد مرّ و أحسّ بها ، غير أنها لم تصادفه في أي ديوان شعري ، فيباشر الشاعر في ترجمة هذه الأحاسيس المعبرة عن تلك اللحظة الشاعرية ، التي ألمت بالمطرب وحده ، بعد أنْ يحاول مراراً و تكراراً ، أنْ يتعايش معها وجدانياً ، و بعد عدة مراجعات طويلة و مسامرات فنية و تجارب ، لإعداد النص الغنائي المروم ، يصلان إلى وجهة نظر ، يتفقان عليها فيما بينهما ، و هذا ما انتهجه المطرب الراحل " عبد الحليم حافظ " بالتعاون مع عِدة شعراء ، من بينهم " محمد حمزة " و " عبد الرحمن الأبنودي " خصوصاً في أغنية ( القلب الأخضراني ) التي أعدّها الأخير شعرياً ، و هذبها و أعدها موسيقياً الملحن " بليغ حمدي " و تغنت بها أيضاً ، الفنانة اللبنانية " ماجدة الرومي " التي سيكون لنا معها وقفة أخرى ، في فقرة لاحقة من هذا المقال .


فهذان الأسلوبان اللذان طرءا على الغناء العربي ، يندرجان بحسب ما أرى ، تحت مسمى ( فن صناعة الأغنية ) و بصريح العبارة ، أنا لست مع من يحبذون هذا النحو الجديد من الغناء ، مع أنّ العديد من الأغنيات ، التي استمعت إليها ، و كانت من هذا اللون ، أقرُّ بأنها رائعة ، لكون الملحن ، الذي ينتهج هذا المسار ، هو في الأصل ( موسيقاراً ) ينزع بطبيعة الحال ، إلى الجملة الموسيقية ، التي تجول في قريحته اللحنية ، قبل أي شيء غيرها ، غير أنّ الكلمة التي تستفزها ، لم تصادفه بعد ، فيعمل على تطويع خبرة الشاعر ( المؤلف ) الذي يراه خليقاً لأداء هذه المهمة الفنية ، ليبحث له عن الكلمة المرتجاة ، و الحال نفسها ، تنسحب على الفنان المؤدي ، الذي لا الشاعر و لا الملحن ، استطاعا أنْ يخرجا الطبقة الصوتية العالقة في حنجرته ، لذا يجد نفسه مضطراً ، لأن يستعين بملحن فذ ، ينفذ إلى القرارات السحيقة و المخفية في صوته ، و يعرف بأسلوبه اللحني و الموسيقي ، كيف ينقب عن هذه الدُّرر الصوتية الكامنة في رقبته ، و يجعلها تذعن و تنصاع للحن ، فتخرج منسابة كما الماء العذب ، و هو يشقّ الطريق في مجراه الطبيعي ، و ما يجعل المطرب الذي هو من هذا النوع ، يلجأ إلى هذه الطريقة ، ربما لعلمه بملكاته و مقدرته الصوتية ، و لثقته بطريقة و أسلوب أدائه ، من خلال مجالسته لعديد الملحنين المقتدرين ، فتتكشف أمام الملحن الضليع ، عديد الأبواب و المداخل ، التي يتم الولوج عبرها إلى عمل جديد ، يأخذ في التشكل بنفسه مصادفة أحياناً ، بعد أنْ يستعرض صاحب الصوت عضلات حباله الصوتية ، بمقدرة فائقة على التلاعب بها و إظهارها من عقالها ، و إبراز طبقاته الصوتية الثلاث ( المنخفضة و الوسطى و المرتفعة ) المعروفة علمياً و عالمياً ، بـ ( التينور و الباريتون و الباص ) هذا بالنسبة للأصوات الرجالية ، التي تقابلها ( السوبرانو و الميزو سوبرانو و الأليتو ) بالنسبة للأصوات النسائية ، بحسب ما أُصطلِح عليه في ( علم الصوتيات ) و بعدما يصل المطرب و الملحن ، إلى اكتشاف مكامن الجمال في الصوت ، يوكلان بمهمة اكتمال عناصر الأغنية إلى المؤلف الذي يجود عليهما بملكاته و كلماته ، التي من الضروري جداً ، أنْ تجيء على مقاس حنجرة المغني ، بحيث يعرف المواطن و المواضع ، التي يقوم فيها المطرب بتفخيم أو تنعيم اللفظة حين الأداء ، و كذلك طبيعة اللحن و مقامه ، و هذه الحالة الغنائية حدثت في التجارب الناضجة بين صوت " السيدة فيروز " و " الرحابنة " الذين كانوا يستوحون اللحن من خلال الآهات و اللالات و الترنيمات ، التي تتقنها .

