زياد العيساوي
15/06/2008, 11h36
في البداية ، يجبُ التنويه إلى أنَّ هذا المقال سيكون طويلاً بعض الشيء ، الأمرُ الذي من شأنِه ، أنْ يجعلني مُسبقاً ، أعتذرُ من الأخ المُشرِف على هذه الصفحة ( فنون ) و من بقيَّة زملائي الكـُتـَّاب ، إنْ قلمي سمح لنفسه ، أنْ يتجاوز السقف الأعلى المُحدَّدَ لكلماته المُتفق عليها ، بخصوص الأمورِ الفنية المُتعلِقة بالنشر عبر هذه الصحيفة .. ( هذا أولاَ ) .
هناك فرقة من النُّقاد الموسيقيين العرب ، ما تزال تتخبط بشأن تصنيف الموسيقار العربي الراحل ' فريد الأطرش ' من حيث كونه مُطرِّباً أم مُلِّحناً ، أم أنه يجمعُ بين الأمرين معاً ، و هذه المسألة ، هي من حملت الناقد المصري الكبير ' كمال النجمي ' رحمه الله ، إلى أنْ يطرح هذا الأمرَ المُختلـَفَ حوله ، في صورةِ سؤال ٍعلى موسيقار الأجيال ' محمد عبد الوهاب ' فبـِمَ أجابه يا ترى ؟ قال مخاطباً إياه : ( قـُل ما شئت عنه ، لكن عليك أنْ تتذكر دائماً ، بأنه مغن ٍ خطيرُ ُ ) و ستكون لنا وقفة مع هذه العبارة المقوَّسة ، في مناسبة لاحقة من هذا المقال .
لعلّ من المعروف ، بأنَّ الفنَّان ' فريد الأطرش ' قد قام بتنغيم ( تلحين ) جميع أعماله بعوده ( بنفسه ) ما عدا أغنية وحيدة ، قدّمها له الملحن الفلسطيني ' يحيى اللبابيدي ' التي بعنوان ( يا ريتني طير لطير حواليك ) و كانت أولى أغانيه ، التي عرفه من حلالها المستمع العربي ، ثم بعد ذلك ، غزا الساحة الغنائية بجيش ٍ من الألحان ، له أولُ ُ و ليس له أخرُ ُ ، و أصبحت أعماله تترى ، حتى اشترك مع شقيقته ' أسمهان ' في تقديم الشريط الاستعراضي الضخم ( غرام و انتقام ) ذلك الشريط ، الذي أثار ضجَّة و جلبة كبيرتين ، و أحدث ثورة موسيقية تجديدية على الأغنية العربية برمتها ، لما قد احتواه من ألحان ، لا تصدرُ سوى من مُلحِن ٍ ضليع ٍ بأصول و مقامات الموسيقية العربية و الألوان الغنائية الإفرنجية ، حتى أنه قدَّم بمعيَّة أخته ملحمة ً ( أوبريتاً ) ضمن هذا العمل الجلل ، على موسيقى ( الفانس ) بعنوان ( ليالي الأنس في فينا ) محدثاً بها ، نقلة ً نوعية ً على الصعيدين الفنيين - الخاص به و بالغناء العربي إجمالا ً- و بعد رحيل الفنانة ' أسمهان ' عن الوجود ، إثر تلك الحادثة المشؤومة التي أودت بحياتها ، و أثيرت حولها القصص و لـُفِقت عنها الأقاويل ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، لم يقف مكتوف اليدين ، إذ ْ أنه موّسق بعض الألحان لثلةٍ من المغنين الكبار ، كأغنية ( ع الله تعود ) للفنان ' وديع الصافي ' و أغنية ( يا وحشني ) للمطرب ' محرم فؤاد ' و ( أحبابنا يا عين ) للفنانة ' وردة الجزائرية ' و مع أنّ رصيده اللحني للأصوات الأخرى ، يُعدُ حقيقة ً ضئيلُ ُ ، إذا ما قورن مع مجايليه ، إلا أننا نلحظ أنَّ كُلَّ عمل ٍ قدَّمه لأيِّ صوت من الأصوات المُتحدَّث عنها بعاليه ، يعتبرُ أجمل ما في الرصيد الغنائي للأخير ، فالعبرة ليست في الكم ، إنما في جودة الألحان .
