المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أسمهان: أيقونة وأسطورة


MUNIR MUNIRG
26/06/2008, 01h27
أسمهان: أيقونة وأسطورة
دلور ميقري- إيلاف 6/24/08 : صوتٌ شجنٌ، فيه رنينُ ذهَبٍ ثمين . سحنة ٌ ساحرة، مثل لمعة الماس، تنطق فيها لحاظ من مخمل، مخضوضر. وقامة ٌ رشيقة، تترسّمها قسماتٌ دقيقة، منحوتة بعناية خالق ٍ متولّه؛ خالق، شاءَ هذه المرة أن تكون رسالته للبشر، الفانين، كلماتٌ منغومة، خالدة، وَحْيُها شفاهٌ رقيقة، مُحمرّة ـ كالشقائق. أيقونة الفنّ هذه، الموشاة بإسم "أسمهان"، ما فتأتْ مُقدّسة ً من لدن مريدها وعلى الرغم من مرور ما يزيد على عقود ستة من أعوام فقدان صاحبتها، المُبكر، إثرَ حادث مفجع. في وقت الحادث ذاكَ، ( عام 1944 )، كانت أمّي لا تزال بعد طفلة، على أعتاب عقد سنواتها الأول ؛ هذه الأمّ، نفسها، من دأبتْ إلى الآن على التأثر حدّ سفح الدموع، في كلّ مرة يبث فيها التلفاز تسجيلاً لإحدى أغنيات تلك المغنية ، التي أضحتْ بالأسطورة أشبه. ولم تقتصرَ الحالُ هذه، الموصوف، على " الشوام " ـ الذين نسِبَتْ أيقونتنا إلى جماعتهم المصرية، المهاجرة ـ بل أنّ ذلكَ إنسحبَ على شعوب منطقتنا، المترامية بين بلاد الرافدين وموطن الأطلس. من هذا الأخير، على سبيل المثال، كتاب كبار ـ كمحمد شكري والطاهر بن جلون ـ نستقرئ عياناً من قراءاتنا لأعمالهم، الأدبية ، مدى شعبيّة أسمهان، الغامرة. فما كان إتفاق، إذاً، أن تنتمي إلى ذلك الموطن أكثرُ المطربات شبهاً بأيقونتنا صورة ً وصوتاً؛ وأعني بها عزيزة جلال، التي خسرها أيضاً الفنّ، مبكراً، إنما بسبب " موضة " التحجّب والإعتزال، المُصممَة على مواصفات الفحولة الخليجية. لا بل إنّ الشغفَ بالمطربة السورية، الساحرة، قد شغلَ على ما يبدو قوماً آخر من الجيران: ثمة أسطورة، يتداولها الأكرادُ بحماسة، تعيد جذر سلالة آل " الأطرش "، التي تنتمي إليها أسمهان، إلى عشيرة جبلية كبيرة؛ هيَ "الأتروشي"، متوزعة في إقليم كردستان، العراقيّ. هذه الأسطورة، على كلّ حال، ما كانت إلا لتذكرنا بحقيقة تاريخية، مثبتة؛ أنّ آل " جنبلاط "، وهم أهمّ العائلات الدرزية مقاماً، إنما يعودون بأصلهم إلى سلالة أمراء كرد، أيوبيين.
