المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دور التشكيل الموسيقي في الأغنية العربية


زياد العيساوي
20/06/2008, 14h07
شاهدت ذات صائفة ، حفلاً غنائياً خليجياً في إحدى القنوات الفضائية ، و في كل مرة كنت أتفرج فيها على هكذا غناء ، أجدني من حيث لا احتسب ، مُنصرِفاً إلى مراقبة عناصر الفرقة الموسيقية المنتشرة على ركح المسرح أو في الهواء الطلق ، و كان ما يثير انتباهي دائماً ، هو تشكيل الطاقم الموسيقي ، و في هذه السهرة بالذات ، كانت الحال مختلفة تماماً عن ذي قبل ، فقد لاحظت استعانة مطرب خليجي مرموق بإحدى كبريات الفرق الموسيقية العربية ، و أذكر فيما أذكر ، أنها كانت ( الفرقة الماسية ) اللامعة في سماء الفن ، بقيادة ( المايسترو ) الألمعي " أحمد فؤاد حسن " رحمه الله ، هذه الفرقة التي طالما عزفت وراء جهابذة الغناء العربي من مطربين و مطربات ، إبان زمنه الجميل ، و قامت بالإعداد و التوزيع الموسيقي لعديد الجُمل الموسيقية لفحول الملحنين ، و لعلّ ما شدّ عنايتي في هذا الحفل ، أنّ ثمة عدداً لا يُستهان به من الآلات الإيقاعية المعدودة الأغراض ، و المتعددة العازفين ، إذ تبدّى ليّ بجلاء ، و على ميمنة الشاشة تحديداً ، عازفو الإيقاع بأسمالهم الخليجية التقليدية ، و على يُمناهم ، أي علي ميسرة الشاشة ، كان ظاهراً أعضاء الفرقة الماسية ببزاتهم الإفرنجية ، بعدد لا بأس به و يكافئ عدد الأولين ، مع أنّ عدد الآلات التي كانوا يعزفون عليها ، أكثر بكثير من آلاتهم الإيقاعية ، من حيث التنوع بالطبع ، حيث إنهم كانوا يتأبطون و يحتضنون الآلات الوترية و النفخية و الكهربائية ، مع ملاحظة ، أنّ هناك عازفاً واحداً من ضمنهم ، كان منضماً إلى دائرة عازفي الإيقاع ، بآلته الغربية المسماة ( الدرامز ) ذات الإيقاعات المختلفة ، التي تمثل عدّة درجات قرعية ( جاءت من القرع ) متفاوتة ، بحيث صار يمثل العلامة الفارقة ، شكلاً و مضموناً ، في هذه الدائرة المنغلقة على ذاتها ؛ هكذا تشكّلت هذه الفرقة المركبة ، و كان لتشكيلها هذا دور فاعل أعمق الفعل ، في وصولي إلى حقيقة مهمة ، تتعلق بهذا الصنف الغنائي ، و هيَّ : أنّ الأغنية الخليجية في الواقع ، إنما هي أغنية إيقاعية ، بدرجة أو بأخرى ، و هذا ما تيقنت به فيما بعد ، حينما شرعت الفرقة تعزف مصدرة نقراً و نفخاً و قرعاً ، غير أنّ وقع القرع للآلات الإيقاعية طغى و غطّى على الصوتين الآخرين ، و لست أعزو ذلك إلى خلل فنّي في هندسة الصوت ، لا بل إلى خلل من نوع ثان ٍ ، قد وقع ، فعندما رهفت السمع جيداً إلى النغمات الناتجة ، و إلى أسلوب الأداء الغنائي ، اتضح ليّ ، أنّ المفهوم الموسيقي هنا ، قد حدث له شيء من الاختلاف ، و أصبح حالة