لكن تلك الفرقة التي حدثتكم عنها قبلا ً، لا ترى في صوت الفنان ' فريد الأطرش ' ذلك الصوت المقنع في الأداء ، مع أنه حظيَّ بثقة الجماهير المُحِبة لفنِّه إلى وقتنا الراهن ، لأسلوبه البكائي و لأدائه المُـمطـَّط ربما ، لكنها لا تنكرُ عليه أنه مُلحِن فذ ٌّ، و بالعودة كما وعدتكم ، إلى المقولة التي قالها الموسيقار ' محمد عبد الوهاب ' العارفُ بأصول الغناء ، في حقِّ هذا الفنان ، سنلفي أنَّ الأول ، لم يعتبر الفنَّان ' فريد الأطرش ' مؤديا ً و كفى ، بل إنه وصفه بالمغني الخطير ، و هذا شيءُ ُ عظيم ُ ُ؛ و لأنَّ الآراءَ ، قد تختلف من شخص ٍ إلى آخر ٍ ، و كما يُقال بما معناه : ' الأذن الواحدة لا تسمع ' فالرأيُ عندي ، أنه قد حدث نوع من الاتزان ، بين كفتي الميزان ، اللتين إحداهما تحمل رأي النـقاد بشأن تجربة الفنان ' فريد الأطرش ' من جهة ، و الأخرى تحمل رأي جمهوره ، و تعليق الفنان ' محمد عبد الوهاب ' معاً من جهةٍ مقابلةٍ ، أي أنَّ الأولين يعترفون بكونه ملحنا ً بارعا ً، و الأخيرين بالمثل ، يعدونه مطربا ً كبيرا ً، من هنا و بحسب منظوري الخاص ، نكون قد أجبنا عن ذلك السؤال الشائك ، حيث نفضي إلى أنَّ الفنان الراحل ' فريد الأطرش ' قد جمع بين الغناء و التلحين في الآن نفسه ، هكذا و ببساطة شديدة .
ما أحبُّ أنْ أضيفه في عُجالة إلى ما سبق ، هو رأيي بخصوص الأسلوب البكائي الخاص بغناء هذا الفنَّان ، فالرأيُ لدي ، أنه لا يعود إلى التجارب العاطفية الفاشلة التي مرَّ بها ، كما قد يُخيَّل إلى الكثيرين ، لكنْ إلى جانبٍ مهم ، قد غاب على البعض من تلك الفرقة المعنية بالهم الفني ، فهمُ هذا الفنان ، يرجعُ إلى وأد تجربته اللحنية بعد ولادتها بقليل ، كيف ذلك ؟ أقصد - بعد تحطم مشروعه الغنائي الذي كان يُخطط له ، و يعتزم تقديمه رفقة الصوت الملائكي الذي عُرفت به الفنانة ' أسمهان ' فقد كان يراهن عليه في أداء ألحانه ، التي يصعب على كبار المطربات و المطربين ، الذين جاؤوا بعدها أنْ يؤدوها ، كما ينبغي لها ، و ما يُدلـِّلُ على صحة رأيي هذا ، أنَّ أعماله التي قدَّمها و هي على قيد الحياة ، كانت مُفعَمة بالأمل و بحماس الشباب المقبل على الحياة ، و من ذلك ما أصدره من أغنيات في ( الفيلم ) الذي اشتركا في تمثيله ، و كان بعنوان ( انتصار الشباب ) غير أنَّ رحيلها الباكر ، ترك في نفسه هذه المسحة من الحزن القهري ، الذي ما استطاع أنْ يخرج من قوقعته ، حتى في أغانيه التي لا تحمل الطابع الحزين .. هكذا .