" كان قلبي عليلْ / وما لوهش خليل "
هكذا تقول كلمات مطلع الدور، الشهير، المُختلج به الدهرُ؛ الدور الرائع، الذي كان حاضراً في تلك الليلة الحارّة، الشاهدة على أول لقاء بين أم كلثوم وأسمهان. هذه الأخيرة، كانت وقتذاك في ميعة مراهقتها؛ فتاة فاتنة، نضرة الملامح، تبث المضاضة والحسرة في فؤاد كلّ صبّ يقع بهوى صورتها وصوتها، على السواء. كوكب الشرق، المُحتفلة ليلتئذٍ بعيد ميلادها، كانت ولا غرو مفتتنة بضيفتها الصغيرة، الساحرة، تشجعها بين الفينة والاخرى على إنشاد المزيد من روائع عبقريتها. في تلك الأمسية، بحسب شهادة الشاعر أحمد رامي، بدَتْ أسمهان في غاية التحفظ والخجل، حدّ أنها تواضعاً وتأدباً كانت تؤدي أغنياتها وهيَ مقتعدة عند قدمَيْ الكرسيّ الوثير، المنذور لملكة زمنها. ما كان تزلفاً وتماحكاً شعورُ مغنيتنا، الصغيرة السنّ، بحضرة أم كلثوم، الناضجة؛ بما أنها كانت تعدّها فعلاً بمثابة المثال، المُلهم ، فضلاً عن إعجابٍ لا يُحد بفنها وأدائها وشخصيتها. لندع جانباً تلك الأقاويل، عن مَيْل كوكب الشرق الأنثويّ، فمما لا ريبَ فيه أنها شملتْ أسمهان بعطفها ورعايتها، على الأقل في باديء الأمر. تشديدنا على مبتدأ العلاقة تلك، مبعثه ما صار الآن معروفاً عن الجفاء الذي دبّ بين المطربتين، العظيمتين. وهوَ الجفاء، المُستهلّ بتحيّز أسمهان للأسلوب التجديديّ في الموسيقى والغناء، المشتدّ العود وقتئذٍ بفضل محمد عبد الوهاب؛ خصم أم كلثوم، التقليديّ. حتى بعد حادث رحيل فنانتنا، الغامض، فإنّ كوكب الشرق، ولسببٍ لا يقلّ إبهاماً، دأبتْ على مقتِ فريد الأطرش وكانت تكيدُ له في كلّ مناسبة سانحة، وبقيت على ذلك المسلك، العدائيّ، حتى رحيلها هيَ الأخرى عن عالمنا. في ذلك العيّ من الأقاويل، المُدبّج في حينه على صفحات الصحف، ما كان بالغريب أن يبرزَ إسمُ كوكب الشرق بصيغة المشتبه، فيما زعِمَ أنه تدبيرُ حادث موت أسمهان. ولكن قبل بحث معميات رحيل فنانتنا هذه، الأبديّ، يجدر بنا أن نعودَ لبدايات رحلتها في الحياة.

لكأنما قدَر الهجرة، العَسِر، كان مُتلبّساً مصير أسرة أسمهان. والدها؛ الوجيه النبيل، المنتمي لآل " الأطرش "، المُتمتعين بالحظوة كسلالة أمراء؛ هذا الوالد، وجدَ نفسه يشدّ الرحال من " جبل الدروز "، الواقع إلى الجنوب من دمشق، كيما يلتحق بوظيفة قائمقام إحدى البلدات المركونة بدورها في جنوب الأناضول: من هذه المنطقة، ذاتها ( كردستان التركية، حالياً ) كان أجدادُ المخرج أحمد بدرخان، الأمراء، قد إرتحلوا أيضاً منفيين إلى الشام ومصر؛ وهوَ المخرجُ الرائد، الذي تزوجته فيما بعد أسمهان. ففي مستهل القرن الجديد، العشرين، المؤذن بتحوّلات كبيرة، سيهتزّ ويتداعي رويداً العرشُ العثمانيّ، الهمايونيّ. إبتدِهَ الأمرُ بخلع الخليفة عبد الحميد وإقرار الدستور. بيْدَ أنّ الأمير الدرزيّ، وإثرَ خلافٍ مع الإتحاديين الطورانيين، المغرقين بالشوفينية والتعصّب، كان عليه شدّ الرحال مجدداً والإبحار إلى جبل لبنان؛ أينَ موطن زوجته. هذه الأخيرة، كانت إمرأة حسناء، رخيمة الصوت، تنتمي كذلك لعائلة وجهاء دروز لبنانيين، معروفة. ها هيَ بعيدَ أعوام اخرى قليلة، وقد أضحتْ مهجورة من لدن الزوج، ستركب البحر ثانية ً، متوجّهة ً هذه المرة إلى مصر. عندئذٍ عليها كان الفرار بأسرتها، الصغيرة، بعدما فشلتْ الثورة السورية، التي قادها كبير آلهم؛ سلطان باشا الأطرش. ما كان مصادفة إختيارُ موطن النيل ، الجميل. إذ وبفضل أسرة " محمد علي باشا "، الحاكمة، كانت مصر قد صارت زمناً وجهة ً لكلّ لاجيء، هاربٍ بروحه، أو حريته، من إستبداد الأتراك وبطشهم؛ كاتباً كان أم صحافياً أم فناناً. هنا في القاهرة، ومنذ مبتدأ العشرينات من القرن المنصرم، كان على أيقونة " آمال " ( الإسم الحقيقي لأسمهان ) أن تخطط خلودها بعنايةٍ، وشياً وألواناً وتكويناً. أسرتها السوريّة ، الكريمة المحتدّ، ستجدُ مرتعاً لها في حيّ " الفجالة "؛ أكثر محلات المدينة بؤساً، ليعتاد أفرادها من ثمّ على التأقلم مع الفقر والثورة عليه، في آن. بالرحيل عن الوطن، فقدَتْ الأمّ إذاً الغنى والوجاهة. على أنها كانت من الذكاء والنباهة، لتدركَ الثروة، الحقيقية، الممنوحة لأسرتها الصغيرة: الفنّ.