شاذة عن الغناء العربي ، فبدلاً من أن تكون الأنغام القرعية لضبط الإيقاع و كفى ، أضحت هي من تُصاحب أداء الفنان ، عوضاً عن الآلات الوترية ، التي باتت هي من تضبط الإيقاع ، و هذا لمن العجب فعلاً ، إذ ذاك ، صار عازفو الفرقة الماسية لا حول لهم و لا قوة ، على الرغم من كفاءاتهم العالية ، و إثباتهم لجدارتهم في ألوان غنائية أُخريات ، و مع مطربين آخرين ، تختلف أساليبهم اختلافاً كلياً عن هذا الأسلوب الغنائي السائد في هذه المنطقة ( الخليج العربي ) فما كان منهم إلا أنْ حاولوا إضفاء شيء من لدنهم على هذا العمل بلمسات تقديرية بحكم الخبرة ، لتتخلل هذه الفواصل الزمنية بين كل إيقاع و آخر يليه ، و لأنّ هذه الفواصل الزمنية كانت قصيرة جداً ، و تقاس بعُشر الثانية ، بفعل كثرة الإيقاعات و تزاحمها ، أضحى كل عازف ، يختلس ( صولاً ) موسيقياً ، بطريقة خاطفة ، بآلته المختلفة عن آلة الآخر ، الأمر الذي ولّد شذرات لا تقترب من كونها جملاً موسيقية مفيدة ، على غرار مفهوم الجملة المفيدة في لغتنا العربية ، حال اكتمال رُكنيها ، و من هذه الملاحظات الخاصة بيّ ، تصورت متخيلاً حدوث عطب هندسي في الأجهزة الصوتية و السمعية ، فماذا سيجري ، لو أنّ ناقلات الصوت المخصصة لأفراد الفرقة الماسية تعطلت مثلاً ، و اختفت الأصوات المنبعثة من آلاتهم ( الوترية و النفخية ) نتيجة لهذا الاحتمال غير المستبعد ؟ فهل سيربك الموقف ، و يغير من الأمر في شيء ؟ لا أعتقد مجرد الاعتقاد ، حدوث أيٍّ من الأمرين ، لأنّ وجودهم مثل انتفائه ، فليس لوقع نغماتهم أدنى تأثير ملموس ، و لا حتى محسوس ، ذلك أنني قد استمعت إلى الأغنية عينها قبلاً ، و شاهدتها في حفلة أو بالأحرى في جلسة فنية مرئية ، و فيها ظهر هذا الفنان و هوَّ يؤديها ، و قد جالسه مجموعة من المطبلين و المصفقين و الضاربين على الآلات الإيقاعية النحاسية ، و إلى جانبه لصقاً ، كان ثمة عازف كمان وحيد ، في جلسة كانت على هيئة مربع ناقص ضلع ، تتوسطه مواقد الفحم لتسخين الدفوف ، و بعد أن تكاملت هذه الفرقة عدة و عدداً ، أمست أشبه ما تكون بالجوقة العسكرية ، التي تعزف في الاحتفالات الوطنية و الرسمية ، لا سيما عند رفع السارية ، و عزف النشيد الوطني ، و التي تقتصر على هكذا آلات في أغلب الأحايين ، و من الجدير بالوقوف عنده طويلاً و كثيراً ، هو أنّ هذا الفنان الذائع الصيت ، قد استغنى تماماً عن عازفي الإيقاع ، الذين طالما رأيناهم من ضمن تشكيل الفرقة الماسية ، نظراً لكونهم لا يفقهون شيئاً في هذا النمط من الإيقاعات الغريبة عليهم ، و المنتمية إلى الغناء الشعبي المعروف في هذه المنطقة ، والمؤسسة على المقام الخماسي ، البعيد كل البعد عن الموسيقا العربية .