كأنني بقارئ ٍ ، يتساءل في قرارة نفسه ، بعد هذا التمهيد المستفيض : ما لنا و فريد الأطرش ؟ ثم ما دخله بعنوان مقالك هذا ؟ لذا سأوافيه بالتعليل الآتي : -
الحديثُ عن الفنون حديثُ ُ ذو شجون ، و أنا أتبع أسلوبا ً خاصا ً بيّ في الكتابة ، حيث إنني أعود دائماً إلى الاستشهاد بالفنانين الكبار في زمن الغناء الجميل ، الذين ليس بمكنة أي فنان حلّ على الغناء بعدهم ، أنْ يُزايد على أصالة و جودة ما أضافوه إلى الغناء العربي بعامة ، لأنهم أسسوا مدارس للأغنية العربية ، و الأغنية الليبية ليست بمنأى عنها ، بل هي وثيقة الصلة بها ، فالخليقُ بنا أنْ نجعلهم دوماً مراجع لنا ، كلما طاب لنا تناول هذا الشأن الفني ، و ذلك بالتمثل بتجاربهم و الامتثال لآرائهم ؛ فإذا تعرَّض فنانُ ُ كبيرُ ُ في حجم و قامة ' فريد الأطرش ' إلى مثل هذه المراجعات الفنية ، من قـِبل النـُّقاد و المستمعين ، فلا غضاضة في أنْ نُعيدَ نظرتنا فيما جاد به فنانو بلادنا ، أ ليس كذلك ؟ إذاً يا عزيزي لندخل تواً ، إلى صلب الموضوع المُتعلِق بعنوانه ، مع الوعد بالعودة إلى تجربة هذا الفنَّان ، كلما لزم الأمرُ و دعت الحاجة إليها .
أطرح في البدء سؤالاً على نفسي ، هذا سياقه : هل الفنان الليبي ' محمد حسن ' مطربُ ُ أم مُلحِنُ ُ ، أم أنه مثل الموسيقار ' فريد الأطرش ' في جمعه بين الغناء و التلحين ، جنباً إلى جنب ؟ و كل ما أرجوه ألّا يُفهم من ذلك ، بأنني بصدد عقد جدول ٍ للمقارنة بين الاثنين ، فحاشى و كلا إن كان هذا مبتغاي ، فما سيلي في هذا المجال من هذا المقال ، سوف لن يكون سوى اجتهاد مني للفت الانتباه إلى تجربة الفنان ' محمد حسن ' من دون أيِّ تأثير ٍ خارجي ، و بحسب ذائقتي الخاصة ، التي هي المهماز الذي جعلني أخطُّ لكم مقالي هذا ؛ فقد ودَّدت أنْ أخوضَ في غمار الإجابة عن هذا السؤال ، الذي طالما أرّقني و عصف بتلافيف مخيلتي ، بعدما وجدت أنَّ ثمة فوارقاً عميقة الشقة ، بين أعماله القديمة و الحديثة ، لذلك سأمحور مقالي إلى محورين ، كي أتناولَ تجربته في هاتين الفترتين الزمنيتين ، جاعلاً الفيصل بينهما ( كاركتر ) الخيمة الغنائية الذي استحدثه لنفسه ، في نهاية المنتصف الأول من عقد الثمانينيات من القرن المنصرم ؛ فهذا الفنان بدأ في الوسط الفني كمغن ٍ من طراز رفيع ، نظراً لأنه ، يحتكمُ على خامةٍ صوتيةٍ ، تجمع بين الجمال و القوة و الرقة و المتانة و المقدرة العالية على التعبير المقنع و تقمص جميع ألوان الغناء العربي ، فهذه الخصائص جعلت صوته ذي ملامح ٍ مميزةٍ ، قلّ و عزّ نظيرها حتى في الأصوات العربية ، آن ولوجه إلى عالم الغناء ، ما جعل نجمه يبزغ و يلمع سريعاً ، و جعل ثلة من أهم ملحني ليبيا ، الذين شهد القاصي قبل الداني بجدارتهم اللحنية ، يلتفون من حوله و يزودونه بكم ٍ هائل ٍ من الألحان ، التي كشفت مكامن جمال هذا الصوت ، و وظفوه في أداء أعمال متنوعة المقامات ، فلو شاءت الصدف و استمعت إلى بعض ٍ منها سيتراءى لك ، كيف أنه كان يتماشى مع طبيعة صوته ، و يبدو هذا جلياً في هذه الأغنيات التي أدّاها صاحب هذا الصوت : ( بلادنا زين على زين ) للملحن ' عطية محمد ' و ( يا ريح هدّي ) لملحنها ' يوسف العالم ' و أية أغنية أخرى غناها ، من ألحان ' إبراهيم أشرف ' .