آمال؛ هيَ الفتاة الشقراء، الفائقة الحسن، المقدّر لإسمها أن يكون مَرقوماً، أبداً، في سجل الخالدين بنعت " أسمهان "، منذ ذلك النهار القاهريّ، الجميل، الذي جمعها بالملحن داوود حسني. إنه المبدعُ الأصيل، ذو الجذور اليهودية، من كان في زيارة للشاب الموهوب، فريد ، حينما تناهى لأذنه المُرهفة صوتُ أخته الساحر، المُنطلقَ بغتة من حجرة المنزل، الاخرى. كانت الأمّ، راعية الأسرة الوحيدة، قد سبق لها ورمَتْ جانباً بتقاليد الأمراء، المُحافظة، مُنطلقة ً في طريق الفنّ سعياً لتحسين حال عائلتها مادياً. صوتها العذب وإجادتها للعزف على العود، جعلاها محط إعجاب الكثيرين من هواة الطرب الأصيل. وإذاً ما كان على الإبنة، بدورها، إلا السير على درب الإبداع نفسه تأثراً لخطى والدتها وشقيقها. من جهته، فإنّ محمد عبد الوهاب، الموسيقار المتأثر بشدّة بالثقافة الأوروبية، كان أول من تنبّه إلى إمكانيات أسمهان، الهائلة؛ إن كان لخامة صوتها العظيم، المُعجّز، المنتمي لطبقتيْ " سوبرانو " و " ميتسو سوبرانو " ـ بحسب المعايير الغربية ـ أم كان لناحية ملامح وجهها، المُفعمة بتعابير غاية في الشفافية والحزن والرقة والرفعة، تتغيّر مع كلّ إنتقال في مساحة الصوت أو في مفردات النغم، المؤدى. وعلى الرغم من قلة الألحان، التي جمعتْ بين أسمهان وعبد الوهاب، إلا أنه أثرَ فيها بقوّة، وخصوصاً في تثقيفها بالموسيقى الغربية. فضلاً عن أنّ " موسيقار الجيل " هذا، قد منحها فرصة العمر حينما أوقفها نداً أمامه في أوبريت " مجنون ليلى "؛ رائعة الشاعر أحمد شوقي، التي قام بتلحينها وبطولتها. لن نغمط هنا، طبعاً، دورَ الشقيق الأثير، فريد، في صقل موهبة فنانتنا؛ هوَ الملتزم بدوره التجديدَ في اللحن والطرب، كما نستنفضه في تعقب آثاره الفنية، الخالدة. إنّ تبَنّي الشقيقيْن هذيْن، الصاعدَيْن، للحداثة في الموسيقى والغناء، نحيله على بساطة رأينا إلى منبتهما الأصليّ، الأول: لقد نوهنا، فيما مضى، إلى حقيقة هروب الفنانين السوريين، المتواتر، إلى أرض الكنانة، تخلصاً من جور الحكم العثمانيّ المُستبدّ وتخلفه وظلاميته. لا غروَ، والحالة هكذا، أن ينجذب هؤلاء، في موطنهم الجديد، إلى كلّ تجديدٍ في الإبداع، وأن يشيحوا بوجوههم للمحافظة والجمود والتزمّت: كذلك كان الحالُ بالنسبة لهذه الأسرة من شوام مصر، على الأقل، والتي قدّمتْ إثنيْن من أهمّ عباقرة الفنّ في القرن العشرين؛ أسمهان وفريد الأطرش.