و لعامل التشكيل الموسيقي عظيم الأثر في معرفة الأغنية الوافدة إلينا من بلاد الشام أيضاً ، ففي الوصلات الغنائية التي تعرض على الشاشة ، نلحظ مدى الاختلاف بين الأغنية الخليجية و الأغنية الشامية ، فعندما يصعد إلى ركح المسرح ، مطرب مُلم بأصول الغناء الشعبي و الحديث كذلك ، تأخذ الفرقة في التشكل بحسب اللون الغنائي ، و بعديد التركيبات المتباينة ، فلو استهل وصلته بأغنية شعبية ، نرى عازف الطبل ، و هوّ يقرع على آلته و يحجل في كل مرة على قدم بجانب المطرب ، مضفياً على العمل شيئاً من التطريب المُحبب إلى الحضور و المشاهدين ، و بعد أنْ ينتقل بالغناء إلى الحداثة ، نجد أنّ من كان يُطبل واقفاً ، قد غيّر من وضعه السابق ، و جلس على يمين الشاشة واضعاً الطبل جانباً ، و شرع يستبدل آلته الأولى ، بآلة إيقاعية ثانية ، كأن تكون ( الدف ) مثلاً ، و الأمر ذاته ، يحدث في تشكيل عازفي الآلات الوترية ، لمّا يلقي عازف ( البزق ) بآلته ، بعد الفروغ من تقديم الأغنية الشعبية ، و انتقال الفرقة إلى العزف الخاص بالأغنية الحديثة ، مُبدِّلاً إياها بآلة ( الجيتار ) مثلاً ، التي تم إقصاؤها في البداية ، و حال عودته إلى ما بدأ به ، يرجع الأمر إلى ما كان عليه أولاً ـ ( وهكذا دواليك ) ـ مما يجعلك كمشاهد و مستمع ، تخلص إلى أنّ هناك فروقاً عديدة بين الأغنيتين في الخليج العربي و الشام ، من أبرزها ، أنّ الثانية ليست كالأولى ، في اعتمادها على الإيقاع ، و هذا واضح بالعين الرائية ، من خلال العدد القليل من العازفين ، فهو هنا بمثابة العمود الفقري المنوط به ضبط الرتم و الوزن للآلات الأخرى و كفى ، و من هذه الفروق أيضاً ، أن ثمة حرصاً في الأغنية الشامية على التفريق بين الغناء الشعبي القديم و الغناء الجديد ، من خلال التغيير الدائم لتشكيل الفرق الموسيقية ، و إظهار كل لون بخصوصياته و آلاته الموسيقية ، على النقيض من الغناء في الخليج العربي ، الذي تتمظهر طواقمه دائماً بتشكيل ثابت لا يتأثر بأي طارئ قط .
و ترتيباً على ما تقدم ، أودُّ في عجالة التطرق إلى ما يخصّ الأغنية الليبية ، و فيما يتعلق بهذا الجانب الفني ، الذي يرين عليها ، ففيها شيء من الأغنيتين ، لأنّ الأغنية الليبية الشعبية ، ران عليها الطابع الإيقاعي إلى حد بعيد ، إذ أنها تؤدى على العديد من الدفوف و الطبول ، حتى أنك لا تسمع في أغلب الأغنيات الشعبية ، نغماً يصدر من آلة وترية ، و لو كانت ( العود ) على أقل تقدير ، كذلك الحال ، بالنسبة للآلات النفخية ، اللهم إلا أن كانت ( الأوكورديون ) التي لدىّ عليها مأخذ لكونها غربية الصنع ، و مع ذلك توظَّف في مثل هذا الغناء ؛ على أية حال ، فإن الفنان يقوم بالأداء الارتجالي على جمل لحنية قديمة ، من دون أنْ تصاحبه الآلات سوى الإيقاعات ، و من ثم تعزف الفرقة فاصلاً موسيقياً ، يعتمد أساساً على التسريع في وتيرة الإيقاع مصحوباً بالتصفيق الذي أعدّه أيضاً من جملة الإيقاعات ، مع العلم بأنّ التصفيق يكون في أحيان كثيرة في غير محله ، فهو حركة جسدية كالرقص بالضبط ، يقوم بهما الجسد و الأطراف حال الشعور بالفرح و السعادة ، و ما يجعله لا يوظف في المكان المناسب ، أنّ بعض مضامين الأغنيات يكون فيه شيء من الشجن و الحزن ، و مع ذلك نجد الكل ، من أعضاء الفرقة و الجمهور يصفقون ، و هذا مأخذ ثان ٍعلى هذه الأغنية ، يجعلها هو الآخر تشبه كثيراً الأغنية الخليجية ؛ أما فيما يتعلق بالأغنية الليبية الحديثة ، أراها في شكلها تختلف عن النمط الأول من حيث التشكيل الموسيقي ، لأنّ الفرق هنا ، تظهر مغايرة لتشكيلها الأول ، حيث نجد كمستمعين و مشاهدين ، أنّ الفرق تتمظهر كما ينبغي أن تكون عليه ، لتقدم غناءً حديثاً ، إذ يكون عدد الضاربين على آلات الإيقاع ضئيلاً جداً ، بالمقارنة مع عازفي الآلات الأخرى ، و يغني المطرب على جمل و مقطوعات موسيقية مدروسة و تُعرف باسم مُعدها ( الملحن ) فهي في هذا الصدد ، أقرب ما تكون إلى الأغنية الشامية ، غير أنّ ما يجعلها شبيهة بالأغنية الخليجية أيضاً ، كونها تعتمد في أحيان كثيرة على إيقاع شعبي رتيب ، لا يتغير منذ أنْ يعلن قائد الفرقة عن بداية الأغنية إلى خاتمتها ، بحركتين خاطفتين و مشتجرتين بكلتا يديه ، و هذا ما علّق به مرةً الملحن العربي " سُهيل عرفة " عن رأيه في الأغنية الليبية في إحدى الاستضافات المرئية ، حيث قال : " لست أعرف ، لماذا يصرُّ الملحنون الليبيون على هذا ؟ و لِمَ لا يقومون بالتنويع في الإيقاعات و الانتقال من إيقاع إلى آخر ؟ فهذا ما ينقص الأغنية الليبية " .

و أنا كمستمع أُشاطره هذا السؤال ، و أحيله من جديد إلى الملحنين ، و مضيفاً : " هذا صحيح ، لماذا لا يتفاعل الإيقاع مع الجملة الموسيقية ، حين انتقالها من مقام إلى آخر ؟ لأنّ الإيقاع في حالته الأولى ، يبطل مفعوله و يصبح مجرد أداة لا وظيفة لها في الغناء " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

زياد العيساوي

بنغازي في: 07/01/2007
Ziad_z_73@yahoo.
منشور في صحيفة العرب اللندنية