ما نزال دائماً في الفترة التي سبقت ظهور الخيمة الغنائية ، حيث إنَّ هذا الفنان المولع بالغناء ، أخذ لنفسه منحى آخراً ، يختلف عن مسار البداية الذي عرفه به الجمهور ، إذ ْ أنه ، انتقل إلى مجال التلحين في وقت سريع ، و قام بالتلحين لنفسه ، فأصدر مجموعة رائعة من الأغاني التي من ألحانه مثل : ( خلك رفيقاً زين ) و ( لا تجرحيني ) و ( جيتك ) و ملحمة ( يا ليبيا الشجعان ) غير أنَّ ما يُلاحظُ فيما بعد ، أنَّ أعماله اللحنية و الغنائية بطبيعة الحال كذلك ، أضحت تتسم بميسم واحد و غير مختلفة عن بعضها البعض ، الأمرُ الذي من شأنه ، أنْ جعله يدخل في حلقة التكرار و النسخ تقريباً ، فأنا لست أعيبُ أو أستكثر عليه أنْ يكون ملحناً ، لكن إذا رغب في ذلك ، فله في الراحل ' فريد الأطرش ' أسوة ، لأنَّ الأخيرَ ، لم يكرَّر نفسه البتّة ، فعلى الرغم من أنه قد أُشتهـِر بالموسيقى الشرقية ، إلا أنه قد أثبت في أكثر من مناسبة فنية ، بأنه دارسُ ُ و عارفُ ُ حتى بالموسيقى العالمية ، و آية ذلك ( الأوبريت ) الذي استعرض فيه عضلاته اللحنية ، محاولاً به أنْ يدفع عن فنه ، تلك التهمة الباطلة ، التي ابتغى البعض من النـُّقاد إلصاقها به عنوة ، فأدهشه بمقدرته الكبيرة في أداء الألوان الغنائية جميعها ، بما فيها الشرقية و الغربية ، و لعلّ عنوان هذا العمل الكبير ، يوضح مراده من تقديمه إياه في حينه ؛ فقد أسماه ( شرق و غرب ) .
و لست أرمي من هذا ، إلى أنََّ أدفعَ بالفنان ' محمد حسن ' إلى أنْ ينزلقَ بفنِّه في منحدر التهريج ، فقد أصبح هذا الأمر ( همروجة و فزّاعة ) يخشاهما أغلب الجيل القديم من المطربين - أي - التحديث الموسيقي ، و لكنْ أنْ ينوعَ في الألحان التي يقدِّمها للجمهور ، الذي لم يسأله بعد سؤالي المنصرم ، فإذا كان السبب في التكرار الذي وقع فيه ناجماً عن محبته للغناء في الخيمة الغنائية ، فإنني أريد أنْ أخبره في هذه الفرصة السانحة ، بأنَّ الصدف ، هي من تجعلني دائماً وقت سماعي لأعماله ، أؤخذ إعجاباً ببعض منها طوراً ، و آخذ ُ عن بعضها الآخر ، عدة مآخذ في طور آخر ، و حينما أتساءل عن سرِّ هاتين الحالتين ، اللتين أمرُّ بهما ، كلما استمعت إلى أعماله ، أجدُ أنَّ أغنياته التي تعجبني ، هي التي ليست من ألحانه ، فليس أقلُ إذن ، من أنْ يُرينا مقدرته اللحنية ، و يُثرينا بين الفينة و الأخرى ، بعمل غنائي من ألحانه التي يكون لها طعمُ ُ مشتجرُ ُ عن أعماله الأخيرة ، و له الحق كل الحق ، فيما اختاره لنفسه من حيث شكل الغناء ، حتى أستطيعُ بعد ذلك ، أنْ أصفه بالملحن ، بعد أنْ وجدت فيه ، مُطرِّباً من عيار ثقيل .