MUNIR MUNIRG
02/07/2008, 19h46
أسمهان : أيقونة وأسطورة ( 2 ـ 2 )
دلور ميقري - خاص إيلاف: حينما تمرّ أبصارنا ، مبهورة ً ، على إحدى صور أسمهان ، فإننا لا بدّ ونستعيدُ فيها أيقونة السيّدة العذراء ؛ هذه العوذة المقدّسة ، التي أبدع بتجسيدها رسامو عصر النهضة ، الأوروبيّ ، بشكل خاص . تلك الصور ـ على رأيٍ شخصيّ ـ حققتْ غايَة الخلود ، وكلّ منها يعطينا فكرة واضحة عن شخصية صاحبتها الجذابة ، المونقة ، في مواضعات حياتها المختلفة وفي حالاتها النفسية المتباينة . هذا وبغض الطرف عن الثمن ، الفادح ، الذي تعيّن على أسمهان دفعه بموتها المأسويّ ، المبكر . كذلكَ حياتها الحافلة ، لم تكن شروطها أقلّ تطلّباً ووطأة . أسطورة أسمهان ، الخالدة ، حاولَ البعضُ إخمادَ أوارها ، بما كانَ من سيل الشائعاتِ ، المُغرضة ، المُتعرّضة لمغامض حادث موتها . وها نحنُ ، بعدَ ما يزيد عن الستين عاماً من رحيلها ، ما فتئنا على جهل مُقيم بملابسات ذلك الحادث . عند هذا الحدّ ، يجوزُ لنا المقارنة بين مغنيتنا هذه ، الكلاسيكية ، ومواطنتها الأكثرَ معاصرة ، الممثلة سعاد حسني ؛ التي كانت كذلك من " شوام مصر " وسجّلت حضوراً راسخاً لعبقريتها الفنية ، علاوة على مصيرها المفاجئ ، الفاجع . إستحقتْ ممثلتنا لقبَ " سندريلا الشاشة " ، المُضاهي حسنها ورقتها وظرفها . وكما سبق لنا بحثه ، في مقال آخر ، فإنها تمثلتْ في رحيلها ذلك اللقب ؛ هيَ التي خلفت إحدى فردَتيْ حذائها على شرفة الإنتحار ، اللندنية . بدورها ، كانت أسمهان قد عُرفتْ بـ " عروس النيل " ؛ كناية ً عن موتها في مياه الترعة ، المُتفرّعة عن النهر الخالد . للنيل قربانه السنويّ ، العتيق ، المنذورة له كلّ فتاة حسناء ، بحسب أعراف الفراعنة الأقدمين ؛ هؤلاء الذين آمنوا بعقيدة الخلود والتقمّص ، المسكونة في أسطورتهم عن الإلهين ، الشقيقين ، إيزيس وأوزوريس . ولكننا هنا ، أيضاً ، نستطيع إحالة تلك الكناية على مبتدأ خبر مغنيتنا ؛ إلى رحلتها في الحياة ، القصيرة ، وصولاً ربما إلى لحظة تقديمها قرباناً للمنافسة الفنية أو المكائد السياسية.