و مع هذا التقديم كله ، تستدعي اللحظة سؤالاً مفصلياً ، هذا سياقة : أصل الأغنية ، هل يكمن في اللحن أم في الكلمة ؟ و نحن إذ نطرح هذا السؤال ، نودُّ أن نؤكد على أنه ليس سؤالاً عقيماً ، فربما سياقه ، يُذكرنا بصيغة أخرى لسؤال ، قد يقفز إلى الذاكرة ، و هي لا تريد أنْ تعود لتجادل فيه ، لأنه يبلبل الأذهان ، و هو : أيهما جاء أولاً إلى الدنيا ، البيضة أم الدجاجة ؟ المعروف بـ ( النقاش البيزنطي ) الذي أضحى مضرباً لكل نقاش ليس بذي جدوى ، و مورده : أنه بينما كان الفاتحون المسلمون بقيادة " محمد الفاتح " يحاصرون أسوار ( بيزنطة ) ليدكوها ، كان أمراؤها يتجادلون بخصوص ذلك السؤال ، و منشغلين عن الخطر الداهم الذي كان يتهددهم .

على أية حال ، إذا جئنا لنتفحص هذا السؤال المهم ، فيما أرى ، الذي يتمحور حوله هذا المقال ، سنلفي أنّ كلا الاحتمالين جائز و وارد و يؤخذ به ، فمن جهة ، فإنّ الكلمة في الأغنية ، بحسب ما علمنا من المؤرخين ، كانت هي من تجيء أولاً ، و من ثم اللحن فالأداء ، لتكتمل بذلك عناصر العمل الغنائي ، مع أنّ صناعة الغناء ، فيما بعد ، جعلت هذا الترتيب يختلف ، فقد يتقدم اللحن حيناً ، و حيناً آخراً ، يكون دور المطرب ، هو الذي يأتي في المقام الأول في تكوين جوانب الأغنية ، و مع أنّ هذا المنحى الغنائي المستحدث ، ما يزال في بدايته ، و لم يتطرق إليه و يعمل به الكثيرون ، إلا أنّ بعضاً من رواد الأصالة ، و كذلك الحداثة في الغناء العربي ، حاول أنْ يقـّعده ( يجعل له قاعدة ) .

هذا من حيث مراحل تأسيس الأغنية من الجانب التاريخي ، و مثلما بيّنت لكم ، أنّ عنصر التلحين ، أمسى له دورٌ كبيرٌ في نشوء العمل الغنائي ، فبالمثل أرى ، أنّ للتلحين دوراً أكبر في إنجاح العمل الغنائي ، فأنا ميّال إلى تغليب عنصره على العنصرين الآخرين ( الكلمة و الأداء ) من حيث الأهمية ، فلولاه لما عُرِفت الأغنية لدى المُستقبـِل لها ، فكم من قصيدة ظلت سجينة داخل طيات الكتب و الدواوين ، و لم يسمع بها أحدٌ ، إلا بعد أنْ رُنِمت ، و صيغ لها اللحن المناسب و اللازم ، لكون اللحن و الموسيقا العربيان ، هما اللذين يُعرّفان بالكلمة في أغلب الأوقات ، و يُسهّلان على الشّاعر عملية التعريف بمؤلفاته ، و لك أنْ تأتي باسم أيِّ شاعرغنائي مشهور ، لتتأكد من أنه ، ما كان ليُعرفَ ، إلا بعدما تلقف أحد الملحنين شيئاً من مؤلفاته ، و قام بتنغيمها له ، ثم بحث عن المؤدي المتمكن ليؤديها ، فهما بذلك كما الصحف و المطبوعات ، التي لولاها ، لما تمكـّن أيُّ كاتب من التعريف بقلمه و فكره .