بقلم : زيـاد العيساوي – ليبيا
Ziad_z_73@yahoo.com
منشور في صحيفة العرب اللندنية
هناك فرقة من النُّقاد الموسيقيين العرب ، ما تزال تتخبط بشأن تصنيف الموسيقار العربي الراحل ' فريد الأطرش ' من حيث كونه مُطرِّباً أم مُلِّحناً ، أم أنه يجمعُ بين الأمرين معاً ، و هذه المسألة ، هي من حملت الناقد المصري الكبير ' كمال النجمي ' رحمه الله ، إلى أنْ يطرح هذا الأمرَ المُختلـَفَ حوله ، في صورةِ سؤال ٍعلى موسيقار الأجيال ' محمد عبد الوهاب ' فبـِمَ أجابه يا ترى ؟ قال مخاطباً إياه : ( قـُل ما شئت عنه ، لكن عليك أنْ تتذكر دائماً ، بأنه مغن ٍ خطيرُ ُ ) و ستكون لنا وقفة مع هذه العبارة المقوَّسة ، في مناسبة لاحقة من هذا المقال .
لعلّ من المعروف ، بأنَّ الفنَّان ' فريد الأطرش ' قد قام بتنغيم ( تلحين ) جميع أعماله بعوده ( بنفسه ) ما عدا أغنية وحيدة ، قدّمها له الملحن الفلسطيني ' يحيى اللبابيدي ' التي بعنوان ( يا ريتني طير لطير حواليك ) و كانت أولى أغانيه ، التي عرفه من حلالها المستمع العربي ، ثم بعد ذلك ، غزا الساحة الغنائية بجيش ٍ من الألحان ، له أولُ ُ و ليس له أخرُ ُ ، و أصبحت أعماله تترى ، حتى اشترك مع شقيقته ' أسمهان ' في تقديم الشريط الاستعراضي الضخم ( غرام و انتقام ) ذلك الشريط ، الذي أثار ضجَّة و جلبة كبيرتين ، و أحدث ثورة موسيقية تجديدية على الأغنية العربية برمتها ، لما قد احتواه من ألحان ، لا تصدرُ سوى من مُلحِن ٍ ضليع ٍ بأصول و مقامات الموسيقية العربية و الألوان الغنائية الإفرنجية ، حتى أنه قدَّم بمعيَّة أخته ملحمة ً ( أوبريتاً ) ضمن هذا العمل الجلل ، على موسيقى ( الفانس ) بعنوان ( ليالي الأنس في فينا ) محدثاً بها ، نقلة ً نوعية ً على الصعيدين الفنيين - الخاص به و بالغناء العربي إجمالا ً- و بعد رحيل الفنانة ' أسمهان ' عن الوجود ، إثر تلك الحادثة المشؤومة التي أودت بحياتها ، و أثيرت حولها القصص و لـُفِقت عنها الأقاويل ، التي ما أنزل الله بها من سلطان ، لم يقف مكتوف اليدين ، إذ ْ أنه موّسق بعض الألحان لثلةٍ من المغنين الكبار ، كأغنية ( ع الله تعود ) للفنان ' وديع الصافي ' و أغنية ( يا وحشني ) للمطرب ' محرم فؤاد ' و ( أحبابنا يا عين ) للفنانة ' وردة الجزائرية ' و مع أنّ رصيده اللحني للأصوات الأخرى ، يُعدُ حقيقة ً ضئيلُ ُ ، إذا ما قورن مع مجايليه ، إلا أننا نلحظ أنَّ كُلَّ عمل ٍ قدَّمه لأيِّ صوت من الأصوات المُتحدَّث عنها بعاليه ، يعتبرُ أجمل ما في الرصيد الغنائي للأخير ، فالعبرة ليست في الكم ، إنما في جودة الألحان .