في الأثناء أبطأتِ الموسيقى وعلا صوتها بالغناء ، ومن الوهلة الاولى ، بدا الأمر مذهلاً ، ليس الصوت فقط ، بل تلك الرقة في الأداء ، تلك الخفة السّلسة الآسرة . علا تصفيق الجمهور إستحساناً ؛ قبل البداية ملكته . في العتمة أستطعتُ أن ألمح خيالَ فلاحتي ، واقفة قرب منيرة . لم تكن المغنية الصغيرة تنظر إليهما ، فحدستُ أن تلك النظرة المُفعَمَة بتطلّب الحرية ليست من بلادنا " ( من كتاب " كان صرحاً من خيال " ـ الطبعة العربية ، ص 99 ) . ذلك هو إنطباع الشاعر أحمد رامي ، في سيرته المتخيلة ، عن أول لقاء له بالمغنية الصغيرة ، السورية ـ اللبنانية الأصل ، في فيلا المطربة منيرة المهدية وبحضور أم كلثوم . هذه الأخيرة ، عرّفها الشاعرُ تحبباً بـ " فلاحتي " ، نسبة لمسقط رأسها ، الريفيّ . أمّا أسمهان ، فما كان عمرها آنذاك ليتجاوز الرابعة عشرة ، وكانت بصحبة مكتشفها ، الملحن داوود حسني . ومع سنها تلك ، الحَدَثة ، فإنها تأثلتْ النظرة التائقة للحرية ، والتي لاحظ الشاعرُ ، مُصيباً ، أنها تنتمي إلى أرض اخرى . لم يقتصر إنتماء مغنيتنا على إشكالية المكان حسب ، وإنما أيضاً على السلالة . إنها من آل " الأطرش " ، العائلة الأرستقراطية ، الرفيعة المقام لدى الدروز الموحّدين ، والمتجذرة في تربة بلاد الشام . لكأنما التراجيديا هو قدَرُ أولئك الفنانين ، المتأطرين في منابتهم سلالاتٍ نبيلةٍ داثرة ، أو على الأقل في طريقها للزوال . لنتذكر ، على سبيل المثال ، حيوات ومصائرَ كلّ من نيتشه وبروست وكافافيس ؛ أولئك الأدباء ، الأفذاذ ، الذين كان الواحدُ منهم ثمرة ً عبقرية لشجرة عائلته ، العريقة والمتداعية في آن . أسمهان ، من ناحيتها ، لملمَتْ شذراتِ أصلها الرفيع ، الأرستقراطيّ ، في صورتها وشخصيتها وصوتها على السواء : إنّ ذلك الجمال الخلوق ، الفريد بحق ، الموهوب لأمثال مغنيتنا هذه ، لا يمكن أن يُخلق إلا في أحضان رخيّة لسلالةٍ مذكرة ، نبيلةٍ ، اعتادت على الإقتران بحوريات الحسن ، المنتميات بدورهنّ إفى أصول لا تقل عراقة . كما أنّ شخصية أسمهان ، المُعتلج فيها بواطن شعورها المُرهَف ، الشديد الحساسية ، يُحيلنا أيضاً على تنشئةٍ راقية ، غريبةٍ عن التبذل والإسفاف والوضاعة . كذلك الحالُ مع درّة صوتها ، المُجتلَبة من كنز الفنّ الآبد ، الخالد ؛ هذا الصوت النادر ، الذي تشبه آهاته الممدودة ، الشجنة ، زفيرَ جوقة ملائكة حزينة ، ، تائهة في أرض نسيها الخالق . وإذاً ، فأسمهان صوتُ نبالة تلك الأسرة الصغيرة ، المُتعيّن عليها الإفتراق أبداً عن وجاهتها وغناها.

هيَ ذي مع عائلتها المهاجرة ، المحشورة في مركبٍ ، رثّ ، متوجّهة لبلدٍ غريب ، لن تلقى فيه ثمة سوى المذلة والمهانة وشظف العيش ـ في بادئ الأمر بالأحرى .