ما نزال دائماً ضمن هذه الدائرة ، و بصدد فكرة أنّ اللحن ، هو الطاغي على الكلمة في الغناء العربي ، و لنؤكد على دقة هذه الرؤية من جهة أخرى ، فلو جئت بأية أغنية ، و هأنا ذا أفتح لك الضفرين ( ....... ) و أجعل ما بينهما خواءً ، لتضع بداخلهما اسما معيناً لأية أغنية تشاء ، و تجري عليها هذا الاختبار ، الذي لن يتطلب منك أي مجهود يُذكرُ ، فبعد أنْ تضع اسم الأغنية في مكانها الذي حدّدته لك ، وتقوم بعدئذ بتذكر مفرداتها و موسيقاها ، سل نفسك إثر ذلك ، لو أنّ هذا العمل ، لم يُقدّم باللحن الذي هو عليه ، فكيف ستكون الحال ؟ أو بصيغة تساؤلية ثانية : لو أنّ الشاعر ، صاحب كلمات هذا العمل ، سلّم كلماته قبل أنْ يُعرَف بهذا اللحن ، إلى عشرة ملحنين في آنٍ واحدٍ ، فهل سيأتونه بلحن ثابت ؟ أم ماذا بالضبط ؟ .. قطعاً سيكون لكل ملحن منهم ، اللحن الخاص به ، و المفصح عن رؤيته اللحنية ، غير أنّ سوية هذه الألحان ، ستختلف عن بعضها البعض ، و سيبدو لك أنّ ثمة لحناً لأحد هؤلاء الملحنين ، يتفوق على التسعة الأخريات ، و يأتي في طليعتها ، مع أنها أغنية واحدة ، و من نظم شاعر واحد ، أعدّها بالعنوان ذاته ، و بالكلمات عينها .

كأنني بمجادل لن يُمرّر لي هذه الفكرة ، من دون أنْ يستوقفني ، و يتوجه إليّ بهذا الاستفسار : ماذا لو فعلنا العكس ؟ يقصد بذلك ، ماذا لو أننا طلبنا من عشرة شعراء ، أنْ يكتبوا لنا عن موضوع واحد ، و ليكـُن أغنية ، بعنوان : ( تعيشي يا بلدي ) و أوكلنا بمهمة التلحين إلى ملحن بعينه ، فما النتيجة المتوقعة برأيك ؟ .

هذا الاستفسار ، سيكون مدخلاً للقيام بقراءة سريعة في بعض من أعمال المُقصِّد أو بالأحرى ، مُنشـِّد القصائد الليبية ، المطرب " محمود كريّم " الذي رحل عن دنيانا منذ أيام قلائل ، رحمه الله برحمته الواسعة ، و سنجعل من عمله المحفوظ في ذاكرة الليبيين و الليبيات ، الصغار منهم و الكبار ، ممن ترنموا و تغنوا بمحبة بلادهم ، من خلال هذه الأغنية ، التي حملت عنوان ( تعيشي يا بلدي ) التي قصّدها له و لنا ، الشاعر الغنائي الكبير " أحمد الحريري " و نغـّمها و موّسقها الموسيقار " علي ماهر " سنجعل هذا العمل ، من يقوم بدور المجيب عن استفسار ذلك المجادل في الفقرة الموالية .