لكن تلك الفرقة التي حدثتكم عنها قبلا ً، لا ترى في صوت الفنان ' فريد الأطرش ' ذلك الصوت المقنع في الأداء ، مع أنه حظيَّ بثقة الجماهير المُحِبة لفنِّه إلى وقتنا الراهن ، لأسلوبه البكائي و لأدائه المُـمطـَّط ربما ، لكنها لا تنكرُ عليه أنه مُلحِن فذ ٌّ، و بالعودة كما وعدتكم ، إلى المقولة التي قالها الموسيقار ' محمد عبد الوهاب ' العارفُ بأصول الغناء ، في حقِّ هذا الفنان ، سنلفي أنَّ الأول ، لم يعتبر الفنَّان ' فريد الأطرش ' مؤديا ً و كفى ، بل إنه وصفه بالمغني الخطير ، و هذا شيءُ ُ عظيم ُ ُ؛ و لأنَّ الآراءَ ، قد تختلف من شخص ٍ إلى آخر ٍ ، و كما يُقال بما معناه : ' الأذن الواحدة لا تسمع ' فالرأيُ عندي ، أنه قد حدث نوع من الاتزان ، بين كفتي الميزان ، اللتين إحداهما تحمل رأي النـقاد بشأن تجربة الفنان ' فريد الأطرش ' من جهة ، و الأخرى تحمل رأي جمهوره ، و تعليق الفنان ' محمد عبد الوهاب ' معاً من جهةٍ مقابلةٍ ، أي أنَّ الأولين يعترفون بكونه ملحنا ً بارعا ً، و الأخيرين بالمثل ، يعدونه مطربا ً كبيرا ً، من هنا و بحسب منظوري الخاص ، نكون قد أجبنا عن ذلك السؤال الشائك ، حيث نفضي إلى أنَّ الفنان الراحل ' فريد الأطرش ' قد جمع بين الغناء و التلحين في الآن نفسه ، هكذا و ببساطة شديدة .
ما أحبُّ أنْ أضيفه في عُجالة إلى ما سبق ، هو رأيي بخصوص الأسلوب البكائي الخاص بغناء هذا الفنَّان ، فالرأيُ لدي ، أنه لا يعود إلى التجارب العاطفية الفاشلة التي مرَّ بها ، كما قد يُخيَّل إلى الكثيرين ، لكنْ إلى جانبٍ مهم ، قد غاب على البعض من تلك الفرقة المعنية بالهم الفني ، فهمُ هذا الفنان ، يرجعُ إلى وأد تجربته اللحنية بعد ولادتها بقليل ، كيف ذلك ؟ أقصد - بعد تحطم مشروعه الغنائي الذي كان يُخطط له ، و يعتزم تقديمه رفقة الصوت الملائكي الذي عُرفت به الفنانة ' أسمهان ' فقد كان يراهن عليه في أداء ألحانه ، التي يصعب على كبار المطربات و المطربين ، الذين جاؤوا بعدها أنْ يؤدوها ، كما ينبغي لها ، و ما يُدلـِّلُ على صحة رأيي هذا ، أنَّ أعماله التي قدَّمها و هي على قيد الحياة ، كانت مُفعَمة بالأمل و بحماس الشباب المقبل على الحياة ، و من ذلك ما أصدره من أغنيات في ( الفيلم ) الذي اشتركا في تمثيله ، و كان بعنوان ( انتصار الشباب ) غير أنَّ رحيلها الباكر ، ترك في نفسه هذه المسحة من الحزن القهري ، الذي ما استطاع أنْ يخرج من قوقعته ، حتى في أغانيه التي لا تحمل الطابع الحزين .. هكذا .