على مركبٍ آخر ، وفي زمن أقدم قليلاً ، ( عام 1912 ) ، تفتحت خضرة عينيّ المولودة ، الفاتنة ، التي منحتها أمّها إسمَ " آمال " ، تيمّناً بنجاتهم من ليلةٍ مهولة ، سابقةٍ مباشرة للوضع . كانت الأسرة في طريقها إلى لبنان ، بعدما تخلى راعيها عن وظيفته لدى الدولة العثمانية ، حينما كادتْ عاصفة البحر تهلكهم جميعاً . هذه الطفلة ، التي ستعرَفُ لاحقا بإسمها الفنيّ ، " أسمهان " ، كانت منذورة على ما يبدو ، ومذ لحظة ولادتها ، لعواصف الحياة وأخطارها . إنها مخلوقٌ ناج ٍ ، إذاً ، ولكن لأجل عَيْشٍ فيه ما فيه من آلام وعذابات ونكبات . في أعوام الحرب العظمى ـ المُخلدة في ذاكرة الخلق باللفظ التركيّ ، المشنوع " سَفرْ بَرْلِك " ـ كانت طفلتنا شاهدة على المجاعة العامّة ، المتأثرة قرار السلطنة الهمايونية في إحتكار الحبوب لصالح جيشها ، المحارب على جبهات بلاد الشام . بطبيعة الحال ، فلم تنعكس تلك الظروف الصعبة ، المأسوية ، على أحوال عائلتها ، النبيلة . بيْدَ أنّ والدها ، وقد أضحى الآن وجيهاً متبطلاً ، لا شاغل له سوى الصيد ، فإنه لم يتورع عن هجر الأمّ المهمومة ، المتذمّرة ، والزواج من ثمّ بإمرأة اخرى . قرار الأمّ الصعب ، في الهجرة مع أولادها الأربعة إلى مصر ، جدّ بعد ذلك بعقدٍ من الأعوام على الأقل . كان سبب الرحيل ، المباشر ، هوَ ذلك الوضع الخطر ، الذي أعقبَ فشل الثورة ضد المنتدبين الفرنسيين ؛ الثورة الكبرى ، المنطلقة أصلاً من جبل الدروز ، بقيادة كبير آل " الأطرش " . بكر الأسرة ، فؤاد ، كان فيه الكثير من خصال أبيه . فما أن إتجهتْ الأمّ ، الموهوبة ، إلى تجربة حظها في مجال الفنّ ، أملاً بتحسين شروط حياة أسرتها ، حتى ثارت النوازع المحافظة ، النبيلة ، في عروق إبنها ذاك . يؤوب إلى موطنه الأول ، وحيداً ، مفارقا جوّ الأسرة ، المتضوّع بالأنغام والطرب ، فيلقاه والده وأعمامه بالحفاوة والتكريم . هذا الشقيق ، تعيّن عليه الكيدَ لأسمهان ، المطربة الصاعدة ، الصغيرة السنّ ؛ وهوَ من أجبرها وقتئذٍ على العودة لسورية ، بعدما عقدَ خطبتها ، غيابياً ، على إبن عمها . تتزوّج فنانتنا ، إذاً ، من الوجيه حسن الأطرش ، ولا تلبث أن تنجبَ منه طفلتها ، الوحيدة . أعوام سبعة ، مجدبة ، قضتها أسمهان في حياة زوجية ، بلا وفاق ، فاقمها طبعُ رجلها العَسِر ، الغيور ، مما آلَ بها إلى هجرانه . تنتقل إلى منطقة " العفيف " ، في صالحية الشام ؛ هناك ، أينَ تكون نجاتها من محاولة إنتحار ، متأثرة بظروفها الصعبة ، الموصوفة . وإذ تقرر العودة إلى القاهرة ، عاصمة الفنّ العربيّ ، مصممّة على تعويض ما فاتَ من إنجازاتِ عبقريّتها ، فإنها لم تكن تدري أن أعواماً سبعة اخرى فقط ، هيَ ما تبقى لها في هذه الحياة .
أسمهان وفريد
كانت أسمهان قد حصلت على الجنسية المصرية ، إثرَ زواجها بالمخرج الرائد ، أحمد بدرخان ، الذي سبق له وأخرج فيلمها " إنتصار الشباب " . ولكنها فقدت هذا الحقّ ، بعدما غادرت القاهرة لترتبط بإبن عمّها . من الواضح أنّ همّ إستعادة الجنسية ، كان ولا ريب دافع مغنيتنا للإقتران بالفنان أحمد سالم . رجلها هذا ، كان كما قيل مجنوناً بحبها ، حتى بلغت به الغيرة أن يطلق النار عليها ، خلال مشادةٍ محتدمة . تنجو أسمهان ، في هذه المرة أيضاً ، وبالتالي ينتهي زواجها بالطلاق . إنها الآن في أوج مجدها ؛ مطربة شهيرة ، تضاهي مقاماً كبيرة مغنيات زمنها ، أمّ كلثوم ، بل وتتفوق عليها لناحية سحرها الآسر ، الفريد . ولكنها ، على أيّ حال ، كانت فترة مضطربة في حياة أسمهان ، تلك السنوات السبع ، الأخيرة . إقامتها ، كانت محصورة غالباً في حجرة فندق ، كئيبة ، علاوة على أنّ الشائعات ، السيئة ، المتناولة أمورها الشخصية ، قد تناهت حدّ إتهامها بالإرتهان للإنكليز والعمل جاسوسة لحسابهم ، مقابل أموال طائلة ـ كذا . هذه الأسطورة ، شاءَ بعض الكتاب والصحافيين أن يتبناها ، حتى في آونتنا ، المتأخرة . إن حادث السيارة ، المُختتمة به حياة مغنيتنا ، قدّر له لا أن يبقى لغزاً فحسب ، بل وأن يُضافرَ أيضاً تلك الأقاويل عن عمالتها ، المزعومة . في واقع الأمر ، فإنّ إشكاليّة إنتماء أسمهان ـ الذي سبق لنا الإشارة إليها في مبتدأ مقالنا ـ هيَ على رأينا مَعْقِدُ المسألة . إنه قدَرُ الإنتماء إلى أقليّة مذهبية ، أو عرقية ، في مشرقنا ، وبالتالي كما يقول الروائي اللبناني ، المبدع ، أمين معلوف : " يصبح " تأكيد الهوية " بالضرورة فعلاً شجاعاً وعملاً تحريرياً " ( كتاب " الهويات القاتلة " ـ الطبعة العربية ص 42 ) .