تبدأ الأغنية ، بهذه الأبيات :


تعيشي يا بلدي .. يا بلدي تعيشي


تعيشي في همسة عذراء .. تعيشي في بسمة زهراء


تعيشي في غنوة كبرى .. اترددها الأجيال


تعيشي يا بلدي .. يا بلدي تعيشي ..


ثم يتبعها بأبيات أخريات ، في ( كوبليه ) آخر ، حينما ينشد :


يا نجمة في العالي .. فيها زرعت أمالي


يا لحني و موالي .. يا ضحكة أطفالي


أنتي حبي الغالي ..


تعيشي يا بلدي .. يا بلدي تعيشي ..


أبدأ في العرض لهذه الأبيات ، من حيث انتهينا ، فقفلة هذه الأبيات ، هي اللازمة ، التي بدأ بها الراحل الغناء ، و تكرَّرت في أكثر من موضع من الأغنية ، و عند الولوج و الخروج من أي مذهب جاء فيها ، و هي عبارة ( تعيشي يا بلدي ) و عنوان هذه الأغنية ، فعند الاستماع إلى هذه العمل ، الأقرب في لونه و خصائصه إلى فنِّ القصيدة ، منه إلى أي ضرب غنائي آخر ، في طريقة تلحينه و إعداده الموسيقي و أدائه ، لأنه يبدأ بمقدمة موسيقية ، كما في أية قصيدة مغناة باللغة العربية الفصحى ، تستغرق وقتاً ليس بقصير ، من جهد الطاقم الموسيقي المّنفـِّذ للعمل ، فليس من المألوف في فنِّ الغناء العربي ، أنْ تـُستهَل الأغنية بالكلمة ، أي لا تبدأ بصوت المطرب إلا في حالة واحدة ، وهي مصاحبته للفرقة الموسيقية بالآهات و اللالات ، بالأداء الارتجالي ، الذي يخلو من أي تخطيط مسبق له أثناء الغناء ، و يأتي نتيجة إحساس المغني باللحن ، ثم يباشر في الغناء ، بعد أنْ يسلم له العازفون و على رأسهم ( المايسترو ) دور الغناء ، و يأذنوا له بذلك ، و العكس من ذلك ، لا يمكن أنْ يحدث إلا في الغناء الإفرنجي النسب ، و الغربي منه بالتحديد ، لاختلاف التابع و المتبوع في العُرف الغنائي ، فالغناء الشرقي ، تكون فيه الفرقة الموسيقية هي سيدة الموقف و صاحبة زمام الأمر ، لكون المؤدي لهذا النمط من الغناء الفريد من نوعه ، يتعين عليه أنْ يكون دارساً لأصول الغناء و الموسيقا ، وأنْ يوفـّق بين السمع و النطق عند الغناء ، أي أنْ يترك آذانة صاغية للحن بتزامن مع الأداء ، وفق الأزمنة المتباينة و المحسوبة من زمن الجمل اللحنية و الأغنية كلها ، التي أحسن التدرب عليها جيداً ، بحيث لا يُحدّث نشازاً ، يجعل المُستقبـِل لأدائه ، ينفر من الاستماع إلى العمل ، لو اختل التوازن لديه ، لأنّ الموسيقا تضبطها أصولٌ و مقاماتٌ ، فهي الفراش ، الذي يبسط عليه صوته ، بحسب طول و ملمس و تعرجات و التواءات هذا الفراش ، التي يجب عليه ، أنْ يجعل هذه الخصائص كلها ، تظهر واضحة في أدائه ، مثل العُربِ العربية في أسلوب الأداء ، قبل أنْ تكون مشرقية صرفة ، فالموسيقا الشرقية ، تنضم إليها الموسيقا العربية و التركية و الهندية ، و بعضٌ قليلٌ ، من موسيقا أخرى في بقاع من قارة أسيا ، و هذه الخاصية التي تتمتع بها الموسيقا العربية ، تحدُّدها