كأنني بقارئ ٍ ، يتساءل في قرارة نفسه ، بعد هذا التمهيد المستفيض : ما لنا و فريد الأطرش ؟ ثم ما دخله بعنوان مقالك هذا ؟ لذا سأوافيه بالتعليل الآتي : -
الحديثُ عن الفنون حديثُ ُ ذو شجون ، و أنا أتبع أسلوبا ً خاصا ً بيّ في الكتابة ، حيث إنني أعود دائماً إلى الاستشهاد بالفنانين الكبار في زمن الغناء الجميل ، الذين ليس بمكنة أي فنان حلّ على الغناء بعدهم ، أنْ يُزايد على أصالة و جودة ما أضافوه إلى الغناء العربي بعامة ، لأنهم أسسوا مدارس للأغنية العربية ، و الأغنية الليبية ليست بمنأى عنها ، بل هي وثيقة الصلة بها ، فالخليقُ بنا أنْ نجعلهم دوماً مراجع لنا ، كلما طاب لنا تناول هذا الشأن الفني ، و ذلك بالتمثل بتجاربهم و الامتثال لآرائهم ؛ فإذا تعرَّض فنانُ ُ كبيرُ ُ في حجم و قامة ' فريد الأطرش ' إلى مثل هذه المراجعات الفنية ، من قـِبل النـُّقاد و المستمعين ، فلا غضاضة في أنْ نُعيدَ نظرتنا فيما جاد به فنانو بلادنا ، أ ليس كذلك ؟ إذاً يا عزيزي لندخل تواً ، إلى صلب الموضوع المُتعلِق بعنوانه ، مع الوعد بالعودة إلى تجربة هذا الفنَّان ، كلما لزم الأمرُ و دعت الحاجة إليها .
أطرح في البدء سؤالاً على نفسي ، هذا سياقه : هل الفنان الليبي ' محمد حسن ' مطربُ ُ أم مُلحِنُ ُ ، أم أنه مثل الموسيقار ' فريد الأطرش ' في جمعه بين الغناء و التلحين ، جنباً إلى جنب ؟ و كل ما أرجوه ألّا يُفهم من ذلك ، بأنني بصدد عقد جدول ٍ للمقارنة بين الاثنين ، فحاشى و كلا إن كان هذا مبتغاي ، فما سيلي في هذا المجال من هذا المقال ، سوف لن يكون سوى اجتهاد مني للفت الانتباه إلى تجربة الفنان ' محمد حسن ' من دون أيِّ تأثير ٍ خارجي ، و بحسب ذائقتي الخاصة ، التي هي المهماز الذي جعلني أخطُّ لكم مقالي هذا ؛ فقد ودَّدت أنْ أخوضَ في غمار الإجابة عن هذا السؤال ، الذي طالما أرّقني و عصف بتلافيف مخيلتي ، بعدما وجدت أنَّ ثمة فوارقاً عميقة الشقة ، بين أعماله القديمة و الحديثة ، لذلك سأمحور مقالي إلى محورين ، كي أتناولَ تجربته في هاتين الفترتين الزمنيتين ، جاعلاً الفيصل بينهما ( كاركتر ) الخيمة الغنائية الذي استحدثه لنفسه ، في نهاية المنتصف الأول من عقد الثمانينيات من القرن المنصرم ؛ فهذا الفنان بدأ في الوسط الفني كمغن ٍ من طراز رفيع ، نظراً لأنه ، يحتكمُ على خامةٍ صوتيةٍ ، تجمع بين الجمال و القوة و الرقة و المتانة و المقدرة العالية على التعبير المقنع و تقمص جميع ألوان الغناء العربي ، فهذه الخصائص جعلت صوته ذي ملامح ٍ مميزةٍ ، قلّ و عزّ نظيرها حتى في الأصوات العربية ، آن ولوجه إلى عالم الغناء ، ما جعل نجمه يبزغ و يلمع سريعاً ، و جعل ثلة من أهم ملحني ليبيا ، الذين شهد القاصي قبل الداني بجدارتهم اللحنية ، يلتفون من حوله و يزودونه بكم ٍ هائل ٍ من الألحان ، التي كشفت مكامن جمال هذا الصوت ، و وظفوه في أداء أعمال متنوعة المقامات ، فلو شاءت الصدف و استمعت إلى بعض ٍ منها سيتراءى لك ، كيف أنه كان يتماشى مع طبيعة صوته ، و يبدو هذا جلياً في هذه الأغنيات التي أدّاها صاحب هذا الصوت : ( بلادنا زين على زين ) للملحن ' عطية محمد ' و ( يا ريح هدّي ) لملحنها ' يوسف العالم ' و أية أغنية أخرى غناها ، من ألحان ' إبراهيم أشرف ' .