أسمهان والأمير حسن الأطرش
فما بالكَ بإنسانة ، مثل أسمهان ، منتمية إلى واحدة من أكبر العائلات الدرزية في بلاد الشام ، فضلاً عن رهافة مشاعرها وإعتزازها بجذورها وكرامتها . على الرغم من ندرة المعلومات ، الموثقة ، عن هذه الفترة الغامضة من حياة مغنيتنا ، إلا أنه يجوز لنا الإفتراض بأنّ دافعاً وطنياً ، ولا شك ، كان وراء قبولها التعاون مع الإنكليز ، الذين طلبوا منها معلومات سريّة ، معينة ، عن الفرنسيين الموالين لهتلر ، والمسيطرين وقتذاك على سورية ولبنان . التعاون مع ممثلي قوى الحلفاء ، ربما إبتدِأ خلال وجود أسمهان في موطنها الأول ، وبطلبٍ من وجهاء الطائفة على الأرجح . ودون الغوص في التفاصيل ، يتوجّب الإشارة إلى العلاقة التاريخية بين الدروز والإنكليز . هؤلاء الأخيرون ، سبق لهم أن إستغلوا تبني الفرنسيين ـ خصومهم التقليديين ـ للموارنة الكاثوليك ، فمدوا يدَ التعاون للدروز ؛ وهم الجماعة ، العريقة ، المُشكِلة منافساً قوياً في جبل لبنان ، بشكل خاص . وإذ تخلصت بلاد الشام من الحكم العثماني ، الذي كان قد دأبَ على تأجيج الفتن المذهبية ، فإنّ خطل السياسة الداخلية للمنتدبين الفرنسيين ، والقائمة على دعم نصارى المشرق على حساب الآخرين ، ما كان له إلا أن يُسهمَ بدوره في المزيد من سوء الفهم بين أبناء الوطن الواحد . ثمة وجهٌ آخر للمسألة ، وهوَ وعدُ الحلفاء للدول العربية بالإستقلال ، فيما لو دعمتهم خلال الحرب العالمية الثانية ، علاوة على الدعاية القوية ، المضادة للنازية ، المكتسحة تلك الدول . وبما أنّ جميع ملفات الإستخبارات الغربية ، العائدة لتلك الفترة ، قد سبقَ وفتحتْ للملأ ، فمن غير المنطقيّ بحال إتهام الإنكليز ، جُزافاً ، بقتل أسمهان . وفي الأخير ، فما هيَ مصلحة هؤلاء بفعلة كهذه ، ما داموا في سنة موت مغنيتنا ( 1944 ) ، كانوا في طريق النصر المؤزر ، المنتهي بسقوط برلين ؟ دونما إغفال حقيقة ، أنهم ليسوا من الغباء لدرجة تأليب الرأي العام عليهم ؛ أو على الأقل الطائفة الدرزية ، الصديقة . إذا أهملنا عقلية المؤامرة ، نجدُ أنّ طريقة موت أسمهان في حادث الترعة ، غير العنيفة بحال ، لا تستدعي أيّ شبهةٍ عن إغتيال سياسيّ .