مجموعة من المقامات الموسيقية العربية ، و تميزها عن الغناء الأوربي و الغربي عامةً ، لأنّ صوت المؤدي هناك ، يكون المحور ، الذي تدور من حوله الجوقة الموسيقية ، بأسلوب التقدير الحسّي ، بملأ الفراغات الزمنية ، بين الصوت و الجملة الموسيقية ، فهو غناء ضحل من ناحية المقامات ، و لا يمكن أنْ يُصنّف كما الغناء العربي بحسب المقامات ، بل إلى ألوان معدودات ، و إنْ كان من بـُدٍّ لذلك ، فيمكن توزيعه إلى مقامين اثنين فقط ، هما المقام الصغير ( المانيير ) و المقام الكبير ( الماجير ) فللعازف و مهارته ، في هذا الضرب من ضروب الغناء في العالم ، دورُ مهمٌ في إنجاح أية أغنية ، و تقف عليهما حبكة الإعداد الموسيقية ، بإضافة ( الهارموني و الميلودي ) لذا نجد أنّ كبار المغنين في الغرب ، يستعينون بكبار العازفين من العالم ، لدرجة أنهم قد يستعينون بعازفين من الهند و أفريقيا في أحيان كثيرة ، خصوصاً من ضابطي الإيقاع ، و هذا ما يجعل الغناء العربي الأغنى ، و الأكثر ثراءً من الغناء الغربي ، حتى من خلال إظهار الصوت ، فالغناء العربي ، لا يتمُّ فيه الأداء عبر إخراج الصوت من الأنف ، و إنما يجب أنْ يصدر من الحنجرة عبر الفم ، و إعطاء كل حرف حقـّه ، فإما أنْ يصدر من اللسان أو من الجوف أو من الحلق ، و كل من أدّعى الغناء عبر مسيرة الأغنية ، و لم يلتزم بهذه القواعد الضابطة للنطق ، كان مصيره إلى الفشل الذريع ، و يسجل تاريخ الأغنية العربية الحديثة ، أنّ أعظم المطربين و المنشدين ، الذين تربعوا على عرش الغناء ، أثناء حياتهم و بعد مماتهم ، كانوا في صغرهم ، يجوِّدون القرآن الكريم ، و يعرفون تماماً مخارج الحروف و تفخيمها و القلقلة ، و ما إليها من ضوابط و أصول أخرى ، مثل : سيدة الغناء العربي " أم كلثوم " و موسيقار الأجيال " محمد عبد الوهاب " فكلاهما درس في المدارس القرآنية ( الكـُتـَّاب ) أثناء طفولته ، و هناك أمثلة و شواهد عديدة ، لعديد الفنانين و الفنانات ، الذين لم يوفـّقوا ، و تقاعدوا باكراً ، لأنّ الصوت المستعار ( الإفرنجي ) الذي كانوا يستعينون به ، هو من حكم عليهم ، بعدم القبول لدى المستمع العربي ، منهم على سبيل المثال ، لا الحصر ، الفنانة " عفاف راضي " التي اعتزلت الغناء مبكراً ، و من الجيل الموجود الآن ، يبدو ليّ صوت الفناة اللبنانية " ماجدة الرومي " التي ما انفكت تحاول أنْ تتخلص من ذلك الصوت المستعار ، الذي تربت حنجرتها عليه منذ أنْ ولجت إلى عالم الغناء ، في منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، و هي تغني فن ( الأوبرا ) الغارق في إفرنجيته ، و البعيد النسب عن الغناء العربي ، و لا أنسى كذلك في هذا المقام ، صوت المغني المصري " محمد منير " الذي يغني على المقام الخماسي الإفريقي ، ربما لأنه من أصول نوبية .

أعود بكم الآن ، إلى أغنيتنا الشجية ( تعيشي يا بلدي ) فقد قرأت منذ أيام قليلة ، مقالة للكاتب " محمد الأصفر " بخصوص هذه الأغنية ، ورد فيها قوله : " ثمة شعراء كثيرون ، تغنوا بمحبتهم لأوطانهم ، و في كل بلد من هذه المعمورة ، هناك أكثر من أغنية ، تحمل العنوان ذاته ، غير أنّ ثمة أغنية واحدة في كل بلد ، نجحت و أحبها الناس ، و صارت بمثابة النشيد الوطني لديها ، تتغنى به في أفراحها و أعيادها الوطنية " .. ( انتهى قوله ) .

و أضيف إليه من عندي ، من الناحية الفنية ، إنه مما لا شك فية البتة ، أنّ هؤلاء الشعراء ، الذين كتبوا عن محبتهم لأوطانهم ، كانوا جميعاً صادقين في وجدانياتهم ، و لا يمكن لأحدٍ منهم ، أنْ يزايد في صدق مشاعره النبيلة تجاه وطنه على الآخرين ، ما يجعلني أقول بأنّ أية قصيدة ، كُتـِبت في حب الوطن ، فخراً و مدحاً و غزلاً ، كانت جميلة ، و تصلح لأي مشروع غنائي ، و ينطبق عليها الأسلوب الغنائي ، الذي كان متبعاً و سائداً في السابق، أي أنها تكون وليدة الشاعر ، و ليس من المعقول ، أنْ يطلب إليه المطرب أو الملحن إعدادها و تأليفها ، لكون هذا المعشوق ( الوطن ) معشوقاً أزلياً و أبدياً ، و ليس كما أي حبيب ، قد يرحل عنـّا ، و يتركنا نبكي على ذكراه إلى حدِّ الندم على اليوم الذي عرفناه فيه ، فالوطن لا يهجر و لا يخون محبوبه إطلاقاً ، بل إنّ الأخير هو من قد يفعل ذلك ، و الوطن ليس مثل أي حبيب مخلص ، قد يخطفه منّا القدر ، إنما نحن من نموت قبله ، و ندفن في دفأ جوفه ، فمحبة الوطن ، هي محبة باقية و دائمة إلى أبد الآبدين ، لذا حُقّ لهذا الفنان ، الذي كان يؤمن بأنه ميت لا محالة ، لسنة الله في خلقه ، أنْ يصيح بأعلى صوته : ( تعيشي يا بلدي ) و في العبارة التي قفل بها المطلع : ( تعيشي في غنوة كبرى .. اترددها الأجيال ) إحساس عميق من الشاعر ، يظهر واضحاً في صوت الفقيد " محمود كريّم " على اللحن المعد من قِبل الملحن و الموسيقار " علي ماهر " بأنّ هذا النغم سينجح و ستردُّده الأجيال من بعده كما في حياته ، فليس ثمة أصدق من الغناء للأم ، التي نولد من رحمها ، و نحيا على أديمها ؛ و من الملاحظ في هذه الأغنية ، أنها كادت أنْ تكون قصيدة ، لكون اللحن الخاص بها ، تتوافر فيه خصائص فنِّ القصيدة المغناة ، من حيث التنوع في المقامات ، و إطالة العزف بين كل مذهب و آخر ، و الإيقاع الذي تمضي عليه الأغنية من بدايتها إلى نهايتها ، غير أنّ ما نفى عنها أن تكون قصيدة ، وجود بعض الكلمات الدارجة ، و ( لبينة ) بعضها الآخر ، أي بمعنى ، عدم نطقها باللغة الفصحى .

لقد كان لحن هذه الأغنية ، علامة بارزة في الأغنية الليبية ، التي كانت تحاول أنْ تتخلص من أسر الموروث الشعبي ( الموسيقي منه ) الذي سيطر طويلاً على عدة أجيال من الفنانين ( الملحنين و المطربين و الشعراء ) ككل ، و لقد جاءت هذه الأغنية لتثبت نجاح هذه المسار في الأغنية الليبية ، و بعد نجاح آخر ، منقطع النظير ، حققه هذان الفنانان ، بتقديمهما لقصيدة ( بلد الطيوب ) التي نظمها شاعر الشباب " علي صدقي عبد القادر " في أواخر ستينيات القرن العشرين ، فشكلا بها مع هذا الشاعر نموذجاً يُحتذى به ، للأغنية الليبية المتطورة ، التي تمضي وفق أسلوب علمي موسيقي ، يأخذ بعين الاعتبار و الحُسبان ، كون ( ليبيا ) هي جزء من الحاضنة العربية الكبيرة ، و لا بد من السير على الهوية العربية فنياً و ثقافياً ، بإعداد مثل هذين العملين ، اللذين اعتمد فيهما الملحن ، التنغيم على المقامات الموسيقية العربية ، المعمول بها في أكثر الأقطار العربية المتقدمة في مجال الموسيقا و الغناء ، و بالاستعانة بصوت يجيد الغناء العربي ، وفق أصوله المعروف بها ، بحيث عملا على جعل أغنية ( تعيشي يا بلدي ) ذات الصبغة المحلية كلاماً و نطقاً ، مقبولة عربياً ، قبل أنْ تكون محلياً ، فعلى الرغم من كون هاتان الأغنيتان ، لشاعرين مختلفين ، و كل واحد منهما صاغها بالمفردة التي رأها مناسبة ، و بالتشطير الذي يميل إليه في نظم أغانيه و قصائده ، إلا أنهما نجحتا نجاحاً باهراً ، و حازتا على محبة الجمهور ، على الرغم من مرور حقبة من الزمن على وقت تسجيلهما ، ذلك لوقوف ملحن ماهر وراء هذا النجاح ، هو الملحن " علي ماهر " و لعلي بذا ، أكون قد أوضحت و بيّنت ، كيف يكون للحن الدور الأهم في نجاح أي عمل غنائي و شهرته ، لكي يجد مجادلنا في الفقرة السابقة ضالته التي يبحث عنها .

و من المفترض بيّ ، قبل أنْ أختم هذا المقال ، أنْ أذكـّر القارئ ببعض من الأعمال الناجحة ، الذي قدّمه المُنشـِّد و المطرب الراحل " محمود كريّم " لمكتبة الإذاعة ، فمن بين ما أنشده من أغنيات ، أعدُّها من روائع و بدائع الفن الليبي المعاصر ، أغنية ( صبر قلبي و حبيبه لقاه ) و قصيدة من أروع ما يكون ، هي قصيدة ( قِناعُك ) ، التي يقول في بيتيها الأولين :


قِناعُك البسيه أو اخلعيه .. و قلبك اصدقيه أو اخدعيه
وإنْ كان الغموض له .. معان ٍ محببة لديك تصنعيه ..



و أخر ما أتمُّ به مقالي ، هو خِطاب ، أرى من اللازم ، أنْ أوجهه في صيغة سؤال إلى ملحننا العبقري " علي ماهر " سياقه ، فيما يلي : أ لم يكـُن الأجدى و الأولى بك ، أنْ قدمت قصائدك ، التي تغنى بهما الفنان العربي " عبد الهادي بالخياط " إلى الراحل " محمود كريّم " لأنّ الفقيد كما بدا ليّ ، كان الأحق و الأجدر بها ، لامتلاكه صوت ذي خصائص أكثر و أجمل من صوت ذلك الفنان المغربي ؟ .. و بمناسبة رحيل هذا الفنان ، أقول للقارئ و المستمع ، إنه ما يزال لدينا أصوات جميلة في بلادنا ، من ضمنها صوت الفنان " عز الدين محمد " الذي أحسبه شقيق الراحل ، للتشابه الكبير بين نبرات صوته و صوت الفقيد ، خصوصاً في أغنيته الرائعة ( رشوا الأرض زهر و حنة ) .



بقلم : زياد العيساوي _ ليبيا


بنغازي في : 19 / 6 / 2008


Ziad_z_73@yahoo.com