ما نزال دائماً في الفترة التي سبقت ظهور الخيمة الغنائية ، حيث إنَّ هذا الفنان المولع بالغناء ، أخذ لنفسه منحى آخراً ، يختلف عن مسار البداية الذي عرفه به الجمهور ، إذ ْ أنه ، انتقل إلى مجال التلحين في وقت سريع ، و قام بالتلحين لنفسه ، فأصدر مجموعة رائعة من الأغاني التي من ألحانه مثل : ( خلك رفيقاً زين ) و ( لا تجرحيني ) و ( جيتك ) و ملحمة ( يا ليبيا الشجعان ) غير أنَّ ما يُلاحظُ فيما بعد ، أنَّ أعماله اللحنية و الغنائية بطبيعة الحال كذلك ، أضحت تتسم بميسم واحد و غير مختلفة عن بعضها البعض ، الأمرُ الذي من شأنه ، أنْ جعله يدخل في حلقة التكرار و النسخ تقريباً ، فأنا لست أعيبُ أو أستكثر عليه أنْ يكون ملحناً ، لكن إذا رغب في ذلك ، فله في الراحل ' فريد الأطرش ' أسوة ، لأنَّ الأخيرَ ، لم يكرَّر نفسه البتّة ، فعلى الرغم من أنه قد أُشتهـِر بالموسيقى الشرقية ، إلا أنه قد أثبت في أكثر من مناسبة فنية ، بأنه دارسُ ُ و عارفُ ُ حتى بالموسيقى العالمية ، و آية ذلك ( الأوبريت ) الذي استعرض فيه عضلاته اللحنية ، محاولاً به أنْ يدفع عن فنه ، تلك التهمة الباطلة ، التي ابتغى البعض من النـُّقاد إلصاقها به عنوة ، فأدهشه بمقدرته الكبيرة في أداء الألوان الغنائية جميعها ، بما فيها الشرقية و الغربية ، و لعلّ عنوان هذا العمل الكبير ، يوضح مراده من تقديمه إياه في حينه ؛ فقد أسماه ( شرق و غرب ) .
و لست أرمي من هذا ، إلى أنََّ أدفعَ بالفنان ' محمد حسن ' إلى أنْ ينزلقَ بفنِّه في منحدر التهريج ، فقد أصبح هذا الأمر ( همروجة و فزّاعة ) يخشاهما أغلب الجيل القديم من المطربين - أي - التحديث الموسيقي ، و لكنْ أنْ ينوعَ في الألحان التي يقدِّمها للجمهور ، الذي لم يسأله بعد سؤالي المنصرم ، فإذا كان السبب في التكرار الذي وقع فيه ناجماً عن محبته للغناء في الخيمة الغنائية ، فإنني أريد أنْ أخبره في هذه الفرصة السانحة ، بأنَّ الصدف ، هي من تجعلني دائماً وقت سماعي لأعماله ، أؤخذ إعجاباً ببعض منها طوراً ، و آخذ ُ عن بعضها الآخر ، عدة مآخذ في طور آخر ، و حينما أتساءل عن سرِّ هاتين الحالتين ، اللتين أمرُّ بهما ، كلما استمعت إلى أعماله ، أجدُ أنَّ أغنياته التي تعجبني ، هي التي ليست من ألحانه ، فليس أقلُ إذن ، من أنْ يُرينا مقدرته اللحنية ، و يُثرينا بين الفينة و الأخرى ، بعمل غنائي من ألحانه التي يكون لها طعمُ ُ مشتجرُ ُ عن أعماله الأخيرة ، و له الحق كل الحق ، فيما اختاره لنفسه من حيث شكل الغناء ، حتى أستطيعُ بعد ذلك ، أنْ أصفه بالملحن ، بعد أنْ وجدت فيه ، مُطرِّباً من عيار ثقيل .
بقلم : زيـاد العيساوي – ليبيا
Ziad_z_73@yahoo.com
منشور في صحيفة العرب